قال ابن فارس رحمه الله: «الزّاء والهاء والدّال أصل يدلّ على قلّة الشّيء. والزّهيد: الشّيء القليل، وهو مُزهِد: قليل المال»[1].
والزُّهد: خلاف الرغبة؛ تقول: زهد في الشيء وعن الشيء، يزهد زهدًا وزهادة، والتزهيد في الشيء وعن الشيء: خلاف الرغبة، والزهدة والزهادة في الدنيا، فلا يقال الزهد إلا في الدنيا خاصة، فهو ضد الرغبة والحرص على الدنيا[2].
[1] مقاييس اللغة (3/30) [دار الجيل، 1420هـ].
[2] انظر: مقاييس اللغة (3/30)، والصحاح (2/481) [دار العلم للملايين، ط3]، ولسان العرب (6/97) [دار إحياء التراث العربي، ط3، 1419هـ].
هو ترك ما لا ينفع في الآخرة؛ كفضول المباح التي لا يستعان بها على طاعة الله، أو التي تشغل عن فعل الواجبات، وترك المحرمات.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: «هو ترك الرّغبة فيما لا ينفع في الدّار الآخرة، وهو فضول المباح الّتي لا يستعان بها على طاعة الله»[1].
وقال ابن قدامة رحمه الله: «هو عبارة عن انصراف الرّغبة عن الشّيء إلى ما هو خير منه، وشرط المرغوب عنه أن يكون مرغوبًا بوجه من الوجوه، فمن رغب عن شيء ليس مرغوبًا فيه، ولا مطلوبًا في نفسه لم يسمّ زاهدًا»[2].
[1] مجموع الفتاوى (1/44) [مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، ط2، 1425هـ].
[2] مختصر منهاج القاصدين (411) [دار عمار، ط2، 1415هـ].
الزهد: أقسام، وكل قسم له حكم بحسبه[1]:
أحدها: الزهد في الحرام، وهو فرض عين على كل مسلم، وهذا متى أخل به انعقد سبب العقاب.
الثاني: زهد في الشبهات، وهو بحسب مراتب الشبهة؛ فإن قويت التحقت بالواجب، وإن ضعفت كانت مستحبًّا.
الثالث: زهد مستحب، وهو على درجات في الاستحباب، بحسب المزهود فيه، وهو الزهد في المكروه، وفضول المباحات، والتفنن في الشهوات المباحة.
[1] طريق الهجرتين (2/548 ـ 454) [دار عالم الفوائد، ط1، 1429هـ]، والفوائد لابن القيم (170 ـ 171) [دار عالم الفوائد، ط1، 1429هـ].
حقيقة الزهد: هو الزهد فيما لا ينفع في الآخرة، وفيما سوى الله، وفي كل ما يشغل عنه، فهو صرف الرغبة عما لا ينفع في الآخرة، والتقلل من فضول النعم، وليس المراد بالزهد الانصراف عن الدنيا جملة؛ بل المراد جعل الدنيا وسيلة للآخرة. ومتعلقه ستّة أشياء لا يستحقّ العبد اسم الزّهد حتّى يزهد فيها: وهي المال، والصّور، والرّياسة، والنّاس، والنّفس، وكلّ ما دون الله[1].
[1] انظر: مجموع الفتاوى (10/21، 511، 641)، ومدارج السالكين (2/17) [دار الكتاب العربي، بيروت، ط5، 1419هـ]، والفوائد لابن القيم (171)، وطريق الهجرتين (2/546)، وتلبيس إبليس لابن (2/858) [دار الوطن للنشر، ط1، 1423هـ].
منزلة الزهد في الشريعة الإسلامية منزلة جليلة لتعلقها بأمور الحلال والحرام، والرضا بالقدر، قال ابن القيِّم رحمه الله: «ومن أحسن ما قيل في الزهد، كلام الحسن أو غيره: «ليس الزهد في الدنيا بتحريم الحلال، ولا إضاعة المال. ولكن أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك، وأن تكون في ثواب المصيبة ـ إذا أصبت بها ـ أرغب منك فيها لو لم تصبك». فهذا من أجمع كلام في الزهد وأحسنه.
