حرف الذال / الذَّبح

           

قال ابن فارس رحمه الله: «الذال والباء والحاء أصل واحد، وهو يدل على الشق؛ فالذبح مصدر ذبحت الشاة ذبحًا، والذِّبح المذبوح»[1].
والذبح: الشق، وكل ما يُشق فقد ذُبح، وكذلك كل ما فُتَّ وقُلع فقد ذُبح، والذبيحة: الشاة المذبوحة، وهي اسم لما يذبح من الحيوان، وأُنث؛ لأنه ذهب به مذهب الأسماء لا النعت. ويطلق على الذبيحة: النسك، وهي التي يتقرب بها إلى الله تعالى، وتسمى بالنسيكة، ويسمى الذبح أيضًا نحرًا، وإن كان النحر يطلق على نحر الإبل: وهو طعنها في منحرها[2].


[1] مقاييس اللغة (2/369) [دار الجيل، ط1420هـ].
[2] انظر: تهذيب اللغة (4/471 ـ 472) (5/10) (10/74) [الدار المصرية للتأليف والترجمة]، ومقاييس اللغة (2/420)، ولسان العرب (5/22) [دار إحياء التراث العربي، ط3، 1419هـ].


هو إزهاق الروح، بإراقة الدم، على وجه مخصوص، ويقع عبادة: إما وجوبًا، أو استحبابًا، ويقع عادة[1].


[1] انظر: شرح ثلاثة الأصول لابن عثيمين (66 ـ 67) [دار إحياء الثريا]، وانظر: الشرك ومظاهره لمبارك الميلي (365) [دار الراية، ط1، 1422هـ]، والتمهيد لشرح كتاب التوحيد لصالح آل الشيخ (138) [دار التوحيد، ط1، 1424هـ].


تظهر العلاقة بين المعنى اللغوي والشرعي حيث أن كل منهما يدل على الشق والقطع، إلا أن المعنى الشرعي مخصوص بالذبح الشرعي، الذي يقع على وجه القربة لله تعالى، أو على وجه التمتع، أو الاتجار، ونحوه.



النسك، النحر، الذكاة.



يختلف حكم الذبح بحسب القصد والنية، فيقع على ثلاثة أوجه[1]:
أحدها: الذبح التعبدي، وهو ما يطلق عليه بالنسك: وهو ما يقع عبادة لله تعالى، فيقصد بذبحه التقرب إلى الله تعالى، وتعظيمه، والتذلل إليه، فهذا لا يكون إلا لله تعالى، وصرفه لغيره تعالى شرك أكبر.
الثاني: أن يقع بقصد إكرام الضيف، أو لوليمة العرس، ونحوه، فهذا مأمور به إما وجوبًا، أو استحبابًا.
الثالث: أن يقع على وجه التمتع بالأكل، أو التوسيع على العيال، أو الاتجار به، ونحو ذلك، فهذا من قسم المباح.


[1] انظر: الشرك ومظاهره لمبارك الميلي (365)، وشرح ثلاثة الأصول لابن عثيمين (66 ـ 67)، وحصول المأمول بشرح ثلاثة أصول لعبد الله الفوزان (98 ـ 99) [مكتبة الرشد، ط1، 1422هـ].


الذبح أفضل العبادات المالية؛ لأنه يجتمع فيه أمران: الأول: أنه طاعة لله تعالى. والثاني: أنه بذل ماله، وطابت به النفس، والبذل مشترك في جنس المال، لكن زاد الذبح على غيره؛ من حيث إن الحيوانات محبوبة إلى أربابها، يوجد لذبحها ألم في النفوس؛ لشدة محبتها، فإذا بذله لله تعالى، وسمحت نفسه بإيذاق الحيوانات الموت، صار أفضل من مطلق العبادات المالية[1].


[1] حاشية ثلاثة الأصول لابن قاسم (44) [ط5، 1407هـ].


