الحدوث: مصدر من حَدَث، ومعناه كما يقول ابن فارس: «الحاء والدال والثاء أصلٌ واحد؛ وهو كون الشيء لم يكن، يقال: حَدَث أمر بعد أن لم يكن»[1]. وحدث الشيء حُدوثًا: تَجدد وجوده، فهو حَادث وحَدِيث، ومنه يقال: حَدَث به عيب؛ إذا تجدد وكان معدومًا[2]. والحَدِيث نقيض القديم، والحَدِيث الخبر، واستحدثت خبرًا؛ أي: وجدت خبرًا جديدًا[3]. ويتضح مما سبق أن لفظ الحدوث؛ يعني: كون الشيء بعد أن لم يكن، كما يعني تجدد وجود الشيء، والحديث نقيض القديم، والحديث الجديد.
أما الجسم: فيقول الخليل: «الجسم يجمع البدن، وأعضاءه»[4]. وفي الصحاح: «الجسم الجسد، وكذلك الجسمان والجثمان... والجثمان الشخص»[5]. والجسم كل شخص مُدْرَك[6]. وعلى هذا فالجسم في اللغة هو البدن والجسد والجثمان والشخص. وحدوث الأجسام لم يذكر بهذا التركيب في كتب اللغة.
[1] مقاييس اللغة (2/36) [دار الجيل، ط1، 1411هـ]، وانظر: الصحاح (1/278) [دار العلم للملايين، ط3].
[2] انظر: المصباح المنير (1/124) [دار القلم].
[3] انظر: الصحاح (1/278).
[4] العين (6/60) [دار مكتبة الهلال]، وانظر: مقاييس اللغة (1/457)، ولسان العرب (12/99) [دار صادر].
[5] الصحاح (5/1887)، وانظر: لسان العرب لابن منظور (12/99).
[6] انظر: الجمهرة (2/94) [مكتبة الثقافة الدينية]، ومقاييس اللغة (1/457).
يقوم هذا الدليل على أن كل جسم مُحدَث، وكل مُحدَث فله علة وصانع، وذلك الفاعل إن كان مُحدَثًا لزم التسلسل أو الدور، وإن كان قديمًا فهو واجب الوجود لذاته. يقول الرازي في بيان هذا الدليل: «كل جسم محدث، وكل محدث فله علة وصانع، ينتج أن كل جسم فله فاعل وصانع. ثم هذا الدليل إنما يتم إذا قلنا: وذلك الفاعل إن كان محدثًا لزم التسلسل أو الدور، وإن كان قديمًا فهو واجب الوجود لذاته، وهو المطلوب»[1].
العلاقة بين المعنى اللغوي والاصطلاحي:
هذا الدليل مبني على معنى الجسم في اصطلاح المتكلمين، وهو مغاير تمامًا لمعناه في اللغة، وهذا من أسباب بطلان هذا الدليل كما سيأتي.
[1] المطالب العالية (1/200) [دار الكتاب العربي، ط1، 1407هـ]، وانظر: معالم أصول الدين (34) [دار الفكر اللبناني، ط1، 1992م]، وشرح الأصول الخمسة (94 ـ 95) [مكتبة وهبة، ط2، 1408هـ].
هذا الدليل باطل من عدة أوجه:
أولاً: أنهم يقولون: إن الإيمان بالربِّ موقوف على هذا الدليل، مع أنه لم يستدل به أحد من الصحابة والتابعين، ولا من أئمة المسلمين، فلو كانت معرفة الرب عزّ وجل والإيمان به موقوفة عليه، للزم أنهم كانوا غير عارفين بالله، ولا مؤمنين به، وهذا من أعظم الكفر باتفاق المسلمين. كما أن الأنبياء والمرسلين لم يأمروا أحدًا بسلوك هذا السبيل[1].
ثانيًا: أن الطريقة المذكورة في القرآن هي الاستدلال بحدوث الإنسان وغيره من المحدثات، المعلوم حدوثها بالمشاهدة ونحوها؛ على وجود الخالق سبحانه وتعالى، لا يحتاج إلى أن يستدل على حدوثه بمقارنة التغير أو الحوادث له، والفرق بين الاستدلال بحدوثه، والاستدلال على حدوثه بيِّن[2].
