حرف السين / السَّبّ

           

قال ابن فارس: «السين والباء حدَّه بعض أهل اللغة ـ وأظنه ابن دريد ـ أن أصل هذا الباب: القطع، ثم اشتق الشتم، وهذا الذي قاله صحيح، وأكثر الباب موضوع عليه؛ من ذلك السِّب: الخمار؛ لأنه مقطوع من منسجه»[1].
السب: مصدر: سببته سبًّا، وهو: الشتم، وقد سبَّه يسُبّه بمعنى: قطعه، ولا قطيعة أقطع من الشتم، والتسابُّ: التشاتم والتقاطع، ويقال: رجل سُبَبة؛ إذا كان يسب الناس كثيرًا[2].


[1] مقاييس اللغة (3/63) [دار الجيل، 1420هـ].
[2] انظر: تهذيب اللغة (12/312) [الدار المصرية للتأليف والترجمة]، والصحاح للجوهري (1/144) [دار العلم للملايين، ط3]، ومقاييس اللغة (3/63)، ولسان العرب (6/137) [دار إحياء التراث العربي، ط3].


هو الكلام الذي يقصد به الانتقاص والاستخفاف، وهو ما يفهم منه السب في عقول الناس، على اختلاف اعتقاداتهم؛ كاللعن والتقبيح ونحوه. وهو الذي دلَّ عليه قوله تعالى: {وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] [1].


[1] انظر: الصارم المسلول (3/1041).


العلاقة بينهما ظاهرة جدًّا؛ إذ السب في اللغة هو الشتم، وهذا المعنى موجود في المعنى الاصطلاحي، ولم يخرج عن معناه في اللغة.



الشتم.



حكم السب يختلف باختلاف مراتبه:
1 ـ فَسَبُّ الله تعالى، وسب رسوله صلّى الله عليه وسلّم، وسب دينه: كفر أكبر ظاهرًا وباطنًا، سواء كان عن طريق الجد أو المزاح، وأعظمها كفرًا سب الله تعالى. قال ابن قدامة رحمه الله: «ومن سب الله تعالى كفر، سواء كان مازحًا أو جادًّا»[1].
وقال ابن تيمية رحمه الله: «إن سبَّ الله أو سب رسوله كفر ظاهرًا وباطنًا، سواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم، أو كان مستحلًّا، أو كان ذاهلاً عن اعتقاده، هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السُّنَّة القائلين بأن الإيمان قول وعمل»[2].
وقال العلامة ابن باز رحمه الله: «سب الدين، والرب جلَّ وعلا، كل ذلك من أعظم أنواع الكفر بإجماع أهل العلم»[3].
2 ـ وسب المسلم بغير حق محرم بإجماع أهل العلم، وفاعله فاسق.
قال النووي رحمه الله: «فسب المسلم بغير حق حرام بإجماع الأمة، وفاعله فاسق كما أخبر به النبي صلّى الله عليه وسلّم»[4].


[1] المغني (12/298) [دار الجيل، 1420هـ].
[2] الصارم المسلول (3/955).
[3] مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لابن باز (1/442) [مكتبة ابن تيمية، القاهرة].
[4] شرح صحيح مسلم للنووي (2/54) [دار الجيل، 1420هـ].


حقيقة السب: هو الشتم، وهو كل كلام قبيح يوجب الإهانة والنقص والاستخفاف، وليس له ضابط، أو حد معين؛ بل المرجع فيه إلى العرف المعتبر.
يقول ابن تيمية رحمه الله: «وإذا لم يكن للسب حد معروف في اللغة، ولا في الشرع، فالمرجع فيه إلى عرف الناس، فما كان في العرف سبًّا فهو الذي يجب أن ننزل عليه كلام الصحابة رضي الله عنهم والعلماء وما لا فلا»[1].


[1] الصارم المسلول (3/1009).


قال الله تعالى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ *وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ *لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ *} [التوبة] .
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِيناً *} [الأحزاب] .
وقال تعالى: {وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] .
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر»[1].
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «لم يكن النبي صلّى الله عليه وسلّم سبّابًا ولا فحّاشًا ولا لعّانًا، كان يقول لأحدنا عند المعتبة: ما له ترب جبينه»[2].
وعن المعرور قال: لقيت أبا ذر بالربذة وعليه حلة وعلى غلامه حلة فسألته عن ذلك؟ فقال: إني ساببت رجلاً فعيرته بأمه. فقال لي النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يا أبا ذر أعيرته بأمه!؟ إنك امرؤ فيك جاهلية...»[3].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «المستبان ما قالا فعلى البادئ، ما لم يعتد المظلوم»[4].


