قال ابن فارس رحمه الله: «الدال والعين والحرف المعتل أصل واحد؛ وهو أن تميل الشيء إليك بصوتٍ، وكلامٍ يكون منك؛ تقول: دعوت أدعو دعاءً»[1].
والدعاء: واحد الأدعية، وأصله دُعاوٌ؛ لأنه من دعوت، إلا أن الواو لما جاءت بعد الألف همزت، ويصلح أن تكون الدعوى بمعنى الدعاء. ويقال: دعا الرجل يدعو دعوة ودعوًا ودعاءً؛ أي: ناداه، ويشمل الدعاء في اللغة عدة معاني: كلها ترجع إلى معنى النداء، والطلب، والسؤال[2].
[1] مقاييس اللغة (2/279) [دار الجيل، ط1420هـ].
[2] انظر: الصحاح (6/3336 ـ 3337) [دار العلم للملايين، ط3]، وتهذيب اللغة 3/119 ـ 120) [الدار المصرية للتأليف والترجمة]، ولسان العرب (15/359 ـ 360) [دار إحياء التراث العربي، ط3، 1419هـ].
الدعاء: الرغبة إلى الله تعالى، والتوجه إليه في تحقيق المطلوب أو دفع المكروه، والابتهال إلى الله في ذلك إما بالسؤال، أو بالخضوع، والتذلل والرجاء والخوف والطمع[1].
العلاقة بين المعنى اللغوي والشرعي:
العلاقة بينهما والمناسبة واضحة جدًّا؛ فإن الدعاء في اللغة كما تقدم آنفًا يطلق على الطلب والسؤال والعبادة والرغبة، وهذه المعاني موجودة في المعنى الشرعي؛ إذ الداعي سواء كان دعاء مسألة أو دعاء عبادة طالب للأجر والثواب أو طالب لحاجته من نيل مرغوب أو دفع مرهوب، فأغلب المعاني اللغوية التي للدعاء لها مناسبة جلية للمعنى الشرعي[2].
[1] الدعاء ومنزلته من العقيدة الإسلامية (1/48) [مكتبة الرشد، ط2، 1432هـ].
[2] الدعاء ومنزلته من العقيدة الإسلامية (1/48 ـ 49).
اختلف العلماء في حكم الدعاء، فهناك من أوجبه، وهناك من استحبه، فأما من أوجبه؛ فلأنه من أهم الواجبات وأعظم المفروضات كما دلَّت على ذلك الآيات القرآنية والأحاديث النبوية. قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] ؛ ووجه الدلالة على الوجوب هو الأمر في قوله: {ادْعُونِي} والأمر للوجوب ولا صارف له، والآية تدل على أن ترك العبد دعاء ربه من الاستكبار، وهو كفر، وتجنب ذلك واجب لا شك فيه[1].
وأما من استحبه ـ وهم جمهور العلماء[2] ـ فاستدلوا بما استدل به القائلون بالوجوب، إلا أن تلك الأدلة محمولة على الاستحباب، لا على الوجوب، فقوله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} المراد بالدعاء هنا: العبادة كما يدل عليه آخر الآية: {عَنْ عِبَادَتِي}، وليس المراد بها دعاء المسألة، والوعيد في الآية خاص بمن ترك الدعاء استكبارًا، وأما من تركه ولم يقصد الاستكبار فلا تشمله الآية.
كما أنه لم يعهد من السلف من قال بوجوب الدعاء المطلق، وكذا لم يجب منه دعاء مفرد أصلاً، إلا أنه وجب ضمن الذكر والثناء مثل دعاء الفاتحة وما اختلف فيه من الدعاء بعد التشهد، وأما الدعاء المفرد فلم يجب[3].
والراجح: أن الدعاء تجري منه الأحكام الخمسة فتارة يجب، وتارة يستحب، وتارة يباح، وتارة يكره وتارة يحرم، فتختلف فيه الأحكام بحسب الاعتبارات، والأصل فيه الاستحباب[4].