الذبح: عبادة عظيمة من أعظم العبادات، وشعيرة من أظهر شعائر الدين، قرن الله تعالى ذكرها في كتابه العزيز بالصلاة التي هي الركن الثاني من أركان الدين، ومبانيه العظام تنبيهًا على عظم شأن القرابين وإعلامًا لعباده بأن الذبح لله وحده، ولم يزل ذبح المناسك وإراقة الدماء على اسم الله وحده مشروعًا في جميع الملل، كما قال تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج: 34] .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وقوله: {فَصَلِّ لِرَّبِكَ وَانْحَرْ *} [الكوثر] : أمره أن يجمع بين هاتين العبوديتين: وهما الصلاة والنسك الدالتان على القرب والتواضع، والافتقار وحسن الظن، وقوة اليقين، وطمأنينة القلب إلى الله، وإلى عدته وأمره، وفضله، وخلفه، عكس حال أهل الكبر والنفرة، وأهل الغنى عن الله، الذين لا حاجة لهم في صلاتهم إلى ربهم يسألونه إياها، والذين لا ينحرون له خوفًا من الفقر، وتركًا لإعانة الفقراء وإعطائهم، وسوء الظن منهم بربهم، ولهذا جمع الله بينهما في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *} [الأنعام] »[1].


[1] مجموع الفتاوى (16/531 ـ 532) [مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، ط1425هـ].


قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ} [المائدة: 3] ، وقال: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ *} [الأنعام] ، وقال: {فَصَلِّ لِرَّبِكَ وَانْحَرْ *} [الكوثر: 2] .
ومن السُّنَّة: عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لعن الله من لعن والده، ولعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من آوى محدثًا، ولعن الله من غيَّر منار الأرض»[1].
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما؛ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بَلْدحٍ قبل أن ينزل على النبي صلّى الله عليه وسلّم الوحي فقُدِّمت إلى النبي سفرة فأبي أن يأكل منها. ثم قال زيد: «إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم، ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه». وأن زيد بن عمرو كان يعيب على قريش ذبائحهم ويقول: «الشاة خلقها الله، وأنزل لها من السماء الماء وأنبت لها من الأرض ثم تذبحونها على غير اسم الله؟!». إنكارًا لذلك وإعظامًا له[2].
وعن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: ثنتان حفظتهما عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح وليحدَّ أحدكم شفرته فليرح ذبيحته»[3].
وعن ثابت بن الضحاك قال: نذر رجل على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن ينحر إبلاً ببوانة فأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: إني نذرت أن أنحر إبلاً ببوانة. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟» . قالوا: لا. قال: «هل كان فيها عيد من أعيادهم؟» . قالوا: لا. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أوف بنذرك؛ فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم»[4].


[1] أخرجه مسلم (كتاب الأضاحي، رقم 1978).
[2] أخرجه البخاري (كتاب مناقب الأنصار، رقم 3826).
[3] أخرجه مسلم (كتاب الصيد والذبائح، رقم 1955).
[4] أخرجه أبو داود (كتاب الأيمان والنذور، رقم 3313)، وصحَّحه ابن حجر في التلخيص الحبير (4/439) [دار الكتب العلمية، ط1]، والألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 2872). وجملة: «وليس على ابن آدم نذر فيما لا يملك» رواها البخاري في صحيحه (كتاب الأدب، رقم 6047)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 110).


قال ابن تيمية: «والنسك: هي الذبيحة لله تعالى ابتغاء وجهه، والمقصود: أن الصلاة والنسك هما أجلّ ما يتقرب به إلى الله تعالى، فإنه أتى فيها بالفاء الدالة على السبب؛ لأن فعل ذلك وهو الصلاة والنحر، سبب للقيام بشكر ما أعطاه الله إياه من الكوثر، والخير الكثير، فشكر المنعم عليه، وعبادته أعظمهما هاتان العبادات وأجلّ العبادات المالية: النحر، وأجلّ العبادات البدنية: الصلاة، وما يجتمع للعبد في الصلاة لا يجتمع له في غيرها، من سائر العبادات، كما عرفه أرباب القلوب الحيّة، أصحاب الهمم العالية، وما يجتمع له في نحره من إيثار الله، وحسن الظن به، وقوة اليقين، والوثوق بما في يد الله أمر عجيب، إذا قارن ذلك الإيمان والإخلاص»[1].
وقال السعدي رحمه الله: «فإن نصوص الكتاب والسُّنَّة صريحة في الأمر بالذبح لله، وإخلاص ذلك لوجهه، كما هي صريحة بذلك في الصلاة، فقد قرن الله الذبح بالصلاة في عدة مواضع من كتابه، وإذا ثبت أن الذبح لله من أجلِّ العبادات، وأكبر الطاعات، فالذبح لغير الله شرك أكبر، مخرج عن دائرة الإسلام؛ فإن حد الشرك الأكبر وتفسيره الذي يجمع أنواعه وأفراده أن يصرف العبد نوعًا، أو فردًا من أفراد العبادة لغير الله»[2].
وقال عبد الرحمن بن قاسم رحمه الله ـ تحت ترجمة: باب من ما جاء في الذبح لغير الله ـ: «أي: من الوعيد على ذلك، وبيان أنه شرك أكبر ناقل عن الملة؛ لأنه عبادة من أجلِّ العبادات، وقربة من أفضل القربات المالية، فصرفه لغير الله شرك؛ كمن يذبح لقبر، أو شجر، أو حجر، أو ملك، أو نبي، أو جني، أو لطلعة سلطان، أو للزيران، أو غير ذلك»[3].


