حرف الدال / دليل التمانع

           

قال الخليل بن أحمد: «مَنَعْتُه أَمْنَعُه مَنْعًا فامتنع؛ أي: حُلتُ بينه وبين إرادته، ورجل منيع لا يخلص إليه، وهو في عز ومَنعَةٍ، ومنعة يخفف ويثقل، وامرأة منيعة، متمنّعة، لا تُؤاتى على فاحشة، قد مَنُعَت مناعة، وكذلك الحصن ونحوه، ومَنُعَ مَناعةً إذا لم يُرَمْ»[1]. فمادة: (منع) تدل على عدم حصول الشيء، وعدم وقوعه، فمنعت الرجل فلم تحصل إرادته، والحصن المنيع لا يمكن الحصول على من بداخله.


[1] العين (2/163) [دار مكتبة الهلال]، وانظر: تهذيب اللغة (3/19) [الدار المصرية للتأليف والترجمة].


دليل التمانع: برهان عقلي على توحيد الربوبية، يقول ابن أبي العز شارحًا هذا الدليل: «وهو أنه لو كان للعالم صانعان فعند اختلافهما مثل: أن يريد أحدهما تحريك جسم، والآخر تسكينه، أو يريد أحدهما إحياءه، والآخر إماتته، فإما أن يحصل مرادهما، أو مراد أحدهما، أو لا يحصل مراد واحد منهما. والأول ممتنع؛ لأنه يستلزم الجمع بين الضدين، والثالث ممتنع؛ لأنه يلزم خلو الجسم عن الحركة والسكون، وهو ممتنع، ويستلزم أيضًا عجز كلِّ منهما، والعاجز لا يكون إلهًا، وإذا حصل مراد أحدهما دون الآخر، كان هذا هو الإله القادر، والآخر عاجزًا لا يصلح للإلهية»[1]. فهو استدلال على امتناع وجود ربين خالقين للعالم.


[1] شرح الطحاوية (1/28) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وانظر: منهاج السُّنَّة (3/304 ـ 305) [مؤسسة قرطبة، ط1، 1406هـ]، ودرء التعارض (9/355 ـ 359) [مكتبة ابن تيمية]، والصواعق المرسلة (2/463 ـ 464) [دار العاصمة، ط1، 1408هـ]، ومن كتب المتكلمين: التمهيد للباقلاني (46) [دار الفكر العربي]، والإنصاف له (34) [المكتبة الأزهرية للتراث، 1413هـ]، وأصول الدين للرازي (85 ـ 86) [دار الكتب العلمية، ط3، 1401هـ]، والإرشاد للجويني (53 ـ 54) [مكتبة الخانجي، 1396هـ]، وشرح الأصول الخمسة (277) [مكتبة وهبة، ط2، 1408هـ]، والمطالب العالية للرازي (2/135) [دار الكتاب العربي، ط1، 1407هـ].


الارتباط بينهما واضح، فالمعنى اللغوي يدل على عدم حصول ذلك الشيء، ودليل التمانع يدل على عدم وجود خالقين اثنين، وامتناع ذلك.



يرى أهل السُّنَّة أن دليل التمانع برهان تام على توحيد الربوبية، وهو امتناع صدور العالم عن اثنين[1]، فهو دليل صحيح لإثبات انفراد الرب عزّ وجل بالربوبية والخلق.


[1] انظر: درء التعارض (9/354)، والصواعق المرسلة (2/464)، وشرح الطحاوية (1/28).


معنى هذا الدليل قد ورد موجزًا في قوله عزّ وجل: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ *} [المؤمنون] .



قال ابن تيمية مبيِّنًا صحة دليل التمانع: «بل هو برهان صحيح عقلي، كما قدره فحول النظار»[1].
وقال ابن القيِّم شارحًا قوله عزّ وجل: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ *} [المؤمنون] : «فتأمل هذا البرهان الباهر، بهذا اللفظ الوجيز البيِّن، فإن الإله الحق لا بد أن يكون خالقًا فاعلاً، يوصل إلى عابده النفع، ويدفع عنه الضر، فلو كان معه عزّ وجل إله، لكان له خلق وفعل، وحينئذ فلا يرضى بشركة الإله الآخر معه؛ بل إن قدر على قهره، وتفرده بالإلهية دونه فعل. وإن لم يقدر على ذلك انفرد بخلقه، وذهب به، كما ينفرد ملوك الدنيا عن بعضهم بعضًا بممالكهم. وإذا لم يقدر المنفرد على قهر الآخر، والعلو عليه فلا بد من أحد أمور ثلاثة: إما أن يذهب كل إله بخلقه وسلطانه، وإما أن يعلو بعضهم على بعض، وإما أن يكون كلهم تحت قهر إله واحد، وملك واحد، يتصرف فيهم ولا يتصرفون فيه، ويمتنع من حكمهم عليه، ولا يمتنعون من حكمه عليهم، فيكون وحده هو الإله الحق وهم العبيد المربوبون المقهورون»[2].
وقال ابن أبي العز مبيِّنًا أدلة الربوبية وإثبات صنع واحد للعالم: «والمشهور عند أهل النظر إثباته بدليل التمانع»[3].


