حرف الذال / أبو ذر الغفاري رضي الله عنه

           

أبو ذر جندب بن جنادة بن كعيب بن صعير بن الوقعة بن حرام بن سفيان بن عبيد بن حرام بن غفار بن مليل بن ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر[1]. هكذا ساقه ابن سعد، ثم أشار إلى وجود اختلاف في هذا النسب.
ولا شكَّ أنه اختلف في اسمه واسم أبيه وأجداده، والمحفوظ في اسمه واسم أبيه أنه جندب بن جنادة[2] بن قيس بن عمرو بن صعير بن عبيد بن حرام بن غفار. وقيل: ابن صعير بن عبيد بن حرام بن غفار. وقيل: جندب بن جنادة بن سفيان بن عبيد بن حرام بن غفار[3]، واسم أمه: رملة بنت الوقيعة الغفارية[4].


[1] الطبقات الكبرى لابن سعد (4/205) [مكتبة الخانجي، ط1، 1421هـ].
[2] انظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر (1/252) [دار الجيل، بيروت، ط1، 1412هـ].
[3] انظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب (1/252)، وتاريخ دمشق لابن عساكر (66/174) [دار الفكر، بيروت، 1415هـ].
[4] الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر (7/125) [دار الجيل، بيروت، ط1، 1412هـ].


ولد أبو ذر رضي الله عنه قبل الإسلام، وتوفي بالربذة سنة اثنتين وثلاثين، وعليه الأكثر. وقيل: سنة إحدى وثلاثين، وصلّى عليه عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما[1].


[1] انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (4/221)، وسير أعلام النبلاء (2/57، و74) [مؤسسة الرسالة، ط3]، الإصابة في تمييز الصحابة (7/129).


