زكريا: أصله بالعبرانية: زخريا، هو زخرياه، ومعناه: اللهَ ذكرَ[1]؛ أي: اللهَ يذكر، أو اللهَ قد ذكر. وذكر الدكتور ف. عبد الرحيم في تعليقه على المعرّب للجواليقي أن «معناه: بهوه يذكر»[2].
[1] كذا ذكر الدكتور ف. عبد الرحيم وأحال إلى إنجيل لوقا. انظر: الإعلام بأصول الأعلام الواردة في قصص الأنبياء للدكتور عبد الرحيم (99) [دار القلم، ط1]، وجملة: (الله ذكر) لم تضبط بالشكل في المصدرين الذين ذكراها، وهما: المعرّب للجواليقي، والإعلام بأصول الأعلام للدكتور ف. عبد الرحيم. والظاهر أنها هكذا: (اللهَ ذكرَ)، قدم فيها المفعول، وهو سائغ في اللغة ويفيد التخصيص كما هو معلوم.
[2] المعرّب للجواليقي (349) [دار القلم، دمشق، ط1، 1410هـ] تعليقه على الفقرة رقم (314).
ذكر الله زكريا عليه السلام ضمن أنبيائه ورسله عليهم السلام، فقال عزّ وجل: {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ *} [الأنعام] .
قال ابن كثير: «وهذه تسمية الأنبياء الذين نصَّ على أسمائهم في القرآن، وهم: آدم وإدريس... وزكريا ويحيى وعيسى، عليهم الصلاة والسلام»[1].
كذلك نزول الوحي عليه، كما في قوله تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ *فَنَادَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ *قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ *قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ *} [آل عمران] .
وقوله سبحانه: {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيًّا *فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا *} [مريم] .
[1] تفسير ابن كثير (2/469) [دار طيبة، ط2].
توفي نبي الله زكريا مقتولاً[1] مظلومًا، وإليه وإلى أمثاله تشير الآية التالية عند بعض المفسرين، وهي قول الله تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ *} [البقرة] ، قال الشوكاني: «ومن الفريق المقتولين يحيى وزكريا»[2].
[1] انظر: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم (2/13) [دار الكتب العلمية، ط1]، وصحيح (قصص الأنبياء لابن كثير) لسليم الهلالي (448) [دار غراس، ط1، 1422هـ].
[2] فتح القدير للشوكاني (1/130) [دار ابن كثير ودار الكلم الطيب، ط1، 1414هـ].
المسألة الأولى: مهنة زكريا عليه السلام:
كان نبي الله زكريا عليه السلام نجارًا، كما ثبت من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ أنه قال: «كان زكريا نجارًا» [1]، وهذا يعد منقبة وفضيلة له عليه السلام، ولذا عقد النووي ترجمة لهذا الحديث في شرحه لـ«صحيح مسلم» فقال: «باب في فضائل زكريا عليه السلام»[2].
المسألة الثانية: ميراث زكريا:
كان نبي الله زكريا يدعو ربه بأن يهبه من يرثه، وأن لا يُترك فردًا، كما قال الله عنه: {كهيعص *ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا *إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا *قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًا *وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا *يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا *يَازَكَريَا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا *قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا *} [مريم] .
واختلف في هذا الإرث على ثلاثة أقوال:
الأول: أنه إرث علم ودين.
الثاني: أنه إرث مال.
الثالث: أنه إرث مال بالنسبة لزكريا، وإرث علم ودين بالنسبة لآل يعقوب[3].
والراجح: أن هذه الوراثة ليست للمال كما يقوله بعض أهل السُّنَّة[4] والرافضة الذين بنوا عليه القول بمظلومية فاطمة من مال أبيها، وإنما هي وراثة علم ونبوة ودين لأمور:
أحدها: أن زكريا لم يُذكر أنه كان ذا مال؛ بل كان نجارًا يأكل من عمل يده، ومن كان كذلك فلا يجمع مالاً غالبًا، ولا سيما أن الأنبياء عليهم السلام هم أزهد الناس عن الدنيا.
ثانيًا: أن الأنبياء لا يورّثون مالاً؛ لما ثبت عن جماعة من الصحابة منهم: عائشة رضي الله عنها؛ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا نورث؛ ما تركنا فهو صدقة» [5]، فكيف يطلب ولدًا ليرث ماله!؟
ثالثًا: أن النبي أعظم قدرًا وأجلّ منزلة من أن يأنف من وراثة عصباته له، ويحرص على أن يكون له ولد فينفرد بميراثه عنهم، وعليه فيتعين حمل الإرث المذكور هنا على إرث النبوة[6].
قال ابن كثير: «وأما قصة زكريا فإنه عليه السلام من الأنبياء الكرام، والدنيا كانت عنده أحقر من أن يسأل الله ولدًا ليرثه في ماله، كيف وإنما كان نجارًا يأكل من كسب يده»[7].
