قال ابن فارس: «السين والحاء والراء أصول ثلاثة متباينة: أحدها: عضو من الأعضاء، والآخر: خدع وشبهه، والثالث: وقت من الأوقات... وأما الثاني: فالسحر، قال قوم: هو إخراج الباطل في صورة الحق، ويقال: هو الخديعة»[1].
فالسِّحر: الأُخذة: وهو كل ما خفي مأخذه ودق، وقد سحره يسحره سحرًا، وأصل السحر صرف الشيء عن حقيقته إلى غيره، وسحره بمعنى خدعه وعلَّله، وسحره بكلامه إذا استماله برقته وحس تركيبه[2].
[1] مقاييس اللغة (3/138) [دار الجيل، ط1420هـ].
[2] انظر: الصحاح (2/679) [دار العلم للملايين، ط3، 1404هـ]، وتهذيب اللغة (4/290) [الدار المصرية للتأليف والترجمة]، ولسان العرب (6/189) [دار إحياء التراث العربي، ط3، 1419هـ].
قال الشنقيطي رحمه الله: «اعلم أن السحر في الاصطلاح لا يمكن حده بحد جامع؛ لكثرة الأنواع المختلفة الداخلة تحته، ولا يتحقق قدر مشترك بينها يكون جامعًا لها، مانعًا لغيرها، ومن هنا اختلفت عبارة العلماء في حده اختلافًا متباينًا»[1].
فالسِّحر: اسم جامع لمعانٍ مختلفة[2]، ومن أشهر التعريفات ما عرفه ابن قدامة رحمه الله بقوله: «وهو عقد ورقى، وكلام يتكلم به، أو يكتبه، أو يعمل شيئًا يؤثر في بدن المسحور، أو قلبه، أو عقله، من غير مباشرة له، وله حقيقة، فمنه ما يقتل، ما يُمرض، وما يأخذ الرجل عن امرأته، فيمنعه وطأها، ومنه ما يفرق بين المرء وزوجه، وما يُبغض أحدهما إلى الآخر، أو يحبب بين الاثنين»[3].
[1] أضواء البيان (4/555) [دار عالم الفوائد، ط1، 1426هـ].
[2] قاله الإمام الشافعي في كتابه الأم (2/566) [دار الوفاء، ط1، 1422هـ].
[3] المغني (12/299) [دار عالم الكتب، ط3].
سُمِّي السحر سحرًا؛ لأنه يحصل بأمور خفية لا تدرك بالأبصار، فالساحر يؤثر في الخفاء فيقوم بعمل رقى أو عزائم أو عقد يكون تأثيرها في القلوب والأبدان[1].
وقد ذُكر أن العرب إنما سمَّت السحر سحرًا؛ لأنه يزيل الصحة إلى المرض، فأصله صرف الشي عن جهته، فإن الساحر لما أرى الباطل في صورة الحق، وخيَّل الشيء على غير حقيقته، فقد سحر الشي عن وجهه؛ أي: صرفه. وإنما يقال سحره: أي: أزاله عن البغض إلى الحب، ويقولون للرجل: ما سحرك عن وجه كذا وكذا؟ أي: ما صرفك عنه؟[2].
[1] انظر: حاشية على كتاب التوحيد لابن قاسم (186) [ط5، 1424هـ].
[2] انظر: تهذيب اللغة (4/291، 292).
السحر من المحرمات الكفرية المتقرر حرمتها بالكتاب العزيز والسُّنَّة النبوية والإجماع، وهو من أكبر الكبائر والسبع الموبقات، والساحر كافر عند أكثر أهل العلم.
قال النووي رحمه الله: «عمل السحر حرام، وهو من الكبائر بالإجماع، وقد عدّه النبي صلّى الله عليه وسلّم من السبع الموبقات»[1].
[1] صحيح مسلم بشرح النووي (14/176) [المطبعة المصرية بالأزهر، ط1، 1349هـ].
للسحر أكثر من حقيقة، وكلها مذمومة، وحكم صاحبها يختلف تبعًا لاختلاف تلك الحقائق، ويمكن حصر حقائقه فيما يلي:
1 ـ طاعة الجن والشياطين لأمر الساحر ونهيه.
2 ـ الكلام المؤلف الذي يقصد به تعظيم غير الله تعالى، وتنسب المقادير والكائنات فيه إلى غير الله، فيبلغ فيه قائله غرضه، وهذه الحقيقة يدخل فيها معظم أقسام السحر مع اختلاف صورها وتباين أشكالها، سواء كانت بنسبة الحوادث إلى بعض الأفلاك، أو كانت بمباشرة الساحر لأعماله في أشياء معينة يستخدمها بمعاونة الشياطين.
