هو: «سليمان بن داود بن إيشا بن عويذ ـ وقيل: ابن عويد ـ بن ناعر ـ وقيل: ابن باعز ـ بن سلمون بن يحشون ـ وقيل: ابن نحشون ـ بن عميناذب بن إرم بن خضرون ـ وقيل: ابن حصرون ـ بن فارص بن يهودا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم»[1].
[1] انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر (22/230) [دار الفكر، 1415هـ]، والبداية والنهاية (2/323) [دار هجر، ط1]، وقصص الأنبياء لابن كثير (2/285) [مطبعة دار التأليف، القاهرة، ط1، 1388هـ].
دلَّت النصوص على نبوة سليمان عليه السلام، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالاَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ *وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَاأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ *} [النمل] ، فالآية الأولى دلَّت على نبوته من جهتين؛ الأولى: أن الله آتى داود وسليمان علمًا وهو علم النبوة، والأخرى: أنه فضلهما على كثير من العباد، ولذا قال ابن كثير في الآية: «يخبر تعالى عما أنعم به على عبديه ونبييه داود وابنه سليمان ـ عليهما من الله السلام ـ من النعم الجزيلة، والمواهب الجليلة، والصفات الجميلة، وما جمع لهما بين سعادة الدنيا والآخرة، والملك والتمكين التام في الدنيا، والنبوة والرسالة في الدين؛ ولهذا قال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالاَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ *}»[1].
والآية الثانية دلَّت على نبوته من جهة إثبات إرث سليمان لداود عليه السلام، وهذا الإرث هو إرث النبوة وليس إرث مال؛ لأن الأنبياء لا يورّثون مالاً؛ بل ما تركوه يكون صدقة، لما ثبت عن جماعة من الصحابة، منهم: أبو بكر رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا نورث، ما تركنا فهو صدقة» [2]. وعن عمر رضي الله عنه قال لعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وسعد: «نشدتكم بالله الذي تقوم السماء والأرض به أعلمتم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنا لا نورث، ما تركنا صدقة» قالوا: اللَّهُمَّ نعم» [3]. وهذا الحديث في الصحيح بدون زيادة: (إنا)، وفي الحديثين إخبار عن شأن الأنبياء عليهم السلام بأنهم لا يورثون مالاً، وعليه؛ فما أخبر الله به في الآية من إرث سليمان لداود هو للنبوة والملك.
قال ابن كثير: «وقوله: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} [النمل: 16] ؛ أي: في الملك والنبوة، وليس المراد وراثة المال؛ إذ لو كان كذلك لم يخص سليمان وحده من بين سائر أولاد داود، فإنه قد كان لداود مائة امرأة، ولكن المراد بذلك وراثة الملك والنبوة؛ فإن الأنبياء لا تورث أموالهم»[4].
[1] تفسير ابن كثير (6/181).
[2] أخرجه البخاري (كتاب فضائل أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، رقم 3712)، ومسلم (كتاب الجهاد والسير، رقم 1759).
[3] أخرجه أحمد (1/306) [مؤسسة الرسالة، ط1]، والنسائي في الكبرى (كتاب الفرائض، رقم 6273)، وقال ابن كثير في البداية والنهاية (8/193) [دار هجر، ط1]: «على شرط الصحيحين».
[4] تفسير ابن كثير (6/182).
لقد أيد الله نبيَّه سليمان عليه السلام بآيات بينات، تدل على صدق نبوته وصحة رسالته، فقد علمه الله منطق الطير، قال الله عزّ وجل عن سليمان: {...يَاأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ * وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ *حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ *فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ *} [النمل] .
قال ابن كثير: «أي: أخبر سليمان بنعم الله عليه، فيما وهبه له من الملك التام، والتمكين العظيم، حتى إنه سخر له الإنس والجن والطير، وكان يعرف لغة الطير والحيوان أيضًا، وهذا شيء لم يُعطَه أحدٌ من البشر ـ فيما علمناه ـ مما أخبر الله به ورسوله»[1].
