حرف الألف / الاستواء

           

السين والواو والياء أصل يدل على استقامة واعتدال[1]، فأصلُ مادة: (س.و.ي) يدلُّ على الكمال، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى *} [الأعلى] .
وقال الأخفش: «استوى؛ أي: علا، ويقول: استويتُ فوق الدابةِ وعلى ظهر الدابة؛ أي: علوتُه»[2].
وباستقراء استعمالات مادة: (س.و.ي) في اللغة العربية يتبين أنها على خمسة أوجه:
1 ـ معدَّاة بـ(على)، مثل: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] ، ومعناها: العلوُّ والارتفاع، كما سبق عن الأخفش وغيرِه.
2 ـ معدّاة بـ(إلى)، مثل قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [البقرة: 29] ، ومعناها كالمعدّاةِ بـ(على)، وقال بعض أهل العلم: الاستواءُ هنا بمعنى القصد والإقبال، واختاره الفراءُ والزجاجُ وثعلب وابنُ كيسان والجوهريُّ وغيرُهم من اللغويين[3].
3 ـ مقرونة بالواو؛ كقولهم: استوى الماءُ والخشبة؛ بمعنى: تساوى الماءُ والخشبة[4].
4 ـ معدّاةٌ بـ(مع)، مثل: استوى الشيءُ مع كذا وكذا، ومعنى هذين الوجهَين واحد.
5 ـ مجرّدة؛ كقوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} [القصص: 14] ، ومعناه: الكمال. وقيل: إنّ معنى (استوى) ههنا: بلغَ الأربعين. وكلامُ العرب: أنّ المجتَمِعَ من الرجال والمستويَ هو الذي تمَّ شبابُه[5].


[1] مقاييس اللغة (3/112).
[2] تهذيب اللغة (13/125)، والصحاح (521) [دار المعرفة، ط1، 1426هـ]، ولسان العرب (14/414).
[3] انظر: تهذيب اللغة (13/124)، والصحاح (521)، وتفسير السمعاني (1/63)، ولسان العرب (14/414).
[4] تهذيب اللغة (13/125)، ولسان العرب (14/410).
[5] تهذيب اللغة (13/125).


الاستواء إلى السماء: هو بمعنى: العلو، وقيل: هو بمعنى: القصد، فاستوى إلى السماء بمعنى: قصد إليها[1].
والاستواء على العرش هو العلو والارتفاع على العرش، وذلك بعد خلق السماوات والأرض بالكيفية التي يعلمها الله عزّ وجل ولا نعلمها[2].


[1] انظر: صحيح البخاري، كتاب التوحيد (13/414) ـ مع الفتح ـ [دار الريان، ط2، 1409هـ]، وتفسير الطبري (1/457) [دار هجر، ط1، 1422هـ]، وتفسير أبي المظفر السمعاني (5/39)، ومعالم التنزيل (4/126)، وتفسير ابن كثير (1/87) [مؤسسة الريان، بيروت، ط3، 1428هـ]، والقواعد المثلى لابن عثيمين (52 ـ 53) [عمادة خدمة المجتمع بالجامعة الإسلامية، ط3، 1421هـ].
[2] انظر: مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام (5/521) [مجمع الملك فهد لطباعة المصحف، 1416هـ]. وانظر: القصيدة النونية (85)، الأبيات (1353 ـ 1355) [عالم الفوائد، ط1]، ذكرَه ضمن أدلة العلو، في الدليل السادس عشر.


الاستواء علو خاص وردت به النصوص، وهي صفة فعلية (اختيارية) خبرية، ونصوصه من أدلة إثبات علو الله تعالى، وقد سبق أن الاستواء لغة يأتي لمعان، ولكنه نص في العلو والارتفاع إذا كان مقيدًا بـ(على)، فالعلاقة واضحة.



يجب إثبات صفة الاستواء لله عزّ وجل، كما أجمع عليه السلف، فهو سبحانه وتعالى مستوٍ على عرشه استواء حقيقيًّا يليق بجلاله وعظمته، وهي صفة فعلية.



