حرف الدال / دليل الإمكان

           

هذا المصطلح مركّب من كلمتين؛ الدليل، والإمكان، أمّا الدليل: فمن مادة: (دلل)، قال ابن فارس: «الدال واللام أصلان؛ أحدهما: إبانة الشيء بأمارة تتعلمها، والآخر: اضطراب في الشيء. فالأول قولهم: دللت فلانًا على الطريق. والدليل: الأمارة في الشيء. وهو بين الدَّلالة والدِّلالة»[1].
وقال الأزهري: «الدليل يسمى هاديًا؛ لأنه يتقدم القوم ويتبعونه ويكون أن يهديهم للطريق»[2].
وقال الجوهري: «الدليل: ما يستدل به. والدليل: الدالّ. وقد دلَّه على الطريق يدله دَلالة ودِلالة ودُلولة، والفتح أعلى»[3].
وأما الإمكان: فمن مادة: (مكن)، قال الجوهري: «مكنه الله من الشيء وأمكنه منه، بمعنى. واستمكن الرجل من الشيء وتمكن منه، بمعنى. وفلان لا يمكنه النهوض؛ أي: لا يقدر عليه»[4]. فالممكن هو الشيء المقدور عليه.


[1] مقاييس اللغة (2/259) [دار الفكر، 1399هـ].
[2] تهذيب اللغة (6/204) [دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط1، 2001م].
[3] الصحاح (4/1698) [دار العلم للملايين، ط4].
[4] الصحاح (6/2205).


هو الاستدلال بوجود الممكنات على أن لها خالقًا ومُوجِدًا[1].


[1] منهج شيخ الإسلام ابن تيمية في تقرير عقيدة التوحيد لإبراهيم البريكان (2/480) [دار ابن القيم، الرياض، ودار ابن عفان، القاهرة، ط1، 1425هـ].


يمكن أن يقال بوجود علاقة بين المعنيين؛ فإن الممكن في اللغة هو الشيء المقدور عليه، والممكنات هي الموجودات التي أوجدها الله بقدرته العظيمة، وهي دالة على خالقها وموجدها.



دليل الإمكان باطل؛ لأنه دليل مبتدع محدث، ولا يثبت الذات الإلهية ولا يدل على وجود خالق أبدع السماوات والأرضين وما بينهما، وفيه تعقيد وطول ممل، ثم أخيرًا يقرر حقيقة لا اختلاف فيها بين العقلاء المعتبرين، وهي إثبات وجود الله[1].


[1] شرح العقيدة الأصفهانية لابن تيمية (32 ـ 33) [مكتبة الرشد، الرياض، ط1، 1415هـ].


قال ابن تيمية في دليل الإمكان: «فهذا الدليل مبني على مقدمتين؛ إحداهما: أن الممكنات موجودة. والثانية: أن الممكن لا يوجد إلا بواجب الوجود.
والمقدمة الأولى: لم يقررها بحال، ولا يمكن أن يسلك في ذلك طريقة ابن سينا وأمثاله من المتفلسفة، الذين قالوا: نفس الوجود يشهد بوجود واجب الوجود؛ فإن الوجود إما ممكن، وإما واجب، والممكن مستلزم للواجب، فثبت وجود الواجب على هذا التقرير، فإن هذه الطريقة وإن كانت صحيحة بلا ريب، لكن نتيجتها إثبات وجود واجب، وهذا لم ينازع فيه أحد من العقلاء المعتبرين، ولا هو من المطالب العالية، ولا فيه إثبات الخالق، ولا إثبات وجود واجب أبدع السماوات والأرض، كما يسلمه الإلهيون من الفلاسفة كأرسطو وأتباعه المشائين، وإنما فيه أن الوجود وجود واجب، وهذا يسلمه منكرو الصانع كفرعون والدهرية المحضة من الفلاسفة والقرامطة ونحوهم، ويقولون: إن هذا الوجود واجب الوجود بنفسه»[1].
وقال الشيخ أحمد بن عطية الغامدي: «الفلاسفة: وقد سلكوا في إثبات وجود الله تعالى طريق الوجوب والإمكان، وقسموا الموجودات إلى واجب، وممكن، بدلاً من قديم وحادث، وذلك نظرًا لأنهم لا يقولون بحدوث العالم، فاستدلوا بالإمكان بدل الحدوث»[2].


[1] شرح العقيدة الأصفهانية لابن تيمية (32 ـ 33).
[2] البيهقي وموقفه من الإلهيات (119) [عمادة البحث العلمي في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ط2].


