حرف السين / سلمان الفارسي رضي الله عنه

           

أبو عبد الله سلمان الفارسي الرامهرمزي، ويقال له: سلمان الخير، وسلمان ابن الإسلام[1]، وتوهم بعضهم فظن أن سلمان الفارسي غير سلمان الخير، ففرق بينهما وهما اسمان لمسمى واحد[2]، وسبب هذا الوهم أن سلمان الفارسي يطلق عليه سلمان الخير، وسلمان الفارسي، وهما اسمان لشخص واحد.


[1] انظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب (2/634) [دار الجيل، ط1]، وسير أعلام النبلاء (1/505) [مؤسسة الرسالة، ط3]، والإصابة في تمييز الصحابة (3/141) [دار الجيل، بيروت، ط1].
[2] انظر: الثقات لابن حبان (3/157) [دار الفكر، ط1]، والإصابة في تمييز الصحابة (3/141،و293).


توفي سلمان الفارسي في خلافة عثمان بن عفان بالمدائن[1]، واختلف في تحديد سنة وفاته؛ فقيل: مات سنة ست وثلاثين[2]، وقيل: خمس وثلاثين، ورجح هذا ابن عبد البر[3]، وقال ابن حجر: «مات سنة ست وثلاثين في قول أبي عبيد، أو سبع في قول خليفة... عن أنس: دخل ابن مسعود على سلمان عند الموت، فهذا يدل على أنه مات قبل ابن مسعود، ومات ابن مسعود قبل سنة أربع وثلاثين، فكأنه مات سنة ثلاث أو سنة اثنتين»[4]، ولكنه جزم في التقريب بأنه مات سنة أربع وثلاثين[5].


[1] انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (7/231) [دار الكتب العلمية، ط1، 1410هـ].
[2] انظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب (2/638)، وسير أعلام النبلاء (1/505).
[3] انظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب (2/638).
[4] الإصابة في تمييز الصحابة (3/141).
[5] انظر: تقريب التهذيب (رقم 2477).


