حرف الراء / رؤية الله

           

قال ابن فارس: «الراء والهمزة والياء أصلٌ يدلُّ على نظرٍ وإبصارٍ بعينٍ أو بصيرة. فالرَّأي: ما يراه الإنسانُ في الأمر، وجمعه الآراء. رأَى فلانٌ الشيءَ وراءه، وهو مقلوب. والرئي: ما رأت العين من حال حسنة. والعرب تقول: رَيته في معنى رأيته وتراءى القوم؛ إذا رأى بعضهم بعضًا. وراءى فلان يرائي، وفعل ذلك رئاء الناس؛ وهو أن يفعل شيئًا ليراه الناس. والرواء: حسن المنظر. والمرآة معروفة. والترئية وإن شئت لينت الهمزة فقلت الترية: ما تراه الحائض من صفرة بعد دم حيض، أو أن ترى شيئًا من أمارات الحيض قبل. والرؤيا معروفة، والجمع رؤى»[1].


[1] مقاييس اللغة (2/472 ـ 473) [دار الجيل، ط2].


رؤية الله: هي رؤية المؤمنين ربهم سبحانه وتعالى بأبصارهم يوم القيامة[1].


[1] انظر: الرد على الجهمية والزنادقة للإمام أحمد (132) [دار الثبات، ط1، 1424هـ]، والرؤية للدارقطني (91 ـ 93) [مكتبة المنار، الأردن، ط1، 1411هـ]، والتوحيد لابن خزيمة (2/548) [مكتبة الرشد، ط5، 1414هـ].


المعنى الشرعي هو المعنى اللغوي بعينه.



لا اختلاف بينهما بل هما متفقان.



يجب الإيمان برؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة تصديقًا لخبر الله عزّ وجل وخبر نبيّه الأمين محمد صلّى الله عليه وسلّم.



حقيقة الرؤية: هي إبصار الرائي للمرئي بالعين. ورؤية الله: هي رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة عيانًا من غير إحاطة ولا إدراك.



دلَّت النصوص من الكتاب والسُّنَّة والإجماع على رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة رؤية بصرية قال الله تعالى: {وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ *إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ *} [القيامة] ، وقال سبحانه: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ *} [المطففين] .
وأما أحاديث رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة فقد بلغت حد التواتر، كما قال ذلك ابن القيِّم رحمه الله[1].
فمنها حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: كنا عند النبي صلّى الله عليه وسلّم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر فقال: «أما إنكم سترون ربكم كما ترون هذا، لا تضامون أو لا تضاهون في رؤيته»[2].
وعن صهيب رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال: يقول الله تبارك وتعالى : تريدون شيئًا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا، ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فما أُعطوا شيئًا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عزّ وجل» وزاد في رواية: «ثم تلا هذه الآية: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] »[3].
وأما إجماع السلف على ثبوت رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة فقد حكاه غير واحد من العلماء، منهم ابن خزيمة؛ إذ يقول: «أهل قبلتنا من الصحابة، ومن بعدهم إلى من شاهدنا من العلماء من أهل عصرنا، لم يختلفوا ولم يشكوا ولم يرتابوا أن جميع المؤمنين يرون خالقهم يوم القيامة عيانًا»[4].


[1] انظر: حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح (205).
[2] أخرجه البخاري (كتاب مواقيت الصلاة، رقم 573)، ومسلم (كتاب المساجد ومواضع الصلاة، رقم 633).
[3] أخرجه مسلم (كتاب الإيمان، رقم 181).
[4] التوحيد لابن خزيمة (2/548).


