حرف السين / السلام على النبي

           

السلام: مصدر الفِعل الثلاثي المزيد (سلَّم) ـ من التحية بالتسليم ـ، وهو دعاءٌ للإنسان بأن يسلَم من الآفات في دِينه ونَفسه، وهو أيضًا جمع (سَلامة). وهو اسمٌ من أسماء الله عزّ وجل؛ معناه: السالِم مما يلحَق المخلوقين من العَيب والنقص والفناء[1].


[1] انظر: الصحاح (5/1951) [دار العلم للملايين، ط4، 1990م]، وتهذيب اللغة (12/446) [الدار المصرية للتأليف والترجمة]، ومقاييس اللغة (3/90) [دار الفكر، بيروت، ط2، 1418هـ].


السلام على النبي صلّى الله عليه وسلّم: دعاء له صلّى الله عليه وسلّم بأن يسلمه الله عزّ وجل ويحصنه من جميع النقائص والآفات والمكاره، سلامة له ومعه ـ أي: مصاحبة وملازمة ـ في حياته صلّى الله عليه وسلّم وبعد موته، ولشرعه وسُنَّته: أن يحفظهما من أن تنالهما أيدي العابثين.
فمعنى «اللَّهُمَّ سلم على محمد»؛ أي: اللَّهُمَّ اكتب لمحمد في دعوته وأمته وذكره السلامة من كل نقص؛ فتزداد دعوته على مر الأيام علوًّا، وأمته تكاثرًا، وذكره ارتفاعًا[1].


[1] انظر: الشفا للقاضي عياض (2/626) [مطبعة عيسى البابي الحلبي]، وشرح صحيح مسلم للنووي (4/117) [دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط2، 1392هـ]، وفتح الباري لابن حجر (2/313) [دار المعرفة، 1379هـ]، والقول البديع للسخاوي (164) [دار المنهاج، جدة، ط2، 1428هـ]، وروح المعاني للآلوسي (22/79) [المطبعة المنيرية]، والشرح الممتع لابن عثيمين (1/11، 3/149) [دار ابن الجوزي، ط1، 1422هـ].


لم يختلف المعنى اللغوي للسلام عن معناه على لسان الشرع؛ فالسلام لغة وشرعًا: دعاء بالسلامة من جميع الآفات؛ فيظهر بهذا التناسب والتوافق بين المعنيين.



السلام على النبي صلّى الله عليه وسلّم كالصلاة عليه حكمًا ومنزلة. ويستحب ـ بلا نزاع ـ الجمع بين الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم والتسليم عليه؛ فلا يقتصر الداعي على أحدهما؛ فيقول ـ مثلاً ـ: «صلى الله عليه» فقط، أو: «عليه السلام» فقط؛ وإنما يقول: «صلى الله عليه وسلم تسليمًا» ونحوها؛ كما هو ظاهر قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا *} [الأحزاب] ؛ إذ بالجمع بينهما وضمهما ـ كما في التشهد وغيره ـ يحصل المطلوب ويزول المرهوب؛ فبالسلام يزول المرهوب وتنتفي النقائص، وبالصلاة يحصل المطلوب وتثبت الكمالات.
فإن اقتصر الداعي على الصلاة دون التسليم دائمًا، أو العكس ـ بحيث جعله ديدنًا له ـ فيكره؛ لإخلاله بالأمر الوارد بالإكثار منهما والترغيب فيهما، أما إن كان يصلي تارة ويسلم أخرى، من غير إخلال بواحدة منهما؛ فلا كراهة، لكنه خلاف الأولى والمستحب؛ إذ الجمع بينهما مستحب لا نزاع فيه[1].


[1] انظر: الأذكار للنووي (98) [دار الملاح، 1391هـ]، وشرحه على صحيح مسلم (1/44) [دار إحياء التراث العربي، ط2، 1392هـ]، وتفسير ابن كثير (6/479) [دار طيبة، ط2]، وفتح الباري لابن حجر (11/167)، وفتح المغيث للسخاوي (1/10، 3/48) [دار المنهاج، الرياض، ط1، 1426هـ]، والقول البديع له (158، 163)، ولوامع الأنوار البهية للسفاريني (1/49) [المكتب الإسلامي، بيروت]، والتحرير والتنوير (22/101) [دار سحنون، تونس، 1997م]، والشرح الممتع لابن عثيمين (1/11).


