حرف الألف / الاستهزاء

           

الهاء والزاء والهمزة كلمة واحدة، يقال: هَزِئَ واستهزَأَ؛ إذا سَخِرَ. والهُزُؤُ: السُّخْرِيةُ. هُزِئَ به ومنه. وهَزَأَ يَهْزَأُ فيهما هُزْءًا وهُزُؤًا ومَهْزَأَةً، وتَهَزَّأَ واسْتَهْزَأَ به: سَخِرَ[1].


[1] مقاييس اللغة 1031، ولسان العرب (6/331).


الاستهزاء: هو حمل الأقوال والأفعال على الهزل واللعب لا على الجد والحقيقة[1].


[1] بيان الدليل على بطلان التحليل (38) [المكتب الإسلامي].


العلاقة ظاهرة؛ وذلك أن الاستهزاء في كلام العرب يدور حول السخرية والاستخفاف، وهذا عام يكون في كل مسخور به، وأشدها السخرية والاستخفاف بالله ـ تعالى وتقدس عن قولهم ـ أو بدينه، أو رسله عليهم السلام.



إن الاستهزاء بالله سبحانه وتعالى وبآياته وبرسوله كل واحد منها كفر لا ريب فيه؛ لأن الاستهزاء كفر وحده بالضرورة[1].


[1] انظر: الاستغاثة في الرد على البكري لابن تيمية (376) [دار المنهاج، الرياض].


ذلك أن الاستهزاء بهذه الأمور متلازم، فإن من استهزأ بآيات الله تعالى التي جاء بها الرسول صلّى الله عليه وسلّم فهو مستهزئ بالرسول صلّى الله عليه وسلّم ضرورة، ومن استهزأ بالرسول صلّى الله عليه وسلّم فهو مستهزئ برسالته حقيقة، ومن استهزأ بآياته ورسوله فهو مستهزئ به، ومن استهزأ بالله فهو مستهزئ بآياته ورسوله بطريق الأولى[1].


[1] انظر: الاستغاثة في الرد على البكري (376 ـ 377).


يعتبر الاستهزاء بالرب جلّ جلاله، أو بالدين الإسلامي، أو بالرسل عليهم السلام من أعظم الكفر؛ بل هو أعظمها وأشدها خطورة على المرء.



قال تعالى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ *وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ *لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ *} [التوبة] .
وقال تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ *} [البقرة] .
ومن السُّنَّة: عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي صلّى الله عليه وسلّم وتقع فيه، فينهاها فلا تنتهي ويزجرها، فلا تنزجر. قال: فلما كانت ذات ليلة جعلت تقع في النبي صلّى الله عليه وسلّم وتشتمه، فأخذ المغول فوضعه في بطنها واتكأ عليها فقتلها، فوقع بين رجليها طفل، فلطخت ما هناك بالدم، فلما أصبح ذُكِر ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلّم فجمع الناس فقال: «أنشد الله رجلاً فعل ما فعل لي عليه حقٌّ إلا قام» . قال: فقام الأعمى يتخطى الناس وهو يتزلزل حتى قعد بين يدي النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا رسول الله أنا صاحبها، كانت تشتمك وتقع فيك فأنهاها فلا تنتهي، وأزجرها فلا تنزجر، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين، وكانت بي رفيقة، فلما كانت البارحة جعلت تشتمك وتعق فيك، فأخذت المِغْوَلَ فوضعته في بطنها واتكأت عليها حتى قتلتها، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ألا اشهدوا: إن دمها هدر»[1].


[1] أخرجه أبو داود (كتاب الحدود، رقم 4361)، والنسائي (كتاب تحريم الدم، رقم 4070)، والحاكم في المستدرك (كتاب الحدود، رقم 8044)، وصححه على شرط مسلم، وكذا قال الألباني في الإرواء (5/92) [المكتب الإسلامي، ط1، 1405هـ].