استواء الله تعالى على عرشه هو علوه عليه، لكن الاستواء علو خاص، فكل مستو على شيء عال عليه، وليس كل عال على شيء مستو عليه، ولهذا لا يقال لكل ما كان عاليًا على غيره: إنه مستو عليه، واستوى عليه، ولكن كل ما قيل فيه: إنه استوى على غيره فإنه عال عليه، فنثبت لله عزّ وجل الاستواء على العرش والاستواء الى السماء بالكيفية التي هو جلّ جلاله يعلمها[1].


[1] انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام (5/522).


الأدلة على إثبات صفة الاستواء لله عزّ وجل كثيرة، وهي صفة كمال وجلال تمدح بها ربِّ السماوات والأرض، ووردت بصيغة (استوى) معداة بـ(على) في سبع آيات من القرآن الكريم، والقرينة على أنها صفة كمال وجلال أن الله ما ذكرها في كتابه إلا مصحوبة بما يبهر العقول من صفات جلاله وكماله التي هي منها، وهذه الآيات هي ـ على ترتيب المصحف ـ:
الموضع الأول: قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بَأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ *} [الأعراف] .
الموضع الثاني: قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ *} [يونس] .
الموضع الثالث: قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَِجَلٍ مُسَمّىً يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ *} [الرعد] .
الموضع الرابع: قوله تعالى: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى *} [طه] .
الموضع الخامس: قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَانُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا *} [الفرقان] .
الموضع السادس: قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ *} [السجدة] .
الموضع السابع: قوله جلّ جلاله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ *} [الحديد] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أخذ بيده فقال: «يا أبا هريرة إن الله خلق السماوات والأرضين وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش يوم السابع»[1].


[1] أخرجه النسائي في السنن الكبرى (كتاب التفسير، رقم 11328)، وقال ابن كثير: «تكلم في هذا الحديث علي بن المديني والبخاري والبيهقي وغيرهم من الحفاظ». البداية والنهاية (1/32) [دار هجر، ط1]، وقال الألباني: «جيد الإسناد». مختصر العلو (112).


1 ـ قال الإمام ابن المبارك رحمه الله: «لا نقول كما قالت الجهمية: إنه في الأرض ههنا، بل على العرش استوى. وقيل له: كيف نعرف ربنا؟ قال: فوق سماواته على عرشه»[1].
2 ـ وقال الإمام نصر بن إبراهيم المقدسي رحمه الله: «إن الذي أدركت عليه أهل العلم، ومن لقيتهم وأحدث عنهم، ومن بلغني قوله من غيرهم، ممن يعول عليه ويرجع في النوازل إليه...» فذكر جمل اعتقاد أهل السُّنَّة، وفيها: «وأن الله مستو على عرشه، بائن من خلقه...»[2].
3 ـ وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «أهل السُّنَّة والحديث وسلف الأمة متفقون على أنه فوق سماواته على عرشه، بائن من خلقه، ليس في ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في مخلوقاته شيء من ذاته، وعلى ذلك نصوص الكتاب والسُّنَّة، وإجماع سلف الأمة وأئمة السُّنَّة؛ بل على ذلك جميع المؤمنين والأولين والآخرين[3]. وأهل السُّنَّة وسلف الأمة متفقون على أن من تأول (استوى) بمعنى: استولى، أو بمعنى آخر ينفي أن يكون الله فوق سماواته فهو جهمي ضال»[4].
4 ـ وقال الذهبي رحمه الله: «هذه الصفات من الاستواء، والإتيان، والنزول، قد صحَّت بها النصوص، ونقلها الخلف عن السلف، ولم يتعرضوا لها بردٍّ ولا تأويل، بل أنكروا على من تأولها، مع اتفاقهم على أنها لا تشبه نعوت المخلوقين، وأن الله ليس كمثله شيء، ولا تنبغي المناظرة ولا التنازع فيها، فإن في ذلك مخولة للرد على الله ورسوله، أو حومًا على التكييف أو التعطيل»[5].


[1] أخرجه البخاريُّ في خلق أفعال العباد (2/15) (13) [دار أطلس الخضراء، الرياض، 1425هـ]، وغيرُه.
[2] مختصر الحجة على تارك المحجة (2/334، 343) [أضواء السلف، ط1، 1425هـ].
[3] يقصد: سوى الجهميةِ ومَن تأثر بهم.
[4] التسعينية لشيخ الإسلام (2/545) [مكتبة المعارف، الرياض، ط1، 1420هـ].
[5] سير أعلام النبلاء (11/376).


