حرف الدال / الدِّين

           

قال ابن فارس: «الدال والياء والنون أصل واحد إليه يرجع فروعه كلها، وهو: جنسٌ من الانقياد والذل. فالدين: الطاعة. يُقال: دانَ له يدين دينًا: إذا أصحب وانقاد وطاع»[1].
ومنه: الدِّين، وجمعه الأديان، يقال: دان بكذا ديانة فهو دَيِّن، وتَدَيَّن به فهو مُتَدَيِّن. والدِّين أيضًا: العادة والشأن. والدين: الجزاء والمكافأة، يقال: دنته بفعله دينًا: جزيته، ويوم الدين: يوم الجزاء[2].


[1] مقاييس اللغة (2/319) [دار الجيل، ط2].
[2] انظر: مختار الصحاح (91) [مكتبة لبنان ناشرون، ط1415هـ]، ولسان العرب (13/167) [دار صادر].


الدين له إطلاق عام وإطلاق خاص:
أ ـ الإطلاق العام، وهو: ما يعتقده الإنسان ويدين به من أمور الغيب والشهادة. وهذا الإطلاق يشمل الأديان الصحيحة، والباطلة، سواء كانت الباطلة ديانة سماوية محرفة؛ كالديانة اليهودية أو النصرانية بعد تحريفهما ونسخهما بالشريعة الإسلامية، أو كانت ديانة وضعية غير سماوية؛ كالوثنية والبوذية[1].
ومما يدل على هذا الإطلاق قوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85]
وقوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ *} [الكافرون] ، والخطاب في هذه السورة كان لمشركين وثنيين، ومع ذلك سماه دينًا.
2 ـ الإطلاق الخاص، فيطلق ويراد به دين الإسلام، وهذا هو الأصل في إطلاق كلمة (الدين). ويدل عليه قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ} [آل عمران: 19] ، وقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} [المائدة: 3]
وقد جاء ذكر الإطلاقين في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ *} [التوبة] [2].


[1] انظر: الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة (10) [دار الصميعي، ط1]، ودراسات في الأديان، اليهودية والنصرانية (9، 12) [دار أضواء السلف، ط1، 1418هـ].
[2] انظر: جامع الرسائل (1/218، 223) [دار المدني]، ومجموع الفتاوى لابن تيمية (11/333) [مكتبة ابن تيمية، ط2]، ونزهة الأعين النواظر (295).


المعنى الشرعي راجع إلى الأصل اللغوي المذكور، وهو الانقياد والذل، حيث ينقاد الإنسان لأمر من يدين له، ويكون له في غاية الذل والخضوع[1].


[1] مقاييس اللغة (2/320).


الملة.



إن حقيقة الدين قائمة على تحقيق كمال الخضوع والذل لله، وذلك متضمن لعبادة الله وطاعته، ولذا جاء في حديث جبريل عليه السلام أنه جاء لتعليم الدين، وهو قد ذكر في هذا الحديث الإسلام والإيمان والإحسان، وهي مراتب الدين، ولذا كان الدين مشتملاً على أعمال الظاهر والباطن، وكانت حقيقة الدين متفاضلة ومتفاوتة زيادة ونقصانًا في القائمين بها، تبعًا لما ثبت من تفاضل مراتب الدين الثلاث[1].


[1] انظر: مجموع الفتاوى (7/263) (10/152)، والفتاوى الكبرى (2/363)، والجواب الكافي (146) [دار الكتب العلمية].