كان سلمان الفارسي يبحث عن الدين الحق، وفي سبيل تحريه إياه وطلب الوصول إليه لحقته محن وابتلاءات، حيث استعبد وصار يباع ويشترى، حتى وصل إلى بضعة عشر رجلاً، كما جاء في البخاري عن سلمان أنه «تداوله بضعة عشر، من ربّ إلى ربّ»[1]. قال ابن عبد البر: «وكان سلمان يطلب دين الله تعالى، ويتبع من يرجو ذلك عنده، فدان بالنصرانية وغيرها، وقرأ الكتب، وصبر في ذلك على مشقات نالته، وذلك كله مذكور في خبر إسلامه»[2].
ولكنه في نهاية المطاف تحقق له مطلبه ولقي النبي صلّى الله عليه وسلّم العربي فأسلم، وصار من أفاضل الصحابة رضي الله عنهم، وقد ساق ابن إسحاق[3] بإسناد حسن[4] قصة إسلام سلمان الفارسي بطولها، ومن طريقه مع بعض الاختلاف في المتن رواه الإمام أحمد بإسناده عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: «حدثني سلمان الفارسي رضي الله عنه حديثه من فيه، قال: كنت رجلاً فارسيًّا من أهل أصبهان، من أهل قرية منها يقال لها جي، وكان أبي دهقان قريته، وكنت أحب خلق الله إليه، فلم يزل به حبه إياي حتى حبسني في بيته كما تحبس الجارية، واجتهدت في المجوسية حتى كنت قَطِنَ النار الذي يوقدها لا يتركها تخبو ساعة، قال: وكانت لأبي ضيعة عظيمة، قال: فشُغل في بنيان له يومًا، فقال لي: يا بني، إني قد شُغلت في بنيان هذا اليوم عن ضيعتي، فاذهب فاطلعها، وأمرني فيها ببعض ما يريد، فخرجت أريد ضيعته، فمررت بكنيسة من كنائس النصارى، فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون، وكنت لا أدري ما أمر الناس لحبس أبي إياي في بيته، فلما مررت بهم، وسمعت أصواتهم، دخلت عليهم أنظر ما يصنعون، قال: فلما رأيتهم أعجبني صلاتهم، ورغبت في أمرهم، وقلت: هذا والله خير من الدين الذي نحن عليه، فوالله ما تركتهم حتى غربت الشمس، وتركت ضيعة أبي ولم آتها، فقلت لهم: أين أصل هذا الدين؟ قالوا: بالشام.
قال: ثم رجعت إلى أبي، وقد بعث في طلبي وشغلته عن عمله كله، قال: فلما جئته، قال: أي بني، أين كنت؟ ألم أكن عهدت إليك ما عهدت؟ قال: قلت: يا أبت، مررت بناس يصلون في كنيسة لهم فأعجبني ما رأيت من دينهم، فوالله ما زلت عندهم حتى غربت الشمس، قال: أي بني، ليس في ذلك الدين خير، دينك ودين آبائك خير منه، قال: قلت: كلا والله إنه لخير من ديننا، قال: فخافني، فجعل في رجلي قيدًا، ثم حبسني في بيته، قال: وبعثت إلى النصارى فقلت لهم: إذا قدم عليكم ركب من الشام تجار من النصارى فأخبروني بهم، قال: فقدم عليهم ركب من الشام تجار من النصارى، قال: فأخبروني بهم، قال: فقلت لهم: إذا قضوا حوائجهم وأرادوا الرجعة إلى بلادهم فآذنوني بهم.
قال: فلما أرادوا الرجعة إلى بلادهم أخبروني بهم، فألقيت الحديد من رجلي، ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام، فلما قدمتها، قلت: من أفضل أهل هذا الدين؟ قالوا: الأسقف في الكنيسة، قال: فجئته، فقلت: إني قد رغبت في هذا الدين، وأحببت أن أكون معك أخدمك في كنيستك، وأتعلم منك وأصلي معك، قال: فادخل فدخلت معه، قال: فكان رجل سوء يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها، فإذا جمعوا إليه منها أشياء، اكتنزه لنفسه، ولم يعطه المساكين، حتى جمع سبع قلال من ذهب وورق، قال: وأبغضته بغضًا شديدًا لما رأيته يصنع، ثم مات، فاجتمعت إليه النصارى ليدفنوه، فقلت لهم: إن هذا كان رجل سوء يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها فإذا جئتموه بها اكتنزها لنفسه، ولم يعط المساكين منها شيئًا، قالوا: وما علمك بذلك؟ قال: قلت أنا أدلكم على كنزه، قالوا: فدلنا عليه، قال: فأريتهم موضعه، قال: فاستخرجوا منه سبع قلال مملوءة ذهبًا وورقًا، قال: فلما رأوها قالوا: والله لا ندفنه أبدًا فصلبوه، ثم رجموه بالحجارة، ثم جاؤوا برجل آخر، فجعلوه بمكانه.
قال: يقول سلمان: فما رأيت رجلاً لا يصلي الخمس، أرى أنه أفضل منه، أزهد في الدنيا، ولا أرغب في الآخرة، ولا أدأب ليلاً ونهارًا منه، قال: فأحببته حبًّا لم أحبه من قبله، فأقمت معه زمانًا، ثم حضرته الوفاة، فقلت له: يا فلان إني كنت معك وأحببتك حبًّا لم أحبه من قبلك،وقد حضرك ما ترى من أمر الله، فإلى من توصي بي، وما تأمرني؟ قال: أي بني والله ما أعلم أحدًا اليوم على ما كنت عليه، لقد هلك الناس وبدلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه، إلا رجلاً بالموصل، وهو فلان، فهو على ما كنت عليه، فالحق به.
قال: فلما مات وغيب، لحقت بصاحب الموصل، فقلت له: يا فلان، إن فلانًا أوصاني عند موته أن ألحق بك، وأخبرني أنك على أمره، قال: فقال لي: أقم عندي فأقمت عنده، فوجدته خير رجل على أمر صاحبه، فلم يلبث أن مات، فلما حضرته الوفاة، قلت له: يا فلان، إن فلانًا أوصى بي إليك، وأمرني باللحوق بك، وقد حضرك من الله عزّ وجل ما ترى، فإلى من توصي بي، وما تأمرني؟ قال: أي بني، والله ما أعلم رجلاً على مثل ما كنا عليه إلا بنصيبين، وهو فلان، فالحق به، قال: فلما مات وغيب لحقت بصاحب نصيبين، فجئته فأخبرته خبري، وما أمرني به صاحبي، قال: فأقم عندي، فأقمت عنده، فوجدته على أمر صاحبيه، فأقمت مع خير رجل، فوالله ما لبث أن نزل به الموت، فلما حضر، قلت له: يا فلان، إن فلانًا كان أوصى بي إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إليك، فإلى من توصي بي، وما تأمرني؟ قال: أي بني، والله ما نعلم أحدًا بقي على أمرنا آمرك أن تأتيه إلا رجلاً بعمورية، فإنه على مثل ما نحن عليه، فإن أحببت فأته، قال: فإنه على أمرنا، قال: فلما مات وغيب لحقت بصاحب عمورية، وأخبرته خبري، فقال: أقم عندي، فأقمت مع رجل على هدي أصحابه وأمرهم، قال: واكتسبت حتى كان لي بقرات وغنيمة، قال: ثم نزل به أمر الله، فلما حضر قلت له: يا فلان، إني كنت مع فلان، فأوصى بي فلان إلى فلان، وأوصى بي فلان إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إليك، فإلى من توصي بي، وما تأمرني؟ قال: أي بني، والله ما أعلمه أصبح على ما كنا عليه أحد من الناس آمرك أن تأتيه، ولكنه قد أظلك زمان نبي هو مبعوث بدين إبراهيم يخرج بأرض العرب، مهاجرًا إلى أرض بين حرتين بينهما نخل، به علامات لا تخفى؛ يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل.
قال: ثم مات وغُيِّب، فمكثت بعمورية ما شاء الله أن أمكث، ثم مر بي نفر من كلب تجارًا، فقلت لهم: تحملوني إلى أرض العرب، وأعطيكم بقراتي هذه وغنيمتي هذه؟ قالوا: نعم فأعطيتموها وحملوني، حتى إذا قدموا بي وادي القرى ظلموني فباعوني من رجل من يهود عبدًا، فكنت عنده، ورأيت النخل، ورجوت أن تكون البلد الذي وصف لي صاحبي، ولم يحق لي في نفسي، فبينما أنا عنده، قدم عليه ابن عم له من المدينة من بني قريظة فابتاعني منه، فاحتملني إلى المدينة، فوالله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبي، فأقمت بها وبعث الله رسوله، فأقام بمكة ما أقام لا أسمع له بذكر مع ما أنا فيه من شغل الرق، ثم هاجر إلى المدينة، فوالله إني لفي رأس عذق لسيدي أعمل فيه بعض العمل، وسيدي جالس، إذ أقبل ابن عم له حتى وقف عليه، فقال: فلان، قاتل الله بني قيلة، والله إنهم الآن لمجتمعون بقباء على رجل قدم عليهم من مكة اليوم، يزعمون أنه نبي، قال: فلما سمعتها أخذتني العرواء، حتى ظننت سأسقط على سيدي، قال: ونزلت عن النخلة، فجعلت أقول لابن عمه ذلك: ماذا تقول؟ ماذا تقول؟
قال: فغضب سيدي فلكمني لكمة شديدة، ثم قال: ما لك ولهذا، أقبل على عملك، قال: قلت: لا شيء، إنما أردت أن أستثبته عما قال: وقد كان عندي شيء قد جمعته، فلما أمسيت أخذته ثم ذهبت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو بقباء، فدخلت عليه، فقلت له: إنه قد بلغني أنك رجل صالح، ومعك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة، وهذا شيء كان عندي للصدقة، فرأيتكم أحق به من غيركم قال: فقربته إليه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: «كلوا» وأمسك يده فلم يأكل، قال: فقلت في نفسي: هذه واحدة، ثم انصرفت عنه فجمعت شيئًا، وتحوَّل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة، ثم جئته به، فقلت: إني رأيتك لا تأكل الصدقة، وهذه هدية أكرمتك بها، قال: فأكل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منها وأمر أصحابه فأكلوا معه، قال: فقلت في نفسي: هاتان اثنتان، قال: ثم جئت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو ببقيع الغرقد، قال: وقد تبع جنازة من أصحابه، عليه شملتان له، وهو جالس في أصحابه، فسلمت عليه، ثم استدرت أنظر إلى ظهره، هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي؟ فلما رآني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استدبرته، عرف أني أستثبت في شيء وصف لي، قال: فألقى رداءه عن ظهره، فنظرت إلى الخاتم فعرفته، فانكببت عليه أقبله وأبكي.
فقال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تحوَّل»، فتحولت، فقصصت عليه حديثي كما حدثتك يا ابن عباس، قال: فأعجب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يسمع ذلك أصحابه، ثم شغل سلمان الرق حتى فاته مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بدر، وأحد، قال: ثم قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كاتب يا سلمان» ، فكاتبت صاحبي على ثلاث مائة نخلة أحييها له بالفقير، وبأربعين أوقية، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: «أعينوا أخاكم» ، فأعانوني بالنخل: الرجل بثلاثين ودية، والرجل بعشرين، والرجل بخمس عشرة، والرجل بعشر؛ يعني: الرجل بقدر ما عنده، حتى اجتمعت لي ثلاث مائة ودية، فقال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اذهب يا سلمان ففقر لها، فإذا فرغت فأتني أكون أنا أضعها بيدي» قال: ففقرت لها، وأعانني أصحابي، حتى إذا فرغت منها جئته فأخبرته، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معي إليها فجعلنا نقرب له الودي، ويضعه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيده، فوالذي نفس سلمان بيده، ما ماتت منها ودية واحدة، فأديت النخل، وبقي علي المال، فأتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمثل بيضة الدجاجة من ذهب من بعض المغازي، فقال: «ما فعل الفارسي المكاتب؟» ، قال: فدعيت له، فقال: «خذ هذه فأدِّ بها ما عليك يا سلمان» ، فقلت: وأين تقع هذه يا رسول الله مما علي؟ قال: «خذها، فإن الله سيؤدي بها عنك» ، قال: فأخذتها فوزنت لهم منها، والذي نفس سلمان بيده، أربعين أوقية، فأوفيتهم حقهم، وعتقت، فشهدت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الخندق، ثم لم يفُتْني معه مشهد»[5].