قال إسحاق بن راهويه رحمه الله: «أجمع المسلمون على أن من سبَّ الله، أو سب رسوله صلّى الله عليه وسلّم، أو دفع شيئًا مما أنزل الله عزّ وجل، أو قتل نبيًّا من أنبياء الله عزّ وجل أنه كافر، وإن كان مقرًّا بكل ما أنزل الله»[1].
وقال القاضي عياض رحمه الله: «اعلم أن من استخف بالقرآن أو المصحف أو بشيء منه، أو سبَّهما، أو جحده، أو حرفًا منه أو آية، أو كذب به أو بشيء منه، أو كذب بشيء مما صرح به فيه من حكم أو خبر، أو أثبت ما نفاه أو نفى ما أثبته على علم منه بذلك، أو شك في شيء من ذلك فهو كافر عند أهل العلم بإجماع»[2].
وقال ابن عبد البر رحمه الله: «ومن شتم الله تبارك وتعالى أو شتم رسوله صلّى الله عليه وسلّم أو شتم نبيًّا من أنبياء الله ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ قتل إذا كان مظهرًا للإسلام بلا استتابة، ومنهم من يجعلها ردة يستتاب منها، فإن تاب وإلا قتل»[3].
وقال ابن قدامة رحمه الله: «ومن سب الله تعالى كفر، سواء كان مازحًا أو جادًّا، وكذلك من استهزأ بالله تعالى، أو بآياته أو برسوله، أو كتبه، قال تعالى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ *وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ *لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ *} [التوبة] ، وينبغي أن لا يكتفى من الهازئ بذلك بمجرد الإسلام، حتى يؤدب أدبًا يزجره عن ذلك، فإنه إذا لم يكتف ممن سبَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالتوبة فممن سبَّ الله تعالى أولى»[4].
وقال ابن تيمية رحمه الله: «إن سبَّ الله أو سبَّ رسوله كفر ظاهرًا وباطنًا، سواء كان الساب يعتقد ذلك محرمًا، أو كان مستحلًّا له، أو كان ذاهلاً عن اعتقاده، هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السُّنَّة القائلين بأن الإيمان قول وعمل»[5].


[1] الصارم المسلول (1/513) [دار ابن حزم، ط1، 1417هـ].
[2] الشفا (2/304) [دار الكتب العلمية].
[3] الكافي في فقه أهل المدينة المالكي (2/1091) [مكتبة الرياض الحديثة، ط2، 1400هـ].
[4] المغني (12/298 ـ 299) [دار عالم الكتب، ط3، 1417هـ].
[5] الصارم المسلول (1/513) [دار ابن حزم، ط1، 1417هـ].


يمكن تقسيم الاستهزاء بحسب متعلقه إلى ثلاثة أقسام، ولكل قسم صور توضحه[1]:الأول: الاستهزاء بالله تبارك وتعالى ؛ ومن صور ذلك: اتخاذ الشركاء مع الله تعالى؛ لأن الشرك هضم لحق الربوبية، وكذلك وصفه بالصفات التي يتنزه عنها؛ كوصف اليهود ـ لعنهم الله ـ له بأنه فقير وأن يده مغلولة، وكقول غلاة الملاحدة الحلولية بأن الرب عبد والعبد رب، وأنه هو العاشق والمعشوق ـ تعالى الله عن قولهم علوًّا كبيرًا ـ، وكاستهزاء الناس بالقرآن الكريم الذي هو كلام الله تبارك وتعالى ، وامتهانه وتمزيقه، وككتابة أسماء الله الحسنى على ثوب امرأة فاسقة متبرجة في عرض للأزياء والله المستعان.الثاني: الاستهزاء بالدين؛ ومن صور ذلك: عبادة النصارى للصليب من دون الله، وإنكار الكفار والمشركين للبعث والنشور يوم القيامة: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ *هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ *إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ *} [المؤمنون] ، وما قالته اليهود للرعيل الأول من الصحابة كما حكاه الله تبارك وتعالى عنهم: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ *} [آل عمران] ، وكذلك ما أثر عن أهل البدع من العبارات التي فيها استخفاف بشعائر الدين؛ كالآذان والصلاة، والاستخفاف بكتب الفقه الشرعي.الثالث: الاستهزاء بالرسل عليهم السلام وأتباعهم، ومن صور ذلك: سخرية قوم نوح به عليه السلام، كما قال تعالى: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ *} [هود] ، وكذلك استهزاؤهم بشعيب عليه السلام، فيما حكى الله عنهم: {قَالُوا ياشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ *} [هود] ، وسخرية المشركين بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وإلقاء سلى الجزور على ظهره وهو ساجد، وكتحية اليهود للنبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله: السام عليك، يعنون الموت، وكاستهزاء المنافقين بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه في عدة مواقف كغزوة تبوك وبني المصطلق. ومنها ما ابتليت به الأمة من فتنة الوضاعين في الحديث النبوي، وما أدخلوه على المسلمين في دينهم، وكذلك ما يلقاه أتباع الأنبياء في كل عصر من السخرية والاستهزاء عبر التاريخ إلى يومنا الحاضر، والله المستعان.


