الإسراء: مصدر الفِعل الثلاثي المزيد أسرى، ومعناه: سيَّره ليلاً، يُقال: أسراه وأسرَى به. ومنه: السارية: سحابة تَسري ليلاً[1].
المِعْراج: اسم آلة على وزن مِفْعال من العُروُج؛ وهو: السُّلَّم والمصعَد، وجمعه: معارِج ومعاريج، مثل: مفاتِح ومفاتيح، يُقال: عَرَجَ عُرُوجًا ومَعْرَجًا: ارتقى وصعدَ. وعَرِج يعْرَج عَرَجًا: إذا صار أعْرَجَ[2].
[1] انظر: الصحاح (6/2376) [دار العلم للملايين، ط4، 1990م]، وتهذيب اللغة (13/52) [الدار المصرية للتأليف والترجمة]، والقاموس المحيط (1669) [مؤسسة الرسالة، ببيروت، ط5، 1416هـ].
[2] انظر: الصحاح (1/328)، وتهذيب اللغة (1/355)، والقاموس المحيط (253).
الإسراء والمعراج: حادثتان متلازمتان وقعتا قبل الهجرة للنبي صلّى الله عليه وسلّم ليلاً بروحه وجسده يقظة، من المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى، بواسطة البراق، بصحبة جبريل عليه السلام، ثم العروج به في نفس الليلة من المسجد الأقصى إلى الملأ الأعلى عند سدرة المنتهى، ورؤيته الآيات الكبرى، ثم الرجوع به صلّى الله عليه وسلّم إلى بيته في مكة في ليلته تلك[1].
[1] انظر: أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسُّنَّة لنخبة من العلماء (187 ـ 190) [وزارة الشؤون الإسلامية، ط1، 1421هـ]، ونضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم (1/247) [دار الوسيلة، ط4]، وشرح الطحاوية (195) [وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف، ط1، 1418هـ].
ويعتقد المسلم: أن الإسراء والمعراج كانا يقظة وحقيقة لا منامًا، من أول الرحلة إلى آخرها، بروحه وجسده صلّى الله عليه وسلّم معًا، لا بروحه فقط، وهو مذهب جمهور السلف والخلف وأئمة النقل. ولا يعني هذا إنكار أن يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم قد رأى قبل الإسراء به منامًا كما تحمل عليه بعض الروايات[1]، ثم تحقق ذلك معه يقظة في هذه الحادثة؛ لأنه صلّى الله عليه وسلّم كما قالت عائشة رضي الله عنها: «كان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح»[2]، ويكون هذا من باب التوطئة والتثبيت والإيناس له صلّى الله عليه وسلّم.
[1] انظر: صحيح البخاري (كتاب المناقب برقم 3570، وكتاب التوحيد برقم 7517). وانظر أيضًا: زاد المعاد لابن القيم (1/100، 3/42) [مؤسسة الرسالة، ط27، 1415هـ]، وتفسير ابن كثير (5/7) [دار طيبة، ط2، 1420هـ]، والبداية والنهاية له (3/142) [دار إحياء التراث العربي، ط2، 1408هـ]، وفتح الباري لابن حجر (7/197) [دار المعرفة ببيروت، 1379هـ].
[2] أخرجه البخاري (كتاب تفسير القرآن، رقم 4953)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 160).
الإسراء والمعراج آيتان عظيمتان أيَّد الله بهما النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل الهجرة حيث أسري به ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى راكبًا على البراق بصحبة جبريل عليه السلام حتى وصل بيت المقدس، فربط البراق بحلقة باب المسجد، ثم دخل المسجد وصلى فيه بالأنبياء إمامًا، ثم جاءه جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن فاختار اللبن على الخمر فقال له جبريل: هديت للفطرة. والإسراء كان بروح النبي صلّى الله عليه وسلّم وجسده، يقظة لا منامًا.
