قال ابن فارس: «الخاء والصاد أصلٌ مطّرد منقاس، وهو يدلُّ على الفُرْجة والثُّلمة. فالخَصَاص الفُرَج بين الأثافيّ. ويقال للقمر: بدا من خَصَاصة السّحاب، ومن الباب: خَصَصْت فلانًا بشيءٍ خَصُوصِيَّةً، بفتح الخاء، وهو القياس لأنّه إذا أُفرِد واحدٌ فقد أوقَع فُرْجَةً بينه وبين غيره، والعموم بخلاف ذلك»[1].
فالاختصاص يدل على إفراد الشيء بأمر ما، يقال: تخصَّص فلان بالأمر واختصّ به، إذا انفرد به، وخَصَّ غيرَه واختصّه ببِرّه[2].
[1] مقاييس اللغة (2/152 ـ 153) [دار الفكر، 1399هـ].
[2] انظر: تهذيب اللغة (6/525) [الدار المصرية للتأليف والترجمة]، ولسان العرب (7/24) [دار صادر].
دليل الاختصاص: من الأدلة التي سلكها بعض الأشاعرة في إثبات وجود الله، وهو مبني على أن الأجسام متماثلة في الماهية، وأما صفات الأجسام فمختلفة، واستنتجوا من تخصيص كل جسم بصفته أنه ممكن ويحتاج لمخصص، ولا بد من وجوب المخصص وأنه ليس بجسم؛ منعًا للتسلسل، يقول الرازي: «قد دللنا على أن الأجسام بأسرها متساوية في تمام الماهية، وإذا كانت كذلك، كان اختصاص جسم الفلك بما به صار فلكًا، واختصاص جسم الأرض بما به صار أرضًا، أمرًا جائزًا، فلا بد له من مخصص، وذلك المخصص؛ إن كان جسمًا افتقر في تركبه، وتألفه، إلى نفسه، وهو محال، وإن لم يكن جسمًا، فهو المطلوب»[1]. وقد ورد الاستدلال بالتخصيص بشكل مختصر عند المعتزلة في أثناء شرحهم لدليل حدوث الأجسام، وبنائه على حدوث الأعراض[2]. وقد ورد دليل الاختصاص عند متقدمي الأشاعرة بصيغة أخرى، هي اختصاص الممكن بالوجود بدل العدم، حيث يقول البغدادي: «والدليل على أن الحادث لا بد له من محدث، أنه يحدث في وقت ويحدث ما هو من جنسه في وقت آخر، فلو كان حدوثه في وقته لاختصاصه، لوجب أن يحدث في وقته كل ما هو من جنسه، وإذا بطل اختصاصه بوقته لأجل الوقت، صح أن اختصاصه به لأجل مخصص خصصه به، لولا تخصيصه إياه به لم يكن حدوثه في وقته أولى من حدوثه قبل ذلك، أو بعده»[3]. ويقول الجويني: «والحادث جائز الوجود، إذ يجوز تقدير وجوده بدلاً عن عدمه، ويجوز تقدير عدمه بدلاً عن وجوده، فلما اختص بالوجود الممكن بدلاً عن العدم الجائز افتقر إلى مخصص، وهو الصانع تعالى»[4]، وهذه الصيغة أقرب لدليل إمكان الأجسام الذي يقول به ابن سينا[5]. ثم تلتها المرحلة الأخرى وهي القول بتخصيص الصفات وحاجتها لمخصص.
[1] معالم أصول الدين (34) [دار الفكر اللبناني، ط1، 1992م]، وانظر: المطالب العالية (1/184) [دار الكتاب العربي، ط1، 1407هـ]، والمواقف (266) [عالم الكتب].
[2] انظر: شرح الأصول الخمسة (96) [مكتبة وهبة، ط2، 1408هـ].
[3] أصول الدين للبغدادي (69) [دار الكتب العلمية، ط3، 1401هـ].
[4] لمع الأدلة (91) [عالم الكتب، ط2، 1407هـ]، وانظر: الإرشاد للجويني (28) [مكتبة الخانجي، 1396هـ].
[5] انظر: الإشارات والتنبيهات (3/19 ـ 20) [دار المعارف، ط3]، والمطالب العالية (1/72)، وانظر تعليق ابن تيمية في: درء التعارض (3/74) [مكتبة ابن تيمية].
يعرف هذا الدليل بدليل إمكان الصفات[1]، ودليل إمكان الأعراض[2]. وقد سبق عند شرح دليل حدوث الأعراض، دخول الاستدلال بإمكان الصفات فيه، وأنه أحد الطرق التي يسلكها المتكلمون في شرح دليل الأعراض[3].
[1] انظر: معالم أصول الدين (34)، والمطالب العالية (1/184).
[2] انظر: المواقف (266).
[3] انظر: درء التعارض (3/82) (5/294) (7/141)، ومن كتب المتكلمين: معالم أصول الدين (34)، والمطالب العالية (1/184).
هذا الدليل باطل عند أكثر العقلاء[1]، لأمور: أولاً: أن هذا الدليل غير وارد في الكتاب والسُّنَّة، والمتكلمون يقولون عنه: إنه مقدمة شريفة، يفرع عنها القول في الإله، والقول بالنبوة، والقول بأحوال الآخرة، والقيامة[2]، فكيف لا يذكر الرسول شيئًا في غاية الأهمية ـ كما يزعمون ـ؛ بل يكون الرسول لم يبلغ البلاغ الكامل، وهذا أمر بيّن البطلان.