[1] أخرجه البخاري (كتاب الإيمان، رقم 48)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 64).
[2] أخرجه البخاري (كتاب الأدب، رقم 6031).
[3] أخرجه البخاري (كتاب الإيمان، رقم 30)، ومسلم (كتاب الأيمان، رقم 1661).
[4] أخرجه مسلم (كتاب البر والصلة والآداب، رقم 2587).


قال إسحاق بن راهوية رحمه الله: «قد أجمع العلماء على أن من سب الله عزّ وجل أو سب رسوله صلّى الله عليه وسلّم، أو دفع شيئًا أنزله الله، أو قتل نبيًّا من أنبياء الله، وهو مع ذلك مقر بما أنزل الله أنه كافر»[1].
وقال ابن عبد البر رحمه الله: «ومن شتم الله تبارك وتعالى ، أو شتم رسوله صلّى الله عليه وسلّم، أو شتم نبيًّا من أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم قتل إذا كان مظهرًا للإسلام بلا استتابة، ومنهم من يجعلها ردة يستتاب منها، فإن تاب وإلا قتل»[2].
وقال ابن تيمية رحمه الله: «فصل في من سب الله تعالى: فإن كان مسلمًا وجب قتله بالإجماع؛ لأنه بذلك كافر مرتد وأسوأ من الكافر؛ فإن الكافر يعظم الرب، ويعتقد أن ما هو عليه من الدين الباطل ليس باستهزاء بالله ولا مسبة له»[3].


[1] التمهيد لابن عبد البر (4/226).
[2] الكافي في فقه أهل المدينة المالكي (2/1091) [مكتبة الرياض الحديثة، ط2، 1400هـ].
[3] الصارم المسلول (3/1017).


السب نوعان:
الأول: دعاء؛ كأن يقول القائل لغيره: لعنه الله، أو: قبحه الله، أو: أخزاه الله، أو لا رضي الله عنه، أو لا رحمه الله، أو قطع الله دابره، فهذا وأمثاله يُعدُّ سبًّا، سواء كان للأنبياء أو لغيرهم.
الثاني: خبر؛ فهو كل ما عده الناس شتما أو سبًّا أو تنقصًا؛ كالتسمية باسم الحمار أو الكلب أو وصفه بالمسكنة والخزي والمهانة، ونحو ذلك[1].


[1] المصدر السابق (3/1005 ـ 1009).


المسألة الأولى: حكم توبة من سب الله تعالى:
اختلف العلماء فيمن سب الله تعالى؛ أتقبل توبته أم لا؟ على قولين:
القول الأول: أنها لا تقبل، وهو المشهور عند الحنابلة، ومذهب أهل المدينة؛ بل يقتل كافرًا، ولا يصلى عليه، ولا يدعى له بالرحمة، ولا يدفن في مقابر المسلمين؛ لأن هذه الردة أمرها عظيم وكبير لا تنفع فيها التوبة.
القول الثاني: أنها تقبل إذا علمنا صدق توبته إلى الله، وأقر على نفسه بالخطأ، ووصف الله بما يستحق من صفات التعظيم، وهو قول القاضي أبي يعلى وابن عقيل، وبعض المالكية، وأبي حنيفة، والشافعي، واستدلوا لذلك بعموم الأدلة الدالة على قبول التوبة؛ كقوله تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53] ، وقد كان من الكفار من يسب الله تعالى ومع ذلك تقبل توبتهم، وهذا القول هو الصحيح[1].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «والذنب وإن عظم، والكفر وإن غلظ وجسم فإن التوبة تمحو ذلك كله، والله سبحانه وتعالى لا يتعاظمه ذنب أن يغفره لمن تاب بل يغفر الشرك وغيره للتائبين»[2].
وإذا قبلت توبته فلا بد أن يؤدَّب أدبًا يردعه عن العود إلى مثل هذا الجرم العظيم. قال ابن تيمية رحمه الله: «وإذا قبلنا توبة من سب الله سبحانه، فإنه يؤدب أدبًا وجيعًا حتى يردعه عن العود إلى مثل ذلك، هكذا ذكره بعض أصحابنا»[3].
وهذا الخلاف بين العلماء إنما هو في قبول توبتهم في الظاهر من أحكام الدنيا، وثبوت أحكام الإسلام في حقهم، وأما قبول الله تعالى لتوبتهم في الباطن وغفرانه لمن تاب وأقلع باطنًا وظاهرًا فلا خلاف فيه؛ فإن الله تعالى قال في المنافقين: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا *} [النساء] .
المسألة الثانية: حكم قبول توبة من سب النبي صلّى الله عليه وسلّم:
من وقع منه سب للنبي صلّى الله عليه وسلّم أتقبل توبته أم لا؟ اختلف أهل العلم في ذلك على قولين:
القول الأول: أنها لا تقبل، وهو المشهور عند الحنابلة والمالكية؛ بل يقتل كافرًا مرتدًّا وتجري عليه أحكام المرتد، ولا تقبل توبته؛ لشناعة ردته، فلا تنفع فيها التوبة.
القول الثاني: أن توبته مقبولة إذا علم صدق توبته إلى الله وإقراره بالخطأ؛ لعموم الأدلة الدالة على قبول التوبة؛ كقوله تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53] .
وهذا هو الصحيح، واختاره جمع من أهل العلم، منهم ابن تيمية رحمه الله، لكن لا بد من قتله؛ لأن سب الرسول صلّى الله عليه وسلّم يتعلق به أمران:
الأول: أمر شرعي؛ لكونه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومن هذا الوجه تقبل توبته إذا تاب.
الثاني: أمر شخصي؛ لكونه من المسلمين، ومن هذا الوجه يجب قتله لحقه صلّى الله عليه وسلّم، ويقتل بعد توبته على أنه مسلم، وذلك لاستهانته بحق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم[4].