3 ـ أعمال فاسدي الدين وخبيثي النفوس بطريقة خفية يقصد بها الإرعاب والتهويل مما يجري مجرى الحيل، وهذه تسمى النيرنجيات، وفي هذه الحقيقة يدخل من أقسام السحر ما كان تخييلاً وخداعًا لا أصل له مما يوحي به الساحر لضعاف العقول، فيخرج بصورة الواقع والحقيقة وهو ليس كذلك.
وتلك الحقائق الثلاث تبرز أن كل ما هو سحر في المعنى الاصطلاحي فهو ضرر لا نفع فيه، إما أن يخرج من الدين وإما أن يكون صاحبه من أهل الكذب والبهتان البيِّن وهذا متحقق في السحر[1].
وأما دخول السحر في الشرك فمن وجهين[2]:
الوجه الأول: ما فيه من استخدام الشياطين والتعلق بهم والتقرب إليهم بما يحبون ليقوموا بخدمة الساحر ومطلوبه.
الوجه الثاني: ما فيه من دعوى علم الغيب ودعوى مشاركة الله في علمه، وهذا كفر وضلال.
[1] كتاب السحر بين الحقيقة والخيال للحمد (91 ـ 93).
[2] القول السديد للسعدي ـ ضمن المجموعة الكاملة له (3/29 ـ 30) [مركز صالح بن صالح الثقافي، ط2، 1412هـ].
قال الله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ} [البقرة: 102] . وقال : {وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى *} [طه] ، وقال عزّ وجل: {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ *} [الأنبياء] .
ومن السُّنَّة: حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات»[1].
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «سحر رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم رجل من بني زريق يقال له: لبيد بن الأعصم، حتى كان رسول الله يخيَّل إليه أنه يفعل الشيء وما فعله»[2]. وفي رواية قالت: «كان رسول الله سُحر حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن». قال سفيان: وهذا أشد ما يكون من السحر إذا كان كذا[3].
وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ليس منّا من تطيَّر أو تُطير له، أو تكهن أو تُكهن له، أو سحر أو سُحر له»[4].
وأما الإجماع فقد حكاه جمع من العلماء.
قال ابن قدامة رحمه الله: «إن تعلُّم السحر وتعليمه حرام، لا نعلم فيه خلافًا بين أهل العلم»[5].
[1] أخرجه البخاري (كتاب الوصايا، رقم 2766)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 89).
[2] أخرجه البخاري (كتاب الطب، رقم 5763)، ومسلم (كتاب الطب، رقم 2189).
[3] أخرجه البخاري (كتاب الطب، رقم 5765).
[4] أخرجه البزار في مسنده (9/52) [مكتبة العلوم والحكم، ط1، 1418هـ]، والطبراني في الكبير (18/162) [مكتبة ابن تيمية، ط2]، وجود المنذري إسنادَ البزار في الترغيب والترهيب (4/17) [دار الكتب العلمية، ط1]، وصحَّحه الألباني في السلسلة الصحيحة (5/228) [مكتبة المعارف، ط1، 1416هـ].
[5] المغني (12/300).
قال الخطابي رحمه الله: «والسحر من عمل الشيطان، يفعله في الإنسان بنفثه، وهمزه ووسوسته، ويتولاه الساحر بتعليمه إياه، ومعونته عليه، فإذا تلقاه عنه استعمله في غيره بالقول، والنفث في العقدة، وللكلام والقول تأثير بيِّن في النفوس والطباع، ولذلك صار الإنسان يحمى ويغضب إذا سمع الكلام المكروه، وربما حُمَّ الإنسان من غم يصيبه، وبقول يسمعه، وقد مات فيما رويناه من الأخبار قوم بكلام سمعوه، ولقول امتعضوا منه»[1].
وقال السمعاني: «والسحر يتحقق وجوده على مذهب أهل السُّنَّة، ويؤثر، ولكن العمل به كفر»[2].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «والسحر محرم بالكتاب والسُّنَّة والإجماع»[3].
[1] أعلام الحديث (3/1503).
[2] تفسير السمعاني (1/116).
[3] مجموع الفتاوى (35/171) [مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، ط2، 1425هـ].
أقسام السِّحر باعتبار الشرع.
فهو في الشرع ينقسم إلى قسمين[1]:
أحدهما: عُقد ورقى؛ أي: قراءات وطلاسم يتوصل بها الساحر إلى استخدام الشياطين فيما يريد به ضرر المسحور، لكن قد قال الله تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102] وهذا القسم شرك.
ثانيها: أدوية وعقاقير تؤثر على بدن المسحور وعقله وإرادته وميله فتجده ينصرف ويميل وهو ما يسمى بالصرف والعطف، وهذا عدوان وفسق.
أقسام السحر باعتبار المسحور.
فهو باعتبار المسحور قسمان[2]:
أحدهما: قسم تخييلي، وهو السحر الذي يجعل الإنسان يتخيل شيئًا لم يحدث؛ كسحر سحرة فرعون، قال تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى *} [طه] فلم يكن سحرهم سوى خيالات ترهب بظاهرها وتؤثر في القلوب.