[1] أخرجه البخاري (كتاب مناقب الأنصار، رقم 3946).
[2] الاستيعاب في معرفة الأصحاب (2/634).
[3] انظر: كتاب المغازي لابن إسحاق (88 ـ 91) [دار الفكر، بيروت، ط1، 1398هـ]، والطبقات الكبرى لابن سعد (4/56).
[4] انظر: السيرة النبوية الصحيحة لأكرم ضياء العمري (1/121) [مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، ط6، 1415هـ].
[5] أخرجه أحمد في مسنده (39/140 ـ 147) [مؤسسة الرسالة، ط1، 1421هـ]، قال ابن حجر: «ورويت قصته من طرق كثيرة من أصحها ما أخرجه أحمد من حديثه نفسه». الإصابة في تمييز الصحابة (3/119) [دار الكتب العلمية، ط1]، وحسن إسناده الألباني في السلسلة الصحيحة (2/560).


سلمان الفارسي هو أحد الصحابة الكرام، وقد جاء ما يدل على فضله من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «كنا جلوسًا عند النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأنزلت عليه سورة الجمعة: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة: 3] ، قال: قلت: من هم يا رسول الله؟ فلم يراجعه حتى سأل ثلاثًا وفينا سلمان الفارسي، وضع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يده على سلمان ثم قال: لو كان الإيمان عند الثريا، لناله رجال أو رجل من هؤلاء»[1].
ـ أنه ممن يؤتى أجره مرتين:
فقد روى الإمام ابن جرير الطبري بسنده عن قتادة في قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ *} [القصص] قال: «كنا نحدث أنها نزلت في أناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة من الحق، يأخذون بها، وينتهون إليها، حتى بعث الله محمدًا صلّى الله عليه وسلّم، فآمنوا به، وصدقوا به، فأعطاهم الله أجرهم مرتين بصبرهم على الكتاب الأول، واتّباعهم محمدًا صلّى الله عليه وسلّم، وصبرهم على ذلك، وذكر أن منهم سلمان، وعبد الله بن سلام»[2].
وأشار ابن حجر إلى تصحيحه من جهة المعنى فيما يبدو، فقال: «والذي في تفسير الطبري وغيره عن قتادة أنها نزلت في عبد الله بن سلام وسلمان الفارسي، وهذا مستقيم؛ لأن عبد الله كان يهوديًّا فأسلم كما سيأتي في الهجرة، وسلمان كان نصرانيًّا فأسلم»[3].
قال ابن عبد البر: «وله أخبار حسان وفضائل جمة رضي الله عنه»[4].
وأما حديث: «سلمان سابق فارس» [5]، وحديث: «سلمان منا أهل البيت» ؛ فهما ضعيفان[6].