[1] مجموع الفتاوى (16/532).
[2] القول السديد في مقاصد التوحيد (3/21) ـ ضمن المجموعة الكاملة ـ [مركز صالح بن صالح الثقافي، ط2، 1412هـ].
[3] حاشية كتاب التوحيد (96) [ط5، 1424هـ].


شروط الذبح: أن يكون الذبح لله تعالى، وأن يكون باسمه تعالى، فإن اختل أحد الشرطين، حرمت الذبيحة، ولم يجز أكلها.
قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ} [المائدة: 3] ، وقال تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] .
وهناك شروط يذكرها أهل الفقه خاصة بالذابح، والذبيحة، وآلة الذبح.



ينقسم الذبح إلى قسمين ظاهرين، وكل قسم ينقسم إلى أنواع[1]:
القسم الأول: ذبح عبادة وقربة، وهو على أنواع ثلاثة:
1 ـ ذبح النسك: وهو ما يتقرب به إلى الله تعالى، تعظيمًا له، وطاعة، وهو إما مطلق؛ أي: ليس له سبب معين، إلا مجرد التقرب والطاعة، وإما لسبب: كالهدي، والأضحية، والنذر، والعقيقة، ونحوها، وهذه منه ما هو واجب، ومنها ما هو سُنَّة مؤكدة، أو مستحب.
2 ـ الذبح البدعي: وهو أن يذبح بمكان يذبح فيه لغير الله تعالى، أو يذبح عند القبور، وإن كان الذابح قصده التقرب إلى الله تعالى، وذبح باسمه تعالى؛ لأنه وسيلة من وسائل الشرك بالله تعالى، كما سيأتي بيانه.
3 ـ الذبح الشركي: وهو من يذبح لغير الله تقربًا، أو يذكر غير اسم الله تعالى على الذبيحة؛ كمن يذبح للأنبياء، أو للملائكة، أو للجن، أو يذبح لأهل القبور، وأمثال ذلك.
القسم الثاني: الذبح المباح، وهو ما يقصد فيه التمتع باللحم، والتوسيع على الأهل والعيال، أو الاتجار به، أو نحو ذلك.


[1] انظر: الشرك ومظاهره لمبارك الميلي (365)، والقول المفيد على كتاب التوحيد (1/214) [دار ابن الجوزي، ط2، 1423هـ]، وشرح ثلاثة لابن عثيمين (66 ـ 67)، وانظر: الشرك ومظاهره لمبارك الميلي (365)، والتمهيد لشرح كتاب التوحيد (139 ـ 142).


