حرف الزين / الزندقة

           

الزندقة: لفظ أعجمي معرّب، أُخذ من كلام الفرس وعرِّب. قال ثعلب: «ليس زنديق، ولا فَرِزين من كلام العرب... وليس في كلام العرب: زنديق، وإنما تقول العرب: رجل زَنْدَقٌ وزَنْدَقيّ؛ إذا كان شديد البخل»[1]، والزندقة الاسم، وجمع الزنديق: زنادقة، والهاء في (زنادقة) عوض عن الياء في (زنديق).
وقد اختلف في أصل كلمة (زنديق) بالفارسية، فقيل: هو معرّب (زنده كرد)؛ أي: الذي يقول بدوام الدهر، وقيل: إن الزنديق نسبة إلى (الزند)، وهو تأويل لكتاب «البستاه» الذي جاء به زرادشت إلى الفرس، وكان من أورد في طريقتهم شيئًا بخلاف (البستاه)، وعدل إلى التأويل الذي هو الزند قالوا: هذا زندي، فأضافوه إلى التأويل، وأنه منحرف عن الظواهر من المنزل إلى تأويل هو بخلاف التنزيل، فلما أن جاءت العرب أخذت هذا المعنى من الفرس، وقالوا: زنديق، وعرّبوه.
هذه هي أهم الأقوال في أصل كلمة (زنديق) في الفارسية، ولعل أقرب هذه الأقوال إلى الصواب هو القول الثاني، والله أعلم[2].


[1] لسان العرب (10/147) [دار الفكر، ط1].
[2] الصّحاح (4/1489) [دار العلم للملايين، ط3]، والمعرب من الكلام الأعجمي للجواليقي (167) [دار الكتب المصرية، القاهرة، ط3، 1416هـ]، وتعريب الكلمة الأعجمية لابن كمال باشا (71) [الجفان والجابي، ط1، 1991م].


تعدّدت إطلاقات لفظ: (الزندقة) واختلف المراد بها، فأطلق على عدد من الفرق كالمانوية، والثنوية، والدهرية، والسبئية، والجهمية، والإسماعيلية، كما أطلق ذلك على بعض أهل المجون والخلاعة وغيرهم.
وقد اختلف العلماء في تعريف الزنديق، تبعًا لتعدد إطلاقاته، وذلك كما يلي:
1 ـ قيل: الزنديق هو: «الذي لا ينتحل دينًا وينكر الشرائع»[1]، قاله النووي وغيره.
2 ـ وقيل: هو: الثنوي القائل بوجود إلهين، وبه قال الجوهري وغيره[2].
3 ـ قيل: إن لفظ الزنديق أخص من لفظ المنافق؛ حيث يطلق على: المنافق إذا ظهر منه ما يدل على نفاقه؛ سواء كان ذلك بقول أو فعل؛ كأن يؤلف كتابًا ينال فيه من الإسلام، أو يقول قصيدة، أو نحو ذلك مما يتبين به نفاقه، وبهذا قال ابن حجر وغيره[3].
4 ـ وقيل: هو: المنافق، الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر سواء أبطن اليهودية أو النصرانية أو غيرهما، وهذا هو المشهور عند الفقهاء في كلامهم على قبول توبة الزنديق.
قال ابن تيمية رحمه الله: «فأما الزنديق الذي تكلم الفقهاء في قبول توبته في الظاهر، فالمراد به عندهم: المنافق الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر»[4].
وهذا القول الأخير هو القول الراجح في تعريف الزنديق.


[1] شرح صحيح مسلم (1/207)، وانظر: فتح الباري (12/271) [دار الريان للتراث، ط2، 1409هـ].
[2] انظر: الصحاح (4/1489)، ودائرة المعارف للبستاني (9/270).
[3] انظر: فتح الباري (12/271).
[4] بغية المرتاد (338) [العلوم والحكم، ط2، 1415هـ].


لمّا كان أصل الزندقة في الفارسية هو الانحراف عن الظواهر من الكتاب المنزل إلى تأويل هو بخلاف التنزيل، وكان من يفعل ذلك يدعي أنه لم ينحرف عن الكتاب المنزل، أُطلق في الاصطلاح على كل من يدَّعي الإسلام ويبطن غيره مما يظهر أثره على بعض أقواله وأفعاله.



كلمة (الزندقة) معربة عن الفارسية، وهي منسوبة إلى الأخذ بكتاب الزند، الذي هو تأويل لكتابهم البستاه ـ كما تقدم ـ، فكان كل من أخذ بذلك نسب إليه فقيل: (زندي)، فلما جاء الإسلام، والتقى العرب بالفرس أخذوا ذلك المعنى عنهم، وقالوا: زنديق وعربوه.



ـ المنافق.



