حرف السين / السَّمع (صفة لله)

           

السّمْعُ: مصدر للفعل سَمِع يسْمَعُ سمْعًا وسَماعًا، وهو إيناس الشيء بالأذن[1].
والسّمْع: حسُّ الأذن، ومنه قوله تعالى: {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ *} [ق] .
وأسْمعَ يُسْمِع إِسْماعًا: القبول، والإجابة والعمل بما يسمع؛ لأنه إذا لم يقبل، ولم يعمل فهو بمنزلة من لم يسمع، ففي دعاء الصلاة: «سمع الله لمن حمده»؛ أي: أجابَ من حَمِده وتَقبَّله[2].
قال الأزهري: «السمع سمع الإنسان وغيره. ويقال: قد ذهب سمع فلان في الناس وصِيْته؛ أي: ذكره، والسميع من صفات الله وأسمائه، وهو الذي وسع سمعه كل شيء، كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم. قال الله تبارك وتعالى : {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: 1] . وقال في موضع آخر: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى} [الزخرف: 80] . قلت: والعجب من قوم فسروا السميع بمعنى الْمُسْمِع، فرارًا من وصف الله بأن له سمعًا، وقد ذكر الله الفعل في غير موضع من كتابه، فهو سميع: ذو سمع، بلا تكييف ولا تشبيه بالسميع من خلقه، ولا سمعه كسمع خلقه، ونحن نصفه بما وصف به نفسه بلا تحديد ولا تكييف. ولست أنكر في كلام العرب أن يكون السميع سامعًا، ويكون مسمعًا»[3].


[1] مقاييس اللغة (3/102) [دار الجيل].
[2] لسان العرب (8/162) [دار صادر، ط1]، والنهاية في غريب الحديث لابن الأثير (2/401) [دار إحياء التراث].
[3] تهذيب اللغة (2/123 ـ 124) [الدار المصرية للتأليف والترجمة].


السّمع صفة ذاتية ثابتة لله عزّ وجل يدل على أن الله ذو سمع، يسمع سمعًا يليق بجلاله وعظمته من غير تكييف ولا تمثيل[1].


[1] انظر: شأن الدعاء للخطابي (59) [دار الثقافة العربية، ط1، 1404هـ]، والمقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى للغزالي (84) [مكتبة القرآن].


يشترك المعنى اللغوي والشرعي في أن السمع، إدراك المسموع، لكن التعريف الشرعي يختص بما يليق بالله عزّ وجل ويدل على الكمال المطلق له، وقدرته على إدراك جميع الأصوات الظاهر منها والخفي، بخلاف سمع المخلوق.



يجب إثبات صفة السمع لله تعالى وما دلَّت عليه من اسم السميع، على ما يليق بالله تعالى، كما دلَّت عليه النصوص الشرعية، والإيمان بأن الله عزّ وجل ذو سمع حقيقي بلا تكييف ولا تشبيه بسمع المخلوق، ولا تعطيل لصفة كماله.



سمع الله عزّ وجل صفة حقيقية ثابتة في حقه سبحانه، فالله يسمع السر والنجوى سواء عنده الجهر والخُفُوت، والنطق والسكوت، يدرك دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، يسمع حمد الحامدين فيجازيهم ودعاء الداعين فيستجيب لهم[1].


[1] انظر: التوحيد لابن خزيمة (1/106) [دار الرشد]، والمقصد الأسنى للغزالي (84) [مكتبة القرآن]، ومنهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات للشنقيطي (11) [دار السلفية، ط4، 1404هـ].


دل على ثبوت صفة السمع لله عزّ وجل الكتاب والسُّنَّة والعقل والإجماع.
فمن الكتاب: قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ *} [المجادلة] ، وهذه الآية أصرح ما يدل على صفة السمع لله عزّ وجل، حيث ذكر الماضي والمضارع واسم الفاعل: سَمِع ويَسْمِع وهو سَمِيعٌ وله السمع[1].
وقال تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ} [آل عمران: 181] .
ومن السُّنَّة: حديث عائشة رضي الله عنها في قصة المجادلة وقولها: «الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات»[2].
وعنها رضي الله عنها أيضًا أنها قالت للنبي صلّى الله عليه وسلّم: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: «لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة» إلى أن قال: «فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك» الحديث[3].
وقد ورد أن أبا هريرة رضي الله عنه قرأ هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} إلى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا *} [النساء] يضع إبهامه على أذنه والتي تليها على عينه، قال أبو هريرة رضي الله عنه: «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرؤها، ويضع إصبعيه»، قال ابن يونس: قال المقرئ: «إن الله سميع بصير» يعني: أن لله سمعًا وبصرًا، قال أبو داود: «وهذا ردٌّ على الجهمية»[4].
قال البيهقي: «والمراد بالإشارة المروية في هذا الخبر تحقيق الوصف لله عزّ وجل بالسمع»[5].
وأما دلالة العقل، فقد قال ابن تيمية: «والعقل الصريح يدل على ذلك، فإن المعدوم لا يرى، ولا يسمع بصريح العقل واتفاق العقلاء»[6].
وأما الإجماع فقد نقله غير واحد من أهل العلم. قال أبو الحسن الأشعري: «وأجمعوا على أنه عزّ وجل يسمع ويرى»[7]، وقال ابن تيمية: «وقد اتفق جميع أهل الإثبات على أن الله حي حقيقة، عليم حقيقة، قدير حقيقة، سميع حقيقة، بصير حقيقة، مريد حقيقة، متكلم حقيقة»[8].


