حرف الزين / زيارة القبور

           

قال ابن فارس: «الزاء والواو والراء أصلٌ واحدٌ يدلُّ على المَيْل والعدول. من ذلك الزُّور: الكذب؛ لأنه مائلٌ عن طريقَةِ الحق. ويقال: زوَّرَ فلانٌ الشَّيءَ تزويرًا. والزَّوَر: الميل. يقال: ازورَّ عن كذا؛ أي: مالَ عنه، ومن الباب: الزائر؛ لأنّه إذا زارَك فقد عدَلَ عن غيرك»[1]. فالزيارة: مصدر لزَارني فلانٌ يزورني زورًا وزيارة، وأصل زار إليه: مال[2].
وأما القبور فهي جمع قبر، قال ابن فارس: «القاف والباء والراء أصلٌ صحيحٌ يدلُّ على غموضٍ في شيء وتطامُن. من ذلك: القَبْر؛ قَبْر الميِّت. يقال: قَبَرْتُه أقْبُرُه، ومكانُ القبور مَقْبَرَة ومَقْبُرَة»[3]. والقبر مدفن الإنسان[4].


[1] مقاييس اللغة (3/36) [دار الجيل، ط1، 1411هـ].
[2] انظر: تهذيب اللغة (13/238) [الدار المصرية].
[3] مقاييس اللغة (5/47 ـ 48).
[4] انظر: تهذيب اللغة (9/138).


زيارة القبور: هو الذهاب إلى القبور، وفعل ما يشرع عندها كالدعاء للميت والاستغفار له، أو ما ينهى عنه كدعاء الميت والشرك به والنياحة عند قبره والندب[1].


[1] انظر نحو هذا المعنى: مجموع الفتاوى (27/246) [مكتبة النهضة الحديثة، 1404هـ].


متفقان من حيث المعنى العام، وفي الشرع زيادة تفصيل.



اتفق العلماء على أنه صلّى الله عليه وسلّم كان نهى عن زيارة القبور؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها» [1]، واختلفوا هل نسخ ذلك، على أقوال:
فقالت طائفة: لم ينسخ ذلك؛ لأن أحاديث النسخ ليست مشهورة.
وقال الآخرون: بل نسخ ذلك، واختلفوا: فقالت طائفة منهم: إنما نسخ إلى الإباحة، وهذا قول في مذهب مالك وأحمد.
وقال الأكثرون: زيارة قبور المؤمنين مستحبة للدعاء للموتى مع السلام عليهم، وحكى النووي الإجماع على ذلك[2].
والأقوال الثلاثة صحيحة باعتبار؛ فإن الزيارة إذا تضمنت أمرًا محرمًا من شرك أو كذب أو ندب أو نياحة فهي محرمة بالإجماع.
وأما زيارتها للدعاء للميت كالصلاة على الجنازة، وتذكر الآخرة، فهذا هو المستحب الذي دلَّت السُّنَّة على استحبابه؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم فعله، وكان يعلِّم أصحابه ما يقولون إذا زاروا القبور[3].


[1] أخرجه مسلم (كتاب الجنائز، رقم 977).
[2] انظر: شرح النووي على مسلم (7/46 ـ 47) [دار الفكر، 1401هـ]، مجموع الفتاوى (27/376 ـ 379).
[3] انظر: مجموع الفتاوى (27/376 ـ 379) بتصرف، والجواب الباهر في زوار المقابر (62 ـ 63) [دار القلم، ط1، 1406هـ].


من أدلة استحباب زيارة القبور الشرعية للرجال:
حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها».
وحديث بريدة رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يعلِّمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا: «السلام على أهل الديار ـ وفي رواية ـ السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله للاحقون، أسأل الله لنا ولكم العافية»[1].
وفي النهي عن الزيارة البدعية أحاديث كثيرة، منها:
ما روته عائشة؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال في مرض موته: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا»[2].
وقال صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يموت بخمس: «.. ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك»[3].
وفي النهي عن زيارة النساء: ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لعن زوّارات القبور»[4].