أسلم أبو ذر رضي الله عنه قديمًا، فكان رابع أربعة أو خامس خمسة، ثم رجع إلى بلاد قومه بعد إسلامه، وأقام بها ثم قدم المدينة بعد غزوة الخندق، وصحب النبي صلّى الله عليه وسلّم ولازمه حتى الممات، وبعد وفاة أبي بكر قدم الشام وأقام بها حتى وقع اختلاف بينه وبين معاوية، فدعاه الخليفة الراشد عثمان بن عفان إلى المدينة، ثم استأذن أبو ذر الخليفةَ عثمانَ بن عفان رضي الله عنهما في الانتقال إلى الربذة، فأذن له، وانتقل إليها، وفيها عاش حتى مات[1].
وبهذا يتضح أنه من السابقين الأولين إلى الإسلام، وقصة إسلامه جاءت في «الصحيح» على صفتين متباينتين[2]؛ فقد ثبت من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لما بلغ أبا ذر مبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء، واسمع من قوله ثم ائتني، فانطلق الأخ حتى قدِمَه وسمع من قوله ثم رجع إلى أبي ذر، فقال له: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وكلامًا ما هو بالشعر. فقال: ما شفيتني مما أردت. فتزود وحمل شنة[3] له فيها ماء حتى قدم مكة، فأتى المسجد، فالتمس النبي صلّى الله عليه وسلّم ولا يعرفه، وكره أن يسأل عنه، حتى أدركه بعض الليل فاضطجع، فرآه عليٌّ فعرف أنه غريب، فلما رآه تبعه، فلم يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء حتى أصبح، ثم احتمل قربته وزاده إلى المسجد، وظل ذلك اليوم ولا يراه النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى أمسى، فعاد إلى مضجعه، فمر به علي فقال: أما نالَ[4] للرجل أن يعلم منزله؟ فأقامه، فذهب به معه، لا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء، حتى إذا كان يوم الثالث فعاد عليّ على مثل ذلك، فأقام معه، ثم قال: ألا تحدثني ما الذي أقدمك؟ قال: إن أعطيتني عهدًا وميثاقًا لتُرشِدَنّي فعلتُ، ففعل، فأخبره، قال: فإنه حق، وهو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإذا أصبحت فاتبعني، فإني إن رأيت شيئًا أخاف عليك قمت كأني أريق الماء، فإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي، ففعل. فانطلق يقفوه حتى دخل على النبي صلّى الله عليه وسلّم، ودخل معه، فسمع من قوله وأسلم مكانه، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري» ، قال: والذي نفسي بيده لأصرخن بها بين ظهرانيهم، فخرج حتى أتى المسجد فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله. ثم قام القوم فضربوه حتى أضجعوه، وأتى العباس فأكبَّ عليه، قال: ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار، وأن طريق تجاركم إلى الشأم؟ فأنقذه منهم، ثم عاد من الغد لمثلها، فضربوه وثاروا إليه فأكب العباس عليه»[5].
وجاء من حديث عبد الله بن الصامت قال: قال أبو ذر رضي الله عنه: «خرجنا من قومنا غفار، وكانوا يحلون الشهر الحرام، فخرجت أنا وأخي أنيس وأمُّنا، فنزلنا على خال لنا، فأكرمنا خالنا وأحسن إلينا، فحسدنا قومه، فقالوا: إنك إذا خرجت عن أهلك خالف إليهم أنيس، فجاء خالنا فنثا[6] علينا الذي قيل له، فقلت: أمّا ما مضى من معروفك فقد كدرته ولا جماع لك فيما بعد، فقربنا صرمتنا فاحتملنا عليها، وتغطى خالنا ثوبه فجعل يبكي، فانطلقنا حتى نزلنا بحضرة مكة، فنافر أنيس عن صرمتنا وعن مثلها، فأتيا الكاهن فخير أنيسًا فأتانا أنيس بصرمتنا ومثلها معها، قال: وقد صليت يا بن أخي قبل أن ألقى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بثلاث سنين، قلت: لمن؟ قال: لله، قلت: فأين توجه؟ قال: أتوجه حيث يوجهني ربي، أصلي عشاء حتى إذا كان من آخر الليل ألقيت كأني خفاء، حتى تعلوني الشمس، فقال أنيس: إن لي حاجة بمكة فاكفني، فانطلق أنيس حتى أتى مكة، فراث علي، ثم جاء، فقلت: ما صنعت؟ قال: لقيت رجلاً بمكة على دينك، يزعم أن الله أرسله، قلت: فما يقول الناس؟ قال: يقولون: شاعر، كاهن، ساحر، ـ وكان أنيس أحد الشعراء ـ قال أنيس: لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر، والله إنه لصادق، وإنهم لكاذبون، قال: قلت: فاكفني حتى أذهب فأنظر، قال: فأتيت مكة فتضعّفت رجلاً منهم، فقلت: أين هذا الذي تدعونه الصابئ؟ فأشار إلي فقال: الصابئ، فمال عليّ أهل الوادي بكل مدرة وعظم، حتى خررت مغشيًّا عليّ، قال: فارتفعت حين ارتفعت كأني نصب أحمر، قال: فأتيت زمزم، فغسلت عني الدماء، وشربت من مائها، ولقد لبثت يابن أخي ثلاثين بين ليلة ويوم، ما كان لي طعام إلا ماء زمزم، فسمنت حتى تكسرت عكن بطني، وما وجدت على كبدي سخفة جوع، قال: فبينا أهل مكة في ليلة قمراء إضحيان، إذ ضرب على أسمختهم[7]، فما يطوف بالبيت أحد، وامرأتان منهم تدعوان إسافًا ونائلة، قال: فأتتا عليّ في طوافهما، فقلت: أنكحا أحدهما الأخرى، قال: فما تناهتا عن قولهما، قال: فأتتا عليّ، فقلت: هَنٌ مِثلُ الخَشَبَةِ، غير أني لا أكني، فانطلقتا تولولان وتقولان: لو كان ها هنا أحد من أنفارنا، قال: فاستقبلهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر وهما هابطان، قال: «ما لكما؟» قالتا: الصابئ بين الكعبة وأستارها، قال: «ما قال لكما؟» قالتا: إنه قال: لنا كلمة تملأ الفم، وجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حتى استلم الحجر وطاف بالبيت هو وصاحبه، ثم صلى، فلما قضى صلاته، قال أبو ذر: فكنت أنا أول من حياه بتحية الإسلام، قال: فقلت: السلام عليك يا رسول الله، فقال: «وعليك ورحمة الله» ، ثم قال: «من أنت؟» قال: قلت: من غفار، قال: فأهوى بيده فوضع أصابعه على جبهته، فقلت في نفسي: كره أن انتميت إلى غفار، فذهبت آخذ بيده، فقدعني[8] صاحبه، وكان أعلم به مني، ثم رفع رأسه، ثم قال: «متى كنت ها هنا؟» قال: قلت: قد كنت ها هنا منذ ثلاثين بين ليلة ويوم، قال: «فمن كان يطعمك؟» قال: قلت: ما كان لي طعام إلا ماء زمزم، فسمنت حتى تكسرت عكن بطني، وما أجد على كبدي سخفة[9] جوع، قال: «إنها مباركة، إنها طعام طعم» ، فقال أبو بكر: يا رسول الله ائذن لي في طعامه الليلة، فانطلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر وانطلقت معهما، ففتح أبو بكر بابًا فجعل يقبض لنا من زبيب الطائف، وكان ذلك أول طعام أكلته بها، ثم غبرت ما غبرت، ثم أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «إنه قد وجهت لي أرض ذات نخل لا أراها إلا يثرب، فهل أنت مبلغ عني قومك عسى الله أن ينفعهم بك، ويأجرك فيهم» ، فأتيت أنيسًا، فقال: ما صنعت؟ قلت: صنعت أني قد أسلمت وصدقت، قال: ما بي رغبة عن دينك، فإني قد أسلمت وصدقت، فأتينا أمنا فقالت: ما بي رغبة عن دينكما، فإني قد أسلمت وصدقت، فاحتملنا حتى أتينا قومنا غفارًا، فأسلم نصفهم، وكان يؤمهم إيماء بن رحضة الغفاري، وكان سيدهم، وقال نصفهم: إذا قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة أسلمنا، فقدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة فأسلم نصفهم الباقي، وجاءت أسلم، فقالوا: يا رسول الله أخوتنا نسلم على الذي أسلموا عليه، فأسلموا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله»»[10].
والجمع بين الحديثين ممكن، وهو أن كلًّا من الصحابيين حفظ عنه ما لم يحفظه الآخر، كما أفاده الحافظ ابن حجر بقوله: «ويمكن التوفيق بينهما بأنه لقيه أولاً مع علي، ثم لقيه في الطواف، أو بالعكس، وحفظ كل منهما عنه ما لم يحفظ الآخر»[11].