والنوع الثاني: غاية وكمال، وهو أن يبذلها للمحبوب جملة، بحيث لا يستبقي منها شيئًا؛ بل يزهد فيها زهد المحب في قدر خسيس من ماله قد تعلقت رغبة محبوبه به، فهل يجد من قلبه رغبة في إمساك ذلك القدر وحبسه عن محبوبه؟»[1].
[1] مدارج السالكين (2/16)
الآيات الواردة في معنى الزهد كثيرة، ومنها: قوله تعالى: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى *} [طه] ، وقوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ *} [القصص] ، وقوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا *} [الكهف] ، وقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ *} [الشورى] .
والأحاديث الواردة في (الزهد) وما في معناه فكثيرة كذلك؛ منها: حديث ابن مسعود رضي الله عنه؛ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، فإنّها تزهّد في الدّنيا وتذكّر الآخرة»[1].
وعن سهل بن سعد السّاعديّ رضي الله عنه قال: أتى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم رجل فقال: يا رسول الله، دلّني على عمل، إذا أنا عملته، أحبّني الله، وأحبّني النّاس، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ازهد في الدّنيا يحبّك الله، وازهد فيما في أيدي النّاس يحبّوك»[2].
وعن عبد الله بن الشّخّير رضي الله عنه قال: أتيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو يقرأ: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ *} قال: «يقول ابن آدم: مالي، مالي. قال: وهل لك يا بن آدم من مالك إلاّ ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدّقت فأمضيت»[3].
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمنكبي فقال: «كن في الدّنيا كأنّك غريب أو عابر سبيل» . وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: «إذا أمسيت فلا تنتظر الصّباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحّتك لمرضك، ومن حياتك لموتك»[4].
[1] أخرجه ابن ماجه (كتاب الجنائز، رقم 1571)، وابن حبان (كتاب الرقائق، رقم 981)، وحسن إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (2/42) [دار العربية، ط2]، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب والترهيب (رقم 2073) [مكتبة المعارف]. وأصله عند مسلم (كتاب الجنائز، رقم 977) من حديث بريدة رضي الله عنه، دون زيادة: «تزهِّد في الدنيا».
[2] أخرجه ابن ماجه (كتاب الزهد، رقم 4102)، وضعف إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (4/210) [دار العربية، ط2]، لكن أورد له الألباني جملةً من الطرق والشواهد، وقوَّاه بمجموعها. انظر: السلسلة الصحيحة (رقم 944) [مكتبة المعارف، الرياض، 1415هـ].
[3] أخرجه مسلم (كتاب الزهد والرقائق، رقم 2958).
[4] أخرجه البخاري (كتاب الرقاق، رقم 6416).
كتب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى رضي الله عنه: «إنك لم تنل عمل الآخرة بشيء أفضل من الزهد في الدنيا وإياك ومذاق الأخلاق ودناءتها»[1].
وقال أبو سعيد الأعرابي رحمه الله: «وأول الزهد: الزهد في الحرام، ثم الزهد في المباح، وأعلى مراتب الزهد أن يزهد في الفضول، والفضول كل ما لك عنه غنى، فكأنك تزهد في كل شيء، إلا فيما أمرك الله، أو فيما ندبك إليه، مما يقربك إليه، أو ما لا بد منه، وكل ما كان سوى ذلك فهو من الفضول، وهو ترك ما لا يعني»[2].
وقال ابن تيمية رحمه الله: «الزهد هو عما لا ينفع: إما لانتفاء نفعه، أو لكونه مرجوحًا؛ لأنه مفوت لما هو أنفع منه، أو محصل لما يربو ضرره على نفعه، وأما المنافع الخالصة أو الراجحة فالزهد فيها حمق»[3].