ثالثًا: أنهم بنوا دليلهم على أن الأجسام محدثة، وكل محدَث فله محدِث، أما المقدمة الأولى فقد تبين تناقضهم فيها، وأنهم التزموا لأجلها إما جحد صفات الله، وأفعاله القائمة به، وإما جحد بعض ذلك[3]. فتعريفهم الجسم بالمعاني التي ذكروها، غير وارد في كتب اللغة، وليس هو معناه الذي قد ورد في كتاب الله[4].
رابعًا: أن المقدمة الثانية في دليلهم (وكل محدَث فله محدِث) أظهر وأعرف وأبْده في العقول من أن تحتاج إلى بيان، فبتقدير بيانهم للمقدمتين، يكونون قد طولوا، وداروا بالعقول دورة تبعد على العقول معرفة الله سبحانه وتعالى، والإقرار بثبوته، وقد يحصل لها في تلك الدورة من الآفات ما يقطعها عن المقصود[5].
خامسًا: أن بعض الفلاسفة قد بيَّنوا فساد هذا الدليل، ومنهم ابن رشد، يقول في نقد هذا الدليل: «وطريقتهم التي سلكوا في بيان حدوث الجزء الذي لا يتجزأ ـ وهو الذي يسمونه الجوهر الفرد ـ، طريقة معتاصة، تذهب على كثير من أهل الرياضة في صناعة الجدل، فضلاً عن الجمهور. ومع ذلك فهي طريقة غير برهانية، ولا مفضية بيقين، إلى وجود الباري سبحانه وتعالى»[6]. وبهذا يتبين أن دليل حدوث الأجسام، الذي يعول عليه جمهور المتكلمين في إثبات وجود الله، دليل غير صحيح.
[1] انظر: بيان تلبيس الجهمية (1/619) [مؤسسة قرطبة].
[2] انظر: درء التعارض (7/219).
[3] انظر: المصدر السابق (3/73).
[4] انظر: المصدر السابق (1/118 ـ 119، 10/292)، ومجموع الفتاوى (12/316).
[5] انظر: درء التعارض (3/73، 286).
[6] مناهج الأدلة (135) [مكتبة الإنجلو المصرية، ط2، 1964م].
هذا الطريق في الاستدلال هو طريق أكثر المعتزلة، ومن وافقهم من الأشعرية[1]، واستدلالهم بهذا الدليل من ثلاث طرق:
1 ـ بعضهم يقول: الجسم حادث، والحادث لا بد له من محدث ضرورة.
2 ـ وبعضهم يقول: الجسم حادث، والحادث ممكن، والممكن لا بد له من واجب.
3 ـ الاستدلال على حدوث الأجسام بحدوث الأعراض[2].
[1] انظر: درء التعارض (5/292) [مكتبة ابن تيمية].
[2] انظر: التمهيد (44) [دار الفكر العربي]، والإنصاف (17) [المكتبة الأزهرية للتراث، 1413هـ]، ودرء التعارض (3/72).
1 ـ أنهم التزموا لأجل هذا الدليل إما جحد صفات الله، وأفعاله القائمة به، وإما جحد بعض ذلك[1].
2 ـ تهميش نصوص الكتاب والسُّنَّة وتقديم العقل عليها.
3 ـ التشكيك في الاعتقاد، بما فيها من شبهات، وكلام مجمل يحمل معان باطلة.
4 ـ أنهم قد صعَّبوا على العقول الوصول إلى نتيجة بدهية، وهي أن لكل حادث محدث.
[1] انظر: درء التعارض (3/73).
1 ـ «أثر الفكر الاعتزالي في عقائد الأشاعرة»، لمنيف العتيبي [رسالة دكتوراه].
2 ـ «الأصول التي بنى عليها المبتدعة مذهبهم في الصفات»، لعبد القادر بن محمد عطا صوفي.
3 ـ «بيان تلبيس الجهمية» (ج1)، لابن تيمية.
4 ـ «درء التعارض» (ج3)، لابن تيمية.
5 ـ «دليل الحدوث أصوله ولوازمه»، لأحمد الغامدي [رسالة دكتوراه].
6 ـ «عقيدة التوحيد في القرآن»، لمحمد ملكاوي.
7 ـ «الإنصاف»، لأبي بكر الباقلاني.
8 ـ «التمهيد»، لأبي بكر الباقلاني.
9 ـ «شرح الأصول الخمسة»، للقاضي عبد الجبار.
10 ـ «المطالب العالية» (ج1)، للرازي.