ثم عرج به عليه السلام من بيت المقدس إلى السماء الدنيا ثم باقي السماوات إلى السماء السابعة ورأى الأنبياء في السماوات على منازلهم، وسلَّم عليهم ورحبوا به، ثم صعد إلى سدرة المنتهى، ورأى جبريل عليه السلام عندها على الصورة التي خلقه الله عليها، ثم فرض الله عليه الصلوات الخمس تلك الليلة وكلَّمه الله بذلك، ثم نزل إلى الأرض، وكان الإسراء والمعراج في ليلة واحدة[1]..
[1] انظر: تفسير الطبري (14/446) [دار هجر، ط1، 1422هـ]، والشفا للقاضي عياض (1/231) [طبعة عيسى البابي الحلبي]، وزاد المعاد (1/99) و(3/34 ـ 41)، والبداية والنهاية (1/391) و(3/135)، والفصول في سيرة الرسول صلّى الله عليه وسلّم (106، 287) [مؤسسة علوم القرآن بدمشق ومكتبة دار التراث بالمدينة المنورة، ط3، 1403هـ]، وشرح الطحاوية لابن أبي العز (1/70) [مؤسسة الرسالة، ط9، 1417هـ]، والمواهب اللدنية للقسطلاني (3/7) [المكتب الإسلامي، ط2، 1425هـ]، والآية الكبرى في شرح قصة الإسراء للسيوطي.
دلَّ على هذا المعتقد: القرآن الكريم، والسُّنَّة المتواترة، وإجماع الأمة.
أما الدليل على صحة الإسراء والمعراج به صلّى الله عليه وسلّم: فقول الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ *} [الإسراء] ؛ ودلالته على الإسراء واضحة، ودلَّ قوله تعالى: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} على المعراج؛ إذ بيَّن سبحانه أنه أسرى بالنبي صلّى الله عليه وسلّم ليريه من آياته، «ومعلوم أن الأرض قد رأى سائر الناس ما فيها من الآيات؛ فعلم أن ذلك ليريه آيات لم يرها عموم الناس»[1]، وهذا لا يكون إلا في السماء؛ فالآية دليل على صحة الإسراء والمعراج معًا، والحمد لله.
[1] الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية (6/165) [دار العاصمة، ط1، 1414هـ].
قال أبو جعفر الطحاوي رحمه الله: «والمعراج حق، وقد أسري بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وعرج بشخصه في اليقظة إلى السماء، ثم إلى حيث شاء الله من العلا، وأكرمه الله بما شاء، وأوحى إليه ما أوحى، {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى *} [النجم] ؛ فصلى الله عليه وسلم في الآخرة والأولى»[1].
وقال ابن القيم رحمه الله: «ثم أسري بروحه وجسده صلّى الله عليه وسلّم إلى المسجد الأقصى، ثم عرج به إلى فوق السماوات بجسده وروحه إلى الله عزّ وجل؛ فخاطبه وفرض عليه الصلوات. وكان ذلك مرة واحدة؛ هذا أصح الأقوال... وكان ذلك بعد المبعث بالاتفاق»[2].
[1] العقيدة الطحاوية (15) [دار ابن حزم، بيروت، ط1، 1416هـ].
[2] زاد المعاد (1/99).
من المسائل المتعلقة بالإسراء والمعراج:
المسألة الأولى: الإسراء والمعراج بعد البعثة:
وأما الدليل على أن الإسراء والمعراج كانا بعد البعثة الشريفة: فكل الأدلة السابقة قطعية في الدلالة على ذلك، كما اتفق عليه العلماء[1].
