حرف الراء / الرؤى والأحلام

           

الرؤى: جمع رؤيا، على وزن: فُعْلَى، وقد تُخفف الهمزة، فيقال بالواو: رُويا، وهي في الأصل مصدر كبُشْرَى، فلمَّا جُعلت اسمًا لِما يتخيله النائم أجريت مجرى الأسماء[1].
والرؤيا في اللغة: ما يُرى في المنام[2].
وأما الحُلُم، فيأتي في اللغة بمعنى التأني وترك العجلة، كما يأتي بمعنى الرؤيا، فيطلق على رُؤية الشيء في المنام[3].
ولكن غلب استعمال الحلم فيما يراه من الشر والقبيح، كما غلب استعمال الرؤيا على ما يراه من الخير والشيء الحسن، وإن كان قد يستعمل كل منهما موضع الآخر[4].


[1] انظر: فتح الباري (12/352) [دار المعرفة].
[2] انظر: لسان العرب (14/297) [دار صادر، ط1]، والمفردات للراغب (209) [دار المعرفة].
[3] انظر: مقاييس اللغة (2/93) [دار الجيل، ط2]، ولسان العرب (12/145)
[4] انظر: لسان العرب (12/145)، والكليات للكفوي (404).


اختلفت أقوال العلماء في التعريف بالرؤيا:
ـ فمنهم من خصَّها بما يكون من الملك المرسل من الله، فقال في تعريفها إنها: «أمثال مضروبة يضربها الله للعبد بحسب استعداده وإلْفه على يد ملك الرؤيا، فمرة يكون مثلاً مضروبًا ومرة يكون نفس ما رآه الرائي، فيطابق الواقع مطابقة العلم لمعلومه»[1].
ومنهم من عرَّفها بما يعم أنواعها، فقال: «الرؤيا: إدراكات علقها الله تعالى في قلب العبد على يدي ملك أو شيطان إما بأسمائها؛ أي: حقيقتها، وإما بكناها؛ أي: بعبارتها، وإما تخليط»[2].
والحلم: اسم لما يراه الإنسان حال النوم[3].


[1] الروح لابن القيم (1/234 ـ 235) [دار ابن تيمية، ط1، 1406هـ]، وانظر: إعلام الموقعين (1/195) [دار الجيل، 1973م]، وقد قال ابن القيم بعد ذكر هذا التعريف: «وهذا أقرب.. ولكن الرؤيا ليست مقصورة عليه، بل لها أسباب أخر.. من ملاقاة الأرواح وأخبار بعضها بعضًا، ومن إلقاء الملك الذي في القلب والروع، ومن رؤية الروح للأشياء مكافحة بلا واسطة».
[2] فتح الباري لابن حجر (12/352) [دار المعرفة]، والقائل: هو أبو بكر ابن العربي المالكي.
[3] انظر: مقاييس اللغة (2/93) [دار الجيل، ط2]، لسان العرب (12/145)


إنما سميت رؤيا المنام بذلك لحصول وجه من الشبه بينها وبين رؤية اليقظة، من حيث إن النائم تتمثل لذهنه صور وأشكال من جنس الصور التي تراها العين الباصرة، فالصور المرئية متقاربة، إلا أن رؤية اليقظة رؤية عينية، محل الإدراك فيها العين، وأما رؤيا المنام فرؤية يكون محل الإدراك فيها الذهن، والله أعلم.
وقد بيَّن القرطبي سبب تسمية الحُلُم بذلك، وذلك أن أصل مادة (الحلم) من الأناة، وهي ضد الطيش، ولذا قيل لما يراه النائم في النوم (حُلُمٌ)؛ لأن النوم حالة أناة وسكون، وراحة ودَعَة[1].


[1] انظر: تفسير القرطبي (9/200).


ما يراه الإنسان في منامه من أشخاص وأحداث أو غيرها من الحقائق فإنما هي أمثلة لتلك الحقائق التي رآها، جعلها الله دليلاً على أمور ثانية تفسر بها مما وقع من قبل، أو كان سيقع لاحقًا، هذه حقيقته باعتبار ذاتها، ثم تختلف بعد ذلك بالنظر لمصدرها، وصدقها، ودلالتها، وحجيتها، ومن تقع له، بما سيأتي تفصيله.