اتفق الفقهاء على أن الزندقة كفر، فمن كان مسلمًا ثم تزندق، بأن صار يبطن الكفر ويظهر الإسلام، أو صار لا يتدين بدين، فإنه يعتبر كافرًا[1].


[1] انظر: كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي (1/913) [مكتبة لبنان، ط1، 1996م]، والموسوعة الفقهية الكويتية (24/49) [مطابع دار الصفوة، ط1].


الزندقة تطلق على معان عدة:
ـ قيل: تطلق على الذي لا يؤمن بالحقّ تعالى وبالآخرة.
ـ وأطلقت على الثنوية القائلين بإلهين: إله النور، وإله الظلمة.
ـ وتطلق على من خرج من الإسلام إلى غيره.
ـ وتطلق على الملاحدة الذين ينكرون الآخرة والربوبية.
ثم صار بعد ذلك اسمًا علمًا في الفقه يدل على من يظهر الإسلام ويبطن الكفر، سواء كان كفره باعتقاد المجوسية الفارسية، أم بالدهرية، أم بغير ذلك[1].


[1] انظر: فتح الباري (12/282 ـ 283)، والعين للفراهيدي (5/357) [دار ومكتبة الهلال]، وكشاف اصطلاحات الفنون (1/913)، وكتاب التعريفات الاعتقادية لسعد آل عبد اللطيف (191) [مدار الوطن، ط2، 1432هـ]، ومصطلحات في كتب العقائد للحمد (93).


قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ *} [البقرة] ، وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ *} [المنافقون] ، وقال تعالى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ *} [التوبة] ، وقال تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [البقرة: 217] .
أقوال أهل العلم:
قال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله: «والمقصود هنا: أن (الزنديق) في عُرف هؤلاء الفقهاء هو المنافق الذي كان على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم. وهو أن يظهر الإسلام ويبطن غيره سواء أبطن دينًا من الأديان؛ كدين اليهود والنصارى أو غيرهم، أو كان معطلاً جاحدًا للصانع والمعاد والأعمال الصالحة. ومن الناس من يقول: الزنديق هو الجاحد المعطل. وهذا يسمى الزنديق في اصطلاح كثير من أهل الكلام والعامة ونقلة مقالات الناس»[1].
وقال أيضًا: «وأيضًا فلفظ الزندقة لا يوجد في كلام النبي صلّى الله عليه وسلّم كما لا يوجد في القرآن، وهو لفظ أعجمي معرب أخذ من كلام الفرس بعد ظهور الإسلام وعُرب، وقد تكلم به السلف والأئمة في توبة الزنديق ونحو ذلك، فأما الزنديق الذي تكلم الفقهاء في قبول توبته في الظاهر فالمراد به عندهم: المنافق الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر، وإن كان مع ذلك يصلي ويصوم ويحج ويقرأ القرآن، وسواء كان في باطنه يهوديًّا أو نصرانيًّا أو مشركًا أو وثنيًّا، وسواء كان معطلاً للصانع وللنبوة، أو للنبوة فقط، أو لنبوة نبينا صلّى الله عليه وسلّم فقط، فهذا زنديق وهو منافق، وما في القرآن والسُّنَّة من ذكر المنافقين يتناول مثل هذا بإجماع المسلمين»[2].
وقال ابن حجر رحمه الله ـ بعد أن ذكر الخلاف في تعريف الزنديق ـ: «وقد قيل: إن سبب تفسير الفقهاء الزنديق بما يفسر به المنافق، قول الشافعي رحمه الله: وأي كفر ارتد إليه مما يظهر أو يسر من الزندقة وغيرها، ثم تاب سقط عنه القتل، وهذا لا يلزم منه اتحاد الزنديق والمنافق؛ بل كل زنديق منافق من غير عكس»[3].


[1] مجموع الفتاوى (7/471 ـ 472) [مجمع الملك فهد لطباعة المصحف، 1416هـ].
[2] بغية المرتاد (338).
[3] فتح الباري (12/271).