حقيقة السلام على النبي صلّى الله عليه وسلّم: أنها إخبار من الله تعالى لعباده «بمنزلة عبده ونبيّه صلّى الله عليه وسلّم عنده في الملأ الأعلى؛ بأنه يثني عليه عند الملائكة المقربين، وأن الملائكة تصلي عليه، ثم أمر تعالى أهل العالم السفلي بالصلاة والتسليم عليه؛ ليجتمع الثناء عليه من أهل العالمين العلوي والسفلي جميعًا!»[1].


[1] تفسير ابن كثير (6/457)، وانظر: فتح الباري لابن حجر (11/156)، والقول البديع (53).


دلَّ على فضل السلام على النبي صلّى الله عليه وسلّم ـ مع الصلاة عليه ـ وعلوِّ منزلتهما: الكتاب، والسُّنَّة المتواترة، وإجماع الأمة:
قال الله جلّ جلاله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا *} [الأحزاب] .
وثبت عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: كنا إذا كنا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في الصلاة قلنا: السلام على الله من عباده! السلام على فلان وفلان! فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا تقولوا: السلام على الله؛ فإن الله هو السلام؛ ولكن قولوا: التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين» الحديث[1]، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني من أمتي السلام» [2]، وقال أيضًا صلّى الله عليه وسلّم: «ما من أحد يسلِّم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام»[3] ، والأحاديث في هذا الباب كثيرة.


[1] أخرجه البخاري (كتاب الأذان، رقم 835)، ومسلم (كتاب الصلاة، رقم 402).
[2] أخرجه النسائي (كتاب صفة الصلاة، رقم 1282)، وأحمد (1/387، 441، 452) [مؤسسة قرطبة، مصر (مصورة عن الطبعة الميمنية)]، والدارمي (كتاب الرقاق، رقم 2816)، وابن حبان في صحيحه (كتاب الرقائق، رقم 914)، والحاكم في مستدركه (كتاب التفسير، رقم 3576) وصحَّحه، وصحَّحه الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 2853).
[3] أخرجه أبو داود (كتاب المناسك، رقم 2041)، وأحمد في مسنده (2/527) [مؤسسة قرطبة، مصر (مصورة عن الطبعة الميمنية)]، وجود العراقي إسناده في المغني عن حمل الأسفار (367) [دار ابن حزم، ط1]، وحسَّنه الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 2266).


قال أبو العالية في قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56] : «صلاة الله عليه: ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة: الدعاء»[1].
وقال ابن القيِّم ـ في معرض كلامه على سلام الله على أنبيائه ورسله عليهم السلام، ومجيئه بلفظ النكرة ـ: «سلام من الله سبحانه كاف من كل سلام، ومغن عن كل تحية، ومقرب من كل أمنية، فأدنى سلام منه ـ ولا أدنى هناك ـ يستغرق الوصف، ويتم النعمة، ويدفع البؤس، ويطيب الحياة، ويقطع مواد العطب والهلاك!»[2].
وقال أيضًا: «الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم متضمنة لذكر الله وشكره، ومعرفة إنعامه على عبيده بإرساله؛ فالمصلي عليه صلّى الله عليه وسلّم قد تضمنت صلاته عليه ذكر الله وذكر رسوله، وسؤاله أن يجزيه بصلاته عليه ما هو أهله؛ كما عرفنا ربنا وأسماءه وصفاته، وهدانا إلى طريق مرضاته، وعرفنا ما لنا بعد الوصول إليه والقدوم عليه! فهي متضمنة لكل الإيمان؛ بل هي متضمنة للإقرار بوجود الرب المدعو، وعلمه وسمعه وقدرته وإرادته وصفاته وكلامه، وإرسال رسوله، وتصديقه في أخباره كلها، وكمال محبته! ولا ريب أن هذه هي أصول الإيمان؛ فالصلاة عليه صلّى الله عليه وسلّم متضمنة لعلم العبد ذلك، وتصديقه به، ومحبته له؛ فكانت من أفضل الأعمال»[3].
وقال ابن عثيمين: «فمعنى التسليم على الرسول صلّى الله عليه وسلّم: أننا ندعو له بالسلامة من كل آفة. وإذا قال قائل: قد يكون هذا الدعاء في حياته صلّى الله عليه وسلّم واضحًا، لكن بعد مماته كيف ندعو له بالسلامة وقد مات صلّى الله عليه وسلّم؟
فالجواب: ليس الدعاء بالسلامة مقصورًا في حال الحياة، فهناك أهوال يوم القيامة، ولهذا كان دعاء الرسل إذا عبر الناس على الصراط: «اللَّهُمَّ، سلِّم؛ سلِّم» ، فلا ينتهي المرء من المخاوف والآفات بمجرد موته. إذًا؛ ندعو للرسول صلّى الله عليه وسلّم بالسلامة من هول الموقف، ونقول أيضًا: قد يكون بمعنى أعم؛ أي: أن السلام عليه يشمل السلام على شرعه وسُنَّته، وسلامتها من أن تنالها أيدي العابثين؛ كما قال العلماء في قوله تعالى: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] قالوا: إليه في حياته، وإلى سُنَّته بعد وفاته»[4].