[1] أخرجه مسلم (كتاب الجنائز، رقم 975).
[2] أخرجه البخاري (كتاب الصلاة، رقم 435)، ومسلم (كتاب المساجد ومواضع الصلاة، رقم 531).
[3] أخرجه مسلم (كتاب المساجد ومواضع الصلاة، رقم 532).
[4] أخرجه الترمذي (أبواب الجنائز، رقم 1056) وقال: حسن صحيح، وابن ماجه (كتاب الجنائز، رقم 1576)، وأحمد (14/164) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وصحَّحه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (رقم 3545) [مكتبة المعارف، ط5].


زيارة القبور على وجهين:
1 ـ زيارة شرعية: تتضمن السلام على الموتى والدعاء لهم، وهو مثل الصلاة على جنائزهم.
2 ـ زيارة بدعية: وهي زيارة أهل الشرك الذين يقصدون دعاء الميت والاستعانة به، وطلب الحوائج عنده، فيصلون عند قبره، ويدعون به[1].


[1] انظر: مجموع الفتاوى (24/326)، والجواب الباهر (32).


المسألة الأولى: زيارة النساء للقبور:
اختلف العلماء في زيارة النساء للقبور على ثلاثة أقوال معروفة في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما:
الأول: مذهب الجمهور من أهل العلم: أنه لا يجوز للنساء أن تزور القبور؛ لأن المرأة ضعيفة، فإذا رأت قبر قريبها من ابنها، أو أبيها، أو أخيها، أو زوجها، فإنها لا تملك نفسها من النياحة ومن الجزع.
القول الثاني: جواز زيارة النساء للقبور.
القول الثالث: كراهة زيارة النساء للقبور كراهة لا تصل إلى التحريم، وهذا هو المشهور من مذهب أحمد[1].
والصحيح أن النساء لم يدخلن في الإذن في زيارة القبور لعدة أوجه:
أحدها: أن قوله صلّى الله عليه وسلّم: «فزوروها» صيغة تذكير، وصيغة التذكير إنما تتناول الرجال بالوضع، وقد تتناول النساء أيضًا على سبيل التغليب، لكن هذا فيه قولان؛ قيل: إنه يحتاج إلى دليل منفصل، وقيل: إنه يحمل على ذلك عند الإطلاق، وعلى هذا فيكون دخول النساء بطريق العموم الضعيف، والعام لا يعارض الأدلة الخاصة المستفيضة في نهي النساء؛ بل ولا ينسخها عند جمهور العلماء وإن علم تقدم الخاص على العام.
الوجه الثاني: أن يقال: لو كانت النساء داخلات في الخطاب لاستحب لهن زيارة القبور كما استحب للرجال عند الجمهور[2].
الوجه الثالث: أن أحاديث التحريم صريحة في معناها فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعن النساء على الزيارة، واللعن على الفعل من أدل الدلائل على تحريمه، ولا سيما وقد قرنه في اللعن بالمتخذين عليها المساجد والسرج، وهذا غير منسوخ؛ بل لعن في مرض موته من فعله[3].
الوجه الرابع: ما يقارن زيارة النساء للقبور من المفاسد التي يعلمها الخاص والعام؛ من فتنة الأحياء، وإيذاء الأموات، والفساد الذي لا سبيل إلى دفعه إلا بمنعهن منها[4].
المسألة الثانية: بدع القبور:
بدع القبور كثيرة، منها[5]:
1 ـ دعاء المقبورين، وسؤالهم من دون الله، والاستغاثة بهم، وكل ذلك من الشرك البواح.
2 ـ الذبح والنحر عند القبور، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا عقر في الإسلام» [6]، قال عبد الرزاق: كانوا يعقرون عند القبر بقرة أو شاة.
3 ـ رفع القبور زيادة على التراب الخارج منها.
4 ـ تجصيص القبور.
5 ـ الكتابة على القبور.
6 ـ البناء على القبور.
7 ـ القعود على القبور.
فكل ذلك من البدع التي ضلت بها اليهود والنصارى وكانت من أعظم ذرائع الشرك، فعن جابر رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يُبنى عليه»[7]، وفي رواية أبي داود وغيره: «أو أن يكتب عليه»[8].
8 ـ الصلاة إلى القبور وعندها.
فعن أبي مرثد الغنوي قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا تصلُّوا إلى القبور، ولا تجلسوا عليها»[9].
9 ـ بناء المساجد عليها، وهو بدعة من ضلالات اليهود والنصارى، وتقدم قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا»[10].
10 ـ اتخاذها عيدًا، وهو من البدع التي جاء النهي الصريح عنها لعظم ضررها، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تجعلوا بيوتكم قبورًا، ولا تجعلوا قبري عيدًا، وصلُّوا عليَّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم»[11].
11 ـ شد الرحال إليها، وهو أمر منهي عنه لأنه من وسائل الشرك؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ومسجد الأقصى»[12].
ومن البدع: إسراجها، والتمسح بها، والطواف حولها، وتبخيرها، ووقوف السدنة عندها، وكسوة الضريح[13].