قال تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ} [الفتح: 27] .
وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: «أول ما بدئ به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح،...»[1].
وعن أبي قتادة رضي الله عنه؛ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الرؤيا الصالحة من الله، والحلم من الشيطان، فإذا حلم أحدكم حلمًا يخافه فليبصق عن يساره، وليتعوذ بالله من شرها، فإنها لا تضره»[2].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب، وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثًا،... والرؤيا ثلاثة: فرؤيا الصالحة بشرى من الله، ورؤيا تحزين من الشيطان، ورؤيا مما يحدث المرء نفسه»[3].
وعن جابر رضي الله عنه؛ أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال لأعرابي جاءه فقال: إني حلمت أن رأسي قطع فأنا أتبعه، فزجره النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال: «لا تخبر بتلعب الشيطان بك في المنام» [4]. وفي رواية في الصحيح: فضحك النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقال: «إذا لعب الشيطان بأحدكم في منامه، فلا يحدث به الناس»[5].


[1] أخرجه البخاري (باب بدء الوحي، رقم 3)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 160).
[2] أخرجه البخاري (كتاب بدء الخلق، رقم 3292)، ومسلم (كتاب الرؤيا، رقم 2261).
[3] أخرجه مسلم (كتاب الرؤيا، رقم 2263).
[4] أخرجه مسلم (كتاب الرؤيا، رقم 2268).
[5] المصدر السابق.


قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «النائم يرى شيئًا، وتلك الأمور لها وجود وتحقيق، ولكن هي خيالات وأمثلة، فلما عزب [العقل] ظنها الرائي نفس الحقائق؛ كالذي يرى نفسه في مكان آخر يكلم أمواتًا ويكلمونه، ويفعل أمورًا كثيرة، وهو في النوم يجزم بأنه نفسه الذي يقول ويفعل؛ لأن عقله عزب عنه، وتلك الصورة التي رآها مثال صورته وخيالها، لكن غاب عقله عن نفسه حتى ظن أن ذلك المثال هو نفسه، فلما ثاب إليه عقله علم أن ذلك خيالات ومثالات»[1].
وقال الإمام ابن القيِّم رحمه الله: «ورؤيا الأنبياء وحي، فإنها معصومة من الشيطان، وهذا باتفاق الأمة، ولهذا أقدم الخليل على ذبح ابنه إسماعيل عليهما السلام بالرؤيا.
وأما رؤيا غيرهم فتعرض على الوحي الصريح، فإن وافقته وإلا لم يعمل بها.
فإن قيل: فما تقولون إذا كانت رؤيا صادقة أو تواطأت؟
قلنا: متى كانت كذلك استحال مخالفتها للوحي؛ بل لا تكون إلا مطابقة له، منبهة عليه، أو منبهة على اندراج قضية خاصة في حكمه لم يعرف الرائي اندراجها فيه، فيتنبه بالرؤيا على ذلك»[2].
وقال ابن جزي رحمه الله: «وحقيقتها [أي: الرؤى] عند المحققين أمثلة جعلها الله دليلاً على المعاني، كما جعلت الألفاظ دليلاً على المعاني، ولذلك منها ظاهر ومحتمل، كما في الألفاظ ظاهر ومحتمل»[3].


[1] مجموع الفتاوى (13/76)، وانظر: منهاج السُّنَّة النبوية (5/378) [مؤسسة قرطبة، ط1، 1406هـ].
[2] مدارج السالكين (1/51) [دار الكتاب العربي، ط2، 1393هـ].
[3] القوانين الفقهية لابن جزي (290).