ـ قول أهل السُّنَّة: إن الله تعالى فوق سماواته على عرشه، بائن من خلقه:
ذكر أهل العلم أن الله تعالى فوق عرشه، بائن من خلقه، ليس في ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في مخلوقاته شيء من ذاته، وعلى ذلك نصوص الكتاب والسُّنَّة، وإجماع سلف الأمة وأئمة السُّنَّة.
قال ابن بطة رحمه الله: «باب الإيمان بأن الله عزّ وجل على عرشه، بائن من خلقه وعلمه محيط بجميع خلقه.
وأجمع المسلمون من الصحابة والتابعين وجميع أهل العلم من المؤمنين أن الله عزّ وجل على عرشه فوق سماواته، بائن من خلقه وعلمه محيط بجميع خلقه»[1].
وقال ابن تيمية رحمه الله: «وهو سبحانه فوق سمواته على عرشه، بائن من خلقه، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، وهو سبحانه غني عن العرش وعن سائر المخلوقات، لا يفتقر إلى شيء من مخلوقاته، بل هو الحامل بقدرته العرش، وحملة العرش»[2].
وقال ابن القيم رحمه الله «الله عزّ وجل على عرشه بائن من خلقه، كما وصف نفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله صلّى الله عليه وسلّم بلا كيف، أحاط بكل شيء علمًا»[3].
وقال السعدي رحمه الله: «والله تعالى بائن من خلقه، مباين لهم في صفاته ونعوت جلاله»[4].


[1] الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية (3/136) [دار الراية، السعودية، ط2، 1418هـ].
[2] مجموع الفتاوى (1/367).
[3] حاشية ابن القيم (13/35) [دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، 1415هـ].
[4] تفسير السعدي (1/763) [مؤسسة الرسالة، 1421هـ].


الفرق بين الاستواء والعلو:
الاستواء: علو خاص وردت به النصوص، وهو صفة فعلية (اختيارية) خبرية.
أما العلو: فصفة ذاتية لازمة للذات، فهو تعالى لم يزل في علوه، وهي في الوقت نفسه سمعية وعقلية، ثابتة بالسمع والعقل والفطرة[1].


[1] انظر: مجموع الفتاوى (5/121 ـ 122)، وشرح حديث النزول (395) [دار العاصمة، ط2، 1418هـ].