وقال ابن رجب رحمه الله: «من حقق اليقين، وثق بالله في أموره كلها، ورضي بتدبيره له، وانقطع عن التعلق بالمخلوقين رجاء وخوفًا، ومنعه ذلك من طلب الدنيا بالأسباب المكروهة، ومن كان كذلك كان زاهدًا في الدنيا حقيقة، وكان من أغنى الناس، وإن لم يكن له شيء من الدنيا»[4].
[1] الزهد لأحمد بن حنبل (101) [دار الكتب العلمية، ط1، 1420هـ].
[2] معنى الزهد والمقالات وصفات الزاهدين (76) [مطبعة دار الكتب المصرية].
[3] مجموع الفتاوى (10/615) [مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، ط2، 1425هـ].
[4] جامع العلوم والحكم (2/181) [مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1422هـ].
الزهد على مراتب[1]:
أحدها: الزهد في الحرام، الثاني: الزهد في الشبهات، الثالث: الزهد في المكروهات، الرابع: الزهد في المباحات من الحلال، الخامس: الزهد في الفضول من الكلام، والنظر، واللقاء، ونحوه، السادس: الزهد في الناس، السابع: الزهد في النفس؛ بحيث تهون عليه نفسه في سبيل الله، الثامن: الزهد في كل ما سوى الله تعالى، وفي كل ما يشغل عنه، وهو الجامع لمراتب الزهد كلها.
قال الإمام أحمد بن حنبل: «الزهد على ثلاثة أوجه : الأول: ترك الحرام وهو زهد العوام، والثاني: ترك الفضول من الحلال وهو زهد الخواص، والثالث: ترك ما يشغل عن الله، وهو زهد العارفين»[2].
[1] انظر: معنى الزهد والمقالات وصفات الزاهدين (76)، وطريق الهجرتين (2/548 ـ 454)، والفوائد لابن القيم (170 ـ 171).
[2] مدارج السالكين (2/14) [دار الكتاب العربي، بيروت، ط5، 1419هـ].
المسألة الأولى: الزهد في الحلال: اختلفت طوائف من أهل العلم هل لا يكون الزهد إلا في الحرام، دون الحلال على قولين[1]:
فقالت طائفة: الزهد إنما هو في الحلال؛ لأن ترك الحرام فريضة.
وقالت فرقة: بل الزهد لا يكون إلا في الحرام، وأما الحلال فنعمة من الله تعالى على عبده، والله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، فشكره على نعمه، والاستعانة بها على طاعته، واتخاذها طريقًا إلى جنته أفضل من الزهد فيها، والتخلي عنها، ومجانبة أسبابها.
والتحقيق: أنها إن شغلته عن الله فالزهد فيها أفضل، وإن لم تشغله عن الله؛ بل كان شاكرًا لله فيها، فحاله أفضل، والزهد فيها تجريد القلب عن التعلق بها، والطمأنينة إليها. والله أعلم.
المسألة الثانية: الزهد والتصوف:
الزهد مصطلح شرعي ظهر في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم، وظهر في كلام الصحابة ومن بعدهم من أئمة السلف، وأما التصوف فهو مصطلح حادث، وهو يتضمن معنى الزهد المشروع وغير المشروع، حيث غلب على جماعة من المتأخرين الزهد في الدنيا بأكملها، والانقطاع للعبادة مطلقًا، فانحرفوا عن معنى الزهد المشروع الذي شرعه الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، والذي كان عليه أئمة السلف، فأصبح الزهد يحمل معاني مخالفة لهدي الكتاب والسُّنَّة، وأصبح الزهاد على هذا المعنى المخالف من جملة أهل البدع؛ لأنهم ابتدعوا بدعًا منكرة، فحرموا على أنفسهم ما أحله الله تعالى لعباده من الطيبات، ووقعوا في جملة من المنكرات، وقد انخدع جماعة من الناس بالصوفية لما يرونهم عندهم من دعوى الزهد.