وأما ما وقع في رواية شريك عن أنس رضي الله عنه من قوله: «... قبل أن يوحى إليه، وهو نائم في المسجد الحرام... فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى»[2] مما يوهم وقوع الإسراء والمعراج قبل البعثة؛ فمحمول على[3]: أن المجيء الأول في المنام ـ ولم يسر به صلّى الله عليه وسلّم في تلك الليلة ـ، والمجيء الثاني كان بعد بعثته صلّى الله عليه وسلّم والوحي إليه؛ إذ لم تذكر هذه الرواية أن هذا المجيء كان قبل أن يوحى إليه، ولم يعين الراوي المدة التي بين المجيئين؛ فلا إشكال في حملها على ذلك؛ إذ لا فرق بين أن تكون تلك المدة ليلة واحدة أو ليالي كثيرة أو عدة سنين. وقيل: يحتمل أن يكون المعنى: قبل أن يوحى إليه في شأن الإسراء والمعراج؛ بمعنى: أن ذلك وقع بغتة قبل أن ينذر ويعلم به صلّى الله عليه وسلّم؛ ويؤيده ما وقع في رواية أبي ذر رضي الله عنه: «فرج سقف بيتي وأنا بمكة؛ فنزل جبريل...» الحديث[4]؛ فالحكمة من هذا الانفراج[5]: أن الملك انصب من السماء انصبابة واحدة، ولم يعرج على شيء سواه؛ مبالغة في مفاجأته صلّى الله عليه وسلّم بذلك، وتنبيهًا له على أن الطلب وقع على غير ميعاد، وأن المراد منه أن يعرج به إلى جهة العلو؛ كرامة له صلّى الله عليه وسلّم. ومن لم يرتض هذين التأويلين لما وقع في رواية شريك؛ فليحمل هذا على أنه من أغلاط شريك رحمه الله. والله أعلم.
المسألة الثانية: الإسراء والمعراج مرة واحدة:
كان الإسراء والمعراج كلاهما في ليلة واحدة، ولم يقعا إلا مرة واحدة، بعد بعثته الشريفة بنحو عشر سنين وقبل هجرته صلّى الله عليه وسلّم[6]، فلم يتعددا ويقعا مرتين أو مرارًا؛ بعضها في المنام وبعضها في اليقظة، ولا كان كلّ واحد منهما في ليلة على حدة؛ كما قاله من قاله!
وأما الدليل على أن الإسراء والمعراج كانا في اليقظة في ليلة واحدة، ولم يقعا إلا مرة واحدة: فهو ظاهر الروايات الصحيحة التي فيهما الجمع بينهما في سياق واحد، وعدم الدليل على تعدد وقوعه، ومن قال بتعدد الإسراءات والمعارج فإنما دعاه إلى ذلك الجمع بين الروايات المختلفة والمتعارضة في الباب، فكلما اختلفت عليهم الروايات واشتبه عليهم لفظ عددوا الوقائع وزادوا مرة للتوفيق! ومن كان هذا مسلكه في الجمع بين الروايات؛ «فقد أبعد وأغرب، وهرب إلى غير مهرب، ولم يحصل على مطلب»[7]!
ثم إن هذا في غاية البعد والاستحالة؛ إذ جميع الروايات قد اتفقت على: السلام على الأنبياء، وسؤاله صلّى الله عليه وسلّم عن كل واحد منهم، وعلى فرض الصلوات، وعلى تردده صلّى الله عليه وسلّم بين ربه سبحانه وتعالى وبين موسى عليه السلام؛ فكيف يمكن أن يدعى تعدد وقوع ذلك؟! وكيف ساغ لمن قال ذلك أن يظن في كل مرة تفرض عليه صلّى الله عليه وسلّم الصلاة خمسين، ثم يتردد بين ربه تعالى وبين موسى حتى تصير خمسًا، إلى غير ذلك؟!
وإنما الصواب في ذلك: أن هذا الاختلاف محمول على اختلاف عبارات الرواة في أداء الحديث، أو أن بعضهم ذكر ما لم يذكره الآخر، فزاد بعضهم فيه ونقص آخرون، أما الاختلاف في الروايات التي لا يتم التوفيق والجمع بينها إلا بالمصير إلى التعدد؛ فهذا معدود في أغلاط ومخالفات شريك[8] رحمه الله في روايته لحديث الإسراء المخرج في «الصحيحين»؛ ولذا فإن الإمام مسلمًا رحمه الله ذكر طرفًا من روايته للحديث في «صحيحه»[9]، ثم قال: «وساق الحديث بقصته نحو حديث ثابت البناني، وقدم فيه شيئًا وأخر، وزاد ونقص»، ولم يسرد تمام روايته؛ تنبيهًا على غلطه وأوهامه واضطرابه في هذا الحديث وعدم ضبطه له، ومخالفته لسائر الروايات الصحيحة في الباب، والخطأ جائز على من عدا الأنبياء عليهم السلام.