تظهر أهمية الدين للبشر من خلال أمور منها:
1 ـ أن العقل البشري بمفرده قاصر عن معرفة الخير والشر بذاته في جميع الأمور، مجملها ومفصلها، فهو وإن أدرك شيئًا يسيرًا من ذلك، إلا أن الإحاطة به مما لا تصل إليه طاقة العقل البشري، فكان من حكمة الله أن شرع لعباده الشرائع، وأنزل عليهم دينه الحق، بواسطة الرسل الذين يبلغون ذلك الدين، وأنزل عليهم الكتب التي تقودهم إلى المنهج الحق من أقرب الطرق وأيسر السبل.
2 ـ أن الالتزام بالدين الحق يضمن للإنسان سعادته في دنياه وأخراه، فلا سبيل إلى السعادة والفلاح الدنيوي والأخروي إلا بالتزام الدين الذي أتى به رسل الله، وبالدين الحق توزن جميع الأقوال والأعمال والأخلاق، فضرورة الإنسان إلى الدين أعظم من ضرورة البدن إلى الروح، والجسم إلى الغذاء؛ بل هي أعظم الضرورات على الإطلاق[1].
وهذه السعادة لا تكون بمجرد العلم بالدين الحق، ولا بمجرد العمل بشرائعه؛ بل بهما معًا، كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين» [2]، فكل من أراد الله به خيرًا فلا بد أن يفقهه في الدين، ولكن لا بد مع الفقه في الدين من العمل به، فالفقه في الدين شرط في حصول الفلاح، فلا بد من معرفة الرب تعالى، ولا بد مع معرفته من عبادته[3].


[1] انظر: زاد المعاد (1/69) [مؤسسة الرسالة، ط14].
[2] أخرجه البخاري (كتاب العلم، رقم 71)، ومسلم (كتاب الزكاة، رقم 1037).
[3] انظر: الصفدية (2/266) [دار الفضيلة، 1421هـ].


قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ *} [آل عمران] .
وقال سبحانه: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ} [آل عمران: 19] .
وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} [المائدة: 3] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ أنّه قال: «والّذي نفس محمّدٍ بيده لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمّة يهوديٌّ ولا نصرانيٌّ ثمّ يموت ولم يؤمن بالّذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النّار»[1].
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «والذي نفسي بيده لو كان موسى صلّى الله عليه وسلّم حيًّا ما وسعه إلا أن يتبعني»[2].


[1] أخرجه مسلم (كتاب الإيمان، رقم 153).
[2] أخرجه أحمد في مسنده (23/349) [مؤسسة الرسالة، ط1]، والدارمي في سننه (كتاب العلم، رقم 449)، وحسَّنه الألباني بشواهده انظر: إرواء الغليل (6/38) [المكتب الإسلامي ببيروت، ط2].


قال ابن حزم رحمه الله: «أوجب النبي صلّى الله عليه وسلّم الإيمان به على من سمع بأمره صلّى الله عليه وسلّم، فكل من كان في أقاصي الجنوب والشمال والمشرق وجزائر البحور والمغرب وأغفال الأرض من أهل الشرك فسمع بذكره صلّى الله عليه وسلّم ففرض عليه البحث عن حاله، وإعلامه والإيمان به»[1].
وقال ابن تيمية رحمه الله: «قد علم بالاضطرار من دين الاسلام أن رسالة محمد بن عبد الله لجميع الناس، عربهم وعجمهم، وملوكهم وزهادهم، وعلمائهم وعامتهم، وأنها باقية دائمة إلى يوم القيامة؛ بل عامة الثقلين الجن والانس، وأنه ليس لأحد من الخلائق الخروج عن متابعته وطاعته وملازمة ما يشرعه لأمته من الدين، وما سَنَّه لهم من فعل المأمورات وترك المحظورات؛ بل لو كان الأنبياء المتقدمون قبله أحياء لوجب عليهم متابعتة ومطاوعته... فإذا كان يجب اتباعه ونصره على من يدركه من الأنبياء فكيف بمن دونهم.
بل مما يعلم بالاضطرار من دين الاسلام أنه لا يجوز لمن بلغته دعوته أن يتبع شريعة رسول غيره؛ كموسى وعيسى، فإذا لم يجز الخروج عن شريعته إلى شريعة رسول فكيف بالخروج عنه»[2].
وقال ابن القيِّم: «الدين هو الطاعة والعبادة والخلق، فهو الطاعة اللازمة الدائمة التي صارت خلقا وعادة، ولهذا فسر الخلق بالدِّين في قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ *} [القلم] ، قال الإمام أحمد: عن ابن عيينة، قال ابن عباس: لعلى دين عظيم»[3].