[1] علقه البخاري في صحيحه (3/280) [المكتبة السلفية، القاهرة، ط1، 1400هـ]، ووصله: ابن أبي حاتم في تفسيره ـ كما في فتح الباري (8/533)، والدر المنثور للسيوطي (12/72) [مركز هجر، ط1، 1424هـ]، وإسماعيل القاضي في فضل الصلاة (95) [المكتب الإسلامي، ط3، 1977م]، وصحَّحه الألباني في تحقيقه لفضل الصلاة.
[2] بدائع الفوائد (2/651)، بتصرف يسير.
[3] جلاء الأفهام (534).
[4] الشرح الممتع على زاد المستقنع (3/149 ـ 150) [دار ابن الجوزي، ط1، 1422هـ].


المسألة الأولى: من آداب الصلاة والسلام على النبي صلّى الله عليه وسلّم:
ذكره العلماء في كتب المصطلح وآداب طالب الحديث أنه[1]: ينبغي على طالب العلم والناسخ ونحوهما المحافظة على كتابة الصلاة والتسليم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كلما كتبه، ولا يسأم من تكراره ـ وإن لم يكن في الأصل ـ، ويستحب التلفظ بهما بلسانه مع ذلك أيضًا؛ فإن ذلك من أكثر الفوائد التي يتعجلها طالب الحديث، ومن أغفل ذلك فقد حرم حظًّا عظيمًا! وأنه يكره الاقتصار على الصلاة دون التسليم، ويكره أيضًا اختصار الصلاة والسلام والرمز لهما ـ بحرف أو حرفين ـ بنحو: صلعم، أو: ص، ونحوهما ـ كما يفعل الكسالى وعوام الطلبة ـ؛ بل يكتب الصيغة بكمالها.
المسألة الثانية: معنى تسليم الله عزّ وجل على أوليائه:
استشكل بعض الناس تسليم الله تعالى على أنبيائه ورسله وعباده، في مثل قوله تعالى: {سَلاَمٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ *} [الصافات] ، وقوله عزّ وجل: {سَلاَمٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ *} [الصافات] ، وغير هذا من الآيات، وقالوا: السلام طلب ودعاء؛ فكيف يتصور من الله ذلك؟! فالدعاء منه سبحانه وتعالى مستحيل و«غير معقول في حق الله تعالى؛ فإنه لا يدعو له ـ يعني: لنبيه صلّى الله عليه وسلّم ـ؛ لأن الدعاء للغير طلب نفعه من ثالث!»[2].
والجواب عن هذا بأن يقال[3]: الدعاء طلب، والطلب يتضمن أمورًا ثلاثة: طالبًا، ومطلوبًا، ومطلوبًا منه، ولا تتقوم حقيقته إلا بهذه الأركان الثلاثة، وتغاير هذه ظاهر إذا كان الطالب يطلب شيئًا من غيره؛ كمن يأمر غيره أو ينهاه ويستفهمه، أما إذا كان طالبًا من نفسه؛ فهنا يكون الطالب هو المطلوب منه، ولم يكن هنا إلا ركنان: طالب ومطلوب، والمطلوب منه هو الطالب نفسه. وطلب الإنسان من نفسه غير مشكل؛ لأن الطلب من باب الإرادات، والمريد كما يريد من غيره أن يفعل شيئًا؛ فكذلك يريد من نفسه هو أن يفعله؛ فكذلك يطلب من نفسه، والإنسان قد يأمر نفسه وينهاها. فإذا كان معقولاً أن الإنسان يأمر نفسه وينهاها ـ والأمر والنهي طلب، مع أن فوقه آمرًا وناهيًا ـ؛ فكيف يستحيل ممن لا آمر فوقه ولا ناهي أن يطلب من نفسه فعل ما يحبه وترك ما يبغضه؟! كما كتب ربنا سبحانه وتعالى على نفسه الرحمة ونصر المؤمنين وغير ذلك، وحرم عليها الظلم وتعذيب المؤمنين وغير ذلك.
فالسلام من الله تعالى على أنبيائه ورسله ـ عليهم الصلاة والسلام ـ طلب من نفسه لهم بالسلامة؛ فلا يشكل عليه بما ذكر. والحمد لله ربِّ العالمين.
المسألة الثالثة: حكم الصلاة والسلام على غير الأنبياء:
هل السلام في معنى الصلاة؛ فيكره أن يقال: السلام على فلان ـ استقلالاً ـ، أو يقال: فلان عليه السلام؟ اختلف في ذلك، بعد الاتفاق على مشروعيته في تحية الحي والميت الحاضر على سبيل المخاطبة؛ فيخاطب به فيقال: سلام عليكم، أو: السلام عليكم، ونحو هذا[4]:
فكره ذلك طائفة ـ منهم: أبو محمد الجويني ـ، سواء في هذا الأحياء (الغائبون) والأموات.
والصحيح ـ وهو مذهب الجمهور ـ: أن السلام غير الصلاة؛ «فالسلام يشرع في حق كل مؤمن ـ حي وميت، وحاضر وغائب ـ؛ فإنك تقول: بلغ فلانًا مني السلام، والسلام تحية أهل الإسلام. بخلاف الصلاة؛ فهي شعار خاص بالأنبياء، وهي من حقوق النبي صلّى الله عليه وسلّم وآله؛ ولهذا يقول المصلي: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، ولا يقول: الصلاة علينا وعلى عباد الله الصالحين؛ فظهر الفرق بينهما»[5]. والله أعلم.