المسألة الأولى: الذبح لغير الله: هو إراقة دم حيوان على وجه التقرب لغير الله تعالى، أو ذكر غير اسمه تعالى عليه، ويشمل الذبح للأنبياء، والملائكة، والأولياء، وغيرهم، أو بأسمائهم. قال النووي رحمه الله: «وأما الذبح لغير الله تعالى فالمراد به: أن يذبح باسم غير الله تعالى؛ كمن ذبح للصنم، أو الصليب، أو لموسى أو لعيسى صلّى الله عليهما، أو للكهنة ونحو ذلك»[1].
والذبح لغير الله تعالى تقربًا وتعظيمًا من الشرك الأكبر المناقض لملة الإسلام، وهو مما أُهِلّ به لغير الله تعالى، وتحريمه معلوم من الدين بالضرورة؛ فإن الذبح من أعظم العبادات التي شرعها الله تعالى لعباده، وأمرهم بإخلاص القصد له فيها كما قال تعالى: {فَصَلِّ لِرَّبِكَ وَانْحَرْ *} [الكوثر] .
قال ابن تيمية: «والمسلم لو ذبح لغير الله، أو ذبح باسم غير الله لم يبح، وإن كان يكفر بذلك، فكذلك الذمي ولأن الذبح لغير الله، وباسم غيره: قد علمنا يقينًا أنه ليس من دين الأنبياء عليهم السلام، فهو من الشرك الذي أحدثوه»[2].
المسألة الثانية: حكم الذبح لله تعالى بمكان يذبح فيه لغير الله، أو بمكان يقام فيه عيد من أعياد الجاهلية:
لما كان الذبح لله تعالى عبادة وقربة يتقرب بها إلى الله تعالى، فقد احتاط لها الشرع المطهر لأدائها على أكمل الوجوه، وأظهرها عبودية وإخلاصًا لله تعالى وذلك بالنهي عن الذبح لله تعالى بمكان يذبح فيه لغير الله عزّ وجل، أو بمكان يقام فيه عيد من أعياد الجاهلية؛ سدًّا لذريعة الشرك وحماية لجناب التوحيد، ومباعدة لأهل التوحيد عن مشابهة المشركين في الذبح لمعبوداتهم، كما دلَّ على ذلك حديث ثابت بن الضحاك المتقدم.
والشاهد من الحديث لهذه المسألة قوله صلّى الله عليه وسلّم: «هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟»، «فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟».
والحكمة من النهي عن ذلك تتجلى في الآتي:
الأول: أنه يؤدي إلى التشبه بالكفار، وقد نهي عن التشبه بهم، ولو كان قصد الذابح وجه الله تعالى.
الثاني: أن في ذلك إحياء للمحل الشركي، وتعظيمًا له، فيكون من أكبر الوسائل إلى وجود الشرك، ورجوعه.
الثالث: أنه يؤدي إلى الاغترار بهذا الفعل؛ لأن من رأى مسلمًا يذبح بمكان يذبح فيه المشركون ظن أن فعل المشركين جائز؛ لأن صورة الفعلين واحدة.
الثالث: أن المشركين سوف يقوون على فعلهم، إذا رأوا من يفعل مثلهم[3].
المسألة الثالثة: حكم الذبح عند القبور:
كان أهل الجاهلية يعقرون الإبل على قبر الرجل الجواد؛ زعمًا منهم أن ذلك مجازاة لهم على فعله الذي كان يفعله قبل موته، وهو عقر الإبل للأضياف، وإطعامهم إياها، فيعقرون عند قبره فتأكلها السباع والطير لتكون مطعمًا بعد مماته، كما كان مطعمًا في حياته، فجاء الإسلام وأبطل سُنَّة الجاهلية.
فعن أنس صلّى الله عليه وسلّم قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا عقر في الإسلام»[4].
والعقر: هو قطع إحدى قوائم البعير أو الناقة، أو الشاة بالسيف لأجل نحره يفعل ذلك كيلا يشرد عند النحر، والمراد من الحديث النهي عما كان يفعله أهل الجاهلية عند القبور فكان من سُنَّتهم أنهم يعقرون الإبل على قبور الموتى؛ أي: ينحرونها، ويقولون: إن صاحب القبر كان للأضياف في أيام حياته فنكافئه مثل صنيعه بعد وفاته.
وفسّره الإمام أحمد بأنهم كانوا إذا مات لهم الميت نحروا جزورًا على قبره، فنهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك.
وقد جاء اليوم في بلاد المسلمين من يحيي هذا السُّنَّة الجاهلية، وذلك بالذبح عند قبور الأولياء وأضرحتهم؛ بدعوى أنها تنحر باسم الله ولله وبقصد نفع الفقراء والمساكين، وهذا فعل منكر وعمل محرم وحرمته من عدة أوجه:
أولها: أنه قد نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك بخصوصه وذلك في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا عقر في الإسلام» ، وهذا الفعل مشابه لما كان يفعله أهل الجاهلية.
الثاني: لو كان هذا الفعل جائزًا لفعله سلف هذه الأمة من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان، فلما لم ينقل عنهم شيء من ذلك دلَّ هذا على بطلانه.