[1] الإحكام (5/109) [دار الحديث، ط1، 1404هـ].
[2] مجموع الفتاوى (7/422 ـ 424).
[3] الجواب الكافي (146).


من الممكن تقسيم الديانات ـ بالنظر إلى الحق والباطل منها ـ إلى أقسام ثلاثة:
1 ـ الدين الحق، وهو دين الإسلام، الذي أنزله الله على رسله كلهم، من آدم إلى محمد عليهم الصلاة والسلام.
2 ـ دين باطل محرف، بأن يكون أصله من رسالة سماوية صحيحة مما أنزل على نبي من الأنبياء، ثم حرف من بعد ذلك النبي؛ كاليهودية والنصرانية.
3 ـ دين وضعي أرضي؛ كالوثنية والهندوسية والبوذية ونحوها.



الدين الذي أنزله الله على نبيّه محمد عليه الصلاة والسلام له ثلاث مراتب:
1 ـ مرتبة الإسلام.
2 ـ وأعلى منها: مرتبة الإيمان.
3 ـ وأعلى منها: مرتبة الإحسان.
وهذه المراتب تشمل الدين الحق كله أصوله وفروعه، ظاهره وباطنة، وكل واحدة منها إذا أطلقت ولم تقترن بالأخرى فإنها تشمل الدين كله، كما قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ} [آل عمران: 19] ، فجعل الدين كله هو الإسلام، وفي حديث جبريل جعل الإسلام واحدًا من مراتب ثلاثة، هي بمجموعها دين الله.