المسألة الثالثة: الإسراء والمعراج كان يقظة بروحه وجسده صلّى الله عليه وسلّم:
جمهور العلماء على أن الإسراء والمعراج كان يقظة بالروح والجسد، والدليل على ذلك قول الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1] ؛ فالله تعالى وصف نبيّه صلّى الله عليه وسلّم بـ(العبد)، ولم يقل: (بروح عبده)؛ فالعبد عند الإطلاق (كالإنسان) عبارة عن مجموع الروح والجسد معًا لا الروح فقط. وأما ما يدل على أنها يقظة ما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من أئمة المفسرين في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60] أنهم قالوا: إنها رؤيا عين أريها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة أسري به إلى بيت المقدس[10]. وقال تعالى أيضًا: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى *} [النجم] ، والبصر من آلات الذات والجسد لا الروح فقط. ومما يدل على ذلك أيضًا: أن الإسراء لو كان منامًا؛ لم يكن دليلاً على نبوته صلّى الله عليه وسلّم ولا حجة له على رسالته، ولم يكن أمرًا مستعظمًا، ولما بادر كفار قريش إلى تكذيب النبي صلّى الله عليه وسلّم في ذلك واستبعادهم وقوع ذلك، ولما ارتد جماعة ممن كان قد أسلم؛ إذ إمكان حدوث مثل ذلك لآحاد الناس وأبعد منه في المنام ليس بعيدًا وليس فيه كبير شيء حتى يستبعد ويكذب قائله؛ فدل هذا على أنه صلّى الله عليه وسلّم أخبرهم بأنه أسري به يقظة بروحه وجسده، لا منامًا أو بروحه فقط.
وأما ما وقع في رواية أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة رضي الله عنهما: «بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان» [11]؛ فهذا محمول على ابتداء الحال؛ فيكون هذا حاله صلّى الله عليه وسلّم أول وصول الملك إليه، ثم لما خرج صلّى الله عليه وسلّم إلى باب المسجد كان به أثر النعاس، فلما أركبه الملك البراق استفاق واستمر في يقظته، وليس في الحديث ما يدل على أنه صلّى الله عليه وسلّم كان نائمًا في القصة كلها[12]!
وما وقع في رواية شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن أنس رضي الله عنه: «... وهو نائم في المسجد الحرام»، وفيها: «فيما يرى قلبه، والنبي صلّى الله عليه وسلّم نائمة عيناه ولا ينام قلبه»، وفي بعضها في آخرها: «واستيقظ وهو في المسجد الحرام»[13]؛ فهذا معدود في غلطات شريك، أو محمول على الانتقال من حال إلى حال يسمى (يقظة)، وله شواهد من السُّنَّة، فيكون معناه: استفاق مما كان فيه، ويحتمل أن يكون بمعنى: أصبح. ولو حمل اللفظ على ظاهره فيكون معناه: أنه نام بعد أن هبط من السماء فاستيقظ وهو عند المسجد الحرام؛ فيكون هذا الاستيقاظ استيقاظًا من نوم آخر بعد وصوله لا استيقاظًا من النوم الأول. وهذان التأويلان الأخيران أولى من تغليط الراوي[14].
المسألة الرابعة: رؤية النبي صلّى الله عليه وسلّم لربه:
الصحيح: أنه صلّى الله عليه وسلّم لم ير ربه؛ وإنما رأى نور الحجاب، وسمع كلامه عزّ وجل، وما أوحاه إليه من فرض الصلاة؛ ففي «صحيح مسلم»: أن أبا ذر الغفاري رضي الله عنه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هل رأيت ربك؟ فقال: «نور أنّى أراه؟!» ، وفي رواية: «رأيت نورًا» [15]، وهذا نصٌّ قاطع في محل النزاع[16].