[1] انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (4/211 ـ 212)، والاستيعاب في معرفة الأصحاب (1/252 ـ 253)، وتاريخ دمشق (66/174) وما بعدها. وسير أعلام النبلاء (2/46)، والبداية والنهاية لابن كثير (10/256) [دار هجر، ط1، 1418هـ].
[2] انظر: الإصابة في تمييز الصحابة (7/129).
[3] الشنّة: واحدة الشنان، وهي الأسقية المتخذة من القِرب. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير (2/1237) [تحقيق: محمود الطناحي وطاهر الزاوي، المكتبة العلمية، بيروت، 1399هـ].
[4] أي: حان، يقال: نال له بمعنى: آن له، انظر: فتح الباري لابن حجر (7/174).
[5] أخرجه البخاري (كتاب مناقب الأنصار، رقم 3861)، ومسلم (كتاب فضائل الصحابة، رقم 2474).
[6] أي: أظهره لنا وحدثنا به. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (5/40).
[7] أسمختهم: جمع سماخ، وهو ثقب الأذن الذي ينفذ فيه الصوت. انظر: مقاييس اللغة (3/100) [دار الفكر]، والنهاية في غريب الحديث والأثر (2/992).
[8] أي: كفَّني ومنعني، انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (4/43).
[9] يعني: هزال الجوع ورقته، والسَّخَف بالفتح: رقة العيش، وبالضم: رقة العقل. وقيل: هي مطلق الخفة الناتج عن الجوع، سواء في العقل أو في غيره. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (2/889).
[10] أخرجه مسلم (كتاب فضائل الصحابة، رقم 2473).
[11] انظر: فتح الباري لابن حجر (7/175).


ـ أنه الصادق اللهجة:
عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما أقلّت الغبراء ولا أظلت الخضراء من رجل أصدق لهجة من أبي ذر»[1].
ـ كثرة علمه:
فعن علي رضي الله عنه قال: «أبو ذر وعاء مُلئ علمًا، ثم أوكئ عليه»[2].
ـ من فضائله:
ما تقدم في كيفية إسلامه، وقد جعله الإمام النووي من فضائله، حيث بوّب لـ«صحيح مسلم» بابًا فقال: «باب من فضائل أبي ذر»[3]، ثم أورد تحته الحديثين السابقين في كيفية إسلامه.
قال الإمام الذهبي: «وكان رأسًا في الزهد، والصدق، والعلم، والعمل، قوّالاً بالحق، لا تأخذه في الله لومة لائم، على حدة فيه»[4].


[1] أخرجه الترمذي (أبواب المناقب، رقم 3801) وحسَّنه، وابن ماجه (المقدمة، رقم 156)، وأحمد (11/70) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وصحَّحه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (1/68) [مكتبة المعارف، الرياض، ط1، 1417هـ].
[2] أورده الحافظ ابن حجر في الإصابة (7/108) [دار الكتب العلمية، ط1]، وقال: «أخرجه أبو داود بسند جيد»، ولم نظفر به في سنن أبي داود.
[3] صحيح مسلم (ص1002) [ط. بيت الأفكار الدولية].
[4] سير أعلام النبلاء (2/47).


