حرف الراء / الرهبة

           

قال ابن فارس رحمه الله: «الراء والهاء والباء أصلان: أحدهما يدل على خوف، والآخر على دقة وخفة. فالأول الرهبة: تقول: رهبت الشيء رَهبًا ورُهبًا ورهبة. والترهب: التعبد، ومن الباب الإرهاب: وهو قدع الإبل من الحوض وذيادها»[1].
الرهبة: الخوف والفزع، من رهِب يرهب الشيء رهبة ورُهبًا ورَهبًا؛ أي: خافه، ويقال: أرهبه واسترهبه: إذا أخافه، والراهب: واحد رهبان النصارى، ويطلق على المنقطع للعبادة في الصومعة[2].


[1] مقاييس اللغة (2/447) [دار الجيل، 1420هـ].
[2] انظر: الصحاح (1/140) [دار العلم للملايين، ط3]، ولسان العرب (5/337) [دار إحياء التراث العربي، ط3]، وترتيب القاموس المحيط (2/398) [دار عالم الكتب، ط4، 1417هـ].


هي الإمعان في الهرب من المكروه[1]، أو الخوف والفزع المثمر للهرب من المخوف، فهي خوف مقرون بعمل[2].


[1] انظر: مدارج السالكين (1/474) [مؤسسة المختار، ط1، 1422هـ].
[2] انظر: شرح ثلاثة الأصول لابن عثيمين (59) [دار الثريا]، وتيسير الوصول إلى شرح ثلاثة الأصول لعبد المحسن القاسم (84) [ط1، 1427هـ].


الوجل، الخوف، الخشية، الرهبة.



الرهبة من الله عزّ وجل: نوع من أجلّ العبادات القلبية، التي يتقرب بها إلى الله عزّ وجل، فلا يجوز صرفها لغير الله تعالى، ومن صرفه لغيره فقد أشرك الشرك الأكبر[1].


[1] انظر: ثلاثة الأصول مع حاشية ابن قاسم (34 ـ 35، 39) [ط5، 1407هـ]، ومجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (4/228) [دار الوطن، الرياض، 1413هـ].


حقيقة الرهبة: هي الفزع والخوف من المكروه؛ كعذاب الله تعالى وعقابه، والسعي بالعمل الذي ينجي منه، فهي خوف مثمر للهرب من المخوف، مقرون بالعمل[1].


[1] انظر: مدارج السالكين (1/474)، وشرح ثلاثة الأصول لابن عثيمين (59)، وتيسير الوصول إلى شرح ثلاثة الأصول للقاسم (84).


الرهبة من الله: عبادة عظيمة من العبادات التي يجب أن تكون خالصة لله عزّ وجل، وهي واجبة على كل عبد، وتتبين منزلتها في بيان أن الواجب على العبد أن يجمع بينها وبين الرغبة.
فتارة يمده الرجاء والرغبة فيكاد أن يطير شوقًا إلى الله، وطورًا يقبضه الخوف والرهبة فيكاد أن يذوب من خشية الله تعالى، فهو دائب في طلب مرضاة ربه مقبل عليه، خائف من عقوباته ملتجئ منه إليه، عائذ به منه راغب فيما لديه[1].


[1] انظر: معارج القبول (2/438) [دار ابن القيم، ط1].


أهمية الرهبة تتضح في أن المسلم لا يستغني في سيره إلى الله من أمرين؛ هما: الرغبة والرهبة، فبالرهبة يترك المحظور، وبالرغبة يأتي بالمأمور، وبالرهبة يسلم المسلم من الأمن من مكر الله، وبالرغبة يسلم من القنوط من رحمة الله.