[1] انظر: الاستهزاء بالدين لأحمد القرشي (158، 356). [دار ابن الجوزي].


ـ صفة استهزاء الله تعالى بالمستهزئين.
استهزاء الله سبحانه وتعالى بمن يستهزئ بالمؤمنين في الدنيا هو سخريته منهم في الدنيا والآخرة، وهو من الصفات الفعلية الصادرة منه جلّ جلاله المقيدة والمقابلة لاستهزاء المنافقين، إذ الاستهزاء لما كان جزاء على من فعل ذلك بمثل فعله كان عدلاً حسنًا.
قال ابن جرير رحمه الله: «والصواب: إثبات صفة استهزاء الله بالمنافقين على ما يليق به وليس كاستهزاء المخلوقين، ومن صور هذا الاستهزاء: أنه تعالى يمد الظالم في ظلمه وفي طغيانه ويعطيه ما يشتهيه حتى يرد بعد ذلك إلى ما لم يكن يحتسب من الله، ومن استهزائه بهم: أن زين لهم ما كانوا فيه من الشقاء والأحوال الخبيثة حتى ظنوا أنهم مع المؤمنين لما لم يسلط الله المؤمنين عليهم، ومن استهزائه بهم يوم القيامة: أن يعطيهم مع المؤمنين نورًا ظاهرًا، فإذا مشى المؤمنون بنورهم طفئ نور المنافقين وبقوا في الظلمة بعد النور متحيرين»[1].
وقال قوام السُّنَّة الأصبهاني رحمه الله: «وتولى الذب عنهم [أي: عن المؤمنين] حين قالوا: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ *} [البقرة] ، فقال: {اللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ} [البقرة: 15] ، وقال: {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} [التوبة: 79] ، وأجاب عنهم فقال: {أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لاَ يَعْلَمُونَ *} [البقرة] ؛ فأجل أقدارهم أن يوصفوا بصفة عيب، وتولى المجازاة لهم، فقال: {اللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ} وقال {سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ}؛ لأن هاتين الصفتين إذا كانتا من الله؛ لم تكن سفهًا؛ لأن الله حكيم، والحكيم لا يفعل السفه، بل ما يكون منه يكون صوابًا وحكمة»[2].
وقال ابن تيمية رحمه الله ردًّا على الذين يدعون أن هناك مجازًا في القرآن: «وكذلك ما ادعوا أنه مجاز في القرآن كلفظ (المكر) و(الاستهزاء) و(السخرية) المضاف إلى الله، وزعموا أنه مسمى باسم ما يقابله على طريق المجاز، وليس كذلك، بل مسميات هذه الأسماء إذا فعلت بمن لا يستحق العقوبة؛ كانت ظلمًا له، وأما إذا فعلت بمن فعلها بالمجني عليه عقوبة له بمثل فعله؛ كانت عدلاً»[3].
وقال رحمه الله: «ولهذا كان الاستهزاء بهم فعلاً يستحق هذا الاسم كما روي عن ابن عباس؛ أنه يفتح لهم باب من الجنة وهم في النار فيسرعون إليه فيغلق، ثم يفتح لهم باب آخر فيسرعون إليه فيغلق، فيضحك منهم المؤمنون[4]. قال تعالى: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ *عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ *هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ *} [المطففين] . وعن الحسن البصري: إذا كان يوم القيامة خمدت النار لهم كما تخمد الإهالة من القدر فيمشون فيخسف بهم. وعن مقاتل: إذا ضرب بينهم وبين المؤمنين بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب فيبقون في الظلمة فيقال لهم: ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورًا. وقال بعضهم: استهزاؤه: استدراجه لهم. وقيل: إيقاع استهزائهم ورد خداعهم ومكرهم عليهم. وقيل: إنه يظهر لهم في الدنيا خلاف ما أبطن في الآخرة. وقيل: هو تجهيلهم وتخطئتهم فيما فعلوه؛ وهذا كله حق وهو استهزاء بهم حقيقة»[5].
وقال ابن القيم رحمه الله: «فإن هذه الأفعال ليست ممدوحة مطلقًا بل تمدح في موضع وتذم في موضع، فلا يجوز إطلاق أفعالها على الله مطلقًا، فلا يقال إنه تعالى يمكر ويخادع ويستهزئ ويكيد، والمقصود: أن الله تعالى لم يصف نفسه بالكيد والمكر والخداع إلا على وجه الجزاء لمن فعل ذلك بغير حق، وقد علم أن المجازاة على ذلك حسنة من المخلوق فكيف من الخالق سبحانه»[6].