كان أبو ذر ذا مكانة عالية ومنزلة سامية، وشهد أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم بأنه «كان من أوعية العلم المبرزين في الزهد والورع والقول بالحق، سئل علي عن أبي ذر رضي الله عنهما فقال: ذلك رجل وعى علمًا عجز عنه الناس، ثم أوكأ عليه، ولم يخرج شيئًا منه»[1].
وهذا عبد الله بن مسعود لما دعي للصلاة على جنازة أبي ذر قال: «من هذا؟ قيل: أبو ذر. فبكى بكاء طويلاً. وقال: أخي وخليلي، عاش وحده، ومات وحده، ويبعث وحده، طوبى له»[2].
وعن عبد الرحمن بن غنم قال: «كنت عند أبي الدرداء إذ دخل عليه رجل من أهل المدينة فسأله فقال: أين تركت أبا ذر؟ قال: بالربذة. فقال أبو الدرداء: إنا لله وإنا إليه راجعون. لو أن أبا ذر قطع مني عضوًا لما هِجْتُه[3]، لِما سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول فيه»[4].


[1] الاستيعاب في معرفة الأصحاب (1/255).
[2] أخرجه الحاكم في المستدرك (كتاب المغازي والسرايا، رقم 4373). وانظر: الطبقات الكبرى (4/221)، الاستيعاب في معرفة الأصحاب (1/253)، وسير أعلام النبلاء (2/57).
[3] أي: لما أثرته. يقال: هِجْتُه فهاج. انظر: تهذيب اللغة للأزهري (6/185).
[4] أخرجه أحمد (36/55) [مؤسسة الرسالة، ط1]، والبزار في مسنده (1/34) [مكتبة العلوم والحكم، ط1]،.