تنقسم الرؤيا إلى قسمين: خاص بالأنبياء، وعام لجميع الناس، وفيما يلي تفصيل ذلك:
القسم الأول: رؤيا الأنبياء:
رؤيا الأنبياء حق، وهي مصدر من مصادر الوحي؛ لأنهم معصومون، ورؤياهم معصومة من الشيطان، وهذا باتفاق الأمة[1].
فعن ابن عباس رضي الله عنهما، في قوله تعالى: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ *} [يوسف] ، قال: «كانت رؤيا الأنبياء وحيًا»[2].
ويشهد لهذا المعنى حديث أنس بن مالك رضي الله عنه في الإسراء، وفيه: «وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم»[3].
ومثال ذلك ما رآه نبي الله إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم في ذبح ابنه، وما جاء في حق نبيِّنا صلّى الله عليه وسلّم من قوله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ} [الفتح: 27] .
القسم الثاني: رؤيا غير الأنبياء:
وهي على ثلاثة أنواع:
النوع الأول: الرؤيا الصادقة (الصحيحة)، وهي التي تكون من الله تعالى، وغالب ما تكون للمؤمنين، وهي بشرى من الله، وهي المرادة بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة»[4].
وصدق الرؤيا تكون بصدق الرائي، وتحريه أكل الحلال، والتزام الشرع، والنوم على الطهارة، واستقبال القبلة، وذكر الله قبل النوم[5].
والرؤيا الصحيحة وإن اختصت غالبًا بأهل الصلاح، إلا أنها قد تقع لغيرهم، من أهل الفسوق؛ بل من أهل الكفر؛ كرؤيا الملك الذي رأى سبع بقرات، ورؤيا عبد المطلب في حفر بئر زمزم، وغيرها[6].
قال ابن القيِّم رحمه الله: «والرؤيا الصحيحة أقسام:
ـ منها: إلهام يلقيه الله سبحانه في قلب العبد، وهو كلام يكلم به الرب عبده في المنام، كما قال عبادة بن الصامت وغيره.
ـ ومنها: مثل يضربه له ملك الرؤيا الموكل بها.
ـ ومنها: التقاء روح النائم بأرواح الموتى من أهله وأقاربه وأصحابه وغيرهم.
ـ ومنها: عروج روحه إلى الله سبحانه وخطابها له.
ـ ومنها: دخول روحه إلى الجنة ومشاهدتها.
وغير ذلك»[7].
النوع الثاني: الرؤيا التي من الشيطان:
وقد جاء وصفها بأنها: «تحزين»[8] وأنها «تخويف»[9] وأنها «أهاويل من الشيطان ليحزن ابن آدم»[10].
كما جاء وصفها بأنها: (تلاعب من الشيطان)، وبعض العلماء يجعل (تلاعب الشيطان) نوعًا آخر غير: (التخويف والتحزين من الشيطان)[11].
وتدخل رؤيا الاحتلام في تلاعب الشيطان بالإنسان، ولهذا منع كثير من العلماء الاحتلام على الأنبياء، لامتناع تلاعب الشيطان بهم[12].
كما يدخل في تلاعب الشيطان ما قد يراه الإنسان ويحسبه ملكًا أو وليًّا صالحًا، وأنه يأمره أو يخبره بما يخالف الشرع من فعل المحرمات أو ترك الواجبات[13].
النوع الثالث: حديث النفس:
وهو ما يحدث الرجل به نفسه في اليقظة، أو ما يهم به فيها، أو ما يتمناه، فيرى ذلك في منامه، أو أن يرى ما يعتاده الرائي في اليقظة[14].


[1] انظر: مدارج السالكين (1/51).
[2] أخرجه ابن أبي عاصم في السُّنَّة (1/202) [المكتب الإسلامي، ط1]، والطبري في تفسيره (15/554) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وحسَّنه الألباني في ظلال الجنة (1/202).
[3] أخرجه البخاري (كتاب المناقب، رقم 3570).
[4] أخرجه البخاري (كتاب التعبير، رقم 6987)، ومسلم (كتاب الرؤيا، رقم 2264).
[5] انظر: مدارج السالكين (1/51 ـ 52).
[6] انظر: تفسير القرطبي (9/124) [دار الشعب]، فتح الباري لابن حجر (12/381).
[7] الروح (29).
[8] أخرجه مسلم (كتاب الرؤيا، رقم 2263).
[9] أخرجه البخاري (كتاب التعيبر، رقم 7017).
[10] أخرجه ابن ماجه (كتاب تعبير الرؤيا، رقم 3907)، وحسَّنه ابن حجر في الفتح (12/407) [دار المعرفة]، وصحَّحه الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 1870).
[11] قال ذلك ابن حجر، كما في الفتح (12/407).
[12] انظر: شرح النووي على صحيح مسلم (3/198).
[13] انظر: فتح الباري (12/354).
[14] انظر: فتح الباري (12/354، 408).