[1] أخرجه البخاري (كتاب التفسير، رقم 4897)، ومسلم (كتاب فضائل الصحابة، رقم 2546).
[2] تفسير الطبري (18/278) [دار هجر، ط1].
[3] فتح الباري لابن حجر (1/191) [دار المعرفة].
[4] الاستيعاب في معرفة الأصحاب (2/638).
[5] أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (7/318) [دار صادر، ط1]، وابن أبي شيبة في المصنف (كتاب الفضائل، رقم 32329)، عن الحسن مرسلاً، وله طرق أخرى لا يثبت منها شيء. انظر: السلسلة الضعيفة (رقم 2953).
[6] أخرجه الحاكم في المستدرك (كتاب معرفة الصحابة، رقم 6541)، وسنده ضعيف جدًّا، وله طرق أخرى واهية. انظر: السلسلة الضعيفة (رقم 3704).


كانت له مكانة رفيعة ومنزلة عالية، قال الذهبي: «وكان لبيبًا، حازمًا، من عقلاء الرجال، وعبادهم، ونبلائهم. قال يحيى بن حمزة القاضي: عن عروة بن رويم، عن القاسم أبي عبد الرحمن حدثه، قال: زارنا سلمان الفارسي، فصلى الإمام الظهر، ثم خرج وخرج الناس، يتلقونه كما يتلقى الخليفة، فلقيناه وقد صلى بأصحابه العصر، وهو يمشي، فوقفنا نسلم عليه، فلم يبق فينا شريف إلا عرض عليه أن ينزل به»[1].


[1] سير أعلام النبلاء (1/505).