المسألة الأولى: سبب انتقال أبي ذر رضي الله عنه إلى الربذة:
قد جاء بيان سبب هذا الانتقال عن أبي ذر نفسه، فقد روى البخاري بسنده عن زيد بن وهب قال: «مررت بالربذة، فإذا أنا بأبي ذر رضي الله عنه فقلت له: ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: كنت بالشأم فاختلفت أنا ومعاوية في: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34] ، قال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، فقلت: نزلت فينا وفيهم، فكان بيني وبينه في ذاك، وكتب إلى عثمان رضي الله عنه يشكوني، فكتب إلي عثمان أن اقدم المدينة، فقدمتها فكثر علي الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت ذاك لعثمان، فقال لي: إن شئت تنحيت، فكنت قريبًا. فذاك الذي أنزلني هذا المنزل، ولو أمّروا عليّ حبشيًّا لسمعت وأطعت»[1].
قال الحافظ ابن حجر: «وإنما سأله زيد بن وهب عن ذلك؛ لأن مبغضي عثمان كانوا يشنعون عليه، أنه نفى أبا ذر، وقد بيَّن أبو ذر أن نزوله في ذلك المكان كان باختياره»[2].
وأما ما نقل من أن خروج أبي ذر إلى الربذة كان تنفيذًا منه لوصية رسول الله إياه، حيث قال له: «إذا بلغ البنيان سلْعًا فاخرج منها»[3] فليس بصحيح.
وقد كان الناقمون على عثمان يستثيرون أبا ذر على الخروج عليه ومحاربته، ولكنه لم يعطهم أذنًا صاغية، وذات مرة قدم ناس «من أهل الكوفة قالوا لأبي ذر وهو بالربذة: إن هذا الرجل فعل بك وفعل، هل أنت ناصب لنا راية ـ يعني: فنقاتله ـ فقال: لا، لو أن عثمان سيرني من المشرق إلى المغرب لسمعت وأطعت»[4].
وهنا لا بدّ من التنبيه على أمرين:
الأول: لعل المقصود بالآثار التي فيها التصريح بأن عثمان رضي الله عنه أخرج أبا ذر إلى الربذة، هو إذنه له بذلك؛ لما طلب هو الانتقال إليها، خصوصًا لما رأى استغراب الناس فيه وتجمعهم عليه[5]، كما في أثر زيد بن وهب المذكور، وكلام الحافظ هنا يلتقي معه، وتؤيده آثار أخرى، منها قول عثمان لأبي ذر لما قدم من الشام إلى المدينة باستدعائه: «أحببت أن أجعلك مع أصحابك، وخفت عليك جهال الناس»[6].
ولا سيما أن تلك الآثار التي فيها الأمر بإخراج أبي ذر رضي الله عنه إلى الربذة ضعيفة؛ كالأثر الذي ساقه الإمام الذهبي، وفيه: «وأمره أن يخرج إلى الربذة»[7].
ومنها: ما رواه ابن إسحاق بسنده فقال: حدثنا بريدة بن سفيان، عن محمد بن كعب القرظي، عن ابن مسعود، قال: «لما نفى عثمان أبا ذر إلى الربذة، وأصابه بها قدره، لم يكن معه إلا امرأته وغلامه، فأوصاهما أن اغسلاني، وكفناني، وضعاني على قارعة الطريق، فأول ركب يمر بكم قولوا: هذا أبو ذر، فأعينونا عليه. فوضعاه، وأقبل ابن مسعود في رهط من العراق عمّارًا، فلم يرعهم إلا به، قد كادت الإبل أن تطأه...»[8].
المسألة الثانية: مذهب أبي ذر رضي الله عنه في مسمى الكنز وما قيل من منعه من الإفتاء بسببه.
كان أبو ذر رأسًا في العلم والزهد والورع، وكان يرى ضرورة إنفاق ما بقي عن الحاجة على الفقراء والمساكين، وأنه رضي الله عنه ما كان يرى ادخار النقدين[9]؛ بل ولا غيرهما؛ لأن هذا هو الكنز المتوعَّد عليه حسب اجتهاده، وهو أهل للاجتهاد رضي الله عنه، فقد جاء في «الصحيحين» عن الأحنف بن قيس قال: «قدمت المدينة، فبينا أنا في حلقة فيها ملأ من قريش، إذ جاء رجل أخشن الثياب، أخشن الجسد، أخشن الوجه، فقام عليهم فقال: بشِّر الكانزين برضف يحمى عليه في نار جهنم، فيوضع على حلمة ثدي أحدهم، حتى يخرج من نغض كتفيه، ويوضع على نغض كتفيه حتى يخرج من حلمة ثدييه يتزلزل، قال: فوضع القوم رؤوسهم فما رأيت أحدًا منهم رجع إليه شيئًا، قال: فأدبر واتبعته حتى جلس إلى سارية، فقلت: ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قلت لهم، قال: إن هؤلاء لا يعقلون شيئًا، إن خليلي أبا القاسم صلّى الله عليه وسلّم دعاني فأجبته، فقال: «أترى أُحُدًا؟» فنظرت ما علي من الشمس وأنا أظن أنه يبعثني في حاجة له، فقلت: أراه، فقال: «ما يسرني أن لي مثله ذهبًا أنفقه كله إلا ثلاثة دنانير» . ثم هؤلاء يجمعون الدنيا لا يعقلون شيئًا، قال: قلت: ما لك ولإخوتك من قريش لا تعتريهم وتصيب منهم، قال: لا وربك لا أسألهم عن دنيا، ولا أستفتيهم عن دين حتى ألحق بالله ورسوله»[10].
قال الحافظ ابن حجر: «وكان أبو ذر رضي الله عنه يحمل الحديث على إطلاقه، فلا يرى بادخار شيء أصلاً. قال ابن عبد البر: وردت عن أبي ذر آثار كثيرة، تدل على أنه كان يذهب إلى أن كل مال مجموع، يفضل عن القوت وسداد العيش، فهو كنز يذم فاعله، وأن آية الوعيد نزلت في ذلك وخالفه جمهور الصحابة ومن بعدهم، وحملوا الوعيد على مانعي الزكاة»[11].
ومما يدل على ما ذهب إليه جمهور الصحابة رضي الله عنهم حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ليس فيما دون خمس أواق صدقة، وليس فيما دون خمس ذود صدقة، وليس فيما دون خمس أوسق صدقة»[12].
قال الحافظ ابن حجر في هذا الحديث: «مفهومه أن ما زاد على الخمس ففيه الصدقة، ومقتضاه أن كل مال أخرجت منه الصدقة فلا وعيد على صاحبه، فلا يسمى ما يفضل بعد إخراجه الصدقة كنزًا»[13].
ولما كان ذلك الرأي الذي تبناه أبو ذر رضي الله عنه مخالفًا لما عليه جمهور الصحابة، شكاه معاوية إلى عثمان رضي الله عنهما فاستدعاه عثمان إلى المدينة كما تقدم؛ حسمًا لمادة النزاع والفرقة بين الناس، وطلب منه الكف عن الإنكار على الناس فيما عندهم من المتاع الحلال، قال الحافظ ابن حجر: «نعم، أمره عثمان بالتنحي عن المدينة؛ لدفع المفسدة التي خافها على غيره من مذهبه المذكور، فاختار الربذة»[14].
ويدل على هذا المخوف ما جاء عن عبد الله بن الصامت رضي الله عنه قال: «دخلت مع أبي ذر على عثمان رضي الله عنهما، فلما دخل حسر عن رأسه، وقال: والله، ما أنا منهم يا أمير المؤمنين ـ يريد الخوارج، قال ابن شوذب: سيماهم الحلق ـ، قال له عثمان: صدقت يا أبا ذر! إنما أرسلنا إليك لتجاورنا بالمدينة. قال: لا حاجة لي في ذلك، ائذن لي إلى الربذة. قال: نعم، ونأمر لك بنعم من نعم الصدقة، تغدو عليك وتروح. قال: لا حاجة لي في ذلك، يكفي أبا ذر صريمته. فلما خرج قال: دونكم معاشر قريش، دنياكم فاعذموها[15]، ودعونا وربنا. قال: ودخل عليه وهو يقسم، وعبد الرحمن بن عوف بين يديه، وعنده كعب، فأقبل عثمان على كعب، فقال: يا أبا إسحاق، ما تقول فيمن جمع هذا المال، فكان يتصدق منه ويصل الرحم؟ قال كعب: إني لأرجو له. فغضب ورفع عليه العصا، وقال: وما تدري يا ابن اليهودية، ليودَّنَّ صاحب هذا المال لو كان عقارب في الدنيا تلسع السويداء من قلبه»[16].
ويدل على منع أبي ذر المذكور من الإنكار على الناس قول البخاري: «وقال أبو ذر: لو وضعتم الصمصامة على هذه، وأشار إلى قفاه، ثم ظننت أني أنفذ كلمة سمعتها من النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل أن تجيزوا علي لأنفذتها»[17]. وقال الحافظ ابن حجر: «هذا التعليق رويناه موصولاً[18] في مسند الدارمي[19] وغيره من طريق الأوزاعي، حدثني أبو كثير؛ يعني: مالك بن مرثد عن أبيه قال: «أتيت أبا ذر وهو جالس عند الجمرة الوسطى، وقد اجتمع عليه الناس يستفتونه، فأتاه رجل، فوقف عليه، ثم قال: ألم تُنهَ عن الفتيا؟ فرفع رأسه إليه، فقال: أرقيب أنت عليَّ! لو وضعتم الصمصامة...» فذكر مثله، ورويناه في الحلية[20] من هذا الوجه، وبيّن أن الذي خاطبه رجل من قريش، وأن الذي نهاه عن الفتيا عثمان رضي الله عنه، وكان سبب ذلك أنه كان بالشام فاختلف مع معاوية في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34] ... وفيه دليل على أن أبا ذر رضي الله عنه كان لا يرى بطاعة الإمام إذا نهاه عن الفتيا؛ لأنه كان يرى أن ذلك واجب عليه؛ لأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالتبليغ عنه كما تقدم، ولعله أيضًا سمع الوعيد في حق من كتم علمًا يعلمه»[21].
ولم يمنع أبا ذر من الفتوى بصفة عامة ـ فيما يظهر لي ـ؛ لما ذكره الإمام الذهبي من أن أبا ذر رضي الله عنه كان يفتي في عهد أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم[22].
ويمكن أن يقال: إنه كان يفتي في عهد أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم حتى حصل الاختلاف بينه وبين معاوية في تفسير الكنز المتوعَّد عليه، ثم منع بعد ذلك، والله أعلم.
المسألة الثالثة: في بيان نوع الضعف الذي وُصف به أبو ذر في بعض الأحاديث:
فقد ثبت في «صحيح مسلم» من حديث أبي ذر رضي الله عنه؛ أن رسول الله قال: «يا أبا ذر إني أراك ضعيفًا وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمَّرنَّ على اثنين، ولا تولَّينَّ مال يتيم»[23].
ومعلوم من سيرة أبي ذر رضي الله عنه أنه كان قويًّا في دينه وبدنه، ولذا تكلم العلماء في شرح هذا الحديث وبيان المقصود به، قال الإمام النووي في شرحه هذا الحديث: «هذا الحديث أصل عظيم في اجتناب الولايات، لا سيما لمن كان فيه ضعف عن القيام بوظائف تلك الولاية، وأما الخزي والندامة فهو في حق من لم يكن أهلاً لها، أو كان أهلاً ولم يعدل»[24].
وقال الإمام الذهبي: «فهذا محمول على ضعف الرأي؛ فإنه لو ولي مال يتيم لأنفقه كله في سبيل الخير، ولترك اليتيم فقيرًا، فقد ذكرنا أنه كان لا يستجيز ادخار النقدين، والذي يتأمر على الناس، يريد أن يكون فيه حلم ومداراة، وأبو ذر رضي الله عنه كانت فيه حدة ـ كما ذكرناه ـ فنصحه النبي صلّى الله عليه وسلّم»[25].
ولا شكَّ أن الأمور تسند إلى من يجيدها وتوكل إلى من يحسن القيام بها، ومن ليس كذلك فلا تسند إليه مهما كان صالحًا تقيًّا؛ لأن الولاية أمانة، وقد دلَّت السُّنَّة الصحيحة على ذلك، منها حديث أبي ذر هذا[26]، ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ أنه قال: «بينما النبي صلّى الله عليه وسلّم في مجلس يحدث القوم، جاءه أعرابي، فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحدث، فقال بعض القوم: سمع ما قال فكره ما قال، وقال بعضهم: بل لم يسمع، حتى إذا قضى حديثه، قال: «أين أراه السائل عن الساعة؟» قال: ها أنا يا رسول الله، قال: «فإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة» ، قال: كيف إضاعتها؟ قال: «إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة»»[27].