قال ابن أبي زمنين: «ومن قول أهل السُّنَّة: إن المؤمنين يرون ربهم في الآخرة، وأنه يحتجب عن الكفار والمشركين فلا يرونه، وقال عزّ وجل: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] وقال: {وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ *إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ *} [القيامة] . وقال: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ *} [المطففين] . فسبحان من لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير»[1].
وقال أبو القاسم الأصبهاني: «مذهب أهل السُّنَّة أن الله عزّ وجل يكرم أولياءه بالرؤية، يرونه بأعينهم كما شاء فضلاً منه ومنّة، قال الله عزّ وجل: {وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ *} [القيامة] ، وحكي عن الشافعي رحمه الله في قوله: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ *} [المطففين] لما حجب عنه الكفار دلَّ على أن المؤمنين يرونه»[2].
وقال ابن قدامة: «والمؤمنون يرون ربهم في الآخرة بأبصارهم، ويزورونه، ويكلمهم ويكلمونه، قال الله تعالى: {وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ *إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ *} [القيامة] . وقال تعالى: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ *} [المطففين] ، فلما حجب أولئك في حال السخط، دلَّ على أن المؤمنين يرونه في حال الرضا، وإلا لم يكن بينهما فرق»[3].


[1] كتاب السُّنَّة لابن أبي زمنين (120) [مكتبة الغرباء الأثرية، ط1، 1415هـ].
[2] الحجة في بيان المحجة (2/524) [دار الراية، ط2].
[3] لمعة الاعتقاد (20) [الدار السلفية، الكويت، ط1، 1406هـ].