المسألة الأولى: معنى قولنا عن الرؤيا الصادقة: إنها حق:
قولنا عن الرؤيا الصادقة: إنها حق وحقيقة، يراد به ما يلي:
ـ أنها من الله، وهي جزء من النبوة، فالتصديق بها حق، كما في الحديث: «من رآني في المنام فقد رآني حقًّا، فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي» [1]، فمن قال: إنه لم يره في المنام حقًّا فقد كذب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم.
ـ كما أن من معاني صدقها وكونها حقًّا: أنها قد تتحقق في الواقع؛ أي: يتحقق تأويلها.
ـ فهي صور وأمثال مضروبة تكون في الذهن، لا في الخارج والواقع، وتكون بواسطة؛ أي: من إلقاء الملك، فليست خيالاً باطلاً كحديث النفس.
ـ ولا يقصد بكونها حقيقة أنها مثل رؤية العين المباشرة في اليقظة، والتي تكون بلا واسطة، وإلا لكان من رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم في المنام صحابيًّا[2].
ـ وإنما يقال عنها (حقيقة) تقريرًا لكونها من الله، واحترازًا عن الرؤيا التي هي حديث النفس، والذي هو خيال باطل، وكذا احترازًا عن الرؤيا التي من الشيطان[3].
ـ وعلى هذا: فإذا قيل عن هذه الرؤيا: إنها (خيال)، فهذا لفظ محتمل:
أ ـ إن أراد القائل أنها أمثال مضروبة للذهن، وأن يفرق بينها وبين رؤيا العيان، فقوله صحيح، ولذا قال بهذه العبارة بعض علماء السُّنَّة، كما قالوا: هي خيالات وأمثلة[4].
ب ـ وإن أراد أنها خيالات باطلة، لا حقيقة لها ولا تدل على شيء، وليست من الله، ولا صادقة، وأراد أن يسوي بينها وبين حديث النفس[5] فقوله باطل، مناقض للكتاب والسُّنَّة.
فقد دلَّ كتاب الله وسُنَّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم على أن الرؤيا تنقسم إلى ثلاثة أقسام، ومنها الرؤيا الصادقة، والتي منها رؤيا الأنبياء والتي هي من الوحي، كما قال تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} [الفتح: 27] ورؤيا الحق هي التي لا بد من وقوعها وصدقها، فهي ليست من قبيل أضغاث الأحلام.
ومن السُّنَّة: قوله صلّى الله عليه وسلّم: «والرؤيا ثلاثة: فرؤيا الصالحة بشرى من الله، ورؤيا تحزين من الشيطان، ورؤيا مما يحدث المرء نفسه»[6].
وكذلك من قال عن هذه الرؤيا إنها حقيقة، استفسرنا منه:
أ ـ إن أراد أنها من الله، وقد تتحقق، وليست من حديث النفس، فهذا حق على ما تقدم تفصيله.
ب ـ وإن أراد: أن ما يراه النائم كرؤية اليقظة بالعين: فهذا لا يشك عاقل في بطلانه. كمن قال من المبتدعة: إذا رأى الإنسان في المنام كأنه بأفريقية وهو ببغداد فقد اخترعه الله سبحانه بأفريقية في ذلك الوقت[7].
وهذا باطل، بالواقع والعقل؛ أما الواقع فنحن نشاهد أن النائم عندنا، ورأى نفسه في ذلك الوقت في أفريقية مثلاً. وأما العقل: فإن النائم يرى من الأحلام من كونه مقطوع الرأس مثلاً، وهو حي. فهذا تفصيل القول في المسألة.
ومع هذا التفصيل في لفظي (الحقيقة) و(الخيال)، إلا أن لفظ الخيال والوهم كثيرًا ما يطلق على النوع الناقص، وهو الباطل الذي لا حقيقة له.
كما أن لفظ (الحقيقة) غالبًا ما يطلق على رؤيا الحق التي من الله.
قال شيخ الإسلام: «كثيرًا ما يخص بلفظ الوهم، والخيال النوع الناقص، وهو الباطل الذي لا حقيقة له، وأما ما كان حقًّا مما يتخيل ويتوهم، فيسمونه باسمه الخاص، من أنه حق وصدق ونحو ذلك، ومن أنه معلوم ومعقول، فإنه إذا كان حقًّا عقله القلب، فصار معقولاً، كما يعقل أمثاله»[8].
المسألة الثانية: رؤية الله في المنام:
لقد ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم رأى ربه في المنام، وذلك في حديث اختصام الملأ الأعلى، وفيه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «فنعست في صلاتي حتى استثقلت، فإذا أنا بربي عزّ وجل في أحسن صورة...» [9]، فقد كانت هذه رؤيا منام[10].
وأما رؤية غير النبي صلّى الله عليه وسلّم من المؤمنين لربهم فهي ثابتة أيضًا، فقد نقل بعض العلماء الإجماع على جواز رؤية الله في المنام، ووقوعها، ولم ينقل إنكارها إلا عن بعض المعتزلة[11].
قال شيخ الإسلام رحمه الله: «وقد يرى المؤمن ربه في المنام في صور متنوعة، على قدر إيمانه ويقينه، فإذا كان إيمانه صحيحًا لم يره إلا في صورة حسنة، وإذا كان في إيمانه نقص رأى ما يشبه إيمانه»[12].