يغلو الشيعة ـ بشتى طوائفهم ومختلف أسمائهم ـ في سلمان الفارسي رضي الله عنه؛ لزعمهم أنه من الصحابة القلائل الذين ناصروا وشايعوا عليًّا في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم، وفي عصر الخلفاء الثلاثة الأُوّل، ومن هؤلاء الطوائف:
الرافضة: غلا الروافض في سلمان الفارسي رضي الله عنه غلوًّا شديدًا، فأطلقوا عدة ادعاءات؛ منها:
زعمهم أن سلمان كان مؤمنًا وكان يدعو بني إسرائيل إلى الإيمان قبل مجيئه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، بأربعمائة وخمسين سنة، وأنه لم يكن قط على دين المجوسية، وأن الجنة تشتاق إليه[1].
زعموا أنه بحر العلم، وأنه كان يعلم كل العلوم أولها وآخرها وظاهرها وباطنها وسرها وعلنها؛ بل وضعوا روايات نسبوا بعضها إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وفيها أنه صلّى الله عليه وسلّم أُمر أن يطلع سلمان على علم المنايا والبلايا[2] والأنساب وفصل الخطاب[3].
وزعموا أنه كان يعترض على خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ويدعو إلى مبايعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وزعموا أنه روى روايات عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، مفادها أن علي بن أبي طالب وصي النبي صلّى الله عليه وسلّم[4]. وجعلوا له بالمدائن ضريحًا يزار[5].
الرد عليهم:
كل ما نسبه الروافض إلى سلمان الفارسي رضي الله عنه ليس له حجة تسنده وبرهان يسعفه؛ بل هو غلو مقيت، قائم على الدجل والتخرص، قادتهم إليه العصبية الحمقاء والمذهبية العمياء، أما زعمهم أنه كان مؤمنًا وداعية إلى الله ولم يكن على دين المجوسية قبل إسلامه بنحو أربعمائة وخمسين سنة فهو دجل مكشوف وكذب صراح، يرده ما ثبت في قصة إسلامه السابقة تحت فقرة: (إسلامه)، وهو قوله: «واجتهدت في المجوسية حتى كنت قَطِنَ النار الذي يوقدها لا يتركها تخبو ساعة»، وهذا غير قادح فيه بعد إسلامه رضي الله عنه.
أما زعمهم أن لسلمان علمًا محيطًا بكل معلوم فهو تكذيب صريح لمثل قوله تعالى: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255] ، وقوله سبحانه: {قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ} [النمل: 65] .
وأما زعمهم أن هذا العلم المحيط بكل شيء حصل لسلمان رضي الله عنه بتعليم النبي صلّى الله عليه وسلّم إياه، فهو باطل أيضًا؛ لقول الله في حق نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم: {قُلْ لاَ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ} [الأنعام: 50] ، فإذا كان سيد الخلق لا يعرف الغيب فكيف يخبر به غيرَه؟
ومثل هذا في البطلان ما نسبوه إلى سلمان رضي الله عنه من الاعتراض على خلافة الصديق رضي الله عنه، والدعوة إلى مبايعة علي رضي الله عنه وأنه وصي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كلُّها أكاذيب مختلقة وروايات منحوتة، انفرد بها الروافض المبطلون لإثبات عقائدهم الزائفة.
وأما جعلهم على قبر سلمان الفارسي رضي الله عنه ضريحًا يزار، فهو دليل من أدلة كثيرة على عصبيَّتهم الحمقاء، وأنهم عباد القبور لا صلة لهم بسلمان الفارسي رضي الله عنه الذي شهد له نبي الرحمة صلّى الله عليه وسلّم بالتوحيد والإيمان.
النصيرية: غلت النصيرية في سلمان الفارسي رضي الله عنه غلوًّا شديدًا؛ حيث جعلوه أحد مكونات عقيدة الثالوث التي يؤمنون بها، ويرمزون لها بالأحرف التالية: (ع م س) فالعين يقصدون به عليًّا رضي الله عنه، ويدّعون أن الذات الإلهية متشخصة بالمعنى وهو علي، والميم: محمد صلّى الله عليه وسلّم، ويدّعون أنه العقل الكلي، والسين: سلمان الفارسي رضي الله عنه، ويزعمون أنه النفس الكلية المنبثقة عن العقل الكلي، وهو الذي خلق السماوات والأرض، وخلق أيضًا الأيتام الخمسة وهم المقداد، وأبو ذر الغفاري، وعبد الله بن رواحة، وعثمان بن مظعون، وقنبر بن داكان، وهؤلاء قائمون بشؤون الكون في زعمهم[6]، وأن سلمان هو الباب الذي لا يمكن الوصول إلى الله إلا منه، وكذا أنه الباب الذي علّم عليٌّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم القرآن على لسانه بصفته جبرائيل؛ لأن سلمان ـ حسب عقيدة التناسخ ـ كانت له أسماء مختلفة على مر العصور، فهو روح القدس جبرائيل، والعزيز الأعلى سلمان، ونور الله، وسر وجود الوجود، وإليه البعث والنشور[7].
الرد عليهم:
لا يشك عاقل في أن هذه الادعاءات كلها غاية في البطلان، ولا ينطلي أمرها على كل ذي بصيرة؛ لظهور فسادها؛ لما يلي:
أولاً: أن البشر كلهم ـ إلا القليل الشاذ المكابر ـ مفطورون على الإقرار بأن الخلق والملك والتدبير لله وحده، كما قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ *} [يونس] ، وقال الله سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ *} [العنكبوت] .
فدعوى أن هناك خالقًا مع الله، سواء كان ملكًا مقربًا، أو نبيًّا مرسلاً، أو وليًّا صالحًا، هي دعوى فاسدة كاسدة.
ثانيًا: زعمهم أن عليًّا علم محمدًا القرآن بلسان سلمان، وأن سلمان هو الباب الذي لا يمكن الوصول إلى الله إلا به هو هذيان محض وتخرص واضح يردُّه صريح القرآن؛ كقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ *} [البقرة] ، وقوله سبحانه: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ *نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ *عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ *} [الشعراء] ، وقال سبحانه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى *عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى *} [النجم] فالقرآن نزل من عند الله لا من علي بن أبي طالب، ونزل به جبريل على النبي محمد لا سلمان الفارسي.