الثالث: ذكر اسم الله عند الذبح عند القبر ليس هو المسوغ لجواز هذا الفعل؛ بل إن الذبح في أماكن يعظم فيها غير الله محرم وهو من البدع العظيمة والوسائل المفضية إلى الشرك، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «ولا يذبح عند القبر أضحية ولا غيرها، وكان المشركون يذبحون للقبور ويقربون لها القرابين، وكانوا في الجاهلية إذا مات لهم عظيم ذبحوا عند قبره الخيل والإبل وغير ذلك؛ تعظيمًا للميت، فنهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك كله، ولو نذر ذلك نذرًا لم يكن له أن يوفي به، ولو شرطه واقف لكان شرطًا فاسدًا، وكذلك الصدقة عند القبر كرهها العلماء، وشرط الواقف ذلك شرط فاسد، وأنكر من ذلك أن يوضع على القبر الطعام والشراب ليأخذه الناس، فإن هذا ونحوه من عمل كفار الترك لا من أفعال المسلمين»[5].
الرابع: أن الواقع يكذب دعوى هؤلاء فلو كان قصده الذبح لله ثم لنفع الفقراء فإن الله يذبح له في كل مكان لم ينه عنه، والفقراء يوجدون في أماكن عدة، فلماذا يذبح عند القبر دون سواه؟!
يقول الصنعاني رحمه الله: «فإن قال: إنما نحرت لله وذكرت اسم الله عليه، فقل: إن كان النحر لله فلأي شيء قربت ما تنحره عند باب مشهد من تفضله وتعتقد فيه؟ هل أردت بذلك تعظيمه؟ إن قال: نعم، فقل: هذا النحر لغير الله؛ بل أشركت مع الله تعالى غيره وإن لم ترد تعظيمه، فهل أردت توسيخ باب المشهد وتنجيس الداخلين إليه؟ أنت تعلم يقينًا أنك ما أردت ذلك أصلاً ولا أردت إلا الأول، ولا خرجت من بيتك إلا قصدًا له، ثم كذلك دعاؤهم له، فهذا الذي عليه هؤلاء شرك بلا ريب»[6].
وبالجملة؛ فالذبح عند القبر وإن ذكر عليه اسم الله من أعظم المنكرات، وهو وسيلة من وسائل الشرك المفضية إليه، ومن تأمل حال من يذبح عند القبر لم يخرج فعلهم عما وصفه الصنعاني رحمه الله من حالهم.
المسألة الرابعة: ما يذبح بعد الفراغ من بناء البيت:
ما يذبح في الدور والمساكن بعد الفراغ من بنائها وكمالها، له صورتان:
الأولى: أن تذبح الذبائح خوفًا من الجن، فهذا شرك؛ وتحرم هذه الذبائح، ولو ذكر عليها اسم الله؛ لأنه مما أُهِلَّ به لغير الله. الثاني: أن تذبح الذبائح، ويقصد بها الفرح والسرور، وشكر النعمة على اكتمال البناء، فهذا ليس محرمًا، ولا بأس به.
قال الفوزان: «ويدخل في الذبح لغير الله أصناف: ما ذبح لغير الله على وجه التقرب، ولو قيل عليه: بسم الله، وهذا حرام بإجماع المسلمين، وهو شرك بالله عزّ وجل. وما يذبح عند أول نزول البيت؛ خوفًا من الجن، وهذا شرك؛ لأنه مما ذبح لغير الله عزّ وجل، أما ذبح ذبيحة عند نزول البيت من باب الفرح والسرور ودعوة الجيران والأقارب فهذا لا بأس به»[7].
المسألة الخامسة: ما يذبح عند قدوم السلطان:
ما يذبح عند قدوم السلطان له صورتان:
الأولى: أن تذبح الذبائح عند قدومه تعظيمًا له، وتقربًا إليه، فهذا شرك أكبر، وتحرم هذه الذبائح، وإن سمى الله عليها، ومن علامات ذلك: أن تذبح في وجهه، ثم تترك.
الثاني: أن تذبح الذبائح عند قدومه إكرامًا له، وضيافة لقدومه، ثم تطبخ وتؤكل فلا بأس بها؛ لأنها من باب الإكرام وليس شركًا.
قال النووي رحمه الله: «وذكر الشيخ إبراهيم المروزي من أصحابنا أن ما ذبح عند استقبال السلطان تقربًا إليه أفتى أهل بخارى بتحريمه؛ لأنه مما أُهِلَّ به لغير الله، قال الرافعي: هذا إنما يذبحونه استبشارًا بقدومه، فهو كنوع العقيقة لولادة المولود»[8].
قال سليمان بن عبد الله معلقًا على هذه المسألة: «إن كانوا يذبحونه استبشارًا كما ذكر الرافعي فلا يدخل في ذلك، وإن كانوا يذبحونه تقربًا إليه فهو داخل في الحديث ـ يعني: حديث علي رضي الله عنه ـ: «لعن الله من ذبح لغير الله»»[9].
قال ابن عثيمين رحمه الله: «فلو قدم السلطان إلى بلد، فذبحنا له: فإن كان تقربًا وتعظيمًا فإنه شرك أكبر، وتحرم هذه الذبائح، وعلامة ذلك: أننا نذبحها في وجهه، ثم ندعها. أما لو ذبحنا له إكرامًا وضيافة، وطبخت، وأكلت فهذا من باب الإكرام، وليس بشرك»[10].