ثانيًا: هذا الدليل مبني على القول بتماثل الأجسام، ولا ريب أن قولهم بتماثل الأجسام قول باطل، وقد بنوا ذلك على تركبه من الجواهر المفردة، وعلى أنها متماثلة، وهذا يبنى على صحة ذلك، وعلى إثبات الجوهر الفرد، وعلى أنه متماثل، وجمهور العقلاء يخالفونهم فى ذلك[3]. وقد أثبت العلم الحديث اختلاف ذرات الأجسام، وأنها غير متماثلة فذرات الماء ليست مماثلة لذرات الحديد، وذرات الحديد لا تماثل ذرات النحاس ولا الذهب وغيرها. فكل جسم له ذراته الخاصة به، كما أن ارتباط الذرات المختلفة ببعض، ينتج أنواعًا مختلفة من المواد[4].
ثالثًا: أن هذا الدليل مبني على دليل حدوث الأعراض والأجسام، وحقيقته نفي الصفات الفعلية[5].
فهذا الدليل فاسد، ولا أدلَّ على بطلانه من اضطراب منظريه في كثير مما يبنى عليه هذا الدليل كالقول بتماثل الأجسام، وتعريف الممكن، والجسم، كما لم يمكنهم إقامة دليل صحيح على ما ادعوه.
[1] درء التعارض (5/293).
[2] انظر: المطالب العالية (1/186).
[3] انظر: التدمرية (121 ـ 122) بتصرف [العبيكان، ط1، 1405هـ].
[4] انظر: نحو فلسفة العلوم الطبيعية، النظريات الذرية والكوانتم والنسبية، لعبد الفتاح غنيمة (63 ـ 65)، وانظر: مصطلح الجوهر الفرد وموقف العلماء منه.
[5] انظر: درء التعراض (5/294، 298).
فكرة هذا الدليل مأخوذة من دليل إمكان الأجسام الذي يقول به ابن سينا وأتباعه، وهو باختصار: أن الأجسام ممكنة، وكل ممكن فوجوده من غيره، والذي أفاده الوجود إن كان ممكنًا وتسلسل فالسلسلة واجبة بغيرها، وإن لم تتسلسل الممكنات انتهت إلى واجب الوجود وهذا هو المطلوب[1]. وهذا الدليل مبني على دليل حدوث الأعراض والأجسام، وحقيقته نفي الصفات الفعلية.
[1] انظر: الإشارات والتنبيهات (3/19 ـ 20)، والمطالب العالية (1/72)، وانظر تعليق ابن تيمية في: درء التعارض (3/74).
قال شيخ الإسلام عن هذا الدليل: «وهو مبني على تماثل الأجسام، وهو باطل عند أكثر العقلاء، وهو مبني على مقدمتين: إحداهما: أن اختصاص كل جسم بما له من الصفات لا يكون إلا لسبب منفصل. والثانية: أن ذلك السبب لا يكون إلا مخصصًا ليس بجسم. قلت: وهاتان المقدمتان قد عرف نزاع العقلاء فيها، وما يرد عليهما من النقض والفساد، ومخالفة أكثر الناس لموجبهما»[1]. بل من كبار الأشاعرة من نقضها كالآمدي[2].
[1] درء التعارض (5/293)، وتفصيل نقض هاتين المقدمتين في الدرء (3/78 ـ 79، 351 ـ 387).
[2] انظر: أبكار الأفكار (3/309 ـ 335) [مطبعة دار الكتب والوثائق القومية بالقاهرة، ط2، 1424هـ].
الاستدلال بالاختصاص وهو ما يسمى بدليل إمكان الصفات، أو دليل إمكان الأعراض؛ هو أحد الطرق التي يسلكها المتكلمون في شرح دليل حدوث الأعراض[1].
كما أن قولهم باختصاص الذات الممكنة بالوجود بدل العدم هو أحد الطرق التي يسلكها المتكلمون في شرح دليل حدوث الأجسام[2].
ويفرق الرازي بين دليل حدوث الصفات ودليل إمكانها وهو الاختصاص بقوله: «والفرق بين الاستدلال بإمكان الصفات وبين الاستدلال بحدوثها؛ أن الأول يقتضي أن لا يكون الفاعل جسمًا، والثاني لا يقتضي ذلك»[3].
[1] انظر: درء التعارض (3/82) (5/294) (7/141)، ومن كتب المتكلمين: معالم أصول الدين (34)، والمطالب العالية (1/184).
[2] انظر: التمهيد (44)، والإنصاف (17)، وانظر من كتب أهل السُّنَّة: درء التعارض (3/72).
[3] نقلاً عن درء التعارض (3/82 ـ 83) (5/294).
1 ـ «أثر الفكر الاعتزالي في عقائد الأشاعرة»، لمنيف العتيبي [رسالة دكتوراه].
2 ـ «الأصول التي بنى عليها المبتدعة مذهبهم في الصفات»، لعبد القادر بن محمد عطا صوفي.
3 ـ «درء التعارض» (ج3، 5، 7)، لابن تيمية.
4 ـ «دليل الحدوث أصوله ولوازمه»، لأحمد الغامدي [رسالة دكتوراه].
5 ـ «منهج المتكلمين والفلاسفة المنتسبين للإسلام في الاستدلال على وجود الله»، ليوسف الأحمد [رسالة دكتوراه].
6 ـ «أبكار الأفكار» (ج3)، للآمدي.
7 ـ «المطالب العالية» (ج1)، للرازي.