[1] انظر: تحفة الذاكرين للشوكاني (ص28) [دار الكتب العلمية]، والأزهية في أحكام الأدعية للزركشي (33) [دار الفرقان، ط1، 1408هـ].
[2] الأذكار المنتخبة للنووي (353) [المكتبة الإسلامية، ط4، 1375هـ]، وشرح صحيح مسلم للنووي (17/30) [المطبعة المصرية بالأزهر، ط1، 1349هـ].
[3] انظر: مجموع الفتاوى (22/379، 381) [مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، ط2، 1425هـ].
[4] انظر: الدعاء ومنزلته (1/393 ـ 394).
جاءت النصوص الشرعية مبيِّنة علو شأن الدعاء وسمو مرتبته وشرف مكانته، وعظيم قدره، ولهذا ذكر في القرآن الكريم في نحو ثلاث مئة موضع، وسماه عبادة، وتوعّد من تركه استكبارًا بدخول جهنم ذليلاً حقيرًا، ولعظم شأنه سماه الله تعالى صلاةً، كما في قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103] ، وسماه دينًا، كما في قوله تعالى: {وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [الأعراف: 29] .
ومن أشهر الأحاديث المشيرة إلى شأن الدعاء وعظيم قدره ما رواه النعمان بن بشير رضي الله عنهما؛ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الدعاء هو العبادة»[1].
يقول الخطابي رحمه الله مبيِّنًا معنى هذا الحديث: «إنه معظم العبادة أو أفضل العبادة كقولهم: الناس بنو تميم، والمال الإبل»[2].
[1] أخرجه أبو داود (كتاب الوتر، رقم 1481)، والترمذي (أبواب تفسير القرآن، رقم 2969) وقال: «هذا حديث حسن صحيح»، وابن ماجه (كتاب الدعاء، رقم 3828)، وأحمد (30/297) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وصحَّحه الألباني في صحيح أبي داود (رقم 1329) [مؤسسة غراس، ط1].
[2] شأن الدعاء للخطابي (4 ـ 5) [دار الثقافة العربية، ط3، 1412هـ].
قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ *} [غافر] ، وقال: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا *} [الجن] ، وقال: {وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ *} [القصص] .
ومن السُّنَّة: حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من مات وهو يدعو من دون الله ندًّا دخل النار»[1].
وعن النعمان بن بشير؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «الدعاء هو العبادة»[2].
أقوال أهل العلم:
قال أبو سليمان الخطابي رحمه الله: «ومعنى الدعاء: استدعاء العبد ربه عزّ وجل العناية، واستمداده إيَّاه المعونة، وحقيقته: إظهار الافتقار إليه، والتَّبرؤ من الحول والقوة، وهو سمة العبودية، واستشعار الذلة البشرية، وفيه معنى الثناء على الله عزّ وجل، وإضافة الجود والكرم إليه، ولذلك قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الدعاء هو العبادة» ... وقوله: «الدعاء هو العبادة» معناه: أنه معظم العبادة، أو أفضل العبادة»[3].
وقال الحليمي رحمه الله: «والدعاء في الجملة من جملة التخشع والتذلل؛ لأن كل من سأل ودعا، فقد أظهر الحاجة، وباح واعترف بالذلة والفقر والفاقة لمن يدعوه ويسأله، فكان ذلك في العبد نظير العبادات التي يتقرب بها إلى الله ـ عزَّ اسمه ـ، ولذلك قال الله عزّ وجل: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ *} [غافر] ، فأبان أن الدعاء عبادة، والخائف فيما وصفنا كالراجي؛ لأنه إذا خاف خشع وذل لمن يخافه، وتضرع إليه في طلب التجاوز عنه»[4].