[1] أخرجه البخاري (كتاب الزكاة، رقم 1406).
[2] فتح الباري ابن حجر (3/274) [دار المعرفة].
[3] أخرجه الحاكم في المستدرك (كتاب معرفة الصحابة، رقم 5468)، وقال: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه»، وضعفه الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة (12/489، رقم 5719) [دار المعارف، الرياض، ط1]، وبيّن وهْم الحاكم في تصحيحه.
[4] أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (4/227) [دار صادر، ط1].
[5] انظر إضافة إلى ما تقدم نقله عن صحيح البخاري: التمهيد لابن عبد البر (17/151 ـ 152) [وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب].
[6] سير أعلام النبلاء (2/71)، والأثر قال فيه محققو السير: «رجاله ثقات».
[7] سير أعلام النبلاء (2/71)، وذكر محققو السير أن في إسناده عبد الله بن سيدان، ولا يتابع على حديثه كما قال البخاري، ومجهول لا حجة فيه، كما نقله الذهبي عن اللالكائي.
[8] أخرجه الحاكم في المستدرك (كتاب المغازي والسرايا، رقم 4373)، وسنده ضعيف، وفيه انقطاع أيضًا.
[9] انظر: سير أعلام النبلاء (2/75).
[10] أخرجه البخاري (كتاب الزكاة، رقم 1407، 1408)، ومسلم (كتاب الزكاة، رقم 992).
[11] فتح الباري لابن حجر (3/273).
[12] أخرجه البخاري (كتاب الزكاة، رقم 1405)، ومسلم (كتاب الزكاة، رقم 979).
[13] فتح الباري لابن حجر (3/272).
[14] فتح الباري لابن حجر (3/274).
[15] أي: خذوها، وأصل العذم: العض. انظر: مقاييس اللغة لابن فارس (4/258)، والنهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير (3/423).
[16] أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (4/232) [دار صادر، ط1]، وابن عساكر في تاريخ دمشق (66/197)، واللفظ له، وسند ابن سعد صحيح.
[17] صحيح البخاري (كتاب العلم، باب العلم قبل القول والعمل).
[18] انظر: تغليق التعليق لابن حجر (2/79) [المكتب الإسلامي، ودار عمار، ط1، 1405هـ].
[19] سنن الدارمي (كتاب العلم، رقم 562).
[20] حلية الأولياء لأبي نعيم (1/160) [دار الكتاب العربي، بيروت، ط4].
[21] فتح الباري لابن حجر (1/161).
[22] انظر: سير أعلام النبلاء (2/46).
[23] أخرجه مسلم (كتاب الإمارة، رقم 1826).
[24] شرح النووي على مسلم (12/210) [دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط2].
[25] سير أعلام النبلاء (2/75).
[26] انظر: السياسة الشرعية لابن تيمية (12 ـ 13) [دار الآفاق الجديدة، ط1، 1403هـ].
[27] أخرجه البخاري (كتاب العلم، رقم 59).