وردت الأدلة من الكتاب والسُّنَّة على وجوب إفراد الله عزّ وجل بالرهبة.
فمن الكتاب: قوله تعالى: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ *} [البقرة] ، وقوله: {وَقَالَ اللَّهُ لاَ تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ *} [النحل] ، وقوله: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ *} [الأنبياء] .
ومن السُّنَّة: عن البراء بن عازب رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا أخذت مضجعك فتوضّأ وضوءك للصّلاة، ثمّ اضطجع على شقّك الأيمن ثمّ قل: اللَّهُمَّ إنّي أسلمت وجهي إليك، وفوّضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلاّ إليك، آمنت بكتابك الّذي أنزلت، وبنبيّك الّذي أرسلت، واجعلهنّ من آخر كلامك، فإن متّ من ليلتك متّ وأنت على الفطرة»[1].
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إني صليت صلاة رغبة ورهبة، سألت الله عزّ وجل لأمتي ثلاثًا، فأعطاني اثنتين ورد علي واحدة، سألته أن لا يسلط عليهم عدوًّا من غيرهم، فأعطانيها، وسألته أن لا يهلكهم غرقًا، فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم، فردها علي»[2].


[1] أخرجه البخاري (كتاب الوضوء، رقم 247)، ومسلم (كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، رقم 2710).
[2] أخرجه ابن ماجه (كتاب الفتن، رقم 3951)، وأحمد (36/400) [مؤسسة الرسالة، ط1]، قال البوصيري في مصباح الزجاجة (4/170): هذا إسناد صحيح رجاله ثقات، وابن خزيمة (كتاب الصلاة، رقم 1218)، من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه. وصحَّحه الالباني في الصحيحة بشواهده انظر: السلسلة الصحيحة (رقم 1724) [مكتبة المعارف، الرياض، 1415هـ].


قال ابن تيمية رحمه الله: «ولا يتصور أن يخلو داع لله ـ دعاء عبادة أو دعاء مسألة ـ من الرغب والرهب من الخوف والطمع»[1].
وقال ابن القيِّم رحمه الله: «إذا أراد بعبده خيرًا، وفَّقه لاستفراغ وسعه، وبذل جهده في الرغبة والرهبة إليه، فإنهما مادتا التوفيق، فبقدر قيام الرغبة والرهبة في القلب يحصل التوفيق»[2].
وقال محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: «وأنواع العبادة التي أمر الله بها مثل: الإسلام، والإيمان، والإحسان والخوف والرجاء، والتوكل، والرغبة والرهبة وغير ذلك من أنواع العبادة التي أمر الله بها كلها لله تعالى، والدليل قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا *} [الجن] ، فمن صرف منها شيئًا لغير الله فهو مشرك كافر»[3].


[1] مجموع الفتاوى (10/240) [مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، ط2، 1425هـ].
[2] شفاء العليل (225) [دار التراث، القاهرة].
[3] ثلاثة الأصول مع الحاشية لابن قاسم (34 ـ 35، 39).


ـ مسألة: الرهبة من غير الله تعالى:
الرهبة: عبادة من أجلِّ العبادات القلبية، التي يتقرب بها إلى الله تعالى، ومما هو متقرر أن صرف أي نوع من أنواع العبادات لغير الله تعالى يعتبر شركًا أكبرَ مخرجًا من الملة، والرهبة المقصودة بها هنا خوف العبادة؛ كمن يخاف من ميت أن يضره، أو غائب، ونحوه، وليس المقصود بها الرهبة الطبيعية التي هي من فطرة الخليقة.
قال محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: «وأنواع العبادة التي أمر الله بها مثل: الإسلام، والإيمان، والإحسان والخوف والرجاء، والتوكل، والرغبة والرهبة وغير ذلك من أنواع العبادة التي أمر الله بها كلها لله تعالى، والدليل قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا *} [الجن] ، فمن صرف منها شيئًا لغير الله فهو مشرك كافر»[1].


[1] المرجع السابق.