المسألة الأولى: رؤية الله تعالى في الدنيا:
لا شكَّ أن الله لا يُرى في الدنيا، وكل من ادعاها فهو كاذب لما في ذلك من النص والإجماع، أما النص فقد ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ أنه قال: «تعَلَّموا أنه لن يرى أحد منكم ربه عزّ وجل حتى يموت»[1].
وأما الإجماع فقد ذكره ابن تيمية بقوله: «أجمع سلف الأمة وأئمتها على أن المؤمنين يرون الله بأبصارهم في الآخرة وأجمعوا على أنهم لا يرونه في الدنيا بأبصارهم»[2].
وقال أيضًا: «وكل من قال من العباد المتقدمين أو المتأخرين إنه رأى ربه بعيني رأسه فهو غالط في ذلك بإجماع أهل العلم والإيمان»[3].
المسألة الثانية: رؤية النبي صلّى الله عليه وسلّم ربه في الدنيا:
اختلف أهل السُّنَّة والجماعة في رؤية النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم ربه ليلة المعراج؛ أرآه أم لا؟ والصحيح: أنه لم ير ربه بعين رأسه، وإنما رآه بفؤاده، قال ابن تيمية رحمه الله: «وأما الرؤية؛ فالذي ثبت في الصحيح عن ابن عباس أنه قال: «رأى محمد ربه بفؤاده مرتين»[4]، وعائشة أنكرت الرؤية. فمن الناس من جمع بينهما فقال: عائشة أنكرت رؤية العين، وابن عباس أثبت رؤية الفؤاد. والألفاظ الثابتة عن ابن عباس هي مطلقة أو مقيدة بالفؤاد، تارة يقول: رأى محمد ربه وتارة يقول رآه محمد؛ ولم يثبت عن ابن عباس لفظ صريح بأنه رآه بعينه. وكذلك الإمام أحمد؛ تارة يطلق الرؤية؛ وتارة يقول: رآه بفؤاده؛ ولم يقل أحد إنه سمع أحمد يقول رآه بعينه؛ لكن طائفة من أصحابه سمعوا بعض كلامه المطلق ففهموا منه رؤية العين؛ كما سمع بعض الناس مطلق كلام ابن عباس ففهم منه رؤية العين. وليس في الأدلة ما يقتضي أنه رآه بعينه ولا ثبت ذلك عن أحد من الصحابة ولا في الكتاب والسُّنَّة ما يدل على ذلك؛ بل النصوص الصحيحة على نفيه أدل؛ كما في «صحيح مسلم»[5]، «عن أبي ذر رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هل رأيت ربك؟ فقال: نور أنّى أراه»»[6].
وقال ابن أبي العز: «فإن الرؤية في الدنيا ممكنة، إذ لو لم تكن ممكنة، لما سألها موسى عليه السلام، لكن لم يرد نص بأنه صلّى الله عليه وسلّم رأى ربه بعين رأسه؛ بل ورد ما يدل على نفي الرؤية، وهو ما رواه مسلم في «صحيحه»، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هل رأيت ربك؟ فقال: «نور أنّى أراه» . وفي رواية: «رأيت نورًا» [7]. وقد روى مسلم أيضًا عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه؛ أنه قال: «قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بخمس كلمات، فقال: «إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور» ـ وفي رواية: النار ـ «لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» [8]. فيكون ـ والله أعلم ـ معنى قوله لأبي ذر: «رأيت نورًا» : أنه رأى الحجاب، ومعنى قوله: «نور أنّى أراه» : النور الذي هو الحجاب يمنع من رؤيته، فأنّى أراه؟ أي: فكيف أراه والنور حجاب بيني وبينه يمنعني من رؤيته؟ فهذا صريح في نفي الرؤية. والله أعلم»[9].
وقال أيضًا: «وقد تقدم ذكر اختلاف الصحابة في رؤيته صلّى الله عليه وسلّم ربه عزّ وجل بعين رأسه، وأن الصحيح أنه رآه بقلبه، ولم يره بعين رأسه»[10].
وأما قوله تعالى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى *أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى *وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى *} [النجم] فالمراد بالمرئي جبريل عليه السلام، رآه مرتين في صورته التي خلق عليها[11].
المسألة الثالثة: مواضع رؤية الله عزّ وجل يوم القيامة:
دلَّت النصوص من الكتاب والسُّنَّة على أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة بأبصارهم في الموقف وفي الجنة وبيانه على النحو التالي:
ـ رؤية المؤمنين ربهم في الموقف، ومما يدل عليها ما جاء في «الصحيح» من حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن الناس قالوا: يا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هل تضارون في القمر ليلة البدر؟ فيأتيهم الله فيقول: أنا ربكم، فيقولون: هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاءنا ربنا عرفناه، فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا فيتبعونه»[12].
ـ رؤية المؤمنين ربهم في الجنة ومما يدل عليها حديث صهيب المتقدم، ومنها قوله تعالى: {وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ *إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ *} [القيامة] . قال ابن خزيمة في هذه الآية: «وهذا نظر أولياء الله إلى خالقهم جلّ ثناؤه بعد دخول أهل الجنة الجنة»[13].
المسألة الرابعة: رؤية الكفار والمنافقين ربهم في الآخرة، وهذا فيه ثلاثة أقوال لأهل السُّنَّة:
القول الأول: أنهم لا يرون الله مطلقًا؛ لصريح قوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ *} [المطففين] .
القول الثاني: يراه المنافقون فقط في الموقف ثم يحتجب عنهم ودليلهم ما جاء في حديث أبي هريرة؛ أن الناس قالوا: يا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هل تضارون في القمر ليلة البدر وتبقى هذه الأمة فيها شافعوها أو منافقوها ـ شك إبراهيم ـ فيأتيهم الله فيقول: أنا ربكم، فيقولون: هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاءنا ربنا عرفناه، فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا فيتبعونه»[14].
القول الثالث: أنهم يرون الله رؤية تعريف وتعذيب[15]؛ لقوله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ} [الأنعام: 31] وذكروا أن «اللقاء يدل على الرؤية والمعاينة»[16].
ولعل الراجح هو القول الأول لصريح القرآن في حجب الكفار عن رؤية الله[17]، وأما الأدلة الأخرى فليست نصًّا قاطعًا في الموضوع[18].
المسألة الخامسة: الرؤية القلبية:
وهي رؤية الله بالقلب، كما حصل للنبي صلّى الله عليه وسلّم ليلة المعراج في أرجح الأقوال كما تقدم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «والقلوب مفطورة على أن يتجلى لها من الحقائق ما هي مستعدة لتجليها فيها، فإذا تجلى فيها شيء أحست به إحساسًا باطنًا تجليه فيها.
وأيضًا فنفس مشاهدة القلوب لنفسه تبارك وتعالى أمر ممكن، وإن كان ذلك قد يقال: إنه مختص ببعض الخلق، كما قال أبو ذر وابن عباس وغيرهما من السلف: «إن نبيَّنا صلّى الله عليه وسلّم رأى ربه بفؤاده». وقال ابن عباس: رآه بفؤاده مرتين.
فهذا النوع إذا كان ممكنًا، وقد قيل: إنه واقع، لم يمكن نفيه إلا بدليل»[19].
وقال ابن القيِّم: «وإن قال: إنما هو كشف العيان القلبي بحيث يصير الرب سبحانه كأنه مرئي للعبد، كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اعبد الله كأنك تراه» فهذا حق وهو قوة علم ومزيد يقين فقط»[20].
وأما الرؤية القلبية لغيره صلّى الله عليه وسلّم من المؤمنين فقد ذهب غير واحد من أهل العلم إلى جواز وقوعها[21]، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وقد يحصل لبعض الناس في اليقظة أيضًا من الرؤيا: نظير ما يحصل للنائم في المنام: فيرى بقلبه مثل ما يرى النائم. وقد يتجلى له من الحقائق ما يشهده بقلبه فهذا كله يقع في الدنيا»[22].
المسألة السادسة: رؤية الله تعالى في المنام:
دلَّت بعض النصوص على رؤية النبي صلّى الله عليه وسلّم ربَّه في المنام، منها: حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه؛ أنه قال: «احتبس عنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات غداة عن صلاة الصبح، حتى كدنا نتراءى عين الشمس، فخرج سريعًا فثوّب بالصلاة، فصلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتجوَّز في صلاته، فلما سلَّم دعا بصوته فقال لنا: «على مصافكم كما أنتم» ، ثم انفتل إلينا ثم قال: «أما إني سأحدثكم ما حبسني عنكم الغداة: أني قمت من الليل فتوضأت وصليت ما قدر لي، فنعست في صلاتي فاستثقلت، فإذا أنا بربي تبارك وتعالى في أحسن صورة، فقال: يا محمد، قلت: لبيك ربِّ، قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري ربِّ، قالها ثلاثًا، قال: فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي، فتجلى لي كل شيء وعرفت، فقال: يا محمد، قلت: لبيك ربِّ، قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: في الكفارات، قال: ما هن؟ قلت: مشي الأقدام إلى الجماعات، والجلوس في المساجد بعد الصلوات، وإسباغ الوضوء في المكروهات»»[23] الحديث.
ونقل ابن القيِّم عن شيخه ابن تيمية أنه قال: «وقد صح عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «رأيت ربي تبارك وتعالى » ولكن لم يكن هذا في الإسراء، ولكن كان في المدينة، لما احتبس عنهم في صلاة الصبح، ثم أخبرهم عن رؤية ربه تبارك وتعالى تلك الليلة في منامه، وعلى هذا بنى الإمام أحمد رحمه الله، وقال: نعم رآه حقًّا، فإن رؤيا الأنبياء حق ولا بد»[24].
وهذه الرؤية المنامية يجوز وقوعها أيضًا للمؤمنين، فيرى المؤمن ربه منامًا في صور متنوعة على حسب قوة وضعف إيمانه. قال ابن تيمية: «وقد يرى المؤمن ربه في المنام في صور متنوعة على قدر إيمانه ويقينه؛ فإذا كان إيمانه صحيحًا لم يره إلا في صورة حسنة، وإذا كان في إيمانه نقص رأى ما يشبه إيمانه، ورؤيا المنام لها حكم غير رؤيا الحقيقة في اليقظة ولها تعبير وتأويل؛ لما فيها من الأمثال المضروبة للحقائق»[25].
وقال أيضًا: «وما زال الصالحون وغيرهم يرون ربهم في المنام ويخاطبهم، وما أظن عاقلاً ينكر ذلك فإن وجود هذا مما لا يمكن دفعه؛ إذ الرؤيا تقع للإنسان بغير اختياره»[26].
المسألة السابعة: لقاء العباد لله تعالى:
ثبت في نصوص الكتاب والسُّنَّة أن العباد يلاقون الله تعالى، فمنهم يحب لقاء الله تعالى، ومنهم من يكرهه، فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه» ، قالت عائشة، أو بعض أزواجه: إنا لنكره الموت، قال: ليس ذاك ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته، فليس شيء أحب إليه مما أمامه، فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا حضر بُشّر بعذاب الله وعقوبته، فليس شيء أكره إليه مما أمامه، فكره لقاء الله وكره الله لقاءه»[27].
قال ابن عبد البر رحمه الله: «الذي أقول في معنى هذا الحديث ما شهدت به الآثار المرفوعة، وهي الملجأ والحجة لمن لجأ إليها، وذلك والله أعلم عند معاينة الإنسان ما يعانيه عند حضور أجله، فإذا رأى ما يكره لم يحب الخروج من الدنيا، ولا لقاء ما عاين مما يصير إليه، وأحب لو بقي في الدنيا ليتوب ويعمل صالحًا، وإن رأى ما يحب أحب لقاء الله والإسراع إلى رحمته لحسن ما يعاين من ذلك»[28].
وقال ابن تيمية: «أما اللقاء فقد فسَّره طائفة من السلف والخلف بما يتضمن المعاينة والمشاهدة بعد السلوك والمسير، وقالوا: إن لقاء الله يتضمن رؤيته سبحانه وتعالى، واحتجوا بآيات اللقاء على من أنكر رؤية الله عزّ وجل في الآخرة من الجهمية كالمعتزلة وغيرهم.
وروي عن عبد الله بن المبارك؛ أنه قال في قوله: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا *} [الكهف] ، ولا يرائى أو قال: ولا يخبر به أحدًا، وجعلوا اللقاء يتضمن معنيين:
أحدهما: السير إلى الملك.
والثاني: معاينته كما قال: {يَاأَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاَقِيهِ *} [الانشقاق] .
فذكر أنه يكدح إلى الله عزّ وجل فيلاقيه، والكدح إليه يتضمن السلوك والسير إليه واللقاء يعقبهما.
وأما المعاينة من غير مسير إليه؛ كمعاينة الشمس والقمر فلا يسمى لقاء، وقد يراد باللقاء الوصول إلى الشيء، والوصول إلى الشيء بحسبه»[29].
وقال ابن القيِّم: «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه أنه كراهة الموت، وأخبرهم أن هذا للكافر إذا احتضر وبشر بالعذاب؛ فإنه حينئذ يكره لقاء الله، والله يكره لقاءه، وأن المؤمن إذا احتضر وبشر بكرامة الله أحب لقاء الله وأحب الله لقاءه»[30].