ونبه الشيخ إلى أن الإنسان إذا رأى ربه في المنام فإنه «لا يجوز أن يعتقد أن الله في نفسه مثل ما رأى في المنام، فإن سائر ما يرى في المنام لا يجب أن يكون مماثلاً، ولكن لا بد أن تكون الصورة التي رآه فيها مناسبة ومشابهة لاعتقاده في ربه، فإن كان إيمانه واعتقاده مطابقًا أتي من الصور وسمع من الكلام ما يناسب ذلك، وإلا كان بالعكس»[13].
المسألة الثالثة: رؤية النبي صلّى الله عليه وسلّم في المنام:
لقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن الذي يرى النبي صلّى الله عليه وسلّم في المنام فإنه يراه حقيقة؛ لأن الشيطان لا يتمثل به.
فعن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ومن رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي» [14]. وفي رواية: «من رآني في المنام فسيراني في اليقظة، ولا يتمثل الشيطان بي» [15]، وفي رواية: «فإن الشيطان لا يتخيل بي» [16]، وفي رواية: «وإن الشيطان لا يتراءى بي» [17]، وفي رواية: « لا ينبغي للشيطان أن يتشبّه بي» [18]، وفي رواية: «من رآني فقد رأى الحق»[19].
فدلت هذه الأحاديث على أن من رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم في المنام، فإنه سيراه في اليقظة.
ومعنى قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من رآني فقد رآني» ؛ أي: أنه قد رآه حقيقة؛ لأن الشيطان لا يتشبه بالنبي صلّى الله عليه وسلّم.
ومعنى قوله صلّى الله عليه وسلّم: «فسيراني في اليقظة» ؛ أي: سيرى تأويل تلك الرؤيا في اليقظة وصحتها[20]، ويعضد ذلك ما جاء في رواية: «فقد رأى الحق».
وقيل: إن معناه: أنه سيراه يوم القيامة بمزيد خصوصية، مما يتضمن زيادة إكرام للرائي، لا بمجرد الرؤية العامة التي يراها جميع المؤمنين ممن لم يره صلّى الله عليه وسلّم في المنام[21].
ولكن، يشترط لاعتماد الرؤية للنبي صلّى الله عليه وسلّم في المنام أمران:
1 ـ أن يكون قد رآه على صفته الثابتة في السُّنَّة، ويستوي في ذلك أن يرى النبي صلّى الله عليه وسلّم على صفته حال شبابه، أو رجوليته، أو كهولته، أو آخر عمره، وأما إن كان قد رآه على غير صفته، فلا يعتد بذلك[22].
2 ـ ألا يأمره بما يخالف الشرع[23].
المسألة الرابعة: الرؤيا ليست مصدرًا من مصادر الاستدلال في الشريعة:
هذا ما ذهب إليه أهل السُّنَّة والجماعة وغالب طوائف الأمة، فلا يستفاد منها شيء من الأحكام الشرعية؛ بل لا بد من عرضها على الوحي، فإن وافقته وإلا ردت على صاحبها.
قال ابن القيِّم رحمه الله: «ورؤيا الأنبياء وحي، فإنها معصومة من الشيطان، وهذا باتفاق الأمة، ولهذا أقدم الخليل على ذبح ابنه إسماعيل عليهما السلام بالرؤيا.
وأما رؤيا غيرهم فتعرض على الوحي الصريح، فإن وافقته وإلا لم يعمل بها.
فإن قيل: فما تقولون إذا كانت رؤيا صادقة أو تواطأت؟
قلنا: متى كانت كذلك استحال مخالفتها للوحي؛ بل لا تكون إلا مطابقة له، منبهة عليه، أو منبهة على اندراج قضية خاصة في حكمه لم يعرف الرائي اندراجها فيه، فيتنبه بالرؤيا على ذلك»[24].
المسألة الخامسة: الرؤيا وعلم الغيب، ومعنى كون الرؤية جزءًا من النبوة:
تقدم ذكر الحديث الصحيح: «رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة» ، ومعنى ذلك: أنها جزء من ست وأربعين جزءًا من النبوة في صدق الخبر، فإن الرؤيا الصادقة خبر صادق من الله، لا كذب فيه، وكذلك النبوة، فشابهت الرؤيا النبوة من هذا الوجه، وليس المراد بهذا أن الرؤيا مصدر من مصادر التشريع[25]
قال الخطابي رحمه الله: «الرؤيا تجيء على موافقة النبوة، لا أنها جزء باق من النبوة»[26].
وعلى هذا؛ فإن القسم الثاني والثالث من الرؤى (ما كان من الشيطان أو من حديث النفس) لا يفيد شيئًا من علم الغيب ولا من غيره.
وأما القسم الأول (الرؤيا التي من الله) فإن الرائي يمكن أن يعرف من خلالها شيئًا مما سيقع في المستقبل أو ما غاب عنه عن طريق هذه الرؤى، ولكن ذلك جزء من الغيب النسبي لا المطلق.
وأما الغيب المطلق فلا يكون بالرؤيا أبدًا؛ لأنه مما يختص به الله[27].