المخالفون هنا أصناف:
الصنف الأول:
ـ منهم من ينفي جميع الصفات، وأولئك هم المعتزلة، فهم ينفون هذه الصفة، كما ينفون غيرها من الصفات، ويؤولون الاستواء بالاستيلاء[1]، وبعض متأخريهم ـ كالزمخشري وغيره ـ يجعلها من باب التمثيل والتخييل[2].
ـ ومنهم من ينفي العلو، وينفي الصفات الخبرية، ولا يثبت سوى الصفات العقلية، وهؤلاء هم متأخرو الأشاعرة. وهؤلاء نفوا صفة الاستواء، وأوَّلوها بالاستيلاء، تمامًا كتأويل المعتزلة[3]. وبعضهم يرى أنها من قبيل التخييل كذلك[4].
الصنف الثاني: من يثبت الصفات الذاتية، ومنها العلو، وكثيرًا من الصفات الخبرية، وهؤلاء هم الكلابية، وقدماء الأشاعرة. وموقفهم من الاستواء: أنهم يثبتونه إلا أنهم يجعلونه لازمًا لا يتعلق بالمشيئة[5].
وهذا بسبب أصلهم في منع حلول الحوادث، والذي لأجله نفوا الصفات الفعلية كلها.
ومذهب السلف وأئمة السُّنَّة: أن هذه الصفات الفعلية تقوم بذات الله تعالى[6]، كما سبق عند بيان مذهب أهل السُّنَّة في هذه الصفة.
الرد عليهم إجمالاً:
1 ـ إن زعم المتكلمين أنه يمتنع حمل نصوص الاستواء وغيرها من نصوص الصفات على معانيها الحقيقية: اعتداء صارخ على النصوص، وانتهاك لحرمتها، بل واستدراك على ربِّ العالمين، وهذا ليس من التأويل في شيء، بل هو تحريف للنصوص، ويسمى في اصطلاح الأصوليين: لعبًا وليس تأويلاً[7]، كما يسميه أهل السُّنَّة تحريفًا[8]، وطالما سلكه المتكلمون باسم التأويل والمجاز، وهو عين التحريف المذموم في القرآن، وفيه سوء أدب مع النصوص، فليس للعقل أن يحيل ما ذكره الله في كتابه عن نفسه، أو ذكره رسوله في السُّنَّة الصحيحة، وإنما وظيفة العقل هو التلقي والفهم عن الله عزّ وجل ورسوله صلّى الله عليه وسلّم.
2 ـ إضافة إلى سوء الأدب مع النصوص، والذي سبقت الإشارة إليه، يلاحظ هنا خطأ آخر يرتكبه المتكلمون، والذي كان سببًا في الخطأ الأول، وهذا الخطأ هو الانحراف في فهم المعنى الحقيقي لهذه النصوص؛ إذ إنه عند المتكلمين هو ما يليق بالمخلوقين من معاني هذه الألفاظ.
وهذا من أبرز الأخطاء التي ارتكبها جميع الذين ردّوا شيئًا من النصوص باسم التشبيه، حيث لم يفهموا منها إلا ما يليق بالمخلوقين، وهذه نظرة سقيمة، بعيدة عن هدي اللغة أولاً، ثم عن هدي النصوص والعقل ثانيًا.
أما اللغة : فالمعنى الحقيقي للفظ هو الذي استعمل له في الإطار المعروف في اللغة، وهو يتحدد من خلال السياق، ومن مفاسد تقسيم الألفاظ إلى الحقيقة والمجاز: أنه يصطدم بهذه الحقيقة؛ ويجعل لكل لفظ معنًى معجميًّا هو حقيقته الموضوعة له، ويستبعد بقية المعاني التي يستعمل ذلك اللفظ فيها في اللغة، ويجعلها مجازًا، لتكون مرشحة لكل أحكام المجاز التي بنيت على أساس كون هذه المعاني خلاف الأصل.
والأهم في هذا الأمر: أنهم يتحكمون في تحديد (ظاهر) النص وحقيقته، ثم يبنون عليه الأحكام الأخرى، التي بنيت على الأساس الخاطئ، ومن هذا الباب حددوا حقيقة معاني النصوص بأنها ما يليق بالمخلوقين، ثم جزموا بكونه مستحيلاً يحتاج إلى تأويل.
وأما شرعًا وعقلاً: فالواجب أن يعلم أن ما جاء في القرآن والسُّنَّة من وصف الخالق تعالى: فصفته لائقة بكماله وجلاله، كما أن صفة المخلوق مناسبة لحاله وفنائه وعجزه وافتقاره، وأن بين صفة الخالق والمخلوق من المنافاة والمخالفة: كمثل ما بين ذات الخالق والمخلوق، وحسبك بونًا بذلك.
إذن؛ فالمعنى الحقيقي يتحدد بالإضافة، فبمجرد إضافة الصفة إليه جلّ جلاله يتبادر إلى الفهم أنه لا مناسبة بين تلك الصفة الموصوف بها الخالق، وبين شيء من صفات المخلوقين، وهل ينكر عاقل أن السابق إلى الفهم، المتبادر لكل عاقل هو منافاة الخالق للمخلوق في ذاته وجميع صفاته؟ لا ينكر ذلك إلا مكابر[9].
