حرف السين / سب الدهر

           

السَّب : قال ابن فارس رحمه الله: «السين والباء حدَّه بعض أهل اللغة ـ وأظنه ابن دريد ـ: أن أصل هذا الباب القطع، ثم اشتق منه الشتم، وهذا الذي قاله صحيح، وأكثر الباب موضوع عليه، فأما الأصل: فالسَّب: العقر، يقال: سببت الناقة إذا عقرتها»[1].
السَّب: مصدر سببته سبًّا، وهو: الشتم، وقد سبَّه يسُبّه بمعنى قطعه، ولا قطيعة أقطع من الشتم، والتسابُّ: التشاتم، والتقاطع، ويقال: رجل سُببة: إذا كان يسب الناس كثيرًا[2].
والدهر : قال ابن فارس رحمه الله: «الدال والهاء والراء أصل واحد: وهو الغلبة والقهر، وسمِّي الدهر دهرًا؛ لأنه يأتي على كل شيء ويغلبه»[3].
والدهر: الزمان، وقد نص بعض أهل اللغة على أنهما بمعنى واحد ـ أي: الدهر والزمان ـ، والدهر عند العرب يقع على بعض الدهر الأطول، ويقع على مدة الدنيا كلها، وهو الأمد الممدود[4].


[1] مقاييس اللغة (3/63) [دار الجيل، ط1420هـ].
[2] انظر: تهذيب اللغة (12/312) [الدار المصرية للتأليف والترجمة]، والصحاح (1/144) [دار العلم للملايين، ط3، 1404هـ]، ومقاييس اللغة (3/63)، ولسان العرب (6/137) [دار إحياء التراث العربي، ط3].
[3] مقاييس اللغة (2/305 ـ 306).
[4] انظر: الصحاح (2/661)، ولسان العرب (4/293)، وترتيب القاموس المحيط (2/222) [دار عالم الكتب، ط4، 1417هـ].


سَبُّ الدهر: هو شتم الزمان، الذي هو محل الحوادث، أو ذمه، أو لعنه، أو تنقصه، أو نسبة الشر إليه[1].


[1] انظر: التمهيد لشرح كتاب التوحيد (468) [دار التوحيد، ط1، 1424هـ].


سب الدهر ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: أن يقصد الخبر المحض دون اللوم؛ فهذا جائز، مثل أن يقول: تعبنا من شدة حر هذا اليوم أو برده، وما أشبه ذلك.
الثاني: أن يسب الدهر على أنه هو الفاعل؛ كأن يعتقد بسبه الدهر أن الدهر هو الذي يقلب الأمور إلى الخير والشر، فهذا شرك أكبر.
الثالث: أن يسب الدهر لا لاعتقاده أنه هو الفاعل؛ بل يعتقد أن الله هو الفاعل، لكن يسبه لأنه محل لهذا الأمر المكروه عنده؛ فهذا محرم، ولا يصل إلى درجة الشرك، وهو من السفه في العقل والضلال في الدين[1].


[1] انظر: القول المفيد على كتاب التوحيد (2/240) [دار ابن الجوزي، ط2، 1423هـ]، وزاد المعاد في هدي خير العباد (2/354 ـ 355) [مؤسسة الرسالة، ط7، 1415هـ].


لقد بيَّن العلماء المراد بالنهي عن السب الوارد في الحديث، ووجه كونه تعالى يتأذى بسب الدهر، وذلك لأن السب يكون متوجهًا إليه؛ لأنه هو المتصرف الذي يجري في قدره وقضائه الخير والشر والمكروه والمحبوب، أما الدهر فإنما هو زمان ووقت للحوادث، لا أن الدهر نفسه هو الذي يتصرف ويحدث هذه الحوادث التي تجري فيه، وإنما الدهر زمان ووقت للأعمال كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا *} [الفرقان] [1].


[1] انظر: معالم السنن للخطابي (4/158)، وشرح السُّنَّة للبغوي (12/357)، وإعانة المستفيد للفوزان (2/241) [مؤسسة الرسالة].


قال تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ *} [الجاثية] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قال الله عزّ وجل : يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار»[1].
وعنه رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يقولن أحدكم: يا خيبة الدهر، فإن الله هو الدهر»[2].


[1] أخرجه البخاري (كتاب تفسير القرآن، رقم 4826)، ومسلم (كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها، رقم 2246).
[2] أخرجه البخاري (كتاب الأدب، رقم 6182)، ومسلم (كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها، رقم 2246)، واللفظ له.


