الرفع: يقال تارة في الأجسام الموضوعة إذا أعليتها عن مقرها، نحو قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [الرعد: 2] ، وتارة في البناء إذا طولته، نحو قوله: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} [البقرة: 127] ، وتارة في الذكر إذا نوهته، نحو قوله: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ *} [الشرح: 4] ، وتارة في المنزلة إذا شرفتها، نحو قوله: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الزخرف: 32] [1].
[1] ينظر: مفردات ألفاظ القرآن (360) [دار القلم، ط1]، وعمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ (2/116) [عالم الكتب، ط1، 1414هـ].
قال الله : {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ *} [آل عمران] ، وقال تعالى: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً *بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا *} [النساء] ، وقال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا *} [النساء] ، وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا} [الزخرف: 61] .
قال أبو الحسن الأشعري: «أجمعت الأمة على أن الله رفع عيسى إلى السماء»[1].
وقال ابن القيِّم: «بعث الله محمدًا صلّى الله عليه وسلّم بما أزال الشبهة في أمره، وكشف الغمة، وبرّأ المسيح وأُمَّه من افتراء اليهود وبهتهم، وكذبهم عليهما، ونزه ربُّ العالمين وخالق المسيح وأُمَّه مما افتراه عليه المثلثة عبّاد الصليب وأن ربَّه تعالى أكرم عبده ورسوله ونزَّهه وصانه أن ينال إخوان القردة منه ما زعمته النصارى أنهم نالوه منه؛ بل رفعه إليه مؤيدًا منصورًا لم يشكه أعداؤه بشوكة، ولا نالته أيديهم بأذى فرفعه إليه وأسكنه سماءه، وسيعيده إلى الأرض ينتقم به من مسيح الضلال وأتباعه، ثم يكسر به الصليب، ويقتل به الخنزير، ويعلي به الإسلام، وينصر به ملة أخيه، وأولى الناس به محمد بن عبد الله عليهما أفضل الصلاة والسلام»[2].
[1] الإبانة عن أصول الديانة (424) [دار الفضيلة، ط1، 1432هـ].
[2] هداية الحيارى (384 ـ 385) [عالم الفوائد، ط1].
ـ المراد بالتوفي المذكور في آية آل عمران:
هي وفاة صغرى والمراد بها: النوم، وعلى هذا القول جمهور المفسرين[1]. وكانت العرب تسمي النوم وفاةً، والانتباه حياة، قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمّىً ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ *} [الأنعام] ، وقال جلّ جلاله: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ *} [الزمر] ، فذكر في هاتين الآيتين الوفاتين: الصغرى والكبرى؛ فالصغرى هي النوم، والكبرى هي الموت الذي لا قيام بعده إلا عند البعث.
وعن حذيفة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد أن ينام قال: «باسمك اللَّهُمَّ أموت وأحيا» ، وإذا استيقظ من منامه قال: «الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور» [2].
وقد ثبت بالأدلة القطعية أن الله توفى المسيح عليه السلام ورفعه إليه، وثبت أنه عليه السلام ينزل في آخر الزمان في هذه الأمة حكمًا عدلاً وإمامًا مقسطًا، وأن نزوله من أشراط الساعة، ودلالة على قربها، كما قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا} [الزخرف: 61] ، قال ابن كثير: «أي: أمارة ودليل على وقوع الساعة، قال مجاهد: أي: آية للساعة خروج عيسى ابن مريم قبل يوم القيامة. وهكذا روي عن أبي هريرة، وابن عباس، وأبي العالية، وأبي مالك، وعكرمة، والحسن وقتادة، والضحاك، وغيرهم»[3]. وأنه عليه السلام إذا نزل يقضي على الدجال، ويقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ويضع الجزية فلا يقبل من أحد إلا الإسلام، ويؤمن به أهل الكتاب، كما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا *} [النساء] ، ويبقى ما شاء الله له أن يعيش، ثم يتوفاه الله الوفاة الكبرى، وهذا يدل على أنه لا يزال حيًّا عليه السلام حين رفعه الله تعالى، وأن وفاته وفاة قبض.