3 ـ ما ذكروه من تأويل الاستواء بالاستيلاء: هو قول الجهمية والمعتزلة، كما سبق، وقد ردَّ عليهم أئمة الأشاعرة المتقدمون، منهم أبو الحسن الأشعري نفسه، حيث عقد فصلاً مستقلًّا للاستواء في كتابه «الإبانة»[10]، قال في أوله: «إن قال قائل: ما تقولون في الاستواء؟ قيل له: نقول: إن الله عزّ وجل يستوي على عرشه استواء يليق به...».
ثم ذكر الآيات الواردة في ذلك، ثم قال: «فصل: وقد قال قائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية: إن قول الله عزّ وجل: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه] : إنه استولى، وملك، وقهر، وأن الله في كل مكان، وجحدوا أن يكون الله عزّ وجل على عرشه ـ كما قال أهل الحق ـ وذهبوا في الاستواء إلى القدرة...»، ثم ردَّ عليهم بتوسع.
ومنهم الباقلاني، حيث قال: «فإن قالوا: فهل تقولون إنه في كل مكان؟ قيل: معاذ الله! بل هو مستو على العرش، كما خبّر في كتابه فقال: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *}... ولو كان في كل مكان: لكان في جوف الإنسان، وفمه، وفي الحشوش، والمواضع التي يرغب عن ذكرها، تعالى عن ذلك...»[11].
ثم قال: «ولا يجوز أن يكون معنى استوائه على العرش هو استيلاؤه عليه، كما قال الشاعر:
قد استوى بشر على العراق
من غير سيف ودم مهراق
لأن الاستيلاء هو القدرة والقهر، والله تعالى لم يزل قادرًا قاهرًا، عزيزًا، مقتدرًا، وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54 ] يقتضي استفتاح هذا الوصف بعد أن لم يكن، فبطل ما قالوه»[12].
4 ـ إن ما ذكروه من تأويل الاستواء بالاستيلاء: قد ردَّه أئمة اللغة قديمًا وحديثًا.
قال الإمام داود الظاهري: كنا عند ابن الأعرابي [ت231هـ]، فأتاه رجل فقال: يا أبا عبد الله، ما معنى قوله تعالى: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *}؟ قال: هو على عرشه كما أخبر، فقال الرجل: ليس كذلك، إنما معناه: استولى، فقال: اسكت! ما يدريك ما هذا؟! العرب لا تقول للرجل استولى على الشيء حتى يكون له فيه مضاد، فأيهما غلب؛ قيل استولى، والله تعالى لا مضاد له، وهو على عرشه كما أخبر، ثم قال: الاستيلاء بعد المغالبة، قال النابغة:
إلا لمثلك أو من أنت سابقه
سبق الجواد إذا استولى على الأمد[13].
وروى الحافظ ابن حجر من طريق أبي إسماعيل الهروي عن محمد بن أحمد بن النضر الأزدي؛ أنه قال: سمعت ابن الأعرابي يقول: أرادني أحمد بن أبي دؤاد أن أجد له في لغة العرب {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} بمعنى: استولى! فقلت: والله ما أصبت هذا[14].
وهذا يدل على أن الجهمية حاولوا أن ينتزعوا اعتراف بعض أئمة اللغة بأن (استوى) يأتي بمعنى الاستيلاء، دون أن تلقى تلك الجهود قبولاً لدى أئمة اللغة.
5 ـ من المعلوم أنه لما كان وضع الكلام للدلالة على مراد المتكلم، وكان مراده لا يعلم إلا بكلامه؛ انقسم كلامه إلى ثلاثة أقسام:
أحدها: ما هو نص في مراده، لا يحتمل غيره.
الثاني: ما هو ظاهر في مراده، وإن احتمل أن يريد غيره.
الثالث: ما ليس بنص ولا ظاهر في المراد، بل هو مجمل يحتاج إلى البيان[15].
فلننظر إلى الاستواء من أي قسم هو؟
وبالنظر المتجرد يعرف أنه من القسم الأول؛ للوجوه الآتية:
1 ـ لأن معناه معلوم في اللغة، وهو العلو والارتفاع وما في معناه، وبذلك نص أئمة اللغة، كما سبق.
2 ـ ولأنه بذلك المعنى بعينه فسَّره السلف.
3 ـ ولأن أئمة اللغة قد ردُّوا تأويله بالاستيلاء، كما سبق.