[1] أخرجه مسلم (كتاب الفتن وأشراط الساعة، رقم 169).
[2] مجموع الفتاوى لابن تيمية (6/512).
[3] المرجع السابق (3/390)
[4] أخرجه مسلم (كتاب الإيمان، رقم 176).
[5] أخرجه مسلم (كتاب الإيمان، رقم 178).
[6] مجموع الفتاوى (6/509 ـ 510).
[7] أخرجهما مسلم (كتاب الإيمان، رقم 178).
[8] أخرجه مسلم (كتاب الإيمان، رقم 179).
[9] شرح الطحاوية لابن أبي العز (1/224).
[10] المرجع السابق (1/275).
[11] المرجع السابق (1/275).
[12] أخرجه البخاري (كتاب التوحيد، رقم 7437)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 182).
[13] كتاب التوحيد لابن خزيمة (2/443).
[14] تقدم تخريجه قريبًا.
[15] انظر هذه الأقوال في: مجموع الفتاوى (6/487 ـ 488)، وشرح الطحاوية (1/221)، ورؤية الله تعالى وتحقيق القول فيها لأحمد بن ناصر (186) [جامعة أم القرى، ط1، 1411هـ].
[16] مجموع الفتاوى لابن تيمية (6/488).
[17] وانظر أيضًا: دلالة القرآن والأثر على رؤية الله تعالى بالبصر لعبد العزيز الرومي (135 ـ 136) [مكتبة المعارف، الرياض]
[18] انظر مناقشتها في كتاب: رؤية الله تعالى وتحقيق القول فيها لأحمد بن ناصر (186 ـ 188).
[19] درء تعارض العقل والنقل (8/41) [جامعة الإمام محمد بن سعود، ط2، 1411هـ].
[20] مدارج السالكين (3/216) [دار الكتاب العربي، بيروت، ط3، 1416هـ]
[21] انظر: رؤية الله تعالى وتحقيق القول فيها لأحمد بن ناصر (172).
[22] مجموع الفتاوى لابن تيمية (3/390).
[23] أخرجه الترمذي (أبواب تفسير القرآن، رقم 3235)، وأحمد في مسنده (36/422) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وقال الترمذي: حسن صحيح، ونقل عن البخاري مثل ذلك. وصحَّحه الإمام أحمد أيضًا، وقوَّاه ابن خزيمة، كما في تهذيب التهذيب (6/186) [دار الفكر، ط1]. وانظر: إرواء الغليل (رقم 684).
[24] زاد المعاد (3/33 ـ 34) [مؤسسة الرسالة، ط3].
[25] مجموع الفتاوى لابن تيمية (3/390).
[26] بيان تلبيس الجهمية (1/73) [مطبعة الحكومة، مكة المكرمة، ط1، 1392هـ].
[27] أخرجه البخاري (كتاب الرقاق، رقم 6507)، ومسلم (كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، رقم 2683).
[28] الاستذكار (3/93) [دار الكتب العلمية، ط1].
[29] مجموع الفتاوى (6/462 ـ 463).
[30] إعلام الموقعين (1/351) [دار الجيل، 1973].