وقال ابن تيمية رحمه الله: «ولفظ الدعاء في القرآن يتناول هذا وهذا؛ الدعاء بمعنى العبادة، أو الدعاء بمعنى المسألة، وإن كان كل منهما يستلزم الآخر، لكن العبد قد تنزل به النازلة، فيكون مقصوده طلب حاجته، وتفريج كرباته، فيسعى في ذلك بالسؤال والتضرع، وإن كان ذلك من العبادة والطاعة، ثم يكون في أول الأمر قصده حصول ذلك المطلوب؛ من النصر، والرزق، والعافية مطلقًا، ثم الدعاء والتضرع يفتح له من أبواب الإيمان بالله عزّ وجل، ومعرفته، ومحبته، والتنعم بذكره ودعائه، ما يكون هو أحب إليه وأعظم قدرًا عنده من تلك الحاجة التي أهمته، وهذا من رحمة الله بعباده، يسوقهم بالحاجات الدنيوية إلى المقاصد العلية الدينية»[5].
[1] أخرجه البخاري (كتاب تفسير القرآن، رقم 4497).
[2] تقدم تخريجه قريبًا.
[3] شأن الدعاء للخطابي (4 ـ 5).
[4] المنهاج في شعب الإيمان (1/517) [دار الفكر، ط1، 1399هـ].
[5] اقتضاء الصراط المستقيم (2/787) [مكتبة الرشد].
قسَّم المحققون من أهل العلم الدعاء إلى نوعين[1]:
النوع الأول: دعاء عبادة.
والنوع الثاني: دعاء مسألة.
وهما متلازمان، فكل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة، وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة؛ فإن دعاء المسألة هو طلب ما ينفع الداعي، وطلب كشف ما يضره ودفعه، وكل من يملك الضر والنفع فإنه هو المعبود، ولا بد أن يكون مالكًا للنفع والضر، فهو يدعو للنفع والضر دعاء مسألة، ويدعو خوفًا ورجاء دعاء العبادة، فعلم أن النوعين متلازمان[2].
ووجه انقسام الدعاء إلى نوعين: أن القصد إلى المدعو يكون لذاته، وهذا دعاء العبادة والثناء، ويكون القصد إلى المدعو لمسألته، وهذا دعاء المسألة، وكلا النوعين فيه خاصية وفائدة لا تكون في النوع الآخر، ففي الثناء والعبادة تمتلئ القلوب بالرغبة بعظمة الله وجلاله، وفي السؤال والطلب تمتلئ بالرغبة والانطراح بين يدي الله عزّ وجل[3].
وكلا نوعي الدعاء حق لله تعالى يختص بهما لا يصلحان لغيره، وصرف أي منهما لغير الله شرك ينافي أصل التوحيد.
ومن استقرأ آيات القرآن العظيم في التحذير من الشرك بالله تعالى، وجد أن أكثرها في التحذير من الشرك في الدعاء، ومن هنا صار الدعاء من صميم الاعتقاد، فمن صرف شيئًا من العبادة لغير الله تعالى فقد دعاه دعاء عبادة، وهذا كفر مخرج من الملة، ومن دعا ميتًا أو سأل أحدًا شيئًا لا يقدر عليه إلا الله فإن هذا الدعاء والسؤال شرك مخرج من الملة.
[1] انظر: مجموع الفتاوى (10/237، 258) (15/10) (22/498)، وبدائع الفوائد (3/835) [دار عالم الفوائد].
[2] انظر: مجموع الفتاوى (10/237، 258) (15/10) (22/498)، وبدائع الفوائد (3/835).
[3] الدعاء ومنزلته (1/114).
المسألة الأولى: آداب الدعاء:
للدعاء آداب عدة ينبغي للداعي أن يتصف بها حال دعائه وتضرعه وابتهاله وسؤاله، وقد اجتهد العلماء في تتبعها وحصرها، فمنهم من عدَّها شروطًا، ومنهم من عدَّها أركانًا، ومنهم من عدَّها سُننًا، ومنهم من عدَّها آدابًا، والسبب في ذلك أنها ليست على مرتبة واحدة في الأهمية، وهي في جملتها آداب ثبوتية، وعدمية، فأما الآداب العدمية فهي على سبيل الإجمال ثلاثة: عدم الاعتداء في الدعاء، وعدم التلبس بالحرام، وعدم الاستعجال، ونحوها.