ويضاف إلى ما تقدم أمر رابع: وهو أن ما جاء في البشارة بيحيى، وما وصف به من النبوة والانقطاع للعبادة، وغيرهما من الخلال الكريمة ليؤكد أن الموروث هو النبوة لا المال، حيث إن الله قد استجاب دعاء زكريا عليه السلام حين خاف من الموالي ـ وهم الأقارب والعصبات ـ أن يغيروا الدين من بعد موته[8]، وقال كما حكاه الله عنه بقوله سبحانه: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا *يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا *} [مريم] ، قال ابن كثير في قوله تعالى: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي}: «فسأل الله ولدًا، يكون نبيًّا من بعده، ليسوسهم بنبوته وما يوحى إليه»[9]. فجاءت البشارة كما قال تعالى: {يَازَكَريَا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا *} [مريم] وقال: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ *} [الأنبياء] ، وقال: {فَنَادَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ *} [آل عمران] ، وقال: {وَحَنَاناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا *وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا *وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا *} [مريم] .
وأما ما جاء عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه من حمله قولَ النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا نورث، ما تركنا فهو صدقة» [10] على الخصوصية به، حيث قال مخاطبًا الرهط: «هل تعلمون أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا نورث، ما تركنا صدقة» يريد بذلك نفسه؟ قالوا: قد قال ذلك»[11] فقد أجاب عنه أهل العلم بأجوبة، منها:
الأول: أن ظاهر الحديث العموم، حيث جاء بصيغة الجمع، فيكون شاملاً للأنبياء، ولا يجوز تخصيصه إلا بدليل، ولا دليل على ذلك، وأقوال الصحابة لا تخصص عموم الحديث على الصحيح.
الثاني: أن قول عمر رضي الله عنه ليس صريحًا في أن الأنبياء سوى النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم يورثون مالاً؛ بل ذكر ما يتعلق بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وهو أنه لا يورث[12].
المسألة الثالثة: كفالته لمريم بنت عمران:
لقد أخبر الله عن زكريا عليه السلام فقال: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ *} [آل عمران] .
فقد نذرت امرأة عمران بما في بطنها من الحمل لخدمة بيت الله وهو بيت المقدس، ولما وضعتها ودخلت بها إلى القائمين على بيت المقدس، اختصموا؛ أيُّهم يكفلها، فاستهم كل من زكريا وأصحابه بأقلامهم على مريم[13]، كما قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ *} [آل عمران] ، فخرج السهم على زكريا، فكفلها ونشأت تحت رعايته، ونبتت نباتًا حسنًا كما قال تعالى: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَناً} [آل عمران: 37] .
[1] أخرجه مسلم (كتاب الفضائل، رقم 2379).
[2] صحيح مسلم (967).
[3] انظر: أضواء البيان للشنقيطي (3/364) [دار الفكر، بيروت، 1415هـ].
[4] انظر: تفسير القرطبي (11/81)، وأضواء البيان (3/362، و364).
[5] أخرجه البخاري (كتاب فضائل أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، رقم 3712)، ومسلم (كتاب الجهاد والسير، رقم 1759).
[6] انظر: تفسير ابن كثير (5/212 ـ 213)، والبداية والنهاية (8/198 ـ 199)، وأضواء البيان (3/364)، وفبهداهم اقتده لعثمان الخميس (428 ـ 429) [دار إيلاف الدولية، ط1، 1431هـ].
[7] البداية والنهاية (8/198).
[8] لمعرفة معنى الموالي وخوفه منهم انظر: تفسير السعدي (489 ـ 490) [مؤسسة الرسالة، ط1، 1420هـ]، وأضواء البيان للشنقيطي (3/365).
[9] تفسير ابن كثير (5/212).
[10] تقدم تخريجه.
[11] أخرجه البخاري (كتاب المغازي، رقم 4033).
[12] انظر: أضواء البيان للشنقيطي (3/362).
[13] انظر: سيرة ابن هشام (1/580) [مطبعة مصطفى البابي الحلبي، ط2]، وتفسير السعدي (966 ـ 967)، والصحيح المسبور في التفسير بالمأثور لحكمت بشير ياسين (1/416) [دار المآثر، المدينة النبوية، ط1].
1 ـ «سيرة ابن هشام» (ج1).
2 ـ «تاريخ دمشق» (ج19)، لابن عساكر.
3 ـ «المنتظم في تاريخ الملوك والأمم» (ج2)، لابن الجوزي.
4 ـ «تفسير ابن كثير» (ج5).
5 ـ «البداية والنهاية» (ج8)، لابن كثير.
6 ـ «تفسير السعدي».
7 ـ «أضواء البيان» (ج3)، للشنقيطي.
8 ـ «فبهداهم اقتده: قراءة تأصيلية في سير وقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام»، لعثمان الخميس.
9 ـ «الأحاديث الصحيحة من أخبار وقصص الأنبياء»، لإبراهيم بن محمد العلي.
10 ـ «الإعلام بأصول الأعلام الواردة في قصص الأنبياء»، للدكتور عبد الرحيم.