ـ أسباب الزندقة:
لظهور الزندقة في بلاد المسلمين أسباب كثيرة، أهمها ما يلي:
1 ـ الحقد والعداوة على الإسلام وأهله.
2 ـ حركة الترجمة وانتشار علوم الفلاسفة والصابئة.
3 ـ البحث في علم الكلام وترك الأثر.
4 ـ الانغماس في اللهو والمجون.
ـ أساليب الزنادقة:
سلك الزنادقة في نشر زندقتهم أساليب ماكرة، أهمها ما يلي:
1 ـ التستر بحب آل البيت والدفاع عنهم.
2 ـ انتحال النسب النبوي.
3 ـ الوضع في الحديث النبوي.
4 ـ استمالة العوام بالحيل والشعوذة.
5 ـ إشاعة الفساد الخلقي ونشر المغريات.
ـ حكم توبة الزنديق:
اختلف العلماء في حكم توبة الزنديق، وهذا الخلاف يتوجه إلى ما يتعلق بالأحكام الدنيوية الظاهرة من القتل أو عدمه، وثبوت أحكام الإسلام في حقه، ونحو ذلك من الأحكام.
أما ما يتعلق بأمور الآخرة، وقبول الله تعالى لتوبة الزنديق في الباطن، فذلك راجع إلى الله سبحانه وتعالى، فإذا تاب الزنديق توبةً صادقةً من قلبه، فإن الله عزّ وجل يقبل توبته، وينفعه ذلك في الآخرة، وهذا مما لا خلاف فيه بين العلماء[1].
وقد تعددت أقوال العلماء في حكم توبة الزنديق ما بين القبول والردّ، والتفصيل بين من تاب قبل القدرة عليه ومن تاب بعد ذلك، وبين الداعية وغير الداعية، وغير ذلك من الأقوال الكثيرة[2].
وفيما يلي أهم الأقوال في هذه المسألة وذلك كما يلي:
القول الأول: القول بقبول توبة الزنديق مطلقًا، وإجرائه مجرى المرتد عن دين الإسلام الذي لا يقتل إلا بعد استتابته، وقد نسب ابن حجر هذا القول إلى جمهور العلماء[3].
وقد رجح هذا القول جمع من المحققين منهم: ابن المنذر، والنووي، وابن حجر، والشنقيطي، وغيرهم.
القول الثاني: القول بعدم قبول توبة الزنديق مطلقًا؛ بل يقتل بكل حال، وقالوا: إن الزنديق لا يطلع على صلاحه؛ لأن الفساد إنما أتى مما أسره، وذلك أن نفاقه الباطل دليل على أن توبته لا تعرف، فقد يظهر التوبة والندم، غير أنه لا يتحقق منه الصدق في ذلك؛ لعدم الاطلاع على صلاحه. وهذا القول هو المشهور عن الإمام مالك وأصحابه.
القول الثالث: القول بالتفصيل فيفرق بين من تاب قبل القدرة عليه، ومن أظهر ذلك بعد القدرة عليه، وهذا القول هو إحدى الروايات في مذهب الحنفية والمالكية والحنابلة، وقد رجح هذا القول وانتصر له شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيِّم رحمهما الله تعالى[4].
والحاصل: أن هذا القول هو الذي تؤيده الأدلة، وتجتمع عليه النصوص، فيعمل بها جميعًا من غير إسقاط لشيء منها[5].


[1] انظر: المغني لابن قدامة (12/271).
[2] انظر: دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب (63).
[3] انظر: دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب (63)، والرد على الجهمية (185).
[4] انظر: دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب (63)، وإعلام الموقعين (3/142).
[5] انظر: دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب (63)، وإعلام الموقعين (3/144 ـ 145).


الفرق بين الزنديق والملحد:
1 ـ الزنديق قد يدخل في اسم الملحد إذا كان ما يبطنه هو الإلحاد الباطن، وإن كان منتسبًا لدين الإسلام في الظاهر.
2 ـ الزنديق يبطن معتقده الفاسد، وإن كان قد يصدر منه ما يدل على ما يبطن، وأما الملحد فهو مظهر لذلك.
3 ـ الزنديق أخطر من الملحد في الكيد للإسلام؛ لكونه يدعي الإسلام ويعيش في أوساط المسلمين، بخلاف الملحد؛ فإن أمره ظاهر معلوم.



ـ شيوع الزّندقة يغري ضعاف الإيمان بالانزلاق إليها.
ـ انتشار المعصية، فليس بعد الكفر ذنب، ومن ثمّ يسهل على الزّنديق ارتكابها.
ـ اضطراب المجتمع، فإنّ الزّنادقة لا يحكمهم مبدأ، ومن ثمّ فإنّهم يفعلون ما تدعوهم إليه أهواؤهم بغير رعاية لحقوق الآخرين.
ـ انصراف النّاس إلى الشّهوات وتلبية دعوة الهوى يضعف المجتمع فيطمع فيه أعداؤه ويستولون عليه ويسلبون عزّته وكرامته[1].


[1] نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم (10/4588) [دار الوسيلة، ط4].


1 ـ «إعلام الموقعين عن ربِّ العالمين»، لابن القيِّم.
2 ـ «بغية المرتاد»، لابن تيمية.
3 ـ «الزنادقة: عقائدهم وفرقهم وموقف أئمة المسلمين منهم»، لسعد العريفي.
4 ـ «الزندقة والزنادقة»، لعاطف شكري.
5 ـ «الزندقة والزنادقة»، لمحمد عبد الحميد.
6 ـ «الزندقة والشعوبية وانتصار الإسلام»، لسميرة مختار.
7 ـ «الصارم المسلول»، لابن تيمية.
8 ـ «فتح الباري»، لابن حجر.
9 ـ «مجموع الفتاوى»، لابن تيمية.