ذهب الأكثرون إلى أن شعيبًا عليه السلام من ذرية إبراهيم عليه السلام، فذكروا أنه: ابن عيفا بن نويب بن مدين بن إبراهيم. وقيل: إنه ابن نوبب بن رعيل بن عيفا بن مدين بن إبراهيم. وقيل: إنه ليس ولد إبراهيم وإنما هو من ولد بعض المؤمنين به وأمه ابنة لوط عليه السلام[1].
وقيل: إنه ابن ميكيل بن يشجن. وقيل. شعيب بن يشجن بن لاوي بن يعقوب، ويقال: شعيب بن ثويب بن عبقا بن مدين بن إبراهيم[2]. وقيل غير ذلك[3].
[1] انظر: المنتظم في التاريخ (1/324) [دار الكتب العلمية، ط1].
[2] انظر: البداية والنهاية (1/427) [دار هجر، ط1].
[3] انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر (23/70) [دار الفكر، 1415هـ]، والكامل في التاريخ (1/138) [دار الكتاب العربي