ثانيها: سحر حقيقي، وهو السحر الذي يؤثر في المسحور بمرض أو موت، ومنه ما حدث للنبي صلّى الله عليه وسلّم حين سحره اليهودي لبيد بن الأعصم.
[1] انظر: القول المفيد لابن عثيمين (1/489 ـ 490) [دار ابن الجوزي، ط2، 1423هـ].
[2] انظر: قواعد ومسائل في توحيد الإلهية لعبد العزيز الريس (197 ـ 198) [ط1، 1426هـ].
المسألة الأولى: حكم الساحر:
اختلف العلماء في حكم الساحر أيكفر أم لا؟ على قولين[1]:
القول الأول: أنه يكفر مطلقًا، قال به طائفة من السلف، وبه قال أبو حنيفة ومالك وأحمد رحمهم الله تعالى وعليه جمهور العلماء.
القول الثاني: وهو التفصيل: فإذا تعلم السحر يقال له: صف لنا سحرك، فإذا وصف ما يستوجب الكفر مثل سحر أهل بابل من التقرب للكواكب، وأنها تفعل ما يطلب منها فهو كافر، وإن كان لا يصل إلى حد الكفر واعتقد إباحته فهو كافر لاستحلاله المحرم وإلا فلا، وهذا ما ذهب إليه الشافعي رحمه الله[2]، ورواية عن أحمد أنه لا يكفر، وقال أصحاب أبي حنيفة بالتفصيل كذلك[3].
وعند تأمل القولين فلا اختلاف معنوي بينهما؛ فإن من لم يكفر لظنه أنه سيأتي بدون الشرك وليس كذلك؛ بل لا يتأتى السحر الذي من قبل الشياطين إلا بالشرك وعبادة الشياطين والكواكب ولهذا سماه الله كفرًا في قوله: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ} [البقرة: 102] .
وأما سحر الأدوية والتدخين ونحوه، فليس بسحر حقيقة، وإن سُمِّي سحرًا على سبيل المجاز؛ كتسمية القول البليغ سحرًا، وهو محرم لمضرته[4].
المسألة الثانية: حكم قتل الساحر:
اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في حكم قتل الساحر على قولين[5]:
القول الأول: أنه يقتل بمجرد السحر؛ لأنه كفر، وهو قول أكثر العلماء، قال به أبو حنيفة، ومالك وأحمد، وغيرهم.
القول الثاني: أنه لا يقتل بمجرد السحر، إلا إذا عمل عملاً يبلغ به الكفر وهو قول الشافعي رحمه الله، ورواية عن أحمد، وغيرهم.
وقد احتج أصحاب القول الأول بأدلة عدة، منها:
عن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «حد الساحر ضربة بالسيف»[6].
وعن بجالة بن عبدة قال: «أتانا كتاب عمر رضي الله عنه قبل موته بسنة أن اقتلوا كل ساحر، وربما قال: وساحرة، وفرقوا بين كل ذي محرم من المجوس وانهوهم عن الزمزمة، فقتلنا ثلاث سواحر»[7].
وعن حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنها «أن جارية لها سحرتها فأقرت بالسحر وأخرجته فقتلتها، فبلغ ذلك عثمان رضي الله عنه فغضب فأتاه ابن عمر رضي الله عنهما فقال: جاريتها سحرتها أقرت بالسحر وأخرجته، قال: فكف عثمان رضي الله عنه، قال: إنما كان غضبه لقتلها إياها بغير أمره»[8].
وهذا القول هو الصواب ولا يعلم لعمر وجندب وحفصة رضي الله عنهم مخالف لهم من الصحابة رضي الله عنهم.
وأما أصحاب القول الثاني فقد استدلوا على عدم قتل الساحر بأدلة عدة منها:
ما رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمارق من الدين التارك للجماعة»[9].
وأجيب عن هذا الاستدلال بأن الصحابة رضي الله عنهم لم ينكر عليهم في قتل الساحر، فكان هذا إجماعًا على العمل بما ورد في حد الساحر والخاص يقضي على العام.
واستدلوا أيضًا بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يقتل لبيد بن الأعصم اليهودي الذي سحره صلّى الله عليه وسلّم، وأجيب عن هذا الاستدلال بأن عدم قتله كان خشية إثارة الفتنة.
وبالجملة؛ فإن قتل الساحر هو الصحيح؛ لأنه مفسد في الأرض يفسد الأديان والأبدان، وبقاؤه على وجه الأرض فيه فساد كبير وخطر جسيم، وفي قتله قطع لفساده وكف لشره وإراحة للبلاد والعباد من شروره وأضراره.