[1] أخرجه البخاري (كتاب العلم، رقم 110)، ومسلم (كتاب الرؤيا، رقم 2266).
[2] انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (12/278).
[3] قال ابن تيمية: «ولكن يقال: رآهم في المنام حقيقة فيحترز بذلك عن الرؤيا التي هي حديث النفس. فإن الرؤيا ثلاثة أقسام: رؤيا بشرى من الله، ورؤيا تحزين من الشيطان، ورؤيا مما يحدث به المرء نفسه في اليقظة فيراه في المنام». مجموع الفتاوى (12/278).
[4] انظر: مجموع الفتاوى (13/76)، والجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (2/327) [مطبعة المدني].
[5] قال به بعض المعتزلة، وسيأتي ذكره.
[6] تقدم تخريجه.
[7] انظر: المواقف للإيجي (6/112)، ومقالات الإسلاميين للأشعري (2/107) [مكتبة النهضة المصرية، ط1]، والفصل لابن حزم (5/71، 123) [دار الجيل]، والأصول والفروع له (1/243) [دار النهضة، ط1، 1978م].
[8] بيان تلبيس الجهمية (1/318) [مجمع الملك فهد للطباعة، ط2، 1426هـ].
[9] أخرجه الترمذي (أبواب تفسير القرآن، رقم 3235) وصحَّحه، ونقل عن البخاري تصحيحه أيضًا، وأحمد في مسنده (36/422) [مؤسسة الرسالة، ط1]، من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه. وانظر: إرواء الغليل (رقم 684). وصحَّحه الإمام أحمد أيضًا، وقوَّاه ابن خزيمة، كما في تهذيب التهذيب (6/186) [دار الفكر، ط1].
[10] انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (2/336)، وزاد المعاد (1/136).
[11] انظر: شرح السُّنَّة للبغوي (12/227) [المكتب الإسلامي، ط2]، وشرح مسلم للنووي (15/25)، وبيان تلبيس الجهمية (1/73) [مطبعة الحكومة، ط1، 1392هـ]، وفتح الباري لابن حجر (12/387)
[12] مجموع الفتاوى (3/390)، وانظر منه: (10/612)، ومنهاج السُّنَّة (5/376).
[13] بيان تلبيس الجهمية (1/73).
[14] أخرجه البخاري (كتاب العلم، رقم 110)، ومسلم (كتاب الرؤيا، رقم 2266).
[15] أخرجها البخاري (كتاب التعبير، رقم 6993)، ومسلم (كتاب الرؤيا، رقم 2266).
[16] أخرجها البخاري (كتاب التعبير، رقم 6994).
[17] أخرجها البخاري (كتاب التعبير، رقم 6995).
[18] أخرجها مسلم (كتاب الرؤيا، رقم 2268).
[19] أخرجها البخاري (كتاب التعبير، رقم 6996)، ومسلم (كتاب الرؤيا، رقم 2267).
[20] انظر: فتح الباري (12/385)
[21] فتح الباري (12/385).
[22] انظر: فتح الباري (12/387).
[23] انظر: فتح الباري (12/188 ـ 189، 374 ـ 375).
[24] مدارج السالكين (1/51).
[25] انظر: فتح الباري (12/363)
[26] فتح الباري (12/363).
[27] انظر: تفسير القرطبي (9/124)، وفتح الباري لابن حجر (12/363، 364، 406)، وشرح النووي على مسلم (15/21)، وعلم الغيب في الشريعة الإسلامية لأحمد الغنيمان (222 ـ 232) [مكتبة العلوم والحكم، ط1].