4 ـ وقبل ذلك كله: قد جاء في الآيات والأحاديث بهذا المعنى، ومما يؤكد ذلك: أنه اطرد في الآيات ذكر استواء الرب تعالى «المعدى بأداة (على) المعلق بعرشه، المعرف باللام، المعطوف بـ(ثم) على خلق السماوات والأرض، المطرد في موارده على أسلوب واحد ونمط واحد»[16]، وهذا كله للتأكيد على أنه لا يحتمل إلا معنًى واحدًا فقط.
وكل هذا يدل على أنه نص لا يحتمل التأويل، فلا يجوز تأويله، وعامة نصوص الصفات من هذا القسم، «وهذا القسم إن سلط عليه التأويل: عاد الشرع كله مأوّلاً؛ لأنه أظهر أقسام القرآن ثبوتًا، وأكثرها ورودًا، ودلالة القرآن عليه متنوعة غاية التنوع، فقبول ما سواه للتأويل أقرب من قبوله بكثير»[17].
مع التنزل مع الخصم، والاعتراف بأن الاستواء من القسم الثاني، وهو ما كان ظاهرًا في مراد المتكلم، ولكنه يقبل التأويل؛ فلا بد من مراعاة قاعدة مهمة في هذا القسم، وهي: أنه «ينظر في وروده، فإن اطرد استعماله على وجه واحد؛ استحال تأويله بما يخالف ظاهره؛ لأن التأويل إنما يكون لموضع جاء خارجًا عن نظائره، منفردًا عنها، فيؤول حتى يرد إلى نظائره... ومثال ذلك: اطراد قوله: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *}، {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} في جميع موارده ـ من أولها إلى آخرها ـ على هذا اللفظ، فتأويله باستولى باطل، وإنما كان يصح أن لو كان أكثر مجيئه بلفظ استولى، ثم يخرج موضع عن نظائره، ويرد بلفظ استوى، فهذا كان يصح تأويله باستولى»[18].
وهذا الذي ذكرته ليس خاصًّا بالاستواء فقط، بل إذا تأملت نصوص الصفات ـ التي لا تسمح الجهمية بأن يسموها (نصوصًا)، فإذا احترموها قالوا: ظواهر سمعية، وقد عارضتها القواطع العقلية ـ وجدتها كلها من هذا الباب[19].
وقد أبطل شيخ الإسلام رحمه الله في عدد من كتبه[20] تأويل الاستواء بالاستيلاء من عدة أوجه، كما أن تلميذه الإمام ابن القيم رحمه الله أبطل ذلك في «الصواعق المرسلة» من اثنين وأربعين وجهًا[21]، وغيرهما أيضًا[22]، وكلها تقطع دابر هذا التأويل الباطل من قبل الجهمية ومن تبعهم من الأشاعرة والماتريدية.
ـ وأخيرًا نتساءل ونقول: هل نجا المتكلمون من التشبيه بعد تأويلهم الاستواء بالاستيلاء؟
والجواب: أنهم لم يتخلصوا مما فروا منه، وهو التشبيه، بل هم واقعون ـ بعد تأويلهم بالاستيلاء ـ في شر مما فروا منه، وذلك لأن المؤول زعم أن الاستواء يوهم غير اللائق بالله؛ لاستلزامه مشابهة استواء الخلق، وجاء بدله بالاستيلاء؛ لأنه هو اللائق به في زعمه، ولم ينتبه؛ لأن تشبيه استيلاء الله على عرشه باستيلاء بشر بن مروان على العراق هو أفظع أنواع التشبيه، وليس بلائق قطعًا؛ لأن الاستيلاء لا يكون إلا فيما كان منازعًا مغالبًا، فإذا غلب أحدهما صاحبه قيل: استولى، والله سبحانه وتعالى لم ينازعه أحد في العرش حتى يقال: إنه استولى عليه[23].
إلا إن المؤول يقول: إن الاستيلاء المزعوم منزّه عن مشابهة الخلق.
فنقول: إذا علمت أنه لا بد من تنزيه أحد اللفظين ـ أي: لفظ استوى الذي نزل به قرآن يتلى، ولفظ استولى الذي جاء به قوم من تلقاء أنفسهم من غير استناد إلى نص من كتاب الله، ولا سُنَّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم ولا قول أحد من السلف ـ: فأي الكلمتين أحق بالتنزيه؟
أهي كلمة القرآن المنزلة من الله على رسوله؟ أم كلمتكم التي جئتم بها من تلقاء أنفسكم من غير مستند أصلاً؟[24].
والخلاصة: أن استيلاءه تعالى إما أن يكون كاستيلائنا، فحينئذ يلزم المؤولين التشبيه والتجسيم الذي فروا منه، وإما أن يكون ذلك الاستيلاء لا يماثل استيلاء البشر؛ أي: لا بد أن يقول: هو استيلاء لائق به تعالى.
وإذا كان الأمر كذلك: فليقل من أول الأمر: هو استواء لائق به سبحانه وتعالى.