الإيمان برؤية المؤمن لربه يوم القيامة، يبعث في النفس التأهب لملاقاة الله، وذلك بتحقيق العبادة لله والإكثار من الأعمال الصالحة؛ ليفوز برؤية الله التي هي أعلى مطلب للمؤمن؛ لأنه لا يرى الله إلا أهل الإيمان، وشوق أهل الإيمان إلى رؤية مولاهم الرحيم الرحمن البر الكريم الواسع العليم فوق كل وصف. فمن أيقن برؤية الله في الآخرة دفعه هذا الإيمان إلى السعي لها سعيها المطلوب، وصارت همه الأكبر.



المخالفون في الرؤية طائفتان:
الأولى: من ينفي رؤية الله تعالى في الآخرة، وهم الجهمية[1] والمعتزلة[2] والروافض[3] والخوارج[4] فقد ذهبوا جميعًا إلى إنكار رؤية الله في الآخرة، وعدم تجويزها بحال.


[1] انظر: نقض الدارمي على المريسي (1/359) [مكتبة الرشد، ط1، 1418هـ].
[2] شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار (232) [مكتبة وهبة، القاهرة، ط3، 1416هـ].
[3] انظر على سبيل المثال: رسائل المرتضى (3/11) [مطبعة الخيام، قم].
[4] انظر: الإنصاف فيما يجب اعتقاده للباقلاني (242) [عالم الكتب، لبنان، ط1، 1407هـ]، وشرح الطحاوية لابن أبي العز (1/207 ـ 208).


عمدة النفاة هو تعلقهم ببعض الشبه، ولعل أبرزها تعلقهم الهزيل بقوله تعالى: {قَالَ لَنْ تَرَانِي} الآية، من قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف: 143] .
فقالوا: إن قوله تعالى: {قَالَ لَنْ تَرَانِي} يدل على نفي الرؤية. وهذا غير صحيح؛ بل الآية تدل على الرؤية لما يلي:
الأول: أن موسى كليم الله سأل ربه أن يراه، ولا يظن به أن يسأل ما لا يجوز على الله.
الثاني: أن الله لم ينكر عليه سؤاله، ولو كان سؤاله منكرًا لأنكره عليه كما أنكر على نوح سؤاله نجاة ابنه من الغرق، فدل ذلك على جواز الرؤية.
الثالث: أن الله أجابه بقوله: {لَنْ تَرَانِي} ولم يقل له: إني لست بمرئي أو: إني لا أرى، أو لا تجوز رؤيتي، والفرق بين الإجابتين واضح لمن تأمله.
الرابع: أن الله علَّق رؤيته بأمر ممكن وهو استقرار الجبل، فإن الله قادر على أن يثبت الجبل مكانه، ولو كانت رؤية الله مستحيلة لما علقها به.
الخامس: أن الله تجلى للجبل وهو جماد لا ثواب له ولا عقاب، فكيف لا يتجلى لأنبيائه ورسله وأوليائه المتقين؟[1].
السادس: أن الرؤية المنفية هنا في الآية هي الرؤية الدنيوية، والرؤية التي أثبتها أهل السُّنَّة بناء على النصوص المتقدمة هي الرؤية الأخروية، فلا تعارض بين الآية وبين القول برؤية الله في الآخرة.
هذا كله إضافة إلى النصوص الصريحة التي تقدمت تحت فقرة (الأدلة) على ثبوت رؤية الله في الآخرة.
الطائفة الثانية: من يزعم أن الله يرى في الدنيا وأنه يسامر ويحاكي بعض الناس[2].