المسألة الثالثة: قبول توبة الساحر:
إذا تاب الساحر هل تقبل توبته أم لا؟ اختلف أهل العلم في ذلك على قولين:
القول الأول: عدم قبول توبته وهو قول أبي حنيفة ومالك وأحمد في المشهور عنه.
القول الثاني: قبول توبته وهو قول الشافعي ورواية عن الإمام أحمد.
وعلَّل أصحاب القول الأول ما ذهبوا إليه بأن الردة بفعل السحر باطنة، والمرتد باطنًا لا تعرف توبته بإظهار الإسلام، وعلم السحر لا يزول بالتوبة، وأن الساحر جمع إلى الردة السعي في الأرض بالفساد، وهذا في حالة ما إذا شهد عليه بذلك، أما إذا تاب قبل أن يشهد عليه بالسحر قبلت توبته لقوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ *} [المائدة] فحكم الساحر يكون كذلك.
وأما أصحاب القول الثاني فعللوا بأن ذنب الساحر لا يزيد على الشرك، والمشرك يستتاب فإن تاب قبلت توبته وخُلِّي سبيله فكذلك الساحر، علمه بالسحر لا يمنع توبته بدليل ساحر أهل الكتاب إذا أسلم، ولذلك صح إيمان سحرة فرعون وتوبتهم.
والقول الأول أصح لظاهر عمل الصحابة رضي الله عنهم فلو كانت الاستتابة واجبة لفعلوها أو بيّنوها.
وأما قياسه على المشرك فلا يصح؛ لأنه أكثر فسادًا وتشويهًا من المشرك، وكذلك لا يصح قياسه على ساحر أهل الكتاب؛ لأن الإسلام يجبُّ ما قبله، وهذا الخلاف إنما هو في إسقاط الحد عنه بالتوبة أما فيما بينه وبين الله فإن كان صادقًا قبلت توبته[10].
المسألة الرابعة: حل السحر عن المسحور.
وهو ما يعرف باسم النشرة، قال ابن القيِّم رحمه الله: «النشرة: حل السحر عن المسحور، وهي نوعان: حل سحر بسحر مثله، وهو الذي من عمل الشيطان؛ فإن السحر من عمله، فيتقرب إليه الناشر والمنتشر بما يحب، فيبطل عمله عن المسحور، والثاني: النشرة بالرقية والتعوذات والدعوات والأدوية المباحة، فهذا جائز؛ بل مستحب، وعلى النوع المذموم يحمل قول الحسن: لا يحل السحر إلا ساحر»[11].
أما ما رواه البخاري في صحيحه معلقًا عن قتادة: قلت لابن المسيب: «رجل به طب أو يؤخذ عن امرأته، أيحل عنه أو ينشر؟ قال: لا بأس به إنما يريدون به الإصلاح فأما ما ينفع فلم ينه عنه»[12].
فهو محمول على نوع من النشرة لا محذور فيه؛ لأن الحديث قد صح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال لما سئل عن النشرة: «هو من عمل الشيطان»[13].
وحل السحر بسحر مثله أمر محرم، لا يحقق خيرًا، ولا يجلب مصلحة.
وفي الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه موقوفًا قال: «إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حُرِّم عليكم»[14].
وقياس حل السحر بسحر مثله على إباحة المحرمات للمضطر قياس ضعيف.
قال ابن تيمية: «والذين جوزوا التداوي بالمحرم قاسوا ذلك على إباحة المحرمات كالميتة والدم للمضطر، وهذا ضعيف لوجوه:
أحدها: أن المضطر يحصل مقصوده يقينًا بتناول المحرمات؛ فإنه إذا أكلها سدت رمقه، وأزالت ضرورته، وأما الخبائث؛ بل وغيرها فلا يتيقَّن حصول الشفاء بها، فما أكثر من يتداوى ولا يشفى، ولهذا أباحوا دفع الغصة بالخمر؛ لحصول المقصود بها، وتعينها له، بخلاف شربها للعطش، فقد تنازعوا فيه، فإنهم قالوا: إنها لا تروي.
الثاني: أن المضطر لا طريق له إلى إزالة ضرورته إلا الأكل من هذه الأعيان، أما التداوي فلا يتعين تناول هذا الخبيث طريقًا لشفائه؛ فإن الأدوية أنواع كثيرة، وقد يحصل الشفاء بغير الأدوية؛ كالدعاء والرقية، وهو أعظم نوعي الدواء.
وقد يحصل الشفاء بغير سبب اختياري؛ بل بما يجعله الله في الجسم، من القوى الطبيعية، ونحو ذلك.
الثالث: أن أكل الميتة للمضطر واجب عليه، في ظاهر مذهب الأئمة، وغيرهم. كما قال مسروق: من اضطر إلى الميتة فلم يأكل حتى مات دخل النار. وأما التداوي فليس بواجب عند جماهير الأئمة، وإنما أوجبه طائفة قليلة، وإذا كان أكل الميتة واجبًا والتداوي ليس بواجب، لم يجز قياس أحدهما على الآخر»[15].