إلا أنه قد استقر اصطلاح أهل العلم على قصر التسليم في الغيبة على النبي صلّى الله عليه وسلّم، وإخوانه من الأنبياء والرسل، والملائكة، لا يشركهم فيه غيرهم من عباد الله الصالحين إلا على سبيل التبع ـ كما في التشهد ـ؛ فلا يسلم على معين غيرهم في غيابه على سبيل الاستقلال.
وليس القصد من هذا الاصطلاح التحريم؛ ولكنه اصطلاح وتمييز لمراتب الخلق؛ كما قصروا الرضا على الأصحاب، وكلمات الإجلال، نحو: (تبارك وتعالى)، و(جلَّ وعلا) ـ على الخالق تعالى دون الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام.
وهذا خلاف للشيعة؛ فإنهم يذكرون التسليم على علي وفاطمة وآلهما؛ بقصد الغض من الخلفاء الراشدين والصحابة رضي الله عنهم! وهذا مخالف لعمل السلف؛ فلا ينبغي اتباعهم أو الاقتداء بهم في ذلك[6].
واختلف العلماء في الصلاة على غير الأنبياء والملائكة، بعد اتفاقهم على مشروعية الصلاة على آل النبي صلّى الله عليه وسلّم بالتبع معه صلّى الله عليه وسلّم[7]:
فذهب جماعة ـ منهم: الحسن البصري، وخصيف، ومجاهد، ومقاتل، وهو مذهب: الإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه، والطبري وغيرهم ـ إلى جواز ذلك؛ فقالوا: تجوز الصلاة على غير النبي صلّى الله عليه وسلّم وآله.
واحتج هؤلاء بعدد من الأدلة؛ منها: قوله عزّ وجل: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103] ففي الآية أمر من الله تعالى لنبيِّه صلّى الله عليه وسلّم بالصلاة على من أخذ من أموالهم صدقة، لتكون لهم تزكية ورحمة، وقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 157] ، وقوله جلّ جلاله: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الأحزاب: 43] ، وبما ثبت في «الصحيحين» من حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه أنه قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: «اللَّهُمَّ صلِّ على آل فلان» ؛ فأتاه أبي بصدقته فقال: «اللَّهُمَّ صلِّ على آل أبي أوفى» [8]، فهذا عام، وظاهر في أنه هو المراد من الآية السابقة. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه؛ أن امرأة قالت للنبي صلّى الله عليه وسلّم: صلِّ علي وعلى زوجي ـ وفي رواية أنها امرأة جابر ـ؛ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «صلّى الله عليك وعلى زوجك» [9]. إلى غير ذلك من الأدلة التي تراجع في مظانها.
وذهب الجمهور ـ ومنهم: الإمام مالك، وأبو حنيفة، وأصحاب الشافعي، والسفيانان، وهو مذهب: ابن عباس، وطاووس، وعمر بن عبد العزيز ـ إلى عدم جواز إفراد غير الأنبياء بالصلاة؛ لأن هذا قد صار شعارًا للأنبياء إذا ذكروا؛ فلا يلحق بهم غيرهم؛ فلا يقال: قال أبو بكر صلى الله عليه، أو: قال علي صلّى الله عليه، وإن كان المعنى صحيحًا، كما لا يقال: قال محمد عزّ وجل ـ وإن كان عزيزًا جليلاً ـ؛ لأن هذا من شعار ذكر الله عزّ وجل.
وحملوا ما ورد في ذلك من الكتاب والسُّنَّة على الدعاء لهم؛ ولهذا لم يثبت شعارًا لآل أبي أوفى، ولا لجابر وامرأته، ممن وردت الصلاة في خصوصهم.
ويمكن أن يقال أيضًا في الرد على أدلتهم: أنه لا نزاع أن النبي صلّى الله عليه وسلّم يصلي على غيره؛ وإنما النزاع في صلاة غيره على غيره منفردًا صلّى الله عليه وسلّم.
وعلَّل بعضهم المنع وعدم الجواز: بأن الصلاة على غير الأنبياء صارت من شعار أهل الأهواء والبدع ـ كالشيعة ـ؛ يصلُّون على من يعتقدون فيهم؛ فلا يقتدى بهم في ذلك!
ثم اختلفوا ـ أي: الجمهور المانعين ـ: هل المنع من باب التحريم، أو الكراهة التنزيهية، أو خلاف الأولى؟ والصحيح ـ الذي عليه الأكثرون ـ: أنه مكروه كراهة تنزيه؛ لأنه شعار أهل البدع، وقد نهينا عن شعارهم، والمكروه هو ما ورد فيه نهي مقصود[10].