[1] انظر: حادي الأرواح (197) وما بعدها.
[2] انظر: مقالات الإسلاميين للأشعري (171).


لا شكَّ أن هذا القول ـ وإن لم يذكر لنا أبو الحسن الأشعري قائله ـ فاسد؛ لمصادمته النص والإجماع، أما النص فلما ثبت عن المعصوم صلّى الله عليه وسلّم؛ أنه قال: «تعلموا أنه لن يرى أحد منكم ربه عزّ وجل حتى يموت»[1].
وأما الإجماع فقد نقله بعض أهل العلم:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: «أجمع سلف الأمة وأئمتها على أن المؤمنين يرون الله بأبصارهم في الآخرة، وأجمعوا على أنهم لا يرونه في الدنيا بأبصارهم»[2].
وقال ابن أبي العز الحنفي: «واتفقت الأمة على أنه لا يراه أحد في الدنيا بعينه، ولم يتنازعوا في ذلك إلا في نبيِّنا صلّى الله عليه وسلّم خاصة: منهم من نفى رؤيته بالعين، ومنهم من أثبتها له صلّى الله عليه وسلّم»[3].
فرؤية الله في الدنيا لا تقع لأحد في الدنيا، ومن ادعاها فهو كاذب.
وأما الأشاعرة وإن كانوا يثبتون الرؤية بشكل عام، إلا أن متأخريهم خالفوا معتقد أهل السُّنَّة من وجهين:
الوجه الأول: أنهم قيدوا الرؤية بما يدل على نفيها، وهو زعمهم أنه يرى لا في جهة، لا أمام الرائي ولا خلفه ولا يمينه ولا يساره ولا فوقه ولا تحته وهذا نفي محض.
الوجه الثاني: أن بعض الأشاعرة نفى كون الرؤية نعيمًا يتلذذ ويتنعم به المؤمنون.
وهذا كله مخالف لصريح الأدلة التي سار على مقتضاها سلف الأمة.


[1] أخرجه مسلم (كتاب الفتن وأشراط الساعة، رقم 169).
[2] مجموع الفتاوى لابن تيمية (6/512).
[3] شرح الطحاوية لابن أبي العز (1/222).


1 ـ «التوحيد» (ج2)، لابن خزيمة.
2 ـ «حادي الأرواح»، لابن القيِّم.
3 ـ «الحجة في بيان المحجة» (ج2)، لأبي القاسم الأصبهاني.
4 ـ «رؤية الله تعالى وتحقيق الكلام فيها»، لأحمد بن ناصر آل حمد.
5 ـ «رؤية النبي صلّى الله عليه وسلّم لربه»، لمحمد بن خليفة التميمي.
6 ـ «رسالة إلى أهل الثغر»، لأبي الحسن الأشعري.
7 ـ «شرح الطحاوية» (ج1)، لابن أبي العز.
8 ـ كتاب «الرؤية»، للدارقطني.
9 ـ كتاب «السُّنَّة»، لابن أبي زمنين.
10 ـ «نقض الإمام أبي سعيد عثمان بن سعيد على المريسي الجهمي العنيد فيما افترى على الله عزّ وجل من التوحيد» (ج1).