[1] صحيح مسلم بشرح النووي (13/141) [المطبعة المصرية بالأزهر، ط1، 1347هـ].
[2] اقتضاء الصراط المستقيم (2/562) [مكتبة الرشد].
[3] انظر: حاشية ابن قاسم على كتاب التوحيد (103)، والقول المفيد على كتاب التوحيد (1/240) [دار ابن الجوزي، ط2، 1423هـ].
[4] أخرجه أبو داود (كتاب الجنائز، رقم 3222)، وأحمد (20/333) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وقال البوصيري: «وهو إسناد صحيح على شرط مسلم». إتحاف الخيرة المهرة (4/102، رقم 3236) [دار الوطن، ط1، 1420هـ]، وصحَّحه الألباني أيضًا في السلسلة الصحيحة (رقم 2436).
[5] مجموع الفتاوى (26/306 ـ 307).
[6] تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد (63) [ط1، 1424هـ].
[7] إعانة المستفيد (1/233).
[8] صحيح مسلم بشرح النووي (13/141).
[9] تيسير العزيز الحميد (1/366).
[10] القول المفيد (1/214)، وانظر: إعانة المستفيد للفوزان (1/333)، والتمهيد لصالح آل الشيخ (140).


من آثار الذبح لله تعالى: ظهور نعمة الله على العباد؛ إذ الذبح محفوف بنعم قبله ونعم بعده، إذ إن القيام به سبب لإنعام الله على عباده، وسعة رزقه، كما قال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ *} [سبأ] .
وإخلاص الذبح لله تعالى يورث الوثوق فيما عند الله تعالى، والزهد فيما عند الناس، فيجتمع للعبد فيه من إيثار الله، وحسن الظن به، وقوة اليقين، والوثوق بما في يد الله أمر عجيب، إذا قارن ذلك الإيمان، وصدق التوجه.
مع ما في ذلك كله من الأجر الجزيل، والثواب العظيم من الله تعالى في الآخرة.
وأما آثار الذبح لغير الله تعالى: فهي على النقيض من ذلك، فيجتمع للعبد من الفقر والذلة والهوان، الشيء الكثير؛ لأن كل من أنفق ماله في غير مرضاته كان عليه حسرة في الدنيا والآخرة، كما قال : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} [الأنفال: 36] .
ويحصل للذابح سوء ظن بالله تعالى، ويضعف يقينه وإيمانه بربه تعالى، ولا يثق في شيء مما عند الله تعالى، ويجتمع فيه البخل، والعجب، والكبر، ونحو ذلك من الصفات الذميمة، والأخلاق الرديئة، فيوبق دنياه وأخراه.



الحكمة في التقرب إلى الله تعالى بالقرابين، والذبائح: هو الحصول على تقوى الله تعالى، وإقامة ذكر الله تعالى، بالتسمية عليها، كما قال تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ *} [الحج] .



1 ـ «إغاثة المستفيد على كتاب التوحيد»، للفوزان.
2 ـ «اقتضاء الصراط المستقيم»، لابن تيمية.
3 ـ «بدع القبور»، لصالح العصيمي.
4 ـ «تطهير الاعتقاد»، للصنعاني.
5 ـ «التمهيد لشرح كتاب التوحيد»، لصالح آل الشيخ.
6 ـ «تيسير العزيز الحميد»، لسليمان بن عبد الله.
7 ـ «فتح المجيد»، لعبد الرحمن بن حسن.
8 ـ «القول المفيد على كتاب التوحيد»، لابن عثيمين.
9 ـ «مجموع الفتاوى»، لابن تيمية.