وسخر له الرياح تنقله حيث شاء، وأعطاه الله ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده، فسخر له الجن فقهرهم؛ ليعملوا له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات[2]، قال عزّ وجل: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ *يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ *} [سبأ] ، حيث كان له بساط من خشب، يضع فوقه جميع ما يحتاج إليه من أمور مملكته، من جنود وخيام وخيل وجمال، ثم يأمر الرياح بحمله إلى حيث يشاء من أرض الله[3].
كما سخر له عين القطر وهو النحاس، فيسَّر له أسباب استخراج ما يستخرج منها من الأواني[4].
[1] المصدر السابق (6/182)
[2] انظر: المصدر السابق (5/34).
[3] انظر: المصدر السابق (5/358).
[4] انظر: تفسير السعدي (ص676).
ذكر الله قصة الهدهد مع نبي الله سليمان عليه السلام، وفيها بيان لدعوته عليه السلام؛ حيث إنه لما أبلغه الهدهد بانتشار الشرك وعبادة غير الله في بلدة سبأ، بادر عليه السلام بإرسال رسالة يدعوهم فيها إلى الاستسلام لله بالتوحيد، ونبذ عبادة غير الله، وحضورهم إليه منقادين لله بالتوحيد، كما قال تعالى مخبرًا عن قول سليمان للهدهد عند ما أرسله إلى مملكة سبأ: {اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ *قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلأَُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ *إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ *أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ *} [النمل] .
لقد توفي نبي الله سليمان عليه السلام وهو واقف متكئ على عصاه، ولم يعلم بموته أحد، وكان الجن يعملون بأوامره باستمرار؛ خوفًا منه، يظنون أنه حيّ، ولم يعلموا بموته إلا بعد سقوطه، لما أكلت الأرضة منسأته[1]، يدل على ذلك قول الله تعالى: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَآبَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ *} [سبأ] .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «كان نبي الله سليمان إذا قام في مصلاه، رأى شجرة نابتة بين يديه، فقال لها: ما اسمك؟ قالت: الخرنوب. قال: لأي شيء أنت؟ فقالت: لخراب هذا البيت. فقال: اللَّهُمَّ عمِّ عليهم موتي، حتى يعلم الإنس أن الجن لا تعلم الغيب. قال: فنحتها عصًا يتوكأ عليها. فأكلتها الأرضة فسقطت فخر، فحزروا أكلها الأرضة، فوجدوه حولاً، فتبينت الإنس أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين»[2].
[1] انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر (22/298)، والمنسأة هي العصا، انظر: المفردات في غريب القرآن للراغب (84) [دار القلم والدار الشامية، ط1، 1412هـ].
[2] أخرجه البزار في مسنده (11/270) [مكتبة العلوم والحكم، ط1]، والحاكم (كتاب التفسير، رقم 3584)، و(كتاب الطب، رقم 7428)، مرفوعًا وموقوفًا، قال ابن كثير في تفسيره (6/508) [دار طيبة، ط2]: «وفي رفعه غرابة ونكارة، والأقرب أن يكون موقوفًا»، وكذا ضعف الألباني المرفوع، وصحح الموقوف. انظر: السلسلة الضعيفة (رقم 1033).
المسألة الأولى: قصة نبي الله سليمان عليه السلام مع ملكة سبأ:
لقد قصَّ الله علينا في كتابه الكريم قصصًا عديدة، منها قصة نبي الله سليمان مع ملكة سبأ التي ذكرها الله بقوله: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَالِي لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ *لأَُعِذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأََذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ *فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ *إِنِّي وَجَدْتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ *وَجَدْتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ *أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ *اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ *قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ *اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ *قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلأَُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ *إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ *أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ *} [النمل] .