الفرق بين الرؤيا والحلم:
معنى الرؤيا في اللغة مرادف لمعنى الحلم، إذ كلاهما يطلق على ما يراه الإنسان في منامه.
إلا أن الاصطلاح الشرعي قد غلب عليه إطلاق الرؤيا على ما كان خيرًا وحسنًا، وإطلاق الحلم على الشر القبيح[1].
وقد دلَّ على هذا التفريق قوله صلّى الله عليه وسلّم: «الرؤيا من الله والحلم من الشيطان»[2].
وقد يأتي الإطلاق بخلاف ذلك؛ كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «الرؤيا ثلاثة: فرؤيا الصالحة بشرى من الله، ورؤيا تحزين من الشيطان، ورؤيا مما يحدث المرء نفسه»[3].
الفرق بين الرؤيا والرؤية:
الرؤيا والرؤية هما مصدران للفعل الثلاثي رأى، إلا أن الرؤيا تطلق على ما يراه الإنسان في حال المنام، بينما تطلق الرؤية على ما يراه الإنسان في اليقظة[4].
هذا هو الغالب في الاستعمال، وقد تأتي (الرؤيا) ويراد بها رؤية العينين في اليقظة، كما جاء في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60] ، فالمراد بها: رؤية العين، وهي ما رآه صلّى الله عليه وسلّم ليلة الإسراء من الآيات والعبر، كما صرح بذلك ابن عباس رضي الله عنهما[5]، وحكى الإمام الطبري إجماع الحجة من أهل التأويل على هذا التفسير[6].