وهم أنواع:
الفريق الأول: الروافض، وهؤلاء لهم مسالك في الافتراء:
المسلك الأول: ربطهم كل ما حصل بين أبي ذر من جهة وبين معاوية والخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنهم من جهة أخرى بمعتقدهم القائمة على التشنيع في الصحابة، ولا سيما الشيخين وعثمان ومعاوية، فزعموا أن معاوية وعثمان ومن معهم ظلمة وأهل دنيا، وأنه لا همَّ لهم سواها، وأن عليًّا كان مع أبي ذر في هذا الرأي، وكان يحثه على الثبات فيما هو فيه، ويسوقون روايات منسوبة إلى علي[1].
المسلك الثاني: زعمهم أن عثمان نفى أبا ذر إلى الربذة.
الفريق الثاني: من يقول بأن أبا ذر رضي الله عنه كان اشتراكيًّا تقدُّميًّا:
افترى بعض الكتّاب على أبي ذر رضي الله عنه، فنسبوا إليه موافقة المذهب الاشتراكي في بعض مبادئه؛ كالقول بأن المال للجميع، وأخذوا يحملون بعض مواقفه ما لا تحتمل، ومن هؤلاء: الزِّرِكْلي، فقد ترجم لأبي ذر ترجمة سيئة، حيث وصفه بما لا يليق بالصحابة، ثم خلص أخيرًا إلى أنه أول اشتراكي حورب من قبل الحكومات، فقال: «فسكن دمشق وجعل ديدنه تحريض الفقراء على مشاركة الأغنياء في أموالهم، فاضطرب هؤلاء، فشكاه معاوية ـ وكان والي الشام ـ إلى عثمان (الخليفة)، فاستقدمه عثمان إلى المدينة، فقدمها واستأنف نشر رأيه في تقبيح منع الأغنياء أموالهم عن الفقراء، فعلت الشكوى منه، فأمره عثمان بالرحلة إلى الرَّبَذَة ـ من قرى المدينة ـ فسكنها إلى أن مات. وكان كريمًا لا يخزن من المال قليلاً ولا كثيرًا، ولما مات لم يكن في داره ما يكفن به. ولعله أول اشتراكي طاردته الحكومات»[2].