[1] انظر ـ مثلاً ـ: شرح صحيح مسلم للنووي (1/39)، ورسوم التحديث في علوم الحديث (122) [دار ابن حزم، بيروت، ط1]، وفتح المغيث (3/43، 47)، وتدريب الراوي للسيوطي (1/503) [مكتبة الكوثر، الرياض، ط2، 1415هـ].
[2] تفسير الرازي (25/183) [دار إحياء التراث العربي، بيروت].
[3] انظر: بدائع الفوائد لابن القيم (2/642).
[4] انظر: الأذكار للنووي (100)، وشرحه على صحيح مسلم (4/128، 7/185)، والمجموع له (6/172)، ومجموع الفتاوى (27/408، 411)، وجلاء الأفهام (549)، وفتح الباري (11/170).
[5] جلاء الأفهام لابن القيم (549)، بتصرف.
[6] انظر: التحرير والتنوير (22/103).
[7] انظر: الشفا للقاضي عياض (2/659) [طبعة عيسى البابي الحلبي]، والأذكار للنووي (99)، وشرحه على صحيح مسلم (4/127، 7/185)، والمجموع له (6/171)، ومجموع الفتاوى (27/407)، ومختصر الفتاوى المصرية للبعلي (272) [مطبعة المدني، مصر، 1400هـ]، والأخبار العلمية من الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام (84) [دار العاصمة، ط1]، وهو في الفتاوى الكبرى (5/336) [دار الكتب العلمية، ط1، 1408هـ]، وجلاء الأفهام (537، 546 ـ 575) [دار عالم الفوائد، ط1، 1425هـ]، وتفسير ابن كثير (6/477) [دار طيبة، ط2]، وفتح الباري لابن حجر (8/534)، والقول البديع للسخاوي (135).
[8] أخرجه البخاري (كتاب الزكاة، رقم 1497)، ومسلم (كتاب الزكاة، رقم 1078).
[9] أخرجه أبو داود (كتاب الوتر، رقم 1533)، وأحمد (23/421) [مؤسسة الرسالة، ط1]، والدارمي (كتاب دلائل النبوة، رقم 46)، وابن حبان (كتاب الرقائق، رقم 916)، وحسَّنه ابن حجر في الفتح (7/398) [دار المعرفة]، وصحَّحه الألباني في صحيح سنن أبي داود (رقم 1372) [مؤسسة غراس، ط1].
[10] انظر: جلاء الأفهام لابن القيم (573).