وحل السحر بالسحر فيه مفاسد خطيرة وظاهرة، والقاعدة الشرعية: دفع المفاسد أولى من جلب المصالح، يبيِّنها العلامة حافظ حكمي رحمه الله بقوله: «أما حل السحر عن المسحور بسحر مثله: فيحرم؛ فإنه معاونة للساحر، وإقرار له على عمله، وتقرب إلى الشيطان بأنواع القرب ليبطل عمله عن المسحور ولهذا ترى كثيرًا من السحرة الفجرة في الأزمان التي لا سيف فيها يردعهم، يتعمد سحر الناس، ممن يحبه أو يبغضه؛ ليضطره بذلك إلى سؤاله حلَّه؛ ليتوصل بذلك إلى أموال الناس بالباطل، فيستحوذ على أموالهم ودينهم»[16].
المسألة الخامسة: حكم الذهاب إلى السحرة والكهان والمنجمين وسؤالهم:
الذهاب إلى السحرة والكهان ونحوهم جرم عظيم، وإثم كبير جاءت الأحاديث النبوية الصحيحة بالنهي عن إتيانهم، وسؤالهم وتصديقهم، والوعيد على ذلك أشد الوعيد وأزجره.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أتى كاهنًا أو عرّافًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد»[17].
وعن بعض أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أتى عرّافًا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة»[18].
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «من أتى كاهنًا أو ساحرًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم»[19].
وقال ابن حجر رحمه الله معلقًا على هذا الأثر: «إسناده جيد ومثله لا يقال بالرأي».
قال سليمان بن عبد الله رحمه الله معلقًا على هذا الأثر: «وفيه دليل على كفر الكاهن والساحر والمصدق لهما؛ لأنهما يدّعيان الغيب وذلك كفر، والمصدق لهما يعتقد ذلك ويرضى به، وذلك كفر أيضًا»[20].
وبالجملة؛ فقد تضمنت هذه الأحاديث النبوية النهي الصريح بما يردع ويزجر عن إتيانهم وسؤالهم أو تصديقهم، وربما أوقع إتيانهم وتصديقهم في الكفر والشرك المخرج من الملة.
المسألة السادسة: حكم تعلم السحر:
حكى بعض أهل العلم الاتفاق على حرمة تعلم «علم السحر» وتعليمه وأنه من كبائر الذنوب، فإن تضمن ما يقتضي الكفر من التعبد للشياطين أو الكواكب أو نحو ذلك كفر وإلا فلا، ونصوص الكتاب والسُّنَّة صريحة في حرمة تعلمه وتعليمه؛ فمن الأدلة الدالة على ذلك:
1 ـ قوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ} [البقرة: 102] فهذه الآية من أظهر الأدلة وأصرحها دلالة على تحريم تعلم السحر وتعليمه، فإن الله تعالى صرح بأن السحر يضر ولا ينفع، فإذا أثبت الله أن السحر ضار ونفى أنه نافع فكيف يجوز تعلم ما هو ضرر محض لا نفع فيه[21].
2 ـ وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أتى كاهنًا أو عرّافًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم»[22].
3 ـ وعن بعض أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أتى عرّافًا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة» [23]. فهذا في الإتيان والتصديق فكيف بالتعلم؟!
4 ـ وقد اتفق أهل العلم على حرمة تعلم السحر وتعليمه. قال ابن قدامة رحمه الله: «إن تعلم السحر وتعليمه حرام لا نعلم فيه خلافًا بين أهل العلم»[24].
5 ـ أن تعلمه قد يكون ذريعة ووسيلة إلى العمل به والذريعة إلى الحرام يجب سدها بقطع السبيل عليها[25].
6 ـ إن في تعلمه ترويجًا للباطل وتعاونًا على الإثم والعدوان وقد قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِّرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] [26].
المسألة السابعة: حكم الصرف والعطف:
من أنواع السحر ما يسمى بالصرف والعطف، أما الصرف فهو صرف الرجل عما يهواه؛ كصرفه مثلاً عن محبة زوجته إلى بغضها، وأما العطف فهو عطف الرجل عما لا يهواه إلى محبته بطرق شيطانية، وكلاهما عمل سحري.
وقد نص الشيخ محمد بن عبد الوهاب في رسالة نواقض الإسلام على هذين النوعين، قال رحمه الله: «السحر ومنه الصرف والعطف، فمن فعله أو رضي به كفر، والدليل قوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ} [البقرة: 102] .
