قال ابن فارس: «السين والهمزة واللام كلمةٌ واحدةٌ. يقال: سأل يسأل سؤالاً ومَسْأَلةً. ورجل سُؤَلةٌ: كثير السؤال»[1]. والسؤْل ما يسأله الإنسان، وأسْألته سُؤْلته ومَسألته؛ أي: قضيت حاجته[2]. وسألته الشيء بمعنى استعطيته إياه[3].
[1] مقاييس اللغة (3/124).
[2] انظر: الصحاح (5/1723) [دار العلم للملايين، ط3، 1404هـ].
[3] انظر: لسان العرب (11/318) [دار صادر].
يختلف حكم السؤال باختلاف الأحوال، وتجري عليه جميع الأحكام التكليفية، فقد يكون محرمًا أو مباحًا أو مكروهًا أو واجبًا أو مندوبًا[1].
1 ـ فيكون السؤال محرمًا إذا كان لغير حاجة؛ كمن سأل وهو غني، أو أظهر من الفقر والفاقة فوق ما به، ومن هو قادر على الكسب[2]. قال شيخ الإسلام: «وسؤال الخلق في الأصل محرم، لكنه أبيح للضرورة، وتركه توكلاً على الله أفضل»[3].
2 ـ ويكون مباحًا إذا كان لضرورة أو حاجة؛ كمن تحمل حمالة، أو من به فاقة، أو أصابته جائحة ونحو ذلك[4]. قال النووي: «وأما السؤال للمحتاج العاجز عن الكسب فليس بحرام، ولا مكروه، صرح به الماوردي وهو ظاهر»[5].
3 ـ ويكون مكروهًا إذا كان عند المرء ما يكفيه، ولم يظهر من الفقر والفاقة فوق ما به[6]. وكره الإمام أحمد المسألة كلها[7].
4 ـ ويكون واجبًا إن كان في تركه هلاكًا لنفسه[8].
5 ـ ويكون مندوبًا لمن يسأل لغيره إعانة له، وبيانًا لحاجته[9]، وفي مذهب أحمد روايتين: الإباحة والكراهة[10].
[1] انظر تفصيل ذلك في: كتاب أحكام المسألة والاستجداء لمحمد بلو.
[2] انظر: الاستذكار (8/609 ـ 611)، وشرح النووي على مسلم (7/127) [دار الفكر]، والفروع لابن مفلح (4/310 ـ 311) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وفتح الباري لابن حجر (3/336) [دار الفكر]، والإقناع للشربيني (1/252) [دار الفكر]، والمبسوط (30/272 ـ 273) [دار المعرفة].
[3] مجموع الفتاوى (1/181)، وانظر: مراتب الإجماع لابن حزم (250).
[4] انظر: مراتب الإجماع (250)، ومجموع الفتاوى لابن تيمية (1/181)، والرد على البكري (1/401)، ومدارج السالكين (2/131) [دار الكتاب العربي، 1392هـ]، وشرح النووي على مسلم (7/127)، وفتح الباري لابن حجر (3/336).
[5] المجموع شرح المهذب (6/236) [مكتبة الإرشاد].
[6] انظر: الفروع (4/311)، وشرح صحيح مسلم للنووي (7/127).
[7] انظر: الفروع لابن مفلح (4/311)، ومدارج السالكين (1/116).
[8] انظر: الرد على البكري (1/402)، ومختصر منهاج القاصدين (323 ـ 324) [مكتبة دار البيان، 1398هـ].
[9] انظر: طرح التثريب للعراقي (3/1043) [مكتبة نزار الباز، ط2، 1420هـ].
[10] انظر: الفروع (4/318 ـ 319).
استدلوا بعموم الأدلة المصرحة بالنهي عن المسألة، وذم السؤال، ومنها:
قول النبي صلّى الله عليه وسلّم لقبيصة بن مخارق: «يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش، أو قال: سدادًا من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: لقد أصابت فلانًا فاقة، فحلت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش، أو قال: سدادًا من عيش، فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحتًا يأكلها صاحبها سحتًا»[1].
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «والذي نفسي بيده لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من أن يأتي رجلاً فيسأله أعطاه أو منعه» [2]. قال ابن حجر: «قوله: « والذي نفسي بيده » ففيه القسم على الشيء المقطوع بصدقه لتأكيده في نفس السامع، وفيه الحض على التعفف عن المسألة والتنزه عنها، ولو امتهن المرء نفسه في طلب الرزق وارتكب المشقة في ذلك، ولولا قبح المسألة في نظر الشرع لم يفضل ذلك عليها»[3].
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله كره لكم ثلاثًا: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال»[4].
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم»[5].
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من سأل الناس أموالهم تكثّرًا فإنما يسأل جمرًا، فليستقل أو ليستكثر»[6].
[1] أخرجه مسلم (كتاب الزكاة، رقم 1044).
[2] أخرجه البخاري (كتاب الزكاة، رقم 1470)، ومسلم (كتاب الزكاة، رقم 1042).
[3] فتح الباري (3/336).