[1] انظر: مفتاح دار السعادة (1/79) [دار الكتب العلمية].
[2] أخرجه البخاري تعليقًا مجزومًا به (كتاب التوحيد، 9/117) [دار طوق النجاة، ط1]. ووصله النسائي (كتاب الطلاق، رقم 3460)، وابن ماجه (كتاب الطلاق، رقم 2063)، وأحمد (40/228) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وصحَّحه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (1/351).
[3] أخرجه البخاري (كتاب بدء الخلق، رقم 3231)، ومسلم (كتاب الجهاد والسير، رقم 1795).
[4] أخرجه أبو داود (كتاب السُّنَّة، رقم 4728)، ومن طريقه البيهقي في الأسماء والصفات (1/462) [مكتبة السوادي، ط1]، وابن حبان (كتاب الإيمان، رقم 265)، وصحَّحه الألباني في قصة المسيح الدجال (64) [المكتبة الإسلامية].
[5] الأسماء والصفات للبيهقي (1/462).
[6] جامع الرسائل لابن تيمية (2/17) [دار العطاء، ط1، 1422هـ].
[7] رسالة إلى أهل الثغر (225) [مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، ط2، 1422هـ].
[8] مجموع الفتاوى (5/196) [دار الوفاء، ط3].


قال ابن خزيمة: «باب إثبات السمع والرؤية لله الذي هو كما وصف نفسه سميع بصير، ومن كان معبوده غير سميع بصير، فهو كافر بالله السميع البصير، يعبد غير الخالق الباري الذي هو سميع بصير»[1].
وقال ابن القيِّم:
«وهو السميع يرى ويسمع كل ما
ما في الكون من سر ومن إعلان
ولكل صوت منه سمع حاضر
فالسر والإعلان مستويان
والسمع منه واسع الأصوات لا
يخفى عليه بعيده والداني»[2]
وقال الشنقيطي في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ *} [الشورى] «فهذه الآية فيها تعليم عظيم يحل جميع الإشكالات ويجيب عن جميع الأسئلة حول الموضوع، ذلك لأن الله قال: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ *} بعد قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، ومعلوم أن السمع والبصر من حيث هما سمع وبصر يتصف بهما جميع الحيوانات، فكأن الله يشير للخلق ألا ينفوا عنه صفة سمعه وبصره بادعاء أن الحوادث تسمع وتبصر، وأن ذلك تشبيه؛ بل عليهم أن يثبتوا له صفة سمعه وبصره على أساس {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، فالله عزّ وجل له صفات لائقة بكماله وجلاله، والمخلوقات لهم صفات مناسبة لحالهم، وكل هذا حق ثابت لا شك فيه، إلا أن صفة ربّ السماوات والأرض أعلى وأكمل من أن تشبه صفات المخلوقين، فمن نفى عن الله وصفًا أثبته لنفسه فقد جعل نفسه أعلم بالله من الله سبحانك هذا بهتان عظيم»[3].


[1] التوحيد لابن خزيمة (1/106) [دار الرشد].
[2] شرح قصيدة ابن القيم لابن عيسى (2/215) [المكتب الإسلامي، ط3، 1406هـ].
[3] منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات للشنقيطي (11) [دار السلفية، ط4، 1404هـ].


أقسام فعل السمع:
بيَّن ابن القيِّم بأن فعل السمع ينقسم إلى أربعة أقسام:
الأول: سمع إدراك ومتعلقه الأصوات؛ كسمع الله قول التي تجادلك في زوجها في قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ *}.
والثاني: سمع فهم وعقل، ومتعلقه المعاني، ومنه قوله تعالى: {لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا} [البقرة: 104] ؛ إذ ليس المراد سمع مجرد الكلام بل سمع الفهم والعقل.
والثالث: سمع إجابة وإعطاء ما سئل، كما في دعاء الصلاة: «سمع الله لمن حمده».
والرابع: سمع قبول وانقياد، ومنه قوله تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} [المائدة: 42] ؛ أي: قابلون له ومنقادون غير منكرين له[1].