المسألة الأولى: دين الأنبياء واحد، وهو دين الإسلام العام:
ومن الأدلة على ذلك:
قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ} [آل عمران: 19]
فهذا «إخبارٌ من الله تعالى بأنّه لا دين عنده يقبله من أحدٍ سوى الإسلام، وهو اتّباع الرّسل فيما بعثهم الله به في كلّ حينٍ، حتّى ختموا بمحمّدٍ صلّى الله عليه وسلّم، الّذي سدّ جميع الطّرق إليه إلا من جهة محمّدٍ صلّى الله عليه وسلّم، فمن لقي الله بعد بعثته محمّدًا صلّى الله عليه وسلّم بدين على غير شريعته، فليس بمتقبّلٍ»[1].
فهذه الآية تتناول دين الإسلام الذي بعث به جميع الرسل، وليست خاصة في الإسلام الذي بعث به نبيّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم.
ومن الأدلة على أن الإسلام دين الأنبياء جميعًا:
قوله تعالى ـ في ذكر قول نوح عليه السلام ـ: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ *} [يونس] .
وقوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} [إبراهيم] . والآيات في ذلك كثيرة.
ومن الأدلة من السُّنَّة: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدّنيا والآخرة، والأنبياء إخوةٌ لعلاتٍ، أمّهاتهم شتّى ودينهم واحدٌ»[2].
«ومعنى الحديث أن أصل دينهم واحد وهو التوحيد وإن اختلفت فروع الشرائع»[3].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وجميع الأنبياء كانوا على دين الإسلام، كما في «الصحيحين» ـ وساق الحديث السابق ـ وقد أخبر تعالى في القرآن عن نوح وإبراهيم وإسرائيل وأتباع موسى والمسيح وغيرهم أنهم كانوا مسلمين متفقين على عبادة الله وحده لا شريك له، وأن يعبد بما أمر هو سبحانه وتعالى، فلا يعبد غيره، ولا يعبد هو بدين لم يشرعه فمن كان متبعًا لشرع التوراة أو الإنجيل الذي لم يبدل ولم ينسخ فهو على دين الإسلام... وأما من اتبع دينًا مبدلاً ما شرعه الله، أو دينًا منسوخًا، فهذا قد خرج عن دين الإسلام؛ كاليهود الذين بدلوا التوراة وكذبوا المسيح عليه السلام، ثم كذبوا محمدًا صلّى الله عليه وسلّم، والنصارى الذين بدلوا الإنجيل وكذبوا محمدًا صلّى الله عليه وسلّم، فهؤلاء ليسوا على دين الإسلام الذي كان عليه الأنبياء؛ بل هم مخالفون لهم فيما كذبوا به من الحق، وابتدعوه من الباطل»[4].
وبهذا يعلم أن موسى وعيسى عليهما السلام وجميع أنبياء الله قد جاءوا بدين واحد، اسمه الإسلام، أصوله واحدة، وإنما اختلفت شرائعه.
وأن أتباع موسى وعيسى قد حرفوا ذلك الدين من جهتين:
1 ـ تحريف الاسم، فاستبدلوا اسم (الإسلام) الذي جاء به أنبياؤهم إلى اسم اليهودية والنصرانية، فاليهودية والنصرانية تسميات من صنع البشر، لذا نفاهما الله عن نبيِّه إبراهيم عليه السلام في قوله: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ *} [آل عمران] .
هذا هو القول الصحيح في المسألة[5].
2 ـ تحريف المضمون، بالتبديل والتغيير لما جاء في شرعهم ولنصوص كتبهم المقدسة[6].
المسألة الثانية: وجوب الالتزام بدين النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم:
إن من الأمور المعلومة بالضرورة من الدين أن لا مناص لأحد من اتباع دين الإسلام الخاص الذي جاء به نبيّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، وأنه لا يحل لأحد الخروج عن هذا الدين بعد بعثته صلّى الله عليه وسلّم، وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «والذي نفس محمّد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمّة يهودي ولا نصراني ثمّ يموت ولم يؤمن بالّذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النّار»[7].
وقد تواترت النصوص بعموم بعثته صلّى الله عليه وسلّم للناس جميعًا، قال تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158] .
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أعطيت خمسًا لم يعطهنّ أحد من الأنبياء قبلي وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة»[8].
وقد علم بالضرورة من الدين وباتفاق جميع المسلمين أن من ظن أن بعض الناس يسعه الخروج عن شرعة محمد صلّى الله عليه وسلّم إلى أي دين آخر فقد أتى بناقض من نواقض الإسلام[9].
المسألة الثالثة: علم دراسة الأديان:
علم الأديان مصطلح عرف في العصور المتأخرة بهذا الاسم، وإن كان أصله قديمًا، وهو علم يشتمل على ثلاثة مباحث:
الأول: تاريخ الأديان: ويدرس في هذا القسم نشأة الدين وتطوره وتأثيره في المجتمع.
وقد امتاز هذا المبحث عند المسلمين بالمنهج العلمي الدقيق للتحقق من المعلومات التاريخية وصحتها، وذلك باعتماد الإسناد للتحقق من تلك الروايات، سواء في المصادر الأصلية للدين وأحكامه، وهي القرآن والسُّنَّة، وكذلك ما سواهما من الأحداث، وذلك بخلاف الديانات الأخرى، حيث لا يوجد سند متصل لكتبها المقدسة، سواء في ذلك كتب اليهود؛ كالتوراة، أو النصارى؛ كالإنجيل، أو الأديان الوضعية الكبرى؛ كالهندوس والبوذيين ونحوهم.
الثاني: فلسفة الأديان: والمراد بها: الأسس والمبادئ التي يستند إليها الدين من عقيدة وشريعة، وأخلاق ومعاملات، ومن أهم مسائل هذا القسم: مسائل ما وراء الطبيعة التي تسمى على لسان الدين: موضوع الألوهية، أو: اللاهوتية.
الثالث: مقارنة الاديان: فيدرس في هذا القسم الخصائص والمميزات لغرض المقارنة فيما بينها[10].