من الآثار السيئة التي ترتبت على الاستدلال بدليل الإمكان الذي ابتدعه الفلاسفة والمتكلمون: نفي صفات الكمال عن الله تعالى، حيث كان من نتائج هذا الدليل قولهم بإمكان الذوات وإمكان الصفات، بناء على أن الأجسام عندهم متماثلة[1]، ذكر شيخ الإسلام في ردِّه على الفلاسفة أن هذا الدليل «لا يفيد إلا إثبات وجود واجب فقط، وأنها لا تفيد أنه مباين للعالم إلا بطريقة نفي الصفات، وهي باطلة»[2].


[1] انظر: درء تعارض العقل والنقل (1/307) [جامعة الإمام، ط2، 1411هـ].
[2] الصفدية لابن تيمية (2/19) [مكتبة ابن تيمية، مصر، ط2، 1406هـ].


جعل المتكلمون إثبات وجود الخالق أول واجب على المكلف، واستدلوا على وجود الله بما يسمونه بدليل الإمكان، وخلاصته: أن العالَم ممكن، وكل ممكن محدَث، فالعالم محدَث، وكل حادث لا بد له من محدِث، وهو الله؛ إذن: الله موجود[1]. وبعبارة أخرى: أن العالم ممكن؛ لكونه مركبًا وكثيرًا، وكل ممكن فله علة مؤثرة، وهو الله[2]. فجعلوا الممكنات دليلاً على وجود الله؛ لاستحالة وجودها بنفسها أو بممكن آخر؛ لاستغنائها به عن كل ما سواه، وافتقار الممكن إلى علته[3].
وهذا الدليل متفق عليه بين الفلاسفة والمتكلمين[4]، مع اختلافهما في مفهوم الممكن، فهو عند المتكلمين: ما يجوز عليه الوجود والقدم، في حين أنه عند الفلاسفة: ما وجب وجوده بغيره[5].
وهذا الدليل له مقدمتان ونتيجتان:
أما المقدمتان فهما: « الأولى: أن الممكنات موجودة، والثانية: أن الممكن لا يوجد إلا بواجب الوجود»[6].
والنتيجتان: إمكان الذوات، وإمكان الصفات[7].


[1] انظر: الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد للجويني [مكتبة الخانجي، ومطبعة السعادة، 1369هـ]، ونهاية العقول في دراية الأصول للرازي (1/344) [دار الذخائر، بيروت].
[2] انظر: المواقف للإيجي (3/7) [دار الجيل، بيروت، ط1، 1997م]، وانظر: معارج القدس في مدارج معرفة النفس للغزالي (165) [دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط2].
[3] انظر: شرح العقيدة الأصفهانية (32).
[4] انظر: البيهقي وموقفه من الإلهيات (119).
[5] انظر: منهج شيخ الإسلام ابن تيمية في تقرير عقيدة التوحيد لإبراهيم البريكان (2/481).
[6] شرح العقيدة الأصفهانية (32).
[7] انظر: منهج شيخ الإسلام ابن تيمية في تقرير عقيدة التوحيد (2/482).