وسحر الجمع يسمى التولة، وقد فسر ابن مسعود رضي الله عنه التولة بأنه شيء يضعه النساء يتحببن إلى أزواجهن.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «التولة بكسر المثناة وفتح الواو واللام مخففًا: شيء كانت المرأة تجلب به محبة زوجها، وهو ضرب من السحر، وإنما كانت من الشرك؛ لأنهم أرادوا دفع المضار، وجلب المنافع من غير الله تعالى، وهي في الحقيقة نوع من أنواع التمائم؛ لأنها تصنع ويكون الساحر هو الذي يرقي فيها الرقية الشركية، فيجعل المرأة تحب زوجها، أو يجعل الرجل يحب امرأته، وهذا نوع من السحر، والسحر يتضمن الشرك بالله ، وكفر عام في كل أنواع التولة فهي شرك كلها»[27].
المسألة الثامنة: حكم الألعاب البهلوانية (السيرك):
اشتهر في العصر الحديث ما يسمى بالألعاب البهلوانية (السيرك)، وهي مجموعة أنواع من اللهو واللعب تقوم بها بعض الفرق المتخصصة في هذا الشأن أمام الناس في أماكن معدة لهذا الأمر، وهذه الألعاب التي تمارس تتفاوت أحكامها بتفاوت أحوالها، ومما يمارس فيها بعض الأعمال الخارجة عن العادة البشرية؛ كالنوم على المسامير، وثني الحديد بالأعين، وجرّ السيارات بالشعور، وتكسير الصخور على الصدر، وغير ذلك، وهذا كله من قبيل السحر والدجل والشعوذة، وهو مما حرمه الإسلام وجعله من كبائر الذنوب والآثام.
وقد أصدرت اللجنة الدائمة للإفتاء فتوى برقم (20520) وتاريخ 11/8/1419هـ: بأن ما يعمله بعض السفهاء من الناس من تكسير الصخور على صدورهم، والنوم على المسامير والآلات الحادة، أو ثني الحديد بأعينهم وسحب السيارات بشعورهم أو أسنانهم، وأكل الأمواس والزجاج إلى غير ذلك من الأمور الخارجة عن العادة البشرية، كل ذلك يعتبر من الدجل والشعوذة والسحر وهو من عمل سحرة فرعون، كما قال الله عزّ وجل في سورة الأعراف: {فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ *} [الأعراف] ، وقال سبحانه في سورة طه: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى *} [طه] ، وبناء عليه لا يجوز فعل هذه الأعمال ولا تعلمها ولا نشرها ولا التشجيع عليها، والواجب محاربتها والتبليغ عن فاعليها ومعاقبتهم بما يردعهم ويكف شرهم عن الناس، فألعابهم وأعمالهم تلك فيها من الدجل والشعوذة والتلاعب والاستخفاف بعقول الناس وفساد العقيدة وأكل الأموال بالباطل ما لا يخفى، وبالله التوفيق.
وقال الفوزان: «ومنه ـ أي: السحر التخيلي ـ ما يسمى في الملاعب وغيرها من المسمى بالسيرك، وهم سحرة ودجالون يخيل إليك أنه يمشي على حبل، وأنه يمشي على طرف السكين، أو أنه يرقد تحت السيارة، وتمشي عليه ولا تضره، ويُضرب بالمطارق ولا يتأثر وهو يكذب، كل هذا ليس له حقيقة ولم تضربه مطارق ولا جاءته سكاكين ولم تمش عليه سيارة، لكن أنت يخيل إليك هذا بسبب ما يعمل من السحر الذي يخيل إلى بصرك أنه عمل كذا وكذا، وهو كذب، هذا كله سحر تخييل وهو باطل»[28].
[1] انظر: إكمال المعلم (7/89) [دار الوفاء، ط1، 1419هـ]، وشرح مسلم للنووي (14/176)، والمغني لابن قدامة (12/300 ـ 301)، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (2/275 ـ 276) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وتفسير ابن كثير (1/537 ـ 538) [مؤسسة قرطبة، ط1، 1421هـ].
[2] انظر: الأم للشافعي (2/566 ـ 567)، والمغني لابن قدامة (12/301).
[3] انظر: المغني لابن قدامة (12/300).
[4] انظر: شرح مسلم للنووي (14/176)، وأضواء البيان (4/569)، وتيسير العزيز الحميد (1/681) [دار الصميعي، ط1، 1428هـ].
[5] انظر: الجامع لأحكام القرآن (2/278)، والمغني لابن قدامة (12/302)، ومجموع الفتاوى (29/384)، وتفسير ابن كثير (1/537).
[6] أخرجه الترمذي (أبواب الحدود، رقم 1460) وقال: «لا نعرفه مرفوعًا إلا من هذا الوجه، وإسماعيل بن مسلم المكي يضعف الحديث...، والصحيح عن جندب موقوفًا»، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (3/641، رقم 1446) [مكتبة المعارف، ط1، 1412هـ].