المسألة الخامسة: المفاضلة بين ليلة القدر وليلة الإسراء:
ليلة الإسراء أفضل في حق النبي صلّى الله عليه وسلّم، وليلة القدر أفضل في حق الأمة؛ لأن حظ النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي اختص به ليلة المعراج منها أكمل من حظه ليلة القدر، وحظ الأمة من ليلة القدر أكمل؛ لعظم ثواب العمل والتعبد لله تعالى فيها، أما ليلة الإسراء فلم يرد في فضل العمل فيها حديث، لا صحيح ولا ضعيف! فلا يجوز تخصيصها بعبادة زائدة أو اعتقاد فضلها على سائر الليالي. وقيل: بل ليلة القدر أفضل مطلقًا؛ لأن ليلة الإسراء ـ وإن حصل للمصطفى صلّى الله عليه وسلّم فيها ما لم يحصل له في غيرها ـ لا يلزم تفضيلها على غيرها؛ إذ لا يلزم إذا أعطى الله نبيّه فضيلة في مكان أو زمان أن يكون ذلك الزمان أفضل من جميع الأمكنة والأزمنة، هذا إن فرض أن إنعامه عليه ليلة الإسراء كان أعظم من إنعامه عليه بإنزال القرآن ليلة القدر وغير ذلك من النعم التي أنعم عليه بها، ولم يعرف عن أحد من المسلمين أنه جعل لليلة الإسراء فضيلة على غيرها، لا سيما ليلة القدر! هذا مع أن ليلة الإسراء لم يقم دليل مقطوع به على شهرها فضلاً عن عينها! وللتوقف في هذه المسألة مجال. والله أعلم[17].
المسألة السادسة: أشياء لا تصح في الإسراء والمعراج:
ما روي في بعض روايات حديث الإسراء أنه صلّى الله عليه وسلّم نزل من البراق فصلى بطيبة، ثم بطور سيناء، ثم ببيت لحم، وهذا منكر غريب لم يصح[18].
ومما نبّه عليه بعض العلماء[19]: أن الدنو والتدلي المذكور في قول الله تعالى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى *فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى *} [النجم] هو دنو جبريل عليه السلام وتدليه من نبيّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم أول البعثة؛ فكان منه قدر قوسين أو أدنى، كما قالته عائشة وابن مسعود وأبو هريرة رضي الله عنهم[20]، ولا يعرف لهم مخالف من الصحابة، وهو ظاهر من سياق الآيات؛ ولهذا قال تعالى بعدها: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى *عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى *} [النجم] . وأما ما ورد في الدنو والتدلي في حديث الإسراء فلا يثبت؛ لأنه من رواية شريك وقد وقع فيها بعض الأغلاط والمخالفات، وعد بعض العلماء هذه الزيادة من مخالفاته.
[1] انظر: الشفا للقاضي عياض (1/254)، وإكمال المعلم بفوائد مسلم له (1/497)، وشرح النووي على صحيح مسلم (2/209)، وزاد المعاد (1/99)، والبداية والنهاية (3/138)، وفتح الباري لابن حجر (13/480)، وسبل الهدى والرشاد للصالحي (3/64).
[2] أخرجه البخاري (كتاب التوحيد، 7517)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 162).
[3] انظر: زاد المعاد (1/99)، والبداية والنهاية (3/138)، وفتح الباري لابن حجر (13/480، 485).
[4] أخرجه البخاري (كتاب أحاديث الأنبياء، برقم 3342)، ومسلم (كتاب الإيمان، برقم 163).
[5] انظر: فتح الباري لابن حجر (1/460، 7/204)، والمواهب اللدنية للقسطلاني (3/24).
[6] انظر: الإسراء والمعراج ومسائل العقيدة فيهما لعمر صالح القرموشي (131) [رسالة ماجستير بجامعة أم القرى، عام: 1418هـ].
[7] تفسير ابن كثير (5/42).
[8] أوصلها الحافظ ابن حجر رحمه الله إلى اثنتي عشرة مخالفة؛ انظرها مع الجواب عنها في: فتح الباري (13/485)، وانظر: الشفا للقاضي عياض (1/254)، وإكمال المعلم له (1/497)، وشرح النووي على مسلم (2/209)، وتفسير ابن كثير (5/7).
[9] أخرجه مسلم (كتاب الإيمان، برقم 162).
[10] كما جاء عن ابن عباس عند البخاري (كتاب المناقب، رقم 3888).