[4] أخرجه البخاري (كتاب الزكاة، رقم 1477)، ومسلم (كتاب الأقضية، رقم 1715).
[5] أخرجه البخاري (كتاب الزكاة، رقم 1474)، ومسلم (كتاب الزكاة، رقم 1040).
[6] أخرجه مسلم (كتاب الزكاة، رقم 1041).
سؤال الخلق قسمان[1]:
1 ـ سؤال الخلق في حياتهم، وهو نوعان؛ الأول: سؤالهم ما يقدرون عليه، وسبق تفصيل حكمه. الثاني: سؤالهم ما لا يقدر عليه إلا الله؛ مثل أن يطلب شفاء مريضه، أو عافية أهله، أو غفران ذنبه، وهذا نوع من الشرك.
2 ـ سؤال الخلق بعد مماتهم، وكذا الغائبون، نوع من الشرك أيضًا.
[1] انظر: دعاوى المناوئين لشيخ الإسلام ابن تيمية (439 ـ 441) بتصرف [دار ابن الجوزي، ط1، 1424هـ].
المسألة الأولى: السؤال بوجه الله:
وهو قول: أسألك بوجه الله، ورد عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا يسأل بوجه الله إلا الجنة» [1]، وهو حديث ضعيف، لكن يشهد له عموم النهي كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «ملعون من سأل بوجه الله، وملعون من سُئل بوجه الله ثم منع سائله، ما لم يسأل هُجرًا» [2]. وهنا أمران:
الأول: سؤال المخلوق بوجه الله، وقد كره العلماء ذلك[3]، وقال البعض بعدم الجواز[4]؛ لأنه لا يسأل بوجه الله إلا الجنة، والخلق لا يقدرون على إعطاء الجنة.
الثاني: سؤال الله بوجهه الكريم الجنة وما يستلزم دخولها وهذا جائز؛ أما أمور الدنيا؛ فلا تُسأل بوجه الله؛ لأن وجه الله أعظم من أن يسأل به لشيء من أمور الدنيا[5].
واختلفوا في حكم رد من سأل بالله، أو بوجه الله على قولين:
الأول: يكره رد من سأل بالله أو بوجه الله، ويستحب إعطاؤه، قال به بعض الشافعية والحنابلة[6].
الثاني: يحرم رده، ويجب إعطاؤه، وهو قول الحنفية، وبعض الشافعية والحنابلة[7].
المسألة الثانية: الاستدلال على الاستغاثة بالغائبين بحديث: «إن لله في الأرض حاضرًا»:
عن عبد الله بن مسعود، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا انفلتت دابة أحدكم بأرض فلاة فليناد: يا عباد الله احبسوا علي، يا عباد الله احبسوا علي، فإن لله في الأرض حاضرًا سيحبسه عليكم» [8]. ومعنى احبسوا: أي: امنعوها من الهرب، وأوقفوها[9]، وهو حديث ضعيف، وقد استدل به بعض القبوريين في الاستغاثة بالأحياء الغائبين، والأموات، ولا دليل فيه على ما ذهبوا إليه؛ بل غاية ما فيه ـ على تقدير ثبوته ـ أنه يدل على جواز الطلب من الحي الحاضر فيما يقدر عليه، كما قال: «فإن لله في الأرض حاضرًا سيحبسه عليكم»[10].
المسألة الثالثة: طلب الدعاء من الغير:
عن عمر رضي الله عنه قال: استأذنت النبي صلّى الله عليه وسلّم في العمرة فأذن لي وقال: «لا تنسنا يا أخي من دعائك» [11]. وثبت في «الصحيح» أنه صلّى الله عليه وسلّم ذكر أويسًا القرني وقال لعمر: «فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل»[12].
دلَّت هذه الأحاديث على أنه يشرع للمسلم أن يطلب الدعاء ممن فوقه وممن هو دونه، وطلب النبي صلّى الله عليه وسلّم من عمر أن يدعو له؛ كطلبه أن يصلي عليه ويسلم عليه، وأن يسأل الله له الوسيلة والدرجة الرفيعة، وهو كطلبه أن يعمل سائر الصالحات، فمقصوده نفع المطلوب منه والإحسان إليه. ومن قال لغيره من الناس: ادع لي أو لنا، وقصد أن ينتفع ذلك المأمور بالدعاء، وينتفع هو أيضًا بأمره، ويفعل ذلك المأمور به، كما يأمره بسائر فعل الخير، فهو مقتدٍ بالنبي صلّى الله عليه وسلّم مؤتمّ به، وليس هذا من السؤال المرجوح. وأما إن لم يكن مقصوده إلا طلب حاجته، ولم يقصد نفع ذلك والإحسان إليه فهذا ليس من المقتدين بالرسول المؤتمين به في ذلك؛ بل هذا هو من السؤال المرجوح، الذي تركه إلى الرغبة إلى الله وسؤاله أفضل من الرغبة إلى المخلوق وسؤاله. وهذا كله من سؤال الأحياء السؤال الجائز المشروع[13].