[1] انظر: شرح النووي على مسلم (7/45)، ومجموع الفتاوى (24/343)، وإعانة المستفيد (1/421) [مؤسسة الرسالة ناشرون].
[2] انظر: مجموع الفتاوى (24/344)، شرح النووي على مسلم (7/45).
[3] انظر: تهذيب السنن (9/43) [دار الكتب العلمية، ط1، 1410هـ].
[4] انظر: تهذيب السنن (9/44).
[5] انظر: مجموع الفتاوى (24/335)، وأصول الإيمان في ضوء الكتاب والسُّنَّة (42 ـ 43).
[6] أخرجه أبو داود (كتاب الجنائز، رقم 3222)، وأحمد (20/333) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وابن حبان (كتاب الجنائز، رقم 3146)، وصحَّحه النووي في الخلاصة (2/1031) [مؤسسة الرسالة، ط1]، والألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 2436).
[7] أخرجه مسلم (كتاب الجنائز، رقم 970).
[8] أخرجه أبو داود (كتاب الجنائز، رقم 3226)، والترمذي (أبواب الجنائز، رقم 1052) وقال: حسن صحيح، والنسائي (كتاب الجنائز، رقم 2027)، والحاكم (كتاب الجنائز، رقم 1369) وصحَّحه، وصحَّحه الألباني أيضًا في الإرواء (3/208) [المكتب الإسلامي، ط2].
[9] أخرجه مسلم (كتاب الجنائز، رقم 972).
[10] سبق تخريجه.
[11] أخرجه أبو داود (كتاب المناسك، رقم 2042)، وأحمد في المسند (14/403) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وصحَّحه النووي في رياض الصالحين (255) [دار الفكر، ط3، 1421هـ]، وابن حجر في الفتح (6/488) [دار الفكر]، والألباني في تعليقه على سنن أبي داود (353) [مكتبة المعارف، ط2].
[12] أخرجه البخاري (كتاب العمل في الصلاة، رقم 1189)، ومسلم (كتاب الحج، رقم 1397).
[13] انظر: مجموع الفتاوى (27/137 ـ 155).


مشروعية زيارة القبور بعد منعها كان لحكمة عظيمة، من ذلك:
1 ـ التزهيد في الدنيا بتذكر الآخرة والموت والبلى، مما يزيد في إيمان الشخص، ويعظم صلته بالله، ويذهب عنه الإعراض والغفلة.
2 ـ الإحسان إلى الموتى بالدعاء لهم، والترحم عليهم[1].


[1] انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (1/328)، وإغاثة اللهفان (1/198)، وأصول الإيمان في ضوء الكتاب والسُّنَّة (42).