الفرق بين الصلاة على النبي، والسلام عليه، والتبريك عليه صلّى الله عليه وسلّم:
معنى صلاة الله تعالى على نبيِّه صلّى الله عليه وسلّم: ثناؤه عليه عند الملائكة وتعظيمه وتكريمه.
وتقدم أن معنى السلام عليه: دعاء الداعي له بأن يسلمه الله عزّ وجل ويحصنه من جميع النقائص والآفات والمكاره، في حياته وبعد موته.
ومعنى البركة والتبريك عليه[1]: الزيادة من الخير والكرامة، وقيل: الثبات على ذلك ـ من قولهم: بركت الإبل؛ أي: ثبتت على الأرض، ومنه: بركة الماء ـ وقيل: التزكية والتطهير من العيوب كلها.
فالتبريك يجمع بين: الزيادة والدوام والثبات؛ فمعنى «وبارك على محمد وعلى آل محمد»: اللَّهُمَّ أثبت وأدم ذكر محمد ودعوته وشريعته، وما أعطيته من التشريف والكرامة، وضاعفه وزده، وكثِّر أتباعه وأشياعه.
فحاصله: أن يعطوا من الخير أوفاه، وأن يثبت ذلك لهم ويستمر دائمًا.


[1] انظر: شرح النووي على مسلم (4/125، 126)، والنهاية لابن الأثير (1/120)، وجلاء الأفهام (354)، وفتح الباري لابن حجر (11/162)، والقول البديع (211).


ثمرات وفضائل الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم أكثر من أن تُحصى ـ وكثير منها لا يثبت بدليل صحيح ـ[1]؛ ومنها: رفع الدرجات، ومحو السيئات، وصلاة الله تعالى على العبد، وأنها سبب لغفران الذنوب، ونيل الرحمات والبركات، وكفاية الله العبد ما أهمه، وأنها سبب لقضاء الحوائج، وغير ذلك.
وتاركها متعرض للعقوبات الكثيرة[2]؛ ومنها: الدعاء بالإبعاد وحصول الشقاء، ووصفه بأنه أبخل الناس، وأنه يتحسر يوم القيامة، إلى غير ذلك من العقوبات والخسارات!


[1] انظر: جلاء الأفهام (521 ـ 536)، والقول البديع للسخاوي (235 ـ 301).
[2] انظر: القول البديع للسخاوي (302 ـ 322).