[1] انظر: تفسير الطبري (1/214).
[2] الحجة في بيان المحجة (1/181).
[3] انظر: مجموع الفتاوى (7/111).
[4] أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات (2/437) [مكتبة السوادي، ط1].
[5] الإيمان الكبير (93 ـ 94).
[6] مختصر الصواعق (2/745 ـ 746).


إن من استهزأ بالله وآياته ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، فقد خلا قبله من تعظيم خالقه جلّ جلاله، وما أنزله عليه على لسان رسوله صلّى الله عليه وسلّم، وبالتالي فإنه ينجرف وراء اتباع كل ما تهواه نفسه، وأملاه عليه شيطانه، ولا غرابة فإنه ليس بعد الكفر ذنب.



أنكر اتصاف الله بالاستهزاء بالكافرين الجهمية وأهل الكلام من معتزلة وأشاعرة ومن وافقهم، وقالوا: إن هذا من قبيل المشاكلة ومقابلة اللفظ باللفظ ليزدوج الكلام[1].
وعلّلوا ذلك بأن الاستهزاء من باب العبث والله تعالى منزه عن ذلك[2]، وأنه «لا ينفك عن التلبيس، وهو على الله محال، ولأنه لا ينفك عن الجهل؛ لقوله: {لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ *} [البقرة] ، والجهل على الله محال»[3].
وقيل: إنها على الجواب؛ كقول الرجل لمن كان يَخْدَعه إذا ظفر به: أنا الذي خدعتك، ولم تكن منه خديعة، ولكن قال ذلك إذ صار الأمر إليه. وكذلك المكر والاستهزاء، والله لا يكون منه المكر ولا الهُزْء، والمعنى: أن المكر والهُزْءَ حاق بهم[4].
الرّدُّ عليهم:
1 ـ قرَّر أهل العلم أن صفات الله تعالى لا يدخلها المجاز، وأن الله سبحانه وتعالى خاطب العرب بما تعهد من كلامها، فوجب حملها على حقيقتها المعهودة عندهم.
2 ـ أنها إذا كانت على وجه الظلم والعدوان كانت مذمومة، وأما إذا كانت على وجه الحق فهي عدل بمن يستحق ذلك، فكيف بصدورها من الله تعالى على سبيل الجزاء بمن يستحقها[5].
3 ـ أما قولهم: إنه سبحانه وتعالى يعاملهم معاملة المخادع، فهذا لا يتصور أن يعاملهم هذا المعاملة من غير أن تقوم به هذه الصفة.
4 ـ وأما قولهم: إنما هو على وجه الجواب، وأنه لم يكن من الله استهزاء ولا مكر ولا خديعة، فنافون على الله عزّ وجل ما قد أثبته الله عزّ وجل لنفسه، وأوجبه لها. وسواء قال قائل: لم يكن من الله ـ جلَّ ذكره ـ استهزاء ولا مكر ولا خديعة ولا سخرية بمن أخبر أنه يستهزئ ويسخر ويمكر به، أو قال: لم يخسف الله بمن أخبر أنه خسف به من الأمم، ولم يغرق من أخبر أنه أغرقه منهم[6].