[1] القول المفيد (2/268).
[2] مجموع الفتاوى (2/358).
[3] الصارم المسلول (3/1030).
[4] القول المفيد (5/268).


المخالفون في هذه المسألة على وجهين:
أحدهما: منهم من جعل مناط التكفير للسب هو استحلال السب، وليس مجرد السب، وهذا مخالف لما عليه أئمة الدين وإجماع سلف الأمة.
وقال القاضي أبو يعلى رحمه الله: «من سب الله ورسوله فإنه يكفر، سواء استحلَّ السب أو لم يستحلُّه»[1].
وقال ابن تيمية رحمه الله: «القول بأن كفر السّاب في نفس الأمر إنما هو لاستحلاله السب زلة منكرة وهفوة عظيمة، ومذهب أهل السُّنَّة والجماعة أن السب للرسول صلّى الله عليه وسلّم كفر، سواء استحله أو لم يستحله».
الثاني: وهو ما ذهب إليه الجهمية المرجئة، ومن وافقهم من الأشعرية، حيث جعلوا سب الله تعالى وسب رسوله صلّى الله عليه وسلّم كفرًا في الظاهر دون الباطن؛ أي: أن من وقع منه السب فهو دليل في الظاهر وأمارة على كفره، وقد يكون مع هذا مؤمنًا موحدًا في الباطن، وهذا مبني على أصل مذهبهم في الإيمان، وأنه مجرد التصديق، أو المعرفة القلبية[2].
وهذا القول باطل من وجهين[3]:
الأول: أن هذا القول هو معلوم الفساد بالضرورة من الدين؛ إذ إن من سب الله تعالى، وسب رسوله، وسب دينه، فهو كافر باطنًا وظاهرًا، وقد ذكر الله كلمات الكفار في القرآن، وحكم بكفرهم، واستحقاقهم الوعيد بها، ولو كانت أقوالهم الكفرية بمنزلة شهادة الشهود عليهم، أو بمنزلة الإقرار الذي يغلط فيه المقر لم يجعلهم الله من أهل الوعيد بالشهادة التي قد تكون صدقًا، وقد تكون كذبًا؛ بل كان ينبغي أن لا يعذبهم إلا بشرط صدق الشهادة، وهذا كقوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 17] ، وأمثالها كثير.
الثاني: معلوم بالاضطرار من أنفسنا عند التأمل، وهو أن القلب إذا كان معتقدًا صدق الرسول، وأنه رسول الله، وكان محبًّا لرسول الله، ومعظمًا له، امتنع هذا أن يسبه، أو يلعنه، فلا يتصور ذلك منه، إلا مع نوع الاستخفاف به وبحرمته، فعلم بذلك أن مجرد اعتقاد أنه صادق لا يكون إيمانًا إلا مع محبته وتعظيمه بالقلب.


[1] الصارم المسلول (2/957 ـ 960).
[2] انظر: الصارم المسلول (2/515).
[3] انظر: مجموع الفتاوى (7/557 ـ 561).


1 ـ «أحكام أهل الذمة»، لابن القيِّم.
2 ـ «الاستهزاء بالدين أحكامه وآثاره»، لأحمد القرشي.
3 ـ «تيسير العزيز الحميد»، لسليمان بن عبد الله.
4 ـ «الشفا»، للقاضي عياض.
5 ـ «الصارم المسلول»، لابن تيمية.
6 ـ «فتح الباري»، لابن حجر.
7 ـ «القول المفيد على كتاب التوحيد»، لابن عثيمين.
8 ـ «المسائل العقدية التي حكى فيها ابن تيمية الإجماع»، لمجموعة من الباحثين.
9 ـ «المغني»، لابن قدامة.
10 ـ «نواقض الإيمان القولية والاعتقادية»، لعبد العزيز آل عبد اللطيف.