[11] أخرجه البخاري (كتاب بدء الخلق، برقم 3207)، ومسلم (كتاب الإيمان، برقم 164).
[12] انظر: الشفا للقاضي عياض (1/253)، وإكمال المعلم (1/499)، وشرح النووي على مسلم (2/210)، وفتح الباري (7/204).
[13] أخرج روايته البخاري (كتاب المناقب، رقم 3570)، و(كتاب التوحيد، رقم 7517).
[14] انظر: الشفا للقاضي عياض (1/253)، والبداية والنهاية (3/141)، وفتح الباري (7/204) (13/481).
[15] أخرجه مسلم (كتاب الإيمان، رقم 178).
[16] انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (6/507 ـ 510)، وفتح الباري لابن حجر (8/608).
[17] انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (25/286)، والفتاوى الكبرى له (5/379) [دار الكتب العلمية، ط1، 1408هـ]، وزاد المعاد لابن القيم (1/57)، وبدائع الفوائد له (3/1103) [دار عالم الفوائد، ط1، 1425هـ]، والمواهب اللدنية للقسطلاني (3/14)، وسبل الهدى والرشاد للصالحي (3/15)، وفيض القدير للمناوي (5/395) [دار المعرفة ببيروت، ط2، 1391هـ].
[18] أخرجه النسائي (كتاب الصلاة، برقم 450)، من حديث أنس رضي الله عنه، وقال ابن كثير في تفسيره (5/12) عن هذه الرواية: «فيها غرابة ونكارة جدًّا» ـ وانظر منه: (5/27) ـ، وقال الألباني في ضعيف سنن النسائي: «منكر»، وانظر: زاد المعاد (3/34)، والإسراء والمعراج للألباني (44) [المكتبة الإسلامية، بعمان، ط5، 1421هـ].
[19] انظر: زاد المعاد لابن القيم (3/38)، والبداية والنهاية لابن كثير (3/139)، وتفسيره (7/447)، وشرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي (1/276).
[20] انظر: صحيح البخاري (كتاب بدء الخلق، برقم 3232، و3235)، وصحيح مسلم (كتاب الإيمان، برقم 174، و175، و177). وانظر أيضًا: تفسير الطبري (22/13)، وتفسير البغوي (7/401)، ومدارج السالكين (3/319) [دار الكتاب العربي، بيروت، ط2، 1393هـ]، وتفسير ابن كثير (7/444، 447).
من أبرز الثمرات المترتبة على الإيمان بالإسراء والمعراج: إثبات علو الله تعالى على خلقه؛ كما دلَّت عليه آيات القرآن الكريم، والسُّنَّة المتواترة الصحيحة، والفطرة السوية، وصريح المعقول، وأجمعت عليه كافة الملل من اليهود والنصارى والمسلمين.
ومن الثمرات أيضًا: إثبات كلام الله تعالى بالوحي، وأنه جلّ جلاله يتكلم حقيقة متى شاء كيف شاء بما شاء، وأنه يسمع من شاء من خلقه كلامه كما سمع منه نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم في المعراج.
ومن الثمرات أيضًا: بيان عظمة الله تعالى وكمال قدرته سبحانه، وأنه على كل شيء قدير؛ فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
ومن الثمرات أيضًا: اعتقاد فضل النبي صلّى الله عليه وسلّم على سائر إخوانه من الأنبياء والرسل عليهم السلام، والإشادة بفضله وشرفه وكرامته على ربه عزّ وجل.
ومن الثمرات أيضًا: اعتقاد تفاضل الأنبياء فيما بينهم في منزلتهم عند الله تعالى. انظر للتفصيل مصطلح: المفاضلة بين الأنبياء.
ومن الثمرات أيضًا: إثبات وجود الجنة والنار وخلقهما؛ كما هو مذهب أهل السُّنَّة والجماعة.