5 ـ وأما تعليلهم بأن الاستهزاء عبث ولعب والله منزه عنه. فيقال لهم: «إن كان الأمر عندك على ما وصفت من معنى الاستهزاء، أفلست تقول: (الله يستهزئ بهم)، و(سخر الله منهم) و(مكر الله بهم)، وإن لم يكن من الله عندك هزء ولا سخرية؟
فإن قال: لا، كذب بالقرآن، وخرج عن ملة الإسلام.
وإن قال: بلى. قيل له: أفنقول من الوجه الذي قلت: (الله يستهزئ بهم) و(سخر الله منهم) ـ (يلعب الله بهم) و(يعبث) ـ ولا لعب من الله ولا عبث؟
فإن قال: نعم! وصف الله بما قد أجمع المسلمون على نفيه عنه، وعلى تخطئة واصفه به، وأضاف إليه ما قد قامت الحجة من العقول على ضلال مضيفه إليه.
وإن قال: لا أقول: (يلعب الله بهم) ولا (يعبث)، وقد أقول: (يستهزئ بهم) و(يسخر منهم). قيل: فقد فرقت بين معنى اللعب والعبث، والهزء والسخرية، والمكر والخديعة. ومن الوجه الذي جاز قيل هذا، ولم يجز قيل هذا، افترق معنياهما. فعلم أن لكل واحد منهما معنى غير معنى الآخر»[7].


[1] ينظر مثلاً: تأويلات أهل السُّنَّة للماتريدي (1/386 ـ 387)، ومشكل الحديث وبيانه لابن فورك (327)، والكشاف للزمخشري (1/184 ـ 185)، وزاد المسير لابن الجوزي (1/35 ـ 36)، ومفاتيح الغيب للرازي (1/308) و(4/73)، وأقاويل الثقات للكرمي (75).
[2] ينظر: تفسير النسفي (1/53)، وأقاويل الثقات (75).
[3] مفاتيح الغيب (1/308)، وينظر: الكشاف للزمخشري (1/184 ـ 185).
[4] ينظر: جامع البيان للطبري (1/301).
[5] انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (7/111).
[6] جامع البيان للطبري (1/304).
[7] جامع البيان للطبري (1/304، 306).


1 ـ «الاستهزاء بالدين؛ أحكامه وآثاره»، لأحمد بن محمد القرشي.
2 ـ «أقاويل الثقات في تأويل الأسماء والصفات والآيات المحكمات والمتشابهات»، لمرعي الكرمي.
3 ـ «جامع البيان»، لابن جرير الطبري.
4 ـ «الحجة في بيان المحجة»، لإسماعيل الأصبهاني.
5 ـ «لسان العرب»، لابن منظور.
6 ـ «مجموع الفتاوى»، لابن تيمية.
7 ـ «مقاييس اللغة»، لابن فارس.
8 ـ «الصارم المسلول»، لابن تيمة.
9 ـ «الشفا في حقوق المصطفى»، للقاضي عياض.
10 ـ «الاستغاثة في الرد على البكري»، لابن تيمية.