تقدم أن التفسير المشهور للصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم عند المتأخرين هو: الرحمة، وقد رد طائفة من الناس هذا التفسير ـ وهو مردود لكن بغير هذا ـ بحجة أن الرحمة معناها: رقة القلب أو الطبع، وهذا المعنى مستحيل في حق الله تعالى! كما أن الدعاء منه سبحانه مستحيل[1] و«غير معقول في حق الله تعالى؛ فإنه لا يدعو له ـ يعني: لنبيِّه صلّى الله عليه وسلّم ـ؛ لأن الدعاء للغير طلب نفعه من ثالث!»[2].
والجواب عن هذا الادعاء أن يقال[3]: الدعاء طلب، والطلب يتضمن أمورًا ثلاثة: طالبًا، ومطلوبًا، ومطلوبًا منه، ولا تتقوم حقيقته إلا بهذه الأركان الثلاثة، وتغاير هذه ظاهر إذا كان الطالب يطلب شيئًا من غيره؛ كمن يأمر غيره أو ينهاه ويستفهمه، أما إذا كان طالبًا من نفسه؛ فهنا يكون الطالب هو المطلوب منه، ولم يكن هنا إلا ركنان: طالب ومطلوب، والمطلوب منه هو الطالب نفسه. وطلب الإنسان من نفسه غير مشكل؛ لأن الطلب من باب الإرادات، والمريد كما يريد من غيره أن يفعل شيئًا؛ فكذلك يريد من نفسه هو أن يفعله؛ فكذلك يطلب من نفسه، والإنسان قد يأمر نفسه وينهاها. فإذا كان معقولاً أن الإنسان يأمر نفسه وينهاها، والأمر والنهي طلب، مع أن فوقه آمرًا وناهيًا، فكيف يستحيل ممن لا آمر فوقه ولا ناه أن يطلب من نفسه فعل ما يحبه وترك ما يبغضه!؟ كما كتب ربنا سبحانه وتعالى على نفسه الرحمة ونصر المؤمنين وغير ذلك، وحرم عليها الظلم وتعذيب المؤمنين وغير ذلك.
فالصلاة من الله تعالى على نبيِّه صلّى الله عليه وسلّم طلب من نفسه له بالثناء عليه وتعظيمه وتكريمه؛ فلا يشكل عليها بما ذكر. والحمد لله ربِّ العالمين.
وقد اتخذ أهل الأهواء والبدع ـ كالشيعة وغيرهم ـ الصلاة والسلام على من يعتقدون فضلهم شعارًا تميزوا به عن غيرهم؛ فالشيعة ـ مثلاً ـ لا يصلّون ولا يسلّمون إلا على علي وفاطمة وآلهما؛ بقصد الغض من الخلفاء الراشدين والصحابة رضي الله عنهم[4]! وهذا مخالف لعمل السلف؛ فلا ينبغي اتباعهم أو الاقتداء بهم في ذلك؛ فإن الصلاة والسلام من باب التعظيم والتكريم، والشيخان ـ أبو بكر وعمر ـ وأمير المؤمنين عثمان بن عفان أولى بذلك من علي! رضي الله عنهم[5].


[1] انظر: جلاء الأفهام (179).
[2] تفسير الرازي (25/183) [دار إحياء التراث العربي، بيروت].
[3] انظر: بدائع الفوائد لابن القيم (2/642).
[4] انظر في تكفير الرافضة لعموم الصحابة: الكافي للكليني (8/205، 236، 246) [دار الأضواء، بيروت، 1405هـ]، وتفسير العياشي (1/199) [المكتبة العلمية، طهران]، والبرهان في تفسير القرآن للبحراني (1/319) [طبعة طهران، ط2]، والأنوار النعمانية لنعمة الله الجزائري (1/81) [مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، ط4، 1404هـ]. وانظر أيضًا: شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار (761) [مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1384هـ]، والفَرق بين الفِرق للبغدادي (321) [مطبعة المدني، القاهرة]. ولمزيد من التفصيل راجع: أصول مذهب الشيعة للقفاري (2/716)، ومباحث المفاضلة في العقيدة للشظيفي (302) [دار ابن عفان، القاهرة، ط1، 1423هـ].
[5] انظر: الشفا للقاضي عياض (2/664)، وجلاء الأفهام لابن القيِّم (573)، وتفسير ابن كثير (6/478)، والتحرير والتنوير (22/103).


1 ـ «تفسير ابن كثير» (ج6).
2 ـ «تفسير السعدي».
3 ـ «التمهيد» (ج16)، لابن عبد البر.
4 ـ «الجامع لأحكام القرآن» (ج14)، للقرطبي.
5 ـ «جلاء الأفهام»، لابن القيِّم.
6 ـ «الشفا» (ج2)، للقاضي عياض.
7 ـ «فتح الباري» (ج11)، لابن حجر.
8 ـ «القول البديع»، للسخاوي.
9 ـ «المحرر الوجيز» (ج7)، لابن عطية.
10 ـ «المنهاج في شعب الإيمان» (ج2)، للحليمي.