[1] انظر: النهاية لابن الأثير (434) [المكتبة العلمية، 1399هـ]، والرؤى عند أهل السُّنَّة والمخالفين (64).
[2] أخرجه البخاري (كتاب الطب، رقم 5747)، ومسلم (كتاب الرؤيا، رقم 2261).
[3] تقدم تخريجه.
[4] انظر: لسان العرب (1/664 ـ 665)، والرؤى عند أهل السُّنَّة والجماعة والمخالفين (68).
[5] انظر: صحيح البخاري (كتاب المناقب، رقم 3888).
[6] انظر: تفسير الطبري (17/483).


لقد تعددت أقوال الفرق المخالفة في التعريف بالرؤيا وبيان حقيقتها، وأهم ما قيل في ذلك ما يلي:
1 ـ قال أكثر المعتزلة: إن ما يراه الإنسان في منامه خيالات باطلة، لا حقيقة لها، ولا تدل على شيء[1].
وهذا القول بيِّن البطلان، فإنه مخالف للأدلة الثابتة من القرآن والسُّنَّة المبيِّنة لحقيقة الرؤى، وقد تقدم بعضها، والتي تدل على أن من الرؤى ما هو من الله، وأنها جزء من النبوة، وأن فيها اطلاع من الرائي على بعض الأمور المستقبلية، سواء كان ذلك من الأنبياء أو من غيرهم؛ كرؤيا ملك مصر التي أوَّلها له يوسف عليه السلام، وغيرها.
2 ـ وأما الأشاعرة فقد قال جمع منهم بأن الرؤيا خيالات باطلة، وهذا قريب من قول المعتزلة السابق، في حين قال بعضهم بأن الرؤى إدراكات حقيقية[2].
ومن غلطهم في ذلك تعريفهم الرؤيا بأنها: علوم علقها الله في النفس ابتداء بلا سبب.
وقد نقل هذا القول الإمام ابن القيِّم، ثم قال: «وهذا قول منكري الأسباب والحكم والقوى، وهو قول مخالف للشرع والعقل والفطرة»[3].
3 ـ وأما المتصوفة فقد غلوا في الرؤى، وتضاربت أقوالهم فيها.
فمنهم من زعم في بيانها أن النفس من عالم المجردات والمعقولات، فهي تستطيع أن تدرك المدركات المجردة التي تكون من جنسها إذا لم يشغلها شاغل من علائق البدن، فإذا قويت بالفضائل الروحانية وضعف سلطان القوى البدنية، اتصلت بأبيها المقدس وبالنفوس الفلكية، وتلقت عنها المغيبات في نومها، كما يقع لها في يقظتها[4].
وهذا القول مقارب لقول الفلاسفة في الرؤى.
وذهب بعض المتصوفة إلى أن الرؤى هي صور تقع في القلب من اللوح المحفوظ في حالة النوم، كما تقع الصورة من مرآة أخرى إذا ارتفع الحجاب بينهما[5].
وذهب القائلون بوحدة الوجود منهم إلى أن الرؤيا لا تهبط من خارج، وإنما تصدر من باطن النفس؛ لأن الوجود حقيقة واحدة عندهم[6].
ومن ضلال المتصوفة في الرؤى زعمهم أنها مصدر يقيني من مصادر التلقي، لا يتطرق إليه الشك والغلط، فهم يبنون عليها كثيرًا من عقائدهم الباطلة، ويستندون إليها في تصحيح طرقهم، وتزكية مشايخهم وترويج كتبهم[7]، ويستمدون منها العقائد والأحكام، حتى ما لم يكن موجودًا في الكتاب والسُّنَّة، وربما اعتمدوا عليها في تصحيح بعض الأحاديث الضعيفة، واعتماد بعض البدعي من الأذكار[8].


[1] انظر: مقالات الإسلاميين للأشعري (2/107) [دار إحياء التراث العربي، ط3]، وتفسير القرطبي (9/124)، أبكار الأفكار للآمدي (2/325) [دار الكتب والآثار القومية بالقاهرة، ط2، 1424هـ]، وشرح المواقف للجرجاني (2/142) [دار الجيل، ط1، 1417هـ]، وجواهر الكلام للإيجي (173).
[2] نقل ذلك عنهم: الإيجي الأشعري، انظر: شرح المواقف له (2/142).
[3] الروح (30).
[4] هياكل النور للسهروردي (43 ـ 44) [المطبعة التجارية، 1377هـ].
[5] إحياء علوم الدين (4/537) [دار القلم، ط1].
[6] انظر: فصوص الحكم لابن عربي (136 ـ 137) [دار إحياء الكتب العربية، 1365هـ]، والفتوحات المكية له (2/494) [دار صادر]، وانظر حول قولهم: الرؤى عند أهل السُّنَّة والمخالفين (296).
[7] كزعم ابن عربي أنه ألَّف كتابه الكفري فصوص الحكم بإذن النبي صلّى الله عليه وسلّم له في المنام: فصوص الحكم (17).
[8] انظر تفصيل ذلك والرد عليه في: الرؤى عند أهل السُّنَّة والمخالفين (296 ـ 325).


1 ـ «الإلهام والكشف والرؤى، هل تعد مصادر للأحكام الشرعية»، ليوسف القرضاوي.
2 ـ «بيان تلبيس الجهمية»، لابن تيمية.
3 ـ «الروح»، لابن القيِّم.
4 ـ «الرؤى الصادقة: حجيتها وضوابطها»، لخالد بن بكر آل عابد.
5 ـ «الرؤى عند أهل السُّنَّة والجماعة والمخالفين»، لسهل العتيبي.
6 ـ «الرؤى والأحلام بين النصوص الشرعية ومدرسة التحليل النفسي»، لأسامة الريس.
7 ـ «الرؤى والأحلام في النصوص الشرعية»، لأسامة الريّس.
8 ـ «علم الغيب في الشريعة الإسلامية»، لأحمد بن عبد الله الغنيمان.
9 ـ «فتح الباري»، لابن حجر.
10 ـ «مجموع الفتاوى»، لابن تيمية.