[1] نفس الرحمن في فضائل سلمان، لحسين النوري الطبرسي (103).
[2] ربما يقصد بالمنايا والبلايا: إطلاعه على ما يجري على بعض الناس، كذا ذكر بعض الرافضة، انظر: سلمان سابق فارس لمحمد جواد آل الفقيه (151) [دار الفنون، ومؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت].
[3] انظر: بحار الأنوار للمجلسي (22/347) [تحقيق: عبد الرحيم الرباني الشيرازي، مؤسسة الوفاء، بيروت، ط2، 1403هـ]، ونفس الرحمن في فضائل سلمان لحسين الطبرسي (209 ـ 211) [تحقيق: جواد القيومي، مؤسسة الآفاق، ط1، 1411هـ].
[4] انظر: رسائل المرتضى (4/93) [إعداد: السيد أحمد الحسيني، دار القرآن الكريم، قم، ط1، 1410هـ]، ونفس الرحمن في فضائل سلمان لحسين النوري الطبرسي (273 ـ 276).
[5] انظر: معجم البلدان للحموي (5/75) [دار صادر]، ومسالك الأفهام للملقب بالشهيد الثاني (22) [مؤسسة المعارف الإسلامية، قُم، ط1، 1413هـ].
[6] انظر: الحركات الباطنية في العالم الإسلامي لمحمد أحمد الخطيب (432).
[7] انظر: الحركات الباطنية في العالم الإسلامي (347، و360 ـ 362، و432).


1 ـ «الاستيعاب في معرفة الأصحاب» (ج2)، لابن عبد البر.
2 ـ «الإصابة في تمييز الصحابة» (ج3)، لابن حجر.
3 ـ «الثقات» (ج3)، لابن حبان.
4 ـ «سيرة ابن هشام» (ج2).
5 ـ «السيرة النبوية الصحيحة» (ج1)، لأكرم ضياء العمري.
6 ـ «الطبقات الكبرى» (ج7)، لابن سعد.
7 ـ كتاب «المغازي»، لابن إسحاق.
8 ـ «ما شاع ولم يثبت في السيرة النبوية»، لمحمد بن عبد الله العوشن.
9 ـ «مرويات غزوة الخندق»، لإبراهيم محمد المدخلي.
10 ـ «مسند الإمام أحمد» (ج39).