[1] انظر: الكافي للكليني (8/206 ـ 208) [تحقيق وتعليق: علي أكبر الغفاري، دار الكتب الإسلامية، طهران، ط4]، وانظر: نهج البلاغة (2/12 ـ 13) [تحقيق: محمد عبده، دار الذخائر، قُم، ط1، 1412هـ].
[2] الأعلام للزركلي (2/140) [دار العلم للملايين].


لا شكَّ أن من تأمل ما سبق ذكره في هذا البحث من بيان سبب الاختلاف الواقع بين أبي ذر ومعاوية رضي الله عنهما، ثم ما تلى ذلك من استدعاء الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه لأبي ذر إلى المدينة، وما دار بينهما من الحديث، ثم اختيار أبي ذر الانتقال إلى الربذة؛ لأسباب ذكرها للخليفة فاقتنع وأذن له بذلك، وبقائه بها حتى الممات، من اطلع على هذا كله ـ ولا حاجة لتكراره هنا ـ يعلم يقينًا أن هذه الدعاوى جميعها محض تخرصات وفرى؛ بل هي خرافة نسجها الكذابون وحاكها المبطلون، لتحقيق أغراض دنيئة؛ إما النيل من هؤلاء الصحابة كمعاوية وعثمان رضي الله عنهم، كما هو هدف الروافض وديدنهم، وإما تسويغ بعض مبادئ المذهب الاشتراكي الماركسي الإلحادي بقصد أو غير قصد ولو في جزئية معينة تتعلق بالمال[1].
وأبو ذر رضي الله عنه ليس عنده شيء من هذا؛ بل كل ما في الأمر أنه اجتهد في فهم آية من كتاب الله، وهو من ذوي الاجتهاد، فرأى أن المال الزائد عن الحاجة ولو زكاه صاحبه لا يخرج عن كونه كنزًا متوعدًا عليه، وعليه فلا بد أن يوزع على الفقراء والمساكين، وليس على جميع الناس، ولكن لم يوافقه على هذا الصحابة الآخرون، منهم الخليفة الراشد عثمان بن عفان ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما وغيرهما، وهو لم يقل بسحب أموال الناس، والعبث بها كما يفعل الاشتراكيون؛ لأن الله يقول: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ *} [البقرة] ، ولما ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام؛ كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا» [2]. فأين هذا من ذاك؟ {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ *} [الحج] .


[1] انظر: الاشتراكية الماركسية ومقاصدها السيئة لعبد الله بن زيد (4، و41) [رئاسة المحاكم الشرعية في قطر، ط3، 1407هـ] وغيره مما كتب في هذا الصدد.
[2] أخرجه البخاري (كتاب الحج، رقم 1741)، ومسلم (كتاب القسامة، رقم 1679).


1 ـ «الاستيعاب في معرفة الأصحاب» (ج1)، لابن عبد البر.
2 ـ «الإصابة في تمييز الصحابة» (ج7)، لابن حجر.
3 ـ «البداية والنهاية» (ج10)، لابن كثير.
4 ـ «تاريخ دمشق» (ج66)، لابن عساكر.
5 ـ «التمهيد» (ج17)، لابن عبد البر.
6 ـ «السياسة الشرعية»، لابن تيمية.
7 ـ «سير أعلام النبلاء» (ج2)، للذهبي.
8 ـ «شرح صحيح مسلم» (ج12)، للنووي.
9 ـ «الطبقات الكبرى» (ج4)، لابن سعد.
10 ـ «فتح الباري» (ج3)، لابن حجر.