وأما الآداب الثبوتية فهي كثيرة، وأهمها وأصحها: الإخلاص، والتوبة، والتضرع والخشوع، والإلحاح، والتوسل إلى الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، واستقبال القبلة، ونحوها.
فهذه هي الآداب العدمية والثبوتية على سبيل الإيجاز والإجمال وبسطها وتفصيلها بكيفياتها وأدلتها يرجع إليه في مظانها من كلام أهل العلم في كتب الأدعية والأذكار[1].
المسألة الثانية: حكم دعاء غير الله:
يختلف حكم دعاء غير الله باختلاف الأحوال، فإن كان المدعو حيًّا حاضرًا قادرًا فجائز، وإن كان المدعو ميتًا فيحرم سؤاله؛ بل هو شرك بالله، وإن كان المدعو حيًّا قادرًا لكنه غير حاضر فيحرم سؤاله أيضًا بل فيه إشراك بالله في صفة السمع، وإن كان المدعو حيًّا حاضرًا لكن السؤال فيما لا يقدر عليه إلا الله فهو أيضًا من الشرك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وقد مضت السُّنَّة أن الحي يطلب منه الدعاء كما يطلب منه سائر ما يقدر عليه. وأما المخلوق الغائب والميت فلا يطلب منه شيء»[2].
المسألة الثالثة: الدعاء عند القبور:
الأصل في الدعاء أنه لا يختص بمكان معين، والمساجد بيوت بنيت لعبادة الله وحده فهي أولى الأمكنة بأن يدعى فيها؛ إذ دعاء الله وحده من أجلِّ الطاعات، وأما الدعاء عند القبور فإن كان ذلك تبعًا للزيارة الشرعية كأن دعا لنفسه بعدما دعا للميت كقوله: اللَّهُمَّ اغفر له ولنا فلا بأس بذلك، وإن كان الداعي يقصد القبور ليدعو الله عندها فلا شك أن هذا منكر يخشى أن يؤدي إلى الشرك.
المسألة الرابعة: طلب الدعاء من الأموات:
إن من يأتي القبور سواء كانت للأنبياء، أو الصالحين، أو نحوهم ويدعوهم، ويناديهم بأن يدعو الله له، ويقول: يا فلان اسأل الله لي، أو ادعوا الله لي، ونحو ذلك، فعلى الصحيح من أقوال أهل العلم أنه شرك أكبر؛ بل هو أم لعدة أنواع من الإشراك بالله تعالى.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وإن أثبتُّم وسائط بين الله، وبين خلقه؛ كالحُجَّاب الذين بين الملك ورعيته؛ بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله حوائج خلقه، فالله إنما يهدي عباده، ويرزقهم بتوسطهم، فالخلق يسألونهم، وهم يسألون الله، كما أن الوسائط عند الملوك يسألون الملوك الحوائج للناس؛ لقربهم منهم، والناس يسألونهم أدبًا منهم أن يباشروا سؤال الملك، أو لأن طلبهم من الوسائط أنفع لهم من طلبهم من الملك؛ لكونهم أقرب إلى الملك من الطالب للحوائج، فمن أثبت وسائط على هذا الوجه، فهو كافر مشرك، يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وهؤلاء مشبهون لله، شبهوا المخلوق بالخالق، وجعلوا لله أندادًا»[3].
[1] الدعاء ومنزلته (1/163 ـ 220).
[2] مجموع الفتاوى (1/344)
[3] مجموع الفتاوى (1/126)، وانظر: المصدر نفسه (1/158)، وجهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية (3/1487) [دار الصميعي، ط1، 1417هـ].
الفرق بين الاستغاثة والدعاء:
الاستغاثة خاصة بما إذا كان المطلوب رفع الشدة الواقعة، أما الدعاء فيشمل ما إذا كان المطلوب حصول منفعة أو دفع شدة، كما أنه يشمل طلب منع الشدة التي لم تقع ويشمل أوقات الشدة والرخاء فهو أعم، فعلى هذا فبينهما عموم وخصوص مطلق يجتمعان في مادة، وينفرد الدعاء في مادة فكل استغاثة دعاء وليس كل دعاء استغاثة[1].