فما كان من ملكة سبأ إلا أن استشارت كبار قومها ومستشاريها فيما يمكن فعله تجاه هذه الرسالة، فأعلموها بقدرتهم العظيمة على الحروب، واستعدادهم لتنفيذ ما تطلبه منهم وتركوا لها الخيار في الأمر، كما حكاه الله عنهم بقوله: {قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلأَُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ *قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ *} [النمل] ، وبعد أن طمأنوها وفوضوا إليها اتخاذ القرار، حذرتهم من العواقب السيئة التي قد تترتب على عدم قبول الرسالة، وأرسلت إلى سليمان بهدية، وبقيت تنتظر رده عليها كما حكاه الله سبحانه وتعالى عنها بقوله: {قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلأَُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ *قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ *قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ *وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ *} [النمل] .
ولما وصلت الهدية إلى سليمان كان رده عليها حازمًا، وبيَّن غناه عنها، وأن الله قد أعطاه ما هو خير من هديتهم، قال الله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ *ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لاَ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ *} [النمل] ، وفي النهاية لم يسع الملكة وقومها إلا أن يستسلموا ويأتوا سليمان مسلمين، كما قال عزّ وجل:{قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *} [النمل] .
المسألة الثانية: قصة خيله الصافنات الجياد:
كان لنبي الله سليمان عليه السلام الصافنات الجياد، وهي الخيل، وكان يحبها كثيرًا، فعُرضت عليه مرة بالعشي فانشغل بها حتى فاتته صلاة العصر[1]، قال الله تعالى: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ *فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ *رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ *} [ص] . واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى: {رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ *} على قولين:
أحدهما: أنه طالب بإرجاع الخيل إليه، ثم طفق بعقرها وضرب أعناقها[2]، ورجح هذا القول ابنُ كثير.
والثاني: أنه طالب بإرجاعها إليه، وأخذ يمسح أعرافها وعراقيبها بيده حبًّا لها، ورجح هذا القول ابنُ جرير الطبري، بقوله: «وهذا القول الذي ذكرناه عن ابن عباس أشبه بتأويل الآية؛ لأن نبي الله صلّى الله عليه وسلّم لم يكن ـ إن شاء الله ـ ليعذب حيوانًا بالعرقبة، ويهلك مالاً من ماله بغير سبب، سوى أنه اشتغل عن صلاته بالنظر إليها، ولا ذنب لها باشتغاله بالنظر إليها»[3].
وأيَّده الألباني على هذا الترجيح، وذكر أن القول الأول ليس له ما يؤيده، ولو كان له دليل لذكره ابن كثير في ترجيحه إياه، وذكر أن تعقب ابن كثير للطبري في ترجيحه للقول الثاني بقوله «فيه نظر؛ لأنه قد يكون في شرعهم جواز مثل هذا» أنه يمكن أن يقابل بمثله فيقال: قد لا يكون؛ لأن (قد) عنده هنا ليست للتحقيق؛ لعدم الدليل، ولو كان الدليل موجودًا، وخفي على ابن جرير لأدلى به ابن كثير، وإذ لم يفعل فالواجب البقاء مع الأصل الذي تمسك به الطبري[4].
المسألة الثالثة: ابتلاء سليمان:
ابتُلي نبي الله سليمان عليه السلام كما قال : {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ *} [ص] .
والمقصود بهذا الابتلاء هو ما جاء في بعض الأحاديث الصحيحة[5]، مثل حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «قال سليمان بن داود عليه السلام : لأطوفن الليلة على مِائة امرأة أو تسع وتسعين، كلهن يأتي بفارس يجاهد في سبيل الله، فقال له صاحبه: إن شاء الله، فلم يقل: إن شاء الله، فلم يحمل منهن إلا امرأة واحدة، جاءت بشق رجل، والذي نفس محمد بيده، لو قال: إن شاء الله، لجاهدوا في سبيل الله فرسانًا أجمعون»[6].
وفي رواية أخرى من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «قال سليمان بن داود عليه السلام : لأطوفن الليلة بمِائة امرأة، تلد كل امرأة غلامًا يقاتل في سبيل الله ، فقال له الملك: قل: إن شاء الله، فلم يقل ونسي، فأطاف بهن ولم تلد منهن إلا امرأة نصفَ إنسان، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: لو قال: إن شاء الله لم يحنث وكان أرجى لحاجته»[7].