الفرق بين الرهبة والخوف:
أن الرهبة طول الخوف واستمراره، ومن ثم قيل للراهب: راهب؛ لأنه يديم الخوف[1].
وذكر ابن القيِّم: أن الخوف اضطراب القلب وحركته من تذكر المخوف.
وقيل: الخوف قوة العلم بمجاري الأحكام، وهذا سبب الخوف، لا أنه نفسه.
وقيل: الخوف هرب القلب من حلول المكروه عند استشعاره وأما الرهبة فهي الإمعان في الهرب من المكروه، وهي ضد الرغبة التي هي سفر القلب في طلب المرغوب فيه[2].


[1] الفروق اللغوية للعسكري (241) [دار العلم والثقافة، القاهرة].
[2] مدارج السالكين (1/508) [دار الكتاب العربي، بيروت، ط3، 1416هـ] بتصرف.


من ثمرات الرهبة: أنها هي والرغبة مادتا التوفيق والنجاح، فهما تبعثان على السير إلى الله تعالى، وطلب مرضاته ومغفرته، والطمع فيما عنده، فيحصل المطلوب، ويزول المكروه.
قال ابن القيِّم رحمه الله: «إذا أراد بعبده خيرًا، وفَّقه لاستفراغ وسعه، وبذل جهده في الرغبة والرهبة إليه، فإنهما مادتا التوفيق، فبقدر قيام الرغبة والرهبة في القلب يحصل التوفيق»[1].
ومن ثمارها: من رهب من عذاب الله وعقابه أُمِّن، كما أن من رغب فيما عند الله تعالى بصدق وإخلاص أُجر، وأعطي سؤله؛ لأن الله لا يخلف وعده[2].


[1] شفاء العليل (225).
[2] انظر: تيسير الوصول للقاسم (85) بتصرف.


خالف في هذه العبادة بعض غلاة المتصوفة فقالوا: لا نعبد الله رغبة في جنته، ولا رهبة من ناره؛ بل إنما نعبده حبًّا لذاته[1].
هذا القول: باطل بدلالة القرآن؛ حيث إنه مخالف لما ذكره الله عن حال الأنبياء في عبادتهم لله تعالى، كما في قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ *} [الأنبياء] . وقال تعالى مبيِّنًا حال المؤمنين: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ *} [السجدة] .
فمن ادعى عبادة الله بالمحبة وحدها، دون رهبة أو رغبة فهو زنديق؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «من عَبَد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عَبَد الله بالخوف وحده فهو حروري، ومن عَبَده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عَبَده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد، وذلك لأن الحبَّ المجرد تنبسط النفوس فيه حتى تتوسع في أهوائها إذا لم يزعها وازع الخشية لله، حتى قالت اليهود والنصارى: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] ، ويوجد في مدعي المحبة من مخالفة الشريعة ما لا يوجد في أهل الخشية، ولهذا قرن الخشية بها في قوله: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ *مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَانَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ *ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ *} [ق] »[2].


[1] انظر: إحياء علوم الدين (4/210) [دار إحياء التراث العربي، بيروت]، والتصوف بين الحق والخلق لمحمد فهر شقفة (58) [الدار السلفية، الكويت، ط3].
[2] مجموع الفتاوى (10/81).


1 ـ «استنشاق نسيم الأنس من نفحات رياض القدس»، لابن رجب الحنبلي.
2 ـ «التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار»، لابن رجب الحنبلي.
3 ـ «تيسير الوصول إلى ثلاثة الأصول»، لعبد المحسن القاسم.
4 ـ «حاشية ثلاثة الأصول»، لعبد الرحمن بن قاسم.
5 ـ «شرح ثلاثة الأصول»، لابن عثيمين.
6 ـ «زيارة القبور والاستنجاد بالمقبور»، لابن تيمية.
7 ـ «عدة الصابرين»، لابن القيِّم.
8 ـ «قاعدة في التوسل والوسيلة»، لابن تيمية.
9 ـ «طريق الهجرتين وباب السعادتين»، لابن القيِّم.
10 ـ «المستدرك على مجموع الفتاوى»، لابن تيمية.
11 ـ «مدارج السالكين»، لابن القيِّم.