[1] انظر: بدائع الفوائد لابن القيم (2/308) [مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط1 1416هـ].


المسألة الأولى: السميع من أسماء الله الحسنى الدال على صفة السمع:
وهو (فعيل) بمعنى (فاعل)، من أبنية المبالغة؛ للدلالة على إحاطة سمعه جميع المسموعات[1].
وقد تكاثرت الأدلة من الكتاب والسُّنَّة في إثبات هذا الاسم لله تعالى، فمن الكتاب قوله تعالى: {اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ *} [البقرة] ، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ *} [الحج] ، وقوله تعالى: {إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ *} [آل عمران] .
ومن السُّنَّة: قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنكم ليس تدعون أصمَّ ولا غائبًا إنكم تدعون سميعًا قريبًا»[2].
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من عبدٍ يقول في صباح كل يوم ومساء كل ليلة: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ثلاث مرات فيضره شيء»[3].
قال أبو القاسم الأصبهاني: «ومن أسماء الله تعالى: السميع والله عزّ وجل السميع لدعاء الخلق وألفاظهم عند تفرقهم واجتماعهم، مع اختلاف ألسنتهم ولغاتهم، يعلم ما في قلب القائل قبل أن يقول، ويعجز القائل عن التعبير عن مراده فيعلم الله فيعطيه الذي في قلبه، والمخلوق يزول عنه السمع»[4].
المسألة الثانية: السامع ليس من أسماء الله عزّ وجل:
قال الشيخ سليمان بن عبد الله ـ وهو يحقق ما ورد من طرق تعداد الأسماء الحسنى ـ: «وفي بعضها توقف، وبعضها خطأ محض؛ كالأبد والناظر والسامع والقائم والسريع، فهذه وإن ورد عدادها في بعض الأحاديث، فلا يصح ذلك أصلاً»[5].
المسألة الثالثة: الأذن لم ترد في الكتاب والسُّنَّة، ولأن باب الصفات توقيفي، فلا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلّى الله عليه وسلّم:
قال ابن عثيمين: «الأذن عند أهل السُّنَّة والجماعة لا تثبت لله ولا تنفى عنه؛ لعدم ورود السمع بذلك»[6]. وحديث أبي هريرة المتقدم في وضع إبهامه على أذنه والتي تليها على عينه، عند تفسيره لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا *} وقوله رضي الله عنه: «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرؤها، ويضع إصبعيه» لا يدل على إثبات الأذن؛ إذ معناه تحقيق الوصف لله عزّ وجل بالسمع والبصر، فأشار إلى محلَّي السمع والبصر منا؛ لإثبات صفة السمع والبصر لله تعالى.


[1] انظر: تفسير أسماء الله الحسنى للزجاج (42) [دار الثقافة العربية، ط1974م].
[2] أخرجه البخاري (كتاب المغازي، رقم 4205)، ومسلم (كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، رقم 2704).
[3] أخرجه أبو داود (كتاب الأدب، رقم 5088)، والترمذي (أبواب الدعوات، رقم 3388) وقال: «هذا حديث حسن صحيح»، وابن ماجه (كتاب الدعاء، رقم 3869)، وأحمد (1/498) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وصحَّحه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (رقم 655) [مكتبة المعارف، ط5].
[4] الحجة في بيان المحجة (1/112) [دار الراية].
[5] تيسير العزيز الحميد (485) [دار الفكر، 1412هـ].
[6] شرح العقيدة الواسطية لابن عثيمين (1/211) [دار ابن الجوزي، ط4، 1424هـ].