قال ابن الجوزي رحمه الله: «والصوفية من جملة الزهاد، وقد ذكرنا تلبيس إبليس على الزهاد، إلا أن الصوفية انفردوا عن الزهاد بصفات وأحوال، وترسموا بسمات، فاحتجنا إلى إفرادهم بالذكر، والتصوف طريقة كان ابتداؤها الزهد الكلي، ثم ترخص المنتمون إليها في السماع والرقص، فمال إليهم طلاب الآخرة من العوام، لما يظهرونه من التزهد، ومال إليهم طلاب الدنيا لما يرون عندهم من الراحة واللعب»[2].
[1] انظر: مدارج السالكين (2/17).
[2] تلبيس إبليس (3/918 ـ 920).
الفرق بين الزهد والقناعة:
القناعة: الرضا بما دون الكفاية، والزهد: الاقتصار على الزهيد؛ أي: القليل وهما يتقاربان، لكن القناعة تقال اعتبارًا برضا النفس، والزهد يقال اعتبارًا بالمتناول لحظ النفس، وكل زهد حصل لا عن قناعة فهو تزهُّد لا زهد[1].
الفرق بين الزهد والورع:
الزهد: ترك ما لا ينفع في الآخرة، والورع: ترك ما يخاف ضرره في الآخرة[2].
والزهد: هو من باب عدم الرغبة، والإرادة في المزهود فيه، والورع: من باب وجود النفرة والكراهة للتورع عنه.
والورع يصلح في المباحات، دون الورع فلا يجوز التورع عن المباحات، فكل ما يصلح فيه الورع يصلح فيه الزهد، من غير عكس[3].
قال ابن تيمية: «وبهذا يتبين: أن الواجبات والمستحبات لا يصلح فيها زهد ولا ورع، وأما المحرمات والمكروهات فيصلح فيها الزهد والورع، وأما المباحات فيصلح فيها الزهد دون الورع، وهذا القدر ظاهر تعرفه بأدنى تأمل»[4].
[1] الذريعة الى مكارم الشريعة للأصبهاني (225) [دار السلام، القاهرة، 1428هـ].
[2] انظر: مجموع الفتاوى (10/21، 511)، ومدارج السالكين (2/12)، والفوائد لابن القيم (171) [دار عالم الفوائد، ط1، 1429هـ]، وعدة الصابرين (264) [دار ابن كثير، دمشق، 1419هـ].
[3] انظر: مجموع الفتاوى (10/618 ـ 619).
[4] مجموع الفتاوى (10/619).
من ثمرات الزهد:
ـ أنه من أعظم الأسباب لنيل تقوى الله تعالى، ومحبته؛ لأن من ترك ما يحبه ويشتهيه لله تعالى أورثه ذلك محبة وتقوى لله تعالى.
ـ وأنه يورث القناعة بالرزق، والغنى في النفس، ويبعث على الراحة والطمأنينة، فلا يتحسر صاحبه من مال يفوته، أو رياسة، أو منصب، أو نحوها من أمور الدنيا الزائلة.
ـ وأنه العصمة من المحرمات والمنكرات، مما يبعث على مضاعفة الأجر والثواب.
ـ ومن تزهد في الدنيا هانت عليه مصائبها وآلامها، ولم يجزع لحدوثها؛ لأنه قد تشبع قلبه يقينًا بما أعده الله تعالى لعباده المتقين.
خالف المتصوفة، ومن وافقهم في الزهد المشروع، وسلكوا طريقة في الدين مبتدعة: فظنوا أن الزهد هو في ترك المباحات من المآكل والمشارب والملابس، ونحوها، وبنوا دورًا للعبادة، زعموا أنهم ينقطعون فيها عن الدنيا بالكلية، ويتفرغون فيها للعبادة، فضيعوا الصلوات في المساجد مع جماعة المسلمين، وضيعوا الحقوق التي عليهم؛ كحقوق الأهل والأولاد؛ بل وقعوا في المنكرات المحرمة؛ كالرقص، والسماع المحرم، ونحوها من المخالفات الشرعية، وكل ذلك بدعوى الزهد في الدنيا، والرغبة إلى الآخرة.