قال ابن تيمية: «من فارقت روحه جسده لم ينزل جسده من السماء، وإذا أحيي فإنه يقوم من قبره. وأما قوله تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [آل عمران: 55] ، فهذا دليل على أنه لم يعن بذلك الموت؛ إذ لو أراد بذلك الموت لكان عيسى في ذلك كسائر المؤمنين؛ فإن الله يقبض أرواحهم ويعرج بها إلى السماء فعلم أن ليس في ذلك خاصية. وكذلك قوله: {وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [آل عمران: 55] ، ولو كان قد فارقت روحه جسده لكان بدنه في الأرض كبدن سائر الأنبياء أو غيره من الأنبياء. وقد قال تعالى في الآية الأخرى: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ} [النساء] ، فقوله هنا: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ} يبيِّن أنه رفع بدنه وروحه، كما ثبت في «الصحيح» أنه ينزل بدنه وروحه[4]؛ إذ لو أريد موته لقال: وما قتلوه وما صلبوه؛ بل مات، فقوله: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ} يبين أنه رفع بدنه وروحه، كما ثبت في «الصحيح» أنه ينزل بدنه وروحه، ولهذا قال من العلماء: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ}؛ أي: قابض روحك وبدنك، يقال: توفيت الحساب واستوفيته، ولفظ التوفي لا يقتضي نفسه توفي الروح دون البدن، ولا توفيهما جميعًا، إلا بقرينة منفصلة.
وقد يراد به توفي النوم؛ كقوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 42] ، وقوله: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [الأنعام: 60] ، وقوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} [الأنعام: 61] »[5].
[1] ينظر: تفسير الطبري (3/291) [دار الفكر، 1405هـ]، والجامع لأحكام القرآن (5/153) [مؤسسة الرسالة، ط1، 1427هـ]، وتفسير ابن كثير (2/47) [دار طيبة، ط4، 1428هـ].
[2] أخرجه البخاري (كتاب الدعوات، رقم 6312).
[3] تفسير ابن كثير (7/236) [دار طيبة، ط4].
[4] كما عند البخاري (كتاب البيوع، رقم 2222)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 155)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: «والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكمًا مقسطًا، فيكسر الصليب...» الحديث.
[5] مجموع الفتاوى (4/322 ـ 323) [مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، 1416هـ].
أنكرت القاديانية رفع عيسى عليه السلام بزعم أنه لا مسيح إلا مدعي النبوة: غلام أحمد القادياني[1]، في حين زعمت اليهود وكذلك النصارى أن المسيح قتل على الصليب، والخلاف بينهما: أن اليهود ترى بشريته وأنه مدعٍ للنبوة نال ما يستحقه من الصلب والموت. في حين ترى النصارى أن المسيح إله ابن إله قدمه الأب ليصلب فداء للبشر عن خطيئة أبيهم آدم، ثم إنه في ثالث يوم بعد الصلب يصعد إلى السماء بجانب أبيه. وقد كذبهم الله تعالى، فبيَّن أن عيسى عليه السلام لم يمت؛ بل رفعه الله إليه، فقال: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً *بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا *} [النساء] ، كما بيَّن تعالى أن كل إنسان مسؤول عن عمله، ومحاسب عليه، فكيف يتحمل إنسان ذنوب ومعاصي إنسان آخر، فقال : {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] ، وقال: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ *} [المدثر] ، وقال: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ *وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ *} [الزلزلة] .
[1] ينظر: التصريح بما تواتر في نزول المسيح (38 ـ 55) [دار السلام، ط4، 1402هـ].
1 ـ «الإصابة في تمييز الصحابة» (ج7)، لابن حجر.
2 ـ «الإعلام بحكم عيسى عليه السلام»، للسيوطي.
3 ـ «إقامة البرهان على نزول عيسى في آخر الزمان»، لعبد الله الغماري.
4 ـ «البراهين والأدلة الكافية في القناعة برفع المسيح وأن نزوله من أشراط الساعة»، لسليمان بن عبد الرحمن بن حمدان.
5 ـ «تحية الإسلام في حياة عيسى عليه السلام»، لمحمد أنور الكشميري.
6 ـ «التصريح بما تواتر في نزول المسيح»، لمحمد أنور شاه الكشميري.
7 ـ «التعليق الصبيح على مشكاة المصابيح» (ج6)، لمحمد إدريس الكاندهلوي.
8 ـ «رفع عيسى حيًّا ونزوله وقتله الدجال»، لمحمد خليل هراس.
9 ـ «عقيدة الإسلام في حياة عيسى عليه السلام»، لمحمد أنور الكشميري.
10 ـ «فتاوى وأحكام في نبي الله عيسى عليه السلام»، لعبد الله بن جبرين.
11 ـ «القيامة الصغرى»، لعمر الأشقر.