المخالفون هم القبوريون من الصوفية والشيعة، ومن وافقهم من المبتدعة، الذين يعظمون القبور، ويدعون الموتى عند قبورهم، ويطوفون حولها؛ بل ويحجون إليها، ويشابهون عبّاد الأصنام بما يفعلون عندها: من العكوف عليها، والمجاورة عندها، وتعليق الستور عليها، وسدانتها، ويرجحون المجاورة عندها على المجاورة عند المسجد الحرام، ويرون سدانتها أفضل من خدمة المساجد، حتى إن منهم من يعتقد أن زيارة المشاهد التي على القبور إما قبر نبي، أو شيخ، أو بعض أهل البيت، أفضل من حج البيت الحرام، ويسمي زيارتها الحج: الأكبر[1].
قال ابن القيِّم: «فلو رأيت غلاة المتخذين لها عيدًا، وقد نزلوا عن الأكوار والدواب إذا رأوها من مكان بعيد، فوضعوا لها الجباه، وقبلوا الأرض وكشفوا الرءوس، وارتفعت أصواتهم بالضجيج، وتباكوا حتى تسمع لهم النشيج، ورأوا أنهم قد أربوا في الربح على الحجيج، فاستغاثوا بمن لا يبدي ولا يعيد، ونادوا ولكن من مكان بعيد، حتى إذا دنوا منها صلوا عند القبر ركعتين، ورأوا أنهم قد أحرزوا من الأجر ولا أجر من صلى إلى القبلتين، فتراهم حول القبر ركّعًا سجّدًا يبتغون فضلاً من الميت ورضوانًا، وقد ملؤوا أكفهم خيبة وخسرانًا، فلغير الله بل للشيطان ما يراق هناك من العبرات، ويرتفع من الأصوات، ويطلب من الميت من الحاجات ثم انثنوا بعد ذلك حول القبر طائفين، تشبيهًا له بالبيت الحرام، الذي جعله الله مباركًا وهدى للعالمين، ثم أخذوا في التقبيل والاستلام، أرأيت الحجر الأسود وما يفعل به وفد البيت الحرام، ثم عفروا لديه تلك الجباه والخدود، التي يعلم الله أنها لم تعفر كذلك بين يديه في السجود، ثم كملوا مناسك حج القبر بالتقصير هناك والحلاق، واستمتعوا بخلاقهم من ذلك الوثن إذ لم يكن لهم عند الله من خلاق، وقربوا لذلك الوثن القرابين، وكانت صلاتهم ونسكهم وقربانهم لغير الله ربِّ العالمين»[2].


[1] انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (2/747، 850 ـ 853)، وإغاثة اللهفان (1/196 ـ 197) بتصرف.
[2] إغاثة اللهفان (1/194).


1 ـ «إغاثة اللهفان» (ج1)، لابن القيِّم.
2 ـ «بدع القبور وحكمها»، لمحمد ناوي [رسالة ماجستير].
3 ـ «بدع القبور أنواعها وأحكامها»، لصالح العصيمي.
4 ـ «بدع وأخطاء ومخالفات شائعة تتعلق بالجنائز والقبور»، لأحمد السليم.
5 ـ «التذكرة في أحكام المقبرة»، لعبد الرحمن الشثري.
6 ـ «جزء في زيارة النساء للقبور»، لبكر أبي زيد.
7 ـ «جهود شيخ الإسلام ابن تيمية في الرد على القبوريين»، لمحمد المدخلي [رسالة ماجستير].
8 ـ «جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية»، لشمس الدين الأفغاني.
9 ـ «الجواب الباهر في زوار المقابر»، لابن تيمية.
10 ـ «زيارة القبور والاستنجاد بالمقبور»، لابن تيمية.
11 ـ «زيارة القبور الشرعية والشركية»، لمحيي الدين البركوي الحنفي.
12 ـ «شفاء الصدور في زيارة المشاهد والقبور»، لمرعي بن يوسف الكرمي.
13 ـ «القبورية وموقف الإسلام منها»، لخالد العنزي [رسالة ماجستير].
14 ـ «مجموع الفتاوى» (ج24، 27)، لابن تيمية.