قال ابن الجوزي رحمه الله: «كانت النسبة في زمن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الإيمان والإسلام فيقال: مسلم ومؤمن، ثم حدث اسم زاهد وعابد، ثم نشأ أقوام تعلقوا بالزهد والتعبد، فتخلوا عن الدنيا، وانقطعوا إلى العبادة، واتخذوا في ذلك طريقة تفردوا بها وأخلاقًا تخلقوا بها، وهذا الاسم ظهر للقوم قبل سنة مائتين، ولما أظهره أوائلهم تكلموا فيه وعبروا عن صفته بعبارات كثيرة، وحاصلها: أن التصوف عندهم رياضة النفس، ومجاهدة الطبع برده عن الأخلاق الرذيلة، وحمله على الأخلاق الجميلة من الزهد والحلم والصبر والإخلاص والصدق، إلى غير ذلك من الخصال الحسنة التي تكسب المدائح في الدنيا والثواب في الأخرى، وعلى هذا كان أوائل القوم، فلبَّس إبليس عليهم في أشياء، ثم لبس على من بعدهم من تابعيهم، فكلما مضى قرن زاد طمعه في القرن الثاني، فزاد تلبيسه عليهم إلى أن تمكن من المتأخرين غاية التمكن، كان أصل تلبيسه عليهم أنه صدهم عن العلم، وأراهم أن المقصود العمل، فلما أطفأ مصباح العلم عندهم تخبطوا في الظلمات؛ فمنهم من أراه أن المقصود من ذلك ترك الدنيا في الجملة، فرفضوا ما يصلح أبدانهم، وشبهوا المال بالعقارب، ونسوا أنه خلق للمصالح، وبالغوا في الحمل على النفوس حتى أنه كان فيهم من لا يضطجع، وهؤلاء كانت مقاصدهم حسنة غير أنهم على غير الجادة وفيهم من كان لقلة علمه يعمل بما يقع إليه من الأحاديث الموضوعة وهو لا يدري»[1].
فكل ما ذكر عنهم في باب الزهد فهو باطل مخالف للشرع، كما تقرر في بيان حقيقة الزهد، وليس هو من هديه صلّى الله عليه وسلّم، ولا من هدي أصحابه في شيء.
قال ابن الجوزي: «وما هذه طريقة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ولا طريق أصحابه وأتباعه، وإنما كانوا يجوعون إذا لم يجدوا، فإذا وجدوا أكلوا، وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأكل اللحم ويحبه، ويأكل الدجاج، ويحب الحلوى، ويستعذب له الماء، فيختار الماء البائت؛ فإن الماء الحار يؤذي المعدة ولا يروي فأما الكف المطلق فخطأ، فافهم هذا ولا تلتفت إلى قول المحارث المحاسبي، وأبي طالب المكي فيما ذكرا من تقليل المطعم، ومجاهدة النفس بترك مباحاتها، فإن اتباع الشارع وصحابته أولى»[2].
[1] تلبيس إبليس (3/921 ـ 944).
[2] تلبيس إبليس (2/861 ـ 865).
1 ـ «استنشاق نسيم الأنس»، لابن رجب.
2 ـ «الفوائد»، لابن القيِّم.
3 ـ «قوت القلوب»، لأبي طالب المكي.
4 ـ «الزهد»، لأحمد بن حنبل.
5 ـ «شعب الإيمان»، للبيهقي.
6 ـ «جامع العلوم والحكم»، لابن رجب.
7 ـ «طريق الهجرتين وباب السعادتين»، لابن القيِّم.
8 ـ «مختصر منهاج القاصدين»، لابن قدامة.
9 ـ «مجموع الفتاوى» (ج10)، لابن تيمية.
10 ـ «مدارج السالكين»، لابن القيِّم.