[7] أخرجه أبو داود (كتاب الخراج والإمارة والفيء، رقم 3043)، وأحمد في المسند (3/196) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وصحَّحه ابن حزم في المحلى (12/414) [دار الفكر]، والألباني في تعليقه على سنن أبي داود، وأورده ابن قدامة في المغني (9/31) [مكتبة القاهرة]، وقال: «وهذا اشتهر فلم ينكر فكان إجماعًا».
[8] أخرجه مالك في الموطأ (كتاب العقول، رقم 3247)، وعبد الرزاق في المصنف (كتاب اللقظة، رقم 18757)، وابن أبي شيبة في المصنف (كتاب الديات، رقم 27912) [مكتبة الرشد، ط1]، والبيهقي في الكبرى (كتاب القسامة، رقم 16499) [دار الكتب العلمية، ط1]، واللفظ له، وإسناده صحيح.
[9] أخرجه البخاري (كتاب الديات، رقم 6878)، ومسلم (كتاب القسامة، رقم 1676).
[10] تيسير العزيز الحميد (1/695 ـ 696).
[11] إعلام الموقعين عن ربِّ العالمين (4/301).
[12] أخرجه البخاري معلقًا بصيغة الجزم (كتاب الطب، باب: هل يستخرج السحر؟).
[13] أخرجه أحمد في مسنده (22/40) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وعنه أبو داود (كتاب الطب، رقم 3868)، وحسن ابن حجر إسناده في فتح الباري (10/233) [دار المعرفة]، وصحَّحه الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 2760).
[14] أخرجه البخاري معلقًا بصيغة الجزم (كتاب الأشربة، باب شراب الحلواء والعسل)، وسنده صحيح. انظر: فتح الباري (10/79)، والسلسلة الصحيحة (4/175).
[15] مجموع الفتاوى (24/268).
[16] معارج القبول (2/711 ـ 712) [دار ابن الجوزي، ط6، 1430هـ].
[17] أخرجه أبو داود (كتاب الطب، باب في الكاهن، رقم 3904)، والترمذي (أبواب الطهارة، رقم 135)، وابن ماجه (كتاب الطهارة وسننها، رقم 639)، وأحمد (15/331) [مؤسسة الرسالة، ط1] واللفظ له، والدارمي (كتاب الطهارة، رقم 1176)، ونقل المناوي عن العراقي تصحيحه، كما في فيض القدير (6/23) [المكتبة التجارية الكبرى، ط1]، وصحَّحه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (رقم 2433) [مكتبة المعارف، ط5].
[18] أخرجه مسلم (كتاب السلام، رقم 2230).
[19] أخرجه البزار في مسنده (5/256) [مكتبة العلوم والحكم، ط1]، وأبو يعلى في مسنده (9/280) [دار المأمون، ط1]، وجود إسناده الحافظ ابن حجر، فتح الباري (10/217).
[20] تيسير العزيز الحميد (410).
[21] أضواء البيان (4/555).
[22] تقدم تخريجه.
[23] أخرجه مسلم (كتاب السلام، رقم 2230).
[24] المغني (12/300).
[25] أضواء البيان (4/464).
[26] التنجيم والمنجمون (297).
[27] التمهيد لشرح كتاب التوحيد (112).
[28] محاضرات في العقيدة للفوزان (3/184).
الفرق بين السحر والكرامة:
من أظهر الفروق بينها[1]:
1 ـ أن الكرامة سببها الإيمان والتقوى، وأما السحر وما شابهه من الأحوال الشيطانية فسببها ما نهى الله تعالى عنه، ونهى عنه رسوله صلّى الله عليه وسلّم؛ كالكفر بالله تعالى، والشرك، والفواحش، ونحوها مما يحبه الشيطان.
2 ـ كرامة الأولياء تقوى بذكر الله تعالى، وتوحيده، والأحوال الشيطانية تبطل أو تضعف عند ذكر الله وتوحيده، وقراءة قوارع القرآن، لا سيما آية الكرسي.
الفرق بين الساحر والكاهن:
هناك شبه كبير وارتباط وثيق بين السحر والكهانة إلا أنه ثمة فروق عدة تميِّز كلًّا منهما عن الآخر، تتمثل في الآتي:
1 ـ الكاهن إنما عنده إخبار بالمغيبات، ودعوى علم الغيب، وأما الساحر: فعنده تصرف، بقتل، وإمراض، وتفريق، ونحو ذلك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «لكن الكاهن إنما عنده أخبار، والساحر عنده تصرف، بقتل، وإمراض، وغير ذلك، وهذا تطلبه النفوس»[2].
2 ـ الإخبار بالمغيبات المستقبلية عادة لا يكون إلا من الكاهن، وأما الساحر فلا يخبر عنها، لكن قد يخبر عن الأمور الماضية، عن مكان الضالة، ونحو ذلك[3].
[1] انظر: مجموع الفتاوى، والنبوات (2/1030).