[1] أخرجه أبو داود (كتاب الزكاة، رقم 1671)، والبيهقي في الأسماء والصفات (2/93) [مكتبة السوادي، ط1]، وضعفه عبد الحق الإشبيلي وابن القطان، كما في فيض القدير (6/451) [المكتبة التجارية الكبرى، ط1]، والألباني في ضعيف الترغيب والترهيب (رقم 506) [مكتبة المعارف].
[2] أخرجه الطبراني في الدعاء (581) [دار الكتب العلمية، ط1]، وحسَّنه العراقي، كما في فيض القدير (6/4) [المكتبة التجارية الكبرى، ط1]، وحسَّنه الألباني أيضًا في السلسلة الصحيحة (رقم 2290).
[3] انظر: المجموع (6/244)، ومغني المحتاج (3/163)، ومواهب الجليل (4/403).
[4] انظر: معجم المناهي اللفظية (183) [دار العاصمة، ط3، 1417هـ]، وأحكام المسألة والاستجداء (126).
[5] انظر: القول المفيد (2/356 ـ 357).
[6] انظر: المغني (13/504) [عالم الكتب، ط3]، وإعانة الطالبين (4/314)، ومواهب الجليل (4/403)، وتيسير العزيز الحميد (668) [مكتبة العلوم والحكم، ط3، 1412هـ].
[7] انظر: الفروع (10/440 ـ 443)، والمبدع (8/67) [دار الكتب العلمية، ط1]، وتيسير العزيز الحميد (668).
[8] أخرجه أبو يعلى الموصلي في مسنده (9/177) [دار المأمون، ط1]، والطبراني في الكبير (10/267) [مكتبة ابن تيمية، ط2]، وابن السني في عمل اليوم والليلة (455) [دار القبلة]، وقال الهيثمي في المجمع (10/132) [مكتبة القدسي]: «فيه معروف بن حسان، وهو ضعيف»، وفيه انقطاع أيضًا، وقد ضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (رقم 655).
[9] انظر: مقاييس اللغة (2/128)،والصحاح (3/915).
[10] انظر: جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية (3/1274)، وتيسير العزيز الحميد (247).
[11] أخرجه أبو داود (كتاب الصلاة، رقم 1498)، والترمذي (أبواب الدعوات، رقم 3562)، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه (كتاب المناسك، رقم 2894)، وأحمد (1/326) [مؤسسة الرسالة، ط1]،
[12] أخرجه مسلم (كتاب فضائل الصحابة، رقم 2542).
[13] انظر: مجموع الفتاوى (1/192 ـ 193)، زيارة القبور (13).
المخالفون: هم القبورية من الصوفية والشيعة، ومن وافقهم من المبتدعة، الذين يدعون الموتى، ويستغيثون بهم، ويسألونهم قضاء حاجاتهم، ويطوفون حول قبر من يعظمون؛ بل ويحجون إليها، ويشابهون عباد الأصنام بما يفعلون عندها: من العكوف عليها، والمجاورة عندها، وتعليق الستور عليها، وسدانتها[1]. قال ابن القيِّم عنهم: «فلو رأيت غلاة المتخذين لها عيدًا، وقد نزلوا عن الأكوار والدواب إذا رأوها من مكان بعيد، فوضعوا لها الجباه، وقبلوا الأرض وكشفوا الرؤوس، وارتفعت أصواتهم بالضجيج، وتباكوا حتى تسمع لهم النشيج، ورأوا أنهم قد أربوا في الربح على الحجيج، فاستغاثوا بمن لا يبدي ولا يعيد، ونادوا ولكن من مكان بعيد، حتى إذا دنوا منها صلوا عند القبر ركعتين، ورأوا أنهم قد أحرزوا من الأجر، ولا أجر من صلى إلى القبلتين، فتراهم حول القبر رُكعًا سجدًا يبتغون فضلاً من الميت ورضوانًا، وقد ملؤوا أكفهم خيبة وخسرانًا، فلغير الله بل للشيطان ما يراق هناك من العبرات، ويرتفع من الأصوات، ويطلب من الميت من الحاجات»[2].
[1] انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (2/747، 850 ـ 853)، إغاثة اللهفان (1/196 ـ 197) بتصرف.
[2] إغاثة اللهفان (1/194)، وانظر: تيسير العزيز الحميد (222 ـ 242).
1 ـ «أحكام المسألة والاستجداء في الفقه الإسلامي»، لمحمد بلو الخياط.
2 ـ «تيسير العزيز الحميد»، لسليمان بن عبد الله.
3 ـ «جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية»، لشمس الدين الأفغاني.
4 ـ «الضوابط الشرعية لسؤال المخلوق»، لعبد الله الغطيمل [بحث منشور].
5 ـ «قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة»، لابن تيمية.
6 ـ «الرد على البكري»، لابن تيمية.
7 ـ «شرح صحيح مسلم» (ج7)، للنووي.
8 ـ «فتح الباري» (ج10)، لابن حجر.
9 ـ «مجموع الفتاوى» (ج1)، لابن تيمية.