لا شكَّ أن هذا الدليل غير صحيح، لما يأتي:
أولاً: أنه خالٍ عن إثبات الخالق.
الثاني: أنه خالٍ عن إثبات وجود الذات الإلهية.
الثالث: اشتماله على ألفاظ مبتدعة مجملة، مثل: واجب الوجود، والافتقار، والتركيب، ونحوها.
الرابع: ليس فيه إثبات وجود واجب مباين للمخلوقات، منفصل عنها.
الخامس: أن هذا الطريق فيه تطويل وتعقيد، بحيث إنه يحتاج إلى تعلم خاص يمكّن صاحبه من إدراك ترابط المقدمات بعضها ببعض، فلا بد له من إثبات إمكانها بحدوثها، ثم الاستدلال بإمكانها على وجود الواجب.
السادس: أن هذا الدليل يثبت وجود واجب، وهذا القدر لا نزاع فيه بين العقلاء المعتبرين.
السابع: أن هذا الدليل ليس فيه إثبات موجود مباين للسماوات والأرض، فضلاً عن مباينة الله للخلق.
الثامن: أن هذه الطريقة إن صحت فهي من قبيل الاستدلال بالخفي على الجلي، ومعلوم أن مناط الاستدلال هو التلازم بين الدليل والمدلول، فإذا كان المدلول أوضح من الدليل صار خطأ في البيان والدلالة، فيكون الدليل باطلاً[1].
قال ابن تيمية: «إن طريقة ابن سينا وأتباعه في الوجود الواجب لا يفيد إلا إثبات وجود واجب فقط، وأنها لا تفيد أنه مباين للعالم إلا بطريقة نفي الصفات وهي باطلة، ولو صحت لم تفد إلا إثبات هذا الوجود المطلق، لا تفيد وجودًا مباينًا للمخلوقات منفصلاً عنها، فتفيد إثبات وجود في الذهن، أو إثبات وجود مشترك بين الموجودات، لا تفيد إثبات وجود مباين لوجود الممكنات.
وهو إنما أخذه من كلام المعتزلة لما قسموا الموجود إلى محدث وقديم، وبيَّنوا ثبوت القديم، أخذ هو يقسمه إلى واجب وممكن، وغرضه: إثبات وجود الواجب بدون إثبات حدوث العالم، وجعل وجود العالم ممكنًا، وخالف بذلك طريقة سلفه الفلاسفة كأرسطو وأتباعه، فإن الممكن عندهم لا يكون موجودًا»[2].
وبهذا يتبين بطلان استدلال المتكلمين والفلاسفة على إثبات الخالق بهذا الدليل وأمثاله مما عندهم، وإذا كان الأمر كذلك فإن الدليل الصحيح على إثبات الخالق هو ما توفر فيه شرطان؛ أحدهما: أن يكون مما اتفقت عليه العقول؛ أي: الفطرة العامة التي فطر الله الناس عليها ولم تفسدها الأهواء على صحته. وثانيهما: أن يكون شرعيًّا، بمعنى: أن الشرع استدل به وأمر الناس أن يستدلوا به؛ كالاستدلال على الخالق بخلق الإنسان[3].
وأما قولهم بإمكان الصفات فهذا مبني على قولهم بتماثل الأجسام[4]، وهو باطل؛ لأن لغة القرآن لا «تطلق لفظ المثل على كل جسم، ولا أن اللغة التي نزل بها القرآن تقول: إن السماء مثل الأرض، والشمس والقمر والكواكب مثل الجبال، والجبال مثل البحار، والبحار مثل التراب، والتراب مثل الهواء، والهواء مثل الماء، والماء مثل النار، والنار مثل الشمس»[5]. وإنما جاء المتكلمون بهذا لنفي الصفات عن الله، ولذا قال ابن تيمية: «صارت النفاة إذا أثبت أحد شيئًا من الصفات، كان ذلك مستلزمًا لأن يكون الموصوف عندهم جسمًا ـ وعندهم الأجسام متماثلة ـ فصاروا يسمونه مشبهًا بهذه المقدمات التي تُلزمهم مثل ما ألزموه لغيرهم، وهي متناقضة، لا يتصور أن ينتظم منها قول صحيح، وكلها مقدمات ممنوعة عند جماهير العقلاء»[6].


[1] انظر: شرح الأصفهانية (32 ـ 34)، ومنهج شيخ الإسلام في تقرير عقيدة التوحيد (2/481 ـ 482).
[2] الصفدية لابن تيمية (2/19).
[3] انظر: النبوات لابن تيمية (1/292 ـ 293) [أضواء السلف، ط1، 1420هـ]، وابن تيمية السلفي لمحمد خليل هراس (79 ـ 80) [المطبعة اليوسفية بطنطا، ط1].
[4] انظر: درء التعارض (1/307).
[5] انظر: المصدر السابق (1/115)
[6] شرح حديث النزول لابن تيمية (73 ـ 74) [المكتب الإسلامي، بيروت، ط5، 1397هـ].


1 ـ «ابن تيمية السلفي»، لمحمد خليل هراس.
2 ـ «الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد»، للجويني.
3 ـ «البيهقي وموقفه من الإلهيات»، لأحمد الغامدي.
4 ـ «درء تعارض العقل والنقل» (ج1)، لابن تيمية.
5 ـ «شرح العقيدة الأصفهانية»، لابن تيمية.
6 ـ «شرح حديث النزول»، لابن تيمية.
7 ـ «الصفدية» (ج2)، لابن تيمية.
7 ـ «منهج شيخ الإسلام ابن تيمية في تقرير عقيدة التوحيد» (ج2)، لإبراهيم بن محمد البريكان.
8 ـ «النبوات» (ج1)، لابن تيمية.
9 ـ «المواقف» (ج3)، لعضد الدين الإيجي.
10 ـ «نهاية العقول في دراية الأصول» (ج1)، للرازي.