[1] تفسير ابن كثير (2/25) [دار طيبة، ط2، 1420هـ].
[2] أخرجه البخاري (كتاب أحاديث الأنبياء، رقم 3443)، ومسلم (كتاب الفضائل، رقم 2365).
[3] فتح الباري لابن حجر (6/489) [دار المعرفة].
[4] مجموع الفتاوى (27/370 ـ 371)، وانظر: نفس المرجع (3/90).
[5] وفي المسألة قول آخر لبعض العلماء، وهو أن اسم (الإسلام) مختص بهذه الأمة، ذكر هذا القول السيوطي في رسالته (إتمام النعمة باختصاص الإسلام بهذه الأمة).
[6] انظر: الدين: مفهومه وحقيقته لبهجت عبد الرازق [بحث منشور في المجلة العلمية لجامعة الملك فيصل (العلوم الإنسانية والإدارية)، المجلد الخامس، العدد الثاني، 1425هـ].
[7] أخرجه مسلم (كتاب الإيمان، رقم 153).
[8] أخرجه البخاري (كتاب الصلاة، رقم 438)، ومسلم (كتاب المساجد ومواضع الصلاة، رقم 521).
[9] انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (7/422 ـ 424) (28/524)، ومجموع مؤلفات محمد بن عبد الوهاب (1/68)، ونواقض الإسلام له في نفس المجموع (1/214).
[10] دراسات في اليهودية والمسيحية وأديان الهند لمحمد الأعظمي (18 ـ 20) [مكتبة الرشد، ط2، 1424هـ] باختصار.


الفرق بين الدين والملة:
الدين والملة متحدان بالذات، ومختلفان بالاعتبار، فإن الشريعة من حيث إنها تطاع تسمى دينًا، ومن حيث إنها تجمع تسمى ملة، ومن حيث إنها يرجع إليها تسمى مذهبًا.
وقيل: الفرق بين الدين والملة والمذهب أن الدين منسوب إلى الله تعالى، والملة منسوبة إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم، والمذهب منسوب إلى المجتهد[1].


[1] انظر: التعريفات للجرجاني (141) [دار الكتاب العربي، ط1، 1405هـ]، والكليات للكفوي (443 ـ 444) [مؤسسة الرسالة، 1419هـ].