قال أبو عبيد رحمه الله: «تأويله عندي أن العرب كان شأنها أن تذم الدهر، وتسبه عند المصائب التي تنزل بهم، من موت أو هرم أو تلف مال أو غير ذلك، فيقولون: أصابتهم قوارع الدهر، وأبادهم الدهر، وأتى عليهم الدهر، فيجعلونه الذي يفعل ذلك فيذمونه، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا تسبوا الدهر» على تأويل: لا تسبوا الذي يفعل لكم هذه الأشياء، ويصيبكم بهذه المصائب، فإنكم إذا سببتم فاعلها، فإنما يقع السب على الله تعالى؛ لأنه عزّ وجل هو الفاعل لها لا الدهر، فهذا وجه الحديث إن شاء الله لا أعرف له وجهًا غيره»[1].
وقال الخطابي رحمه الله: «قوله: «أنا الدهر» معناه: أنا صاحب الدهر ومدبر الأمور التي تنسبونها إلى الدهر، فإذا سب ابن آدم الدهر من أجل فاعل هذه الأمور عاد سبه إلي لأني فاعلها، وإنما الدهر الزمان ووقت جعلته ظرفًا لمواقع الأمور، وكان من عادة أهل الجاهلية إذا أصابتهم شدة من الزمان أو مكروه من الأمور أضافوه إلى الدهر وسبُّوه فقالوا: بؤسًا للدهر، وتبًّا للدهر، ونحو ذلك من القول... فأعلم الله تبارك وتعالى أن الدهر محدث يقلبه بين ليل ونهار لا فعل له من خير أو شر، لكنه ظهر للحوادث ومحل لوقوعها، وأن الأمور كلها بيد الله تعالى ومن قبله يكون حدوثها وهو محدثها ومنشئها سبحانه لا شريك له»[2].
وقال السعدي رحمه الله: «وهذا واقع كثيرًا في الجاهلية ـ يعني: سب الدهر ـ، وتبعهم على هذا كثير من الفساق، والمجان، والحمقى إذا جرت تصاريف الدهر على خلاف مرادهم جعلوا يسبون الدهر، والوقت، وربما لعنوه، وهذا ناشئ من ضعف الدين، ومن الحمق، والجهل العظيم؛ فإن الدهر ليس عنده من الأمر شيء؛ فإنه مدبِّر مصرِّف، والتصاريف الواقعة فيه تدبير العزيز الحكيم، ففي الحقيقة يقع العيب والسب على مدبره، وكما أنه نقص في الدين فهو نقص في العقل»[3].


[1] غريب الحديث (2/146 ـ 147).
[2] أعلام الحديث (3/1904) [جامعة أم القرى، مكة المكرمة، ط1، 1409هـ].
[3] القول السديد ضمن المجموعة الكاملة للسعدي (3/43) [مركز صالح بن صالح الثقافي، ط2].


ـ الدهر ليس من أسماء الله:
ذهب بعض أهل العلم ـ كابن حزم وغيره ـ إلى عد (الدهر) من أسماء الله تعالى الحسنى، واستدلوا بالحديث المتقدم: «يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر» . وهذا استدلال باطل لا حجة فيه؛ لأن من تأمل هذا الحديث علم أنه ليس مراد النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما يرويه عن الله عزّ وجل أن يبين أن الدهر من أسماء الله تعالى؛ لأن الله بيَّن ذلك فقال: «أنا الدهر بيدي الأمر أقلِّب الليل والنهار» ، وهذا يعني أن الذين يسبون الدهر إنما يطلقونه على ما يخلقه الله عزّ وجل من العواصف والنوازل، ولا يقع في نفوسهم أنهم يسبون الله بل إنما يسبون الزمان أو المكان، والدليل على ذلك أن الله تعالى قال: «أقلب الليل والنهار» ، فالليل والنهار يقلِّبهما الله، وهما الدهر، ومعلوم أن المقلِّب غير المقلَّب.
وأيضًا: فالدهر اسم جامد بمعنى الوقت والزمن، والله تعالى يقول: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف: 180] . والاسم الجامد هو الذي لا يدل على وصف، ولذلك فليس الدهر من الأسماء الحسنى[1].
قال ابن تيمية: «أجمع المسلمون ـ وهو مما علم بالعقل الصريح ـ أن الله سبحانه وتعالى ليس هو الدهر الذي هو الزمان، أو ما يجري مجرى الزمان»[2].


[1] انظر: شرح القواعد المثلى لابن عثيمين (45 ـ 46) [دار الآثار، ط1، 1423هـ].
[2] مجموع الفتاوى (2/494) [مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، ط2، 1425هـ].


من المفاسد المترتبة على سب الدهر:
أولاً: سب من ليس بأهل أن يسب؛ فإن الدهر خلقٌ مسخَّرٌ من خلق الله منقاد لأمره مذلل لتسخيره، فسابه أولى بالذم والسب منه.
ثانيًا: أن سبه متضمن للشرك؛ فإنه إنما سبه لظنه أنه يضر وينفع وأنه ظالم.
ثالثًا: أن السب منهم إنما يقع على من هذه الأفعال التي لو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض، وإذا وافقت أهواءهم حمدوا الدهر وأثنوا عليه[1].


[1] انظر: زاد المعاد (2/354 ـ 355).


1 ـ «أعلام الحديث»، للخطابي.
2 ـ «التمهيد»، لابن عبد البر.
3 ـ «تيسير العزيز الحميد»، لسليمان بن عبد الله.
4 ـ «شأن الدعاء»، للخطابي.
5 ـ «غريب الحديث»، لأبي عبيد القاسم بن سلام.
6 ـ «الصارم المسلول»، لابن تيمية.
7 ـ «فتح الباري»، لابن حجر.
8 ـ «فتح المجيد»، لعبد الرحمن بن حسن.
9 ـ «القول المفيد على كتاب التوحيد»، لابن عثيمين.
10 ـ «معجم المناهي اللفظية»، لبكر أبي زيد.