حكمة الإسراء هي: إرادة الله تعالى إراءة نبيّه صلّى الله عليه وسلّم آياته الكبرى ودلائل وعجائب قدرته وعظمته سبحانه، بعد ازدياد أذى المشركين له وتعرضهم له صلّى الله عليه وسلّم ولأصحابه رضي الله عنهم؛ تأييدًا منه سبحانه لنبيِّه صلّى الله عليه وسلّم، ليزداد يقينًا وإيمانًا، ولتجديد عزمه على السير قدمًا في مواصلة الدعوة إلى الله تعالى، وليكون في هذا إظهار لصدقه صلّى الله عليه وسلّم وصحة رسالته بعد إخبار المشركين بهذه المعجزة الكبرى والآية العظمى، فيكون في هذا سبب لقوة إيمان المؤمنين، وزيادة في شقاء المعاندين الجاحدين[1].
[1] انظر: الحجة في بيان المحجة لأبي القاسم التيمي (1/499)، والجواب الصحيح لابن تيمية (6/167)، وشرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز (1/277)، وفتح الباري لابن حجر (7/196، 197، 200)، والمواهب اللدنية للقسطلاني (3/115)، وسبل الهدى والرشاد للصالحي (3/17).
أنكر الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم من المعطلة المعراج؛ فقالوا: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يعرج به إلى الله تعالى حقيقة، ولم يرفع من عند موسى إلى عند ربه مرارًا، وقالوا: كل هذا كان في المنام! وحجتهم في هذا: الخوف من تمثيل وتشبيه الخالق بالمخلوقين؛ لأن (من) و(إلى) في حق الله محال عندهم؛ لأنها تستلزم المكان ابتداء وانتهاء[1]! وهذا بناء على مذهبهم في إنكار صفات الله تعالى وتعطيلها بما أخرجها عن حقائقها وأوجب تعطيل الرب تعالى عن صفات كماله! تعالى الله عما يقولون علوًّا عظيمًا.
وذهب بعض الغلاة من الفلاسفة والصوفية إلى أن معراج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو ترقيه بفكره إلى الأفلاك! وأن الأنبياء الذين رآهم هم الكواكب: فآدم هو القمر، ويوسف هو الزهرة، وإدريس هو الشمس، والأنهار الأربعة هي العناصر الأربعة... إلخ هذا الهذيان والكفر والضلال! وهذا في حقيقته مبني على اعتقاد الصابئة الضالة المنجمين[2]!
وفيما سبق من الأدلة على معراجه صلّى الله عليه وسلّم حقيقة كفاية في معرفة المعتقد الحق الواجب على كل مسلم اتباعه، وأن الواجب إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه من الصفات العلى، من غير تشبيه ولا تمثيل، ولا تكييف ولا تعطيل، وإثبات لوازم ذلك.
[1] انظر: الحجة لأبي القاسم التيمي (1/421، 487)، ومجموع الفتاوى (5/555، 6/214، 35/414)، وبيان تلبيس الجهمية (1/549) [مطبعة الحكومة بمكة المكرمة، ط1، 1392هـ]، والفتاوى الكبرى لابن تيمية (4/195، 6/629)، والصواعق المرسلة (3/1153) [دار العاصمة، ط3، 1418هـ]، واجتماع الجيوش الإسلامية (51)، وبدائع الفوائد (3/1379).
[2] انظر: الرد على المنطقيين لابن تيمية (588) [مؤسسة الريان، بيروت، ط1، 1426هـ]، ومجموع الفتاوى له (4/62)، ونقض المنطق (13/237).
1 ـ «الإسراء والمعراج؛ الرواية المتكاملة الصحيحة»، لمحمد طرهوني.
2 ـ «الإسراء والمعراج»، للألباني.
3 ـ «الآية الكبرى في شرح قصة الإسراء»، للسيوطي.
4 ـ «البداية والنهاية» (ج1، 3)، لابن كثير.
5 ـ «زاد المعاد» (ج1، 3)، لابن القيم.
6 ـ «سبل الهدى والرشاد» (ج3)، للصالحي.
7 ـ «شرح العقيدة الطحاوية» (ج1)، لابن أبي العز الحنفي.
8 ـ «الشـفـا» (ج1)، للقـاضي عياض.
9 ـ «الفصول في سيرة الرسول صلّى الله عليه وسلّم»، لابن كثير.
10 ـ «المواهب اللدنية» (ج3)، للقسطلاني.