[1] انظر: المختصر في أصول الدين ـ ضمن رسائل العدل والتوحيد ـ (333) [دار الشروق، ط2، 1408هـ]، وشرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار (226) [مكتبة وهبة، ط3، 1416هـ]، ومتشابه القرآن له (73، 351، 403) [دار التراث، القاهرة، 1969م]، وانظر: مقالات الإسلاميين (1/156) [دار إحياء التراث العربي، ط2].
[2] انظر: الكشاف (3/54) و(1/687 ـ 688) [دار إحياء التراث العربي، ط2، 1421هـ].
[3] انظر: الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي (87 ـ 88) [دار ومكتبة الهلال، ط1، 1993م]، وطوالع الأنوار للبيضاوي (190) [المكتبة الأزهرية للتراث، القاهرة، ط1، 2007م]، والإيضاح في قطع حجج أهل التعطيل لابن جماعة (131) [دار اقرأ، دمشق، ط1، 1425هـ].
[4] انظر: شرح المقاصد للتفتازاني (4/174 ـ 175) [عالم الكتب، ط1، 1409هـ].
[5] شرح حديث النزول (262) [دار العاصمة، ط2، 1418هـ]، وضمن مجموع الفتاوى (5/437)، وانظر: فتح الباري لابن حجر (13/417) [دار الريان للتراث، القاهرة، ط2، 1409هـ].
[6] انظر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة (3/1214 ـ 1215) [مكتبة الرشد، ط1، 1415هـ].
[7] انظر: مذكرة أصول الفقه للشنقيطي (177) [دار القلم، بيروت]، ومعالم أصول الفقه عند أهل السُّنَّة والجماعة (394) [دار ابن الجوزي، ط2، 1419هـ].
[8] انظر التفصيل في: الصواعق المرسَلة لابن القيم (1/215) [دار العاصمة، ط3، 1418هـ].
[9] أضواء البيان للشنقيطي (2/320) [1403هـ].
[10] (97 ـ 103).
[11] تمهيد الأوائل للباقلاني (261 ـ 262) [المكتبة المشرقية، بيروت، 1957م].
[12] تمهيد الأوائل (261 ـ 262).
[13] أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السُّنَّة والجماعة (3/442) [دار طيبة، ط6، 1420هـ]، وذكره ابن منظور في لسان العرب (14/414)، وغيره.
[14] فتح الباري لابن حجر (13/417).
[15] الصواعق المرسلة لابن القيم (1/382).
[16] المصدر السابق (3/938).
[17] المصدر السابق (1/383 ـ 384).
[18] المصدر السابق (1/384 ـ 386).
[19] المصدر السابق (1/388).
[20] انظر: مجموع الفتاوى (5/144 ـ 149) (16/395 ـ 403، 17/347 ـ 379)، والتدمرية (81 ـ 84)، ودرء تعارض العقل والنقل (1/278 ـ 279)، وقد أشار ابنُ القيم ـ في النونية (1/310 ـ 311) ـ إلى أنّ لشيخ الإسلام كتابًا مستقلًّا في ذلك.
[21] انظر: مختصر الصواعق المرسلة (3/888 ـ 946).
[22] انظر: التمهيد لابن عبد البر (7/131) [وزارة الأوقاف المغربية]، والحجة في بيان المحجة (2/110) [دار الراية، ط1، 1411هـ]، ومجموع الفتاوى (5/147).
[23] انظر: التمهيد لابن عبد البر (7/131)، والحجة في بيان المحجة (2/110)، مجموع الفتاوى (5/147).
[24] أضواء البيان (7/454)، وصفات الله عزّ وجل (85).


1 ـ «بيان تلبيس الجهمية»، لابن تيمية.
2 ـ «اجتماع الجيوش الإسلامية»، لابن القيم.
3 ـ «مختصر الصواعق المرسلة»، لابن القيم.
4 ـ «شرح العقيدة الواسطية»، لابن عثيمين.
5 ـ «موقف ابن تيمية من الأشاعرة»، لعبد الرحمن المحمود.
6 ـ «صفات الله عزّ وجل الواردة في الكتاب والسُّنَّة»، لعلوي بن عبد القادر السقاف.
7 ـ «جهود الإمام ابن القيم في تقرير توحيد الأسماء والصفات»، لوليد العلي.
8 ـ «المسائل العقدية التي حكى فيها ابن تيمية الإجماع: جمعًا ودراسة»، لعدد من الباحثين.
9 ـ «مجموع الفتاوى»، لابن تيمية.
10 ـ «درء تعارض العقل والنقل»، لابن تيمية.