وأما ما يُحكى من أن ملك سليمان كان في خاتمه، وأن الشيطان أخذ خاتمه بخداع زوج سليمان، وصار هو الملك مدة من الزمن، هذا كله من الأباطيل[8]، قال ابن كثير ـ بعد أن حكى هذا القول وأمثاله في معنى هذا الابتلاء ـ: «وهذه كلها من الإسرائيليات»[9].
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في حديث أبي هريرة رضي الله عنه السابق: «إن هذا الحديث الصحيح بيَّن معنى قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا} الآية [ص: 34] ، وأن فتنة سليمان كانت بسبب تركه قوله: «إن شاء الله» ، وأنه لم يلد من تلك النساء إلا واحدة نصفَ إنسان، وأن ذلك الجسد الذي هو نصف إنسان هو الذي ألقي على كرسيه بعد موته في قوله تعالى: {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا} الآية، فما يذكره المفسرون في تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ} الآية، من قصة الشيطان الذي أخذ الخاتم وجلس على كرسي سليمان، وطرد سليمان عن ملكه؛ حتى وجد الخاتم في بطن السمكة، التي أعطاها له من كان يعمل عنده بأجر مطرودًا عن ملكه، إلى آخر القصة، لا يخفى أنه باطل لا أصل له، وأنه لا يليق بمقام النبوة، فهي من الإسرائيليات التي لا يخفى أنها باطلة»[10].
المسألة الرابعة: علاقته بأبيه داود عليه السلام في الحكم وقصتهما مع المرأتين المتنازعتين في طفل إحداهما:
وهي كما رواها أبو هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «بينما امرأتان معهما ابناهما جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت هذه لصاحبتها: إنما ذهب بابنك أنت، وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك. فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان بن داود عليه السلام فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينكما، فقالت الصغرى: لا، يرحمك الله هو ابنها، فقضى به للصغرى»[11].
[1] انظر: تفسير الطبري (20/83 ـ 86) [دار هجر، ط1، 1422هـ].
[2] انظر: تفسير الطبري (20/86).
[3] تفسير الطبري (20/87)
[4] انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للألباني (14/905) [دار المعارف، الرياض، ط1].
[5] انظر: فبهداهم اقتده: قراءة تأصيلية في سير وقصص الأنبياء لعثمان الخميس (315) [دار إيلاف الدولية، ط1، 1431هـ]، والأحاديث الصحيحة من أخبار وقصص الأنبياء لإبراهيم العلي (187) [دار القلم والدار الشامية، ط1، 1416هـ].
[6] أخرجه البخاري (كتاب الجهاد والسير، رقم 2819)، ومسلم (كتاب الأيمان، رقم 1654).
[7] أخرجه البخاري (كتاب النكاح، رقم 5242)، ومسلم (كتاب الأيمان، رقم 1654).
[8] انظر: فبهداهم اقتده لعثمان الخميس (314).
[9] تفسير ابن كثير (7/68)، وانظر: البداية والنهاية له (2/340).
[10] أضواء البيان (3/254) [دار الفكر، 1415هـ].
[11] أخرجه البخاري (كتاب الفرائض، رقم 6769)، ومسلم (كتاب الأقضية، رقم 1720).
1 ـ «تفسير الطبري» (ج20).
2 ـ «تفسير ابن أبي حاتم» (ج1).
3 ـ «تاريخ دمشق» لابن عساكر (ج22).
4 ـ «سير أعلام النبلاء» (ج4)، للذهبي.
5 ـ «البداية والنهاية» (ج2، و9)، لابن كثير.
6 ـ «الإعلام بأصول الأعلام الواردة في قصص الأنبياء»، للدكتور عبد الرحيم.
7 ـ «سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيِّئ في الأمة» (ج14)، للألباني.
8 ـ «أضواء البيان» (ج3)، لمحمد الأمين الشنقيطي.
9 ـ «فبهداهم اقتده: قراءة تأصيلية في سير وقصص الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ»، لعثمان الخميس.
10 ـ «الأحاديث الصحيحة من أخبار وقصص الأنبياء»، لإبراهيم بن محمد العلي.