[1] درء التعارض (9/354).
[2] الصواعق المرسلة (2/463 ـ 464)، وانظر: درء التعارض (9/355 ـ 359).
[3] شرح الطحاوية (1/28).


يرى أهل السُّنَّة أن دليل التمانع برهان تام على توحيد الربوبية، وهو امتناع صدور العالم عن اثنين، وأن معنى هذا الدليل قد ورد موجزًا في قوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ *} [المؤمنون] [1]. ومن وجوه غلط المتكلمين في دليل التمانع أنهم يدللون على التمانع بقوله عزّ وجل: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] ، وقد غفلوا عن مضمون الآية، وإنما هي في توحيد الألوهية، وليست في توحيد الربوبية، فإنه عزّ وجل أخبر أنه لو كان فيهما آلهة غيره، ولم يقل أرباب.
وأيضًا فإن هذا إنما هو بعد وجودهما، وأنه لو كان فيهما ـ وهما موجودتان ـ آلهة سواه لفسدتا.
وأيضًا فإنه قال: {لَفَسَدَتَا} وهذا فساد بعد الوجود، ولم يقل: لم يوجدا. ودلت الآية على أنه لا يجوز أن يكون فيهما آلهة متعددة؛ بل لا يكون الإله إلا واحدًا، وعلى أنه لا يجوز أن يكون هذا الإله الواحد إلا الله سبحانه وتعالى، وأن فساد السماوات والأرض يلزم من كون الآلهة فيهما متعددة، ومن كون الإله الواحد غير الله، وأنه لا صلاح لهما إلا بأن يكون الإله فيهما هو الله وحده لا غير. فلو كان للعالم إلهان معبودان لفسد نظامه كله. وتوحيد الإلهية متضمن لتوحيد الربوبية دون العكس[2]. أما الآية التي تدل على التمانع فهي قوله عزّ وجل: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون: 91] .


[1] انظر: درء التعارض (9/354)، والصواعق المرسلة (2/464).
[2] انظر: شرح الطحاوية (1/40 ـ 41)، والصواعق المرسلة (2/463 ـ 464)،


اعترض ابن رشد وغيره على دليل التمانع[1]، وقدحوا في دلالته، يقول شيخ الإسلام: «وليس الأمر كما ظنه هؤلاء؛ بل هو برهان صحيح عقلي، كما قدره فحول النظار»[2].
كما أبطل هذا الدليل القائلون بالتثنية، بناء على قولهم بفاعل للخير وفاعل للشر، وقولهم ظاهر البطلان، ومناقض للعقل، وقد رُدَّ عليهم في قدحهم في دليل التمانع[3].


[1] انظر كتابه: مناهج الأدلة (157) [مكتبة الإنجلو المصرية، ط2، 1964م]، وانظر بعض الاعتراضات في: المطالب العالية (2/135 ـ 144).
[2] درء التعارض (9/354).
[3] انظر: المطالب العالية (2/147 ـ 149).


1 ـ «أثر الفكر الاعتزالي في عقائد الأشاعرة»، لمنيف العتيبي، رسالة دكتوراه.
2 ـ «درء تعارض العقل والنقل» (ج9)، لابن تيمية.
3 ـ «شرح الطحاوية» (ج1)، لابن أبي العز الحنفي.
4 ـ «الصواعق المرسلة» (ج2)، لابن القيِّم.
5 ـ «منهاج السُّنَّة» (ج3)، لابن تيمية.
6 ـ «منهج المتكلمين والفلاسفة المنتسبين للإسلام في الاستدلال على وجود الله»، ليوسف الأحمد [رسالة دكتوراه].
7 ـ «الإرشاد»، لأبي المعالي الجويني.
8 ـ «التمهيد في الرد على الملحدة المعطلة والرافضة والخوارج والمعتزلة»، لأبي بكر الباقلاني.
9 ـ «شرح الأصول الخمسة»، للقاضي عبد الجبار.
10 ـ «اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع»، لأبي الحسن الأشعري.
11 ـ «المطالب العالية» (ج2)، للفخر الرازي.