[2] النبوات (2/1045).
[3] اللقاء الشهري للشيخ ابن عثيمين رقم (45).
للسحر آثار سلبية كبيرة لا تحصى، منها ما يعود ضرره على الساحر نفسه، ومنها ما يعود ضرره على المجتمع، ومن تلك الآثار السيئة:
1 ـ أنه كفر بالله جلّ جلاله، وهذا أعظم خسارة تحصل للإنسان. قال تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة: 102] .
2 ـ نفي الفلاح عن الساحر في أي مكان وجد. قال تعالى: {وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى *} [طه] .
3 ـ في السحر أضرار كبيرة على المجتمع في جميع النواحي، ومنها على سبيل المثال ما ذكره الله بقوله تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة: 102] .
مذهب أهل السُّنَّة والجماعة وجمهور أهل العلم أن السحر له حقيقة لدلالة الكتاب والسُّنَّة والإجماع على ذلك[1].
وذهب عامة المعتزلة، ومن وافقهم كأبي حنيفة رحمه الله، وأبي منصور الماتريدي، وابن حزم الظاهري، وغيرهم إلى أن السحر تخييل فقط لا حقيقة له، وإنما هو ضرب من التمويه والتخييل والإيهام[2]. واستدلوا لذلك بقوله تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى *} [طه] ، ووجه الدلالة من الآية: أن الله تعالى أخبر عن عمل أولئك السحرة أنه إنما كان تخييلاً لا حقيقة له، حيث لم يقل: تسعى على الحقيقة، ولكنه قال: يخيل إليه[3].
والجواب عن هذا: أن ما حصل من سحر قوم فرعون كان حقيقة لا تخييلاً؛ حيث أثبت الله عزّ وجل أن الأعين سُحرت فهذه حقيقة، فالسحر كان شيئًا حقيقيًّا حتى أثر على العيون فتخيلت ما ليس بحقيقة، وذلك الخيال ناتج عن أثر السحر، فلو لم يكن السحر حقيقة لما حصل ذلك التأثير على النظر[4].
وأيضًا: فإننا «لا ننكر أن يكون التخييل وغيره من جملة السحر، ولكن ثبت وراء ذلك أمور جوزها العقل وورد بها السمع مما هو من باب الحقيقة لا التخييل»[5].
وقد قال تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} الآية [البقرة: 102] ، وجه الاستدلال بالآية أنها دلَّت على أن للسحر حقيقة من وجوه:
الوجه الأول: أن الله سبحانه وتعالى قد أخبر فيها عن السحر وأنه مما يعلم ويتعلم، وأن متعلمه يكفر بذلك وهذه الصفات لا تكون إلا لما له حقيقة، مما يدل على أن له حقيقة[6].
الوجه الثاني: أن الله تعالى قد أخبر في هذه الآية بأن للسحر آثارًا محسوسة؛ كالتفريق بين المرء وزوجه والأثر دليل على وجود المؤثر وحقيقيته[7].
الوجه الثالث: أخبر الله تعالى فيها أن للسحر ضررًا لا يتحقق إلا بإذنه، والاستثناء دليل على حصول الآثار بسببه، والضرر أو الأثر لا يكون إلا مما له حقيقة.
وخلاصة القول: أن ما ذهب إليه المعتزلة ومن وافقهم من كون السحر تخييلاً لا حقيقة خلاف ما تواترت به الآثار عن الصحابة والسلف، واتفق عليه الفقهاء وأهل التفسير والحديث وأرباب القلوب من أهل التصوف وما يعرفه عامة العقلاء، والسحر الذي يؤثر مرضًا وثقلاً وحلًّا وعقدًا وحبًّا وبغضًا وتزييفًا وغير ذلك من الآثار موجود تعرفه الناس[8].
[1] انظر: شرح النووي على مسلم (14/174).
[2] انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (2/46).
[3] انظر: أحكام القرآن للجصاص (1/52)، والفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم (5/103 ـ 104).
[4] بدائع الفوائد (2/227 ـ 228).
[5] انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (2/46).
[6] انظر: شرح النووي على مسلم (14/174).
[7] انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (2/46).
[8] شرح النووي على مسلم (2/227)، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (2/46).
1 ـ «بدائع الفوائد»، لابن القيِّم.
2 ـ «تفسير القرآن العظيم»، لابن كثير.
3 ـ «تيسير العزيز الحميد»، لسليمان بن عبد الله.
4 ـ «التنجيم والمنجمون»، للمشعبي.
5 ـ «شرح العقيدة الطحاوية»، لابن أبي العز.
7 ـ كتاب «السحر بين الحقيقة والخيال»، لأحمد الحميد.
8 ـ «مجموع الفتاوى»، لابن تيمية.
9 ـ «موقف الإسلام من السحر»، لحياة با أخضر.