[1] انظر: القول السديد للسعدي، ضمن المجموعة الكاملة (3/22) [مركز صالح بن صالح الثقافي، ط3، 1412هـ].
ثمرات دعاء الله تعالى كثيرة جدًّا، فمن أعظم ثمراته امتثال أمر الله تعالى، وطاعته حين أمر عباده بدعائه، ووعدهم بالاستجابة، وفي ذلك الأجر الكبير، والثواب الجزيل، في العاجل والآجل.
ومنها: سلامة الداعي من الكبر، المؤدي إلى جهنم، كما دلَّت على ذلك آية غافر.
ومنها: أنه يجلب على الداعي مصالح دنيوية وأخروية، لا تعد ولا تحصى، فيفتح له من أبواب الإيمان بالله عزّ وجل، ومعرفته، ومحبته، والتنعم بذكره ودعائه، ما يكون هو أحب إليه وأعظم قدرًا عنده من تلك الحاجة التي أهمته، وهذا من رحمة الله بعباده، يسوقهم بالحاجات الدنيوية إلى المقاصد العلية الدينية، وغير ذلك من الثمرات الجليلة، والمنافع العظيمة.
الآثار المترتبة على إفراد الله تعالى بالدعاء: أنه تحقيق للتوحيد الخالص، الذي هو أعظم مأمور، وأجل مقصود وغاية خلق لأجلها الإنس والجن.
ومنها: أنه من أعظم الأسباب في حصول المطلوب الدنيوي والأخروي.
ومنها: أنه يجلب الراحة القلبية، والسعادة والطمأنينة للعبد الداعي؛ حيث جمع قلبه على مقصود واحد، ولم يشتت قلبه، ويصرف نظره لغيره تعالى.
ومنها: أنه يجلب أنواعًا من العبادات: كالتوكل، والخضوع، والذلة، والمحبة، والاستكانة، ونحوها، وفي ذلك الفوز العظيم، والثواب الجزيل، وغيرها من الآثار الظاهرة.
وأما عن الآثار المترتبة على صرف الدعاء لغير الله تعالى: فمنها: ظهور الشرك وانتشاره، الذي هو أقبح الذنوب على الإطلاق، وبسببه يحل العقاب، وتتنزل المصائب الدنيوية والأخروية.
ومنها: ضيق القلب، وتشتته، وعدم طمأنينته وراحته، وحصول الشقاوة في الدنيا والآخرة؛ لأن هذا الداعي قد فرق عليه أمره؛ حيث صرف حق خالص الله تعالى إلى معبودات، لا تنفعه؛ بل تضره، ولا تجلب له رزقًا ولا تملك له حياة ولا نشورًا، وهذا مشاهد معلوم.
حلول المصائب والعقوبات، على الأفراد والمجتمعات، وذلك بما كسبت أيدي الناس؛ إذ إن دعاء غير الله تعالى من أعظم أنواع الشرك وأخطرها، والشرك عمومًا آثاره وخيمة، ومفاسده عظيمة، وهي مشاهدة ومعلومة.
1 ـ خالف بعض الطوائف وقالوا: لا حاجة إلى الدعاء، ولا فائدة منه؛ لأن الأقدار سابقة، والأقضية متقدمة، والدعاء لا يزيد فيها، وتركه لا ينقص شيئًا منها[1].
وهذا المذهب باطل، وحكايته تغني عن سقوطه؛ لأن القرآن والسُّنَّة قد حضّا على الدعاء، وأمرا به، وأجمع المسلمون قديمًا وحديثًا على أن الدعاء هو من أفضل القربات والطاعات.
قال أبو سليمان الخطابي رحمه الله: «فأمَّا من ذهب إلى إبطال الدعاء، فمذهبه فاسد، وذلك أن الله أمر بالدعاء وحض عليه، فقال تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] ، وقال عزّ وجل: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] ، وقَالَ تَعَالَى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان: 77] في آي ذوات عدد من القرآن، ومن أبطل الدعاء فقد أنكر القرآن، وردَّه، ولا خفاء بفساد قوله، وسقوط مذهبه»[2].