إن من أشهر المخالفات المتعلقة ببحث (الدين) الدعوات المنادية بتوحيد الديانات، وكذا الدعوات إلى التقريب بين الديانات، وقد نشأت هذه الدعوات المضللة في أحضان التنصير، والصهيونية العالمية[1]، وإن كانت لها بعض الجذور القديمة، وفيما يلي بيانٌ لهما:
أولاً: الدعوة إلى وحدة الأديان:
إن من الدعوات الباطلة المناقضة لأصل الدين، ما نادى به بعض أهل الضلال من الدعوة إلى وحدة الأديان، وهو الاعتقاد بصحة جميع المعتقدات الدينيّة، وصواب جميع العبادات، وأنها طرق إلى غاية واحدة، أو أنها كالمذاهب في الدين الواحد[2].
وقد اختلفت طرق الداعين إلى هذا المذهب، بين من يدعو إلى الوحدة بين أديان الملل السماوية الثلاث، تحت مسمَّى: (الإبراهيمية)، أو: الديانة العالمية، وبين من يعممها على كل الديانات الإنسانية، كما اختلفت مبادئهم في هذه الدعوة، بين من ينطلق من منطلق إنساني، ومن ينطلق من منطلق صوفي قائم على فكرة الوحدة والاتحاد، وهم الذين يرون العالم كله هو الإله، وأن أفراده مثل موج البحر متعدد، ولكنه من البحر نفسه، وبناءً على ذلك فكل الأديان صحيحة لأنها صادرة عن الإله تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا[3].
وقد عمد هؤلاء إلى العمل على المساواة بين كتاب المسلمين وعباداتهم ومساجدهم وصلاتهم مع ما يقابلها عند أصحاب الأديان الأخرى.
ولا شك أن هذه الدعوة كفر خالص، ورِدَّة عن الدين، لأمور كثيرة؛ منها:
أولاً: أنه تكذيب للقرآن والسُّنَّة في إكفار اليهودية والنصرانية وغيرها من الأديان.
قال تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ *} [البينة] .
ثانيًا: أنه طعن في نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم من حيث شمولها وكفايتها وختمها لسائر النبوات، ونسخها لما قبلها من الشرائع.
ثالثًا: أنه طعن في أصول الإسلام وجذوره الأساسية مثل شهادة ألا إله إلا الله التي تقتضي الكفر بالطاغوت، والذي هو من أبرز شروطها، ودعوة وحدة الأديان تتضمن تجويزًا وتسويغًا لاتباع غير دين الإسلام، وهذا كفر مناقض لأصل الإيمان[4].
ثانيًا: التقارب بين الأديان:
من الدعوات التي كان لها انتشار واسع: الدعوة إلى التقارب بين الأديان، حيث عقد من أجلها المؤتمرات في العديد من الدول، وكان لها الكثير من المناصرين.
وأصحاب هذه الدعوة متفاوتون في مرادهم من ذلك التقارب، فمنهم من يبالغ إلى حد الاندماج الكامل والوحدة التامة بين الأديان، ودون ذلك مراتب عديدة من الدعوة للتقارب والتواصل ونبذ الخلاف واطِّراح عقيدة البراء بين الأديان والملل.
ومن أبرز خصائص دعوة التقارب:
ـ أن يعتقد كل طرف إيمان الطرف الآخر، وإن لم يبلغ الإيمان التام الذي يعتقده هو، وكثير منهم من يمتنع عن القول بكفر الطرف الآخر.
ـ الاعتراف بالآخر، واحترام عقائده وشعائره، والتعرُّف على الآخر كما يُريد هو أن تعرفه، وتجنب البحث والمناقشة في المسائل العقدية الشائكة، ونسيان الماضي التاريخي، والاعتذار عن أخطائه.
ـ إبراز أوجه التشابه والاتفاق، والقضاء على أوجه الاختلاف والافتراق، والعمل على تحقيق القيم المشتركة، وتبادل التهاني والزيارات في المناسبات الدينية، والمشاركة في عباداتهم أحيانًا[5]، ويدخل في ذلك التأكيد على المحبة والمودة والإخاء والصداقة والثقة والاحترام المتبادل معهم.
ـ ويؤكدون كثيرًا على أن يبتعد كل طرف عن أن يجعل الحوار دعوة مبطنة لدينه، سواء للإسلام أو النصرانية[6].
ويتبين بهذا أن التقارب أمرٌ نسبي، فيمكن حصول التقارب إلى درجة الوحدة ويمكن الاكتفاء بالتفاهم العام القريب من حوار التعايش.
حكم دعوة التقارب:
بناء على اختلاف المضامين المندرجة تحت دعوات التقارب، فإن حكم الدعوة إلى التقارب بين الأديان يختلف بحسب المعاني المندرجة تحت كل دعوة:
ـ فمن كفّر أصحاب الديانات الأخرى كاليهود والنصارى، مع القول بالتقريب على نحوِ ما سبق: فقوله بدعة مخالفة لمنهج النبي صلّى الله عليه وسلّم في حواره مع أهل الكتاب.
ـ ومن لم يكفّرهم، فقوله كفرٌ؛ لأنه تكذيب لأمرٍ قطعي في القرآن والسُّنَّة كما تقدم تفصيله.
فهي على الحالين محرمة، وذلك لأمور؛ منها:
ـ أنه موالاة للكفار ومخالفة لعقيدة الولاء والبراء الثابتة بالضرورة من الدين، والمودة والموالاة في «حوار التقريب» هو الشعار البارز الذي يردد في اللقاءات والبيانات المشتركة[7].
ـ أنه مخالفة لمنهج النبي صلّى الله عليه وسلّم في حوار الأديان، وأصحابه، وأهل الإسلام قاطبة.
فأصحاب التقارب يتركون نقاط الاختلاف، ولا سيما مسائل العقائد، وهذه مناقضة لمنهج الدعوة النبوية، فإن الرسول صلّى الله عليه وسلّم دعا أهل الكتاب وغيرهم من أهل الأديان إلى تحقيق التوحيد، ونبذ الشرك، وجادلهم على ذلك، ولم يرد تركه لمخاطبتهم في العقائد والإعراض عن ذلك إلى قضايا مشتركة أخرى.
ـ أنه يتضمن المساواة بين الكافرين والمسلمين، يقول تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ *} [القلم] .
ودعوة التقريب في أساسها تقرر مبدأ المساواة الدينيّة، وهذا رفع لما وضعه الله، وتنزيل لما رفعه الله تعالى. فالتقارب يفترض المساواة بين الأديان وعدم امتلاك الحقيقة المطلقة لأي منها، وهذا شك في الإيمان والإسلام وتوسط بين الأديان[8].