1 ـ الإيمان باتصاف الله بالسمع يبعث في النفس المؤمنة الخوف والرجاء من الله فلا يقول ما يغضب الله، ويحرص على أن يسمع الله ما يحب. قال ابن عثيمين: «ما نستفيده من الناحية المسلكية في الإيمان بصفتي السمع والرؤية...
ـ وأما السمع، فالأمر فيه ظاهر؛ لأن الإنسان إذا آمن بسمع الله، استلزم إيمانه كمال مراقبة الله تعالى فيما يقول خوفًا ورجاءً: خوفًا، فلا يقول ما يسمع الله تعالى منه من السوء، ورجاء، فيقول الكلام الذي يرضي الله عزّ وجل»[1].
2 ـ إن الإيمان بهذا الاسم وبما دلَّ عليه يجعل المسلم يحاسب نفسه ويراقبها؛ لأنه يؤمن بأن الله يسمعه ويراه، فيحفظ لسانه ويصونه، ويواظب على ذكر الله ودعائه بهذا الاسم العظيم رجاء أن يحقق له سؤاله[2].
3 ـ ويجعله كذلك يستجيب لأوامر الله ونواهيه، فيمتثل بما أمر الله به وينتهي عما نهى عنه، فيعمل بالمأمور ويحذر المحذور ويحقق بذلك كمال العبودية لله عزّ وجل.
4 ـ أن إيمانه بأن الله يسمع مما يدفعه إلى التضرع إليه بالدعاء وذلك أن الداعي لا يقبل إلى الله بحاجته إلا بعد إيمانه الصادق وإقراره الجازم بأن الله تعالى يسمع الدعاء ويقدر على الإجابة.


[1] شرح الواسطية لابن عثيمين (1/330 ـ 331).
[2] انظر: كتاب التوحيد لابن منده (2/136) [مطابع الجامعة الإسلامية، ط1، 1409هـ]، وفقه الأسماء الحسنى لعبد الرزاق البدر (129) [ط1، 1429هـ].


أنكرت الجهمية والمعتزلة صفة السمع لله عزّ وجل، فالجهمية ينفونها اسمًا وصفة، والمعتزلة أثبتوها اسمًا بلا معنى.
ومعنى أن الله سميع عندهم؛ أي: أنه حي لا آفة به تمنعه من إدراك المسموع، أو أنه عليم بالمسموعات[1].
ولا شك أن هذه المذاهب باطلة؛ لمخالفتها لصريح الأدلة من الكتاب والسُّنَّة والعقل والإجماع على إثبات صفة السمع لله عزّ وجل، وقد تقدم ذكر جملة منها. ونفي صفة السمع عن الله عزّ وجل وصف له بالنقص.
وقد أخبر الله عزّ وجل عن إبراهيم عليه السلام قوله: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا *} [مريم] . دلَّت هذه الآية على أن السمع والبصر من لوازم الربوبية.


[1] انظر: نهاية الإقدام للشهرستاني (341) [مكتبة المثنى، بغداد]، والفرق بين الفرق للبغدادي (181) [مكتبة محمد صبيح، الأزهر، ط3].