2 ـ خالف بعض الطوائف في أن الدعاء لا يكون عبادة، إلا إذا اعتقد في المدعو شيئًا من الربوبية أو التأثير: والمقصود: أن دعاء غير الله تعالى، والاستغاثة به، ونحوه لا يعتبر شركًا أكبر عندهم إلا إذا كان يعتقد فيهم التأثير، أو أنهم يخلقون، أو يرزقون، ونحو ذلك من أفراد الربوبية[3].
وهذا من أبطل الباطل؛ يوضحه: أن كفار قريش الذين قاتلهم النبي صلّى الله عليه وسلّم كانوا يدعون آلهتهم وأصنامهم من دون الله تعالى، وهم يقرون بأن الله هو الخالق، والرازق، والمدبر، ونحوه، كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ *} [الزخرف] ، وأمثال ذلك كثير في القرآن، فكفرهم كان من جهة صرفهم لأنواع العبادة من دون الله تعالى، ومن أعظمها الدعاء، ولم يكن كفرهم وشركهم لأنهم كانوا يعتقدون فيها التأثير، أو الربوبية، كما زعم هؤلاء.
ثم ليس يخفى وجود التلازم بين دعاء غير الله تعالى، واعتقاد النفع والضر فيه، وإلا فما الذي جرأ هؤلاء على دعائهم من دون الله تعالى، لولا أنهم يعتقدون فيهم شيئًا من الربوبية، أو شيئًا من أفرادها، وأنواعها.
يقول أبو الثناء الآلوسي رحمه الله: «إن الناس قد أكثروا من دعاء غير الله تعالى من الأولياء الأحياء منهم والأموات وغيرهم، مثل: يا سيدي فلان أغثني، وليس ذلك من التوسل المباح في شيء، واللائق بحال المؤمن عدم التفوه بذلك، وأن لا يحوم حول حماه، وقد عدَّه أناس من العلماء شركًا، وأن لا يكنه فهو قريب منه، ولا أدري أحدًا ممَّن يقول ذلك إلا وهو يعتقد أن المدعو الحي الغائب، أو الميت المُغيَّب، يعلم الغيب، أو يسمع النداء، ويقدر بالذات، أو بالغير على طلب الخير، ودفع الأذى، وإلا لما دعاه، ولا فتح فاه، وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم، فالحزم التجنب عن ذلك، وعدم الطلب إلا من الله تعالى القوي الغني الفعال لما يريد»[4].
[1] انظر: شأن الدعاء للخطابي (6).
[2] المصدر السابق (8).
[3] انظر: الدرر السَّنية لزيني دحلان (15، 34 ـ 35) [مكتبة الحقيقة بإسطنبول]، وشواهد الحق ليوسف بن النبهاني (69) [المطبعة الميمنية لمصطفى البابي الحلبي]، وبراءة الأشعريين لابن مرزوق (1/388) [مطبعة العلم بدمشق، 1388هـ].
[4] روح المعاني (6/128) [دار إحياء التراث العربي].
1 ـ «بدائع الفوائد»، لابن القيِّم.
2 ـ «تحفة الذاكرين»، للشوكاني.
3 ـ «تصحيح الدعاء»، لبكر أبي زيد.
4 ـ «الدعاء ومنزلته من العقيدة الإسلامية»، لأبي عبد الرحمن جيلان العروسي.
5 ـ «شأن الدعاء»، للخطابي.
6 ـ «التمهيد لشرح كتاب التوحيد»، لصالح آل الشيخ.
7 ـ «فقه الأدعية والأذكار»، لعبد الرزاق البدر.
8 ـ «الشرك ومظاهره»، لمبارك الميلي.
9 ـ «مدارج السالكين»، لابن القيِّم.
10 ـ «جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية»، لشمس الدين الأفغاني.