[1] انظر: الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر لمحمد محمد حسين (2/318 ـ 320) [دار النهضة العربية، ط3، 1392هـ]، والإسلام والأديان لمحمد عوض (35) [دار البشير].
[2] انظر: دعوة التقريب بين الأديان لأحمد القاضي (1/339) [دار ابن الجوزي، 1421هـ].
[3] انظر: الصفدية (1/268)، والرد على المنطقيين (282) [دار المعرفة]، ومجموع الفتاوى (14/165)، ومنهاج السُّنَّة النبوية (1/3 ـ 6).
[4] انظر: الشفاء للقاضي عياض (2/1071)، والإبطال لنظريه الخلط بين دين الإسلام وغيره من الأديان لبكر أبي زيد (13 ـ 24، 93 ـ 96) [دار العاصمة، ط1، 1417هـ]، ودعوة التقريب بين الأديان (4/1436، 1465 ـ 1492)، ونواقض الإيمان القولية والعملية لعبد العزيز العبد اللطيف (377) [مدار الوطن، ط3، 1427هـ]، وفتوى اللجنة الدائمة في (وحدة الأديان) برقم (1942)، وتاريخ 25/1/1418هـ.
[5] انظر: الحوار مع أهل الكتاب لخالد القاسم (124) [دار المسلم، ط1، 1414هـ].
[6] انظر: دعوة التقريب بين الأديان (1/335).
[7] انظر: أولويات الحركة الإسلامية في الرحلة القادمة للقرضاوي (176) [مكتبة وهبة، ط1، 1411هـ].
[8] انظر: دعوة التقريب بين الأديان (4/1448).


1 ـ «الإبطال لنظرية الخلط بين دين الإسلام وغيره من الأديان»، لبكر أبي زيد.
2 ـ «إتمام النعمة باختصاص الإسلام بهذه الأمة»، للسيوطي.
3 ـ «أحكام أهل الملل والردة من الجامع لمسائل الإمام أحمد بن حنبل»، للخلال.
4 ـ «الإسلام والأديان»، لمحمد عوض.
5 ـ «دراسات في اليهودية والمسيحية وأديان الهند»، لمحمد الأعظمي.
6 ـ «دعوة التقريب بين الأديان»، لأحمد القاضي.
7 ـ «الدين»، لمحمد عبد الله دراز.
8 ـ «الدين، مفهومه وحقيقته في ضوء القرآن والسُّنَّة»، لبهجت عبد الرازق.
9 ـ «فتح الباري»، لابن حجر.
10 ـ «مجموع الفتاوى»، لابن تيمية.