نفي صفة السمع عن الله وردّها بتآويل باطلة هي مصادمة صريحة للكتاب والسُّنَّة وإجماع السلف ومن تبعهم بإحسان، وقد تقدم بيان دلالة هذه الأمور على إثبات صفة السمع لله تعالى، وهو سمع يليق بجلاله وعظمته لا يماثل أسماع المخلوقين، وقد بيّن أهل العلم شناعة صنيع المعطلة هذا، قال الإمام الدارمي في رده على المريسي في نفيه لصفة السمع: «فيقال لهذا المريسي الضال: الحمار والكلب أحسن حالاً من إله على هذه الصفة؛ لأن الحمار يسمع الأصوات بسمع، ويرى الألوان بعين، وإلهك بزعمك: أعمى أصم، لا يسمع بسمع»[1].
وقال الإمام ابن خزيمة: «باب إثبات السمع والرؤية لله عزّ وجل الذي هو كما وصف نفسه: سميع بصير، ومن كان معبوده غير سميع بصير، فهو كافر بالله السميع البصير، يعبد غير الخالق البارئ، الذي هو سميع بصير، قال الله تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: 181] ، وقال عزّ وجل في قصة المجادلة: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} [المجادلة: 1]
وتدبروا أيها العلماء، ومقتبسو العلم، مخاطبة خليل الرحمن أباه، وتوبيخه إياه لعبادته من كان يعبد، تعقلوا بتوفيق خالقنا ، صحة مذهبنا، وبطلان مذهب مخالفينا من الجهمية المعطلة، قال خليل الرحمن صلوات الله وسلامه عليه، لأبيه: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا *} [مريم] أفليس من المحال يا ذوي الحجا، أن يقول خليل الرحمن لأبيه آزر: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ} [مريم: 42] ، ويعيبه بعبادة ما لا يسمع، ولا يبصر، ثم يدعوه إلى عبادة من لا يسمع، ولا يبصر؛ كالأصنام التي هي من الموتان، لا من الحيوان أيضًا، فكيف يكون ربنا الخالق البارئ السميع البصير كما يصفه هؤلاء الجهال المعطلة؟»[2].
وأما الأشاعرة وإن أثبتوا لله صفة السمع ظاهرًا فهم مضطربون في هذا الإثبات؛ لأنه من المعلوم لغةً وشرعًا أن السمع متعلق المسموعات والبصر متعلق المبصرات، وبعض هؤلاء الأشاعرة كأبي حامد الغزالي وجماعة من الأشاعرة جعل متعلقهما واحدًا، وصرحوا بإرجاعهما إلى معنى العلم موافقة منهم للمعتزلة، ومنهم كالباقلاني والجويني وجماعة من الأشاعرة، جعلوهما صفتين زائدتين على صفة العلم، وأثبتوا جانبها المتعلق بذات الرب ونفوا كونها من الأفعال الاختيارية، وهما في الواقع صفتان ذاتيتان فعليتان[3].
ومما يدل على التفريق بين السمع والبصر: جمع النصوص الشرعية بينهما في سياق واحد كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا *} [النساء] ، وقد ورد تفسير هذه الآية عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، حيث قرأها فوضع إبهامه على أذنه، والتي تليها على عينه فقد روى أبو داود بإسناده عن سليم بن جبير مولى أبي هريرة قال: «سمعت أبا هريرة يقرأ هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} إلى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا *} [النساء: 58] ، قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يضع إبهامه على أذنه والتي تليها على عينه، قال أبو هريرة: «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرؤها ويضع إصبعيه»[4]؛ يعني: إن الله سميع بصير؛ يعني: أن لله سمعًا وبصرًا. قال أبو داود: وهذا رد على الجهمية».
وقال الشيخ محمد خليل هراس في شرحه هذا الحديث: «ومعنى الحديث: أنه سبحانه يسمع بسمع، ويرى بعين، فهو حجة على بعض الأشاعرة الذين يجعلون سمعه علمه بالمسموعات، وبصره علمه بالمبصرات، وهو تفسير خاطئ؛ فإن الأعمى يعلم بوجود السماء ولا يراها، والأصم يعلم بوجود الأصوات ولا يسمعها»[5].
والصحابة رضي الله عنهم مع تمكُّنهم في معرفة اللغة والشرع تمكنًا لا يلحقهم فيه أحد ممن جاء بعدهم، لم يفهموا اتحاد متعلقهما؛ بل جعلوا متعلق السمع المسموعات، ومتعلق البصر المبصرات؛ ولذا قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: «الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وأنا في ناحية البيت تشكو زوجها، وما أسمع ما تقول. فأنزل الله {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: 1] »[6].
وقال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {قَالَ لاَ تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى *} [طه] .
قال: «أي: لا تخافا منه، فإنني معكما أسمع كلامكما وكلامه، وأرى مكانكما ومكانه»[7].
وبهذا يتضح أن القول باتحاد متعلقهما، وكذا حملهما على معنى العلم، هو قول باطل.


[1] نقض الدارمي على المريسي (1/300)
[2] التوحيد لابن خزيمة (1/106 ـ 109).
[3] انظر: لباب العقول في الرد على الفلاسفة في علم الأصول للمكلاتي (213 ـ 214) [دار الأنصار، القاهرة، ط1، 1977م]، ومنهج أهل السُّنَّة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبد اللطيف (2/510 ـ 517) [مكتبة الغرباء، المدينة المنورة، ط1، 1416هـ].
[4] تقدم تخريجه.
[5] شرح الواسطية لخليل هراس (97 ـ 98).
[6] أخرجه البخاري تعليقًا مجزومًا به (كتاب التوحيد، 9/117) [دار طوق النجاة، ط1]. ووصله النسائي (كتاب الطلاق، رقم 3460)، وابن ماجه (كتاب الطلاق، رقم 2063) واللفظ له، وأحمد (40/228) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وصحَّحه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (1/351).
[7] تفسير ابن كثير (5/296) [دار طيبة، ط2].


1 ـ «الأسماء والصفات»، للبيهقي.
2 ـ «تفسير أسماء الله الحسنى»، للزجاج.
3 ـ «شأن الدعاء»، للخطابي.
4 ـ «شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري»، للغنيمان.
5 ـ «مجموع الفتاوى»، لابن تيمية.
6 ـ «معتقد أهل السُّنَّة والجماعة في أسماء الله الحسنى»، للتميمي.
7 ـ «منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات»، للشنقيطي.
8 ـ «نقض الإمام أبي سعيد عثمان بن سعيد على المريسي الجهمي العنيد فيما افترى على الله عزّ وجل من التوحيد» (ج1)، للدارمي.
9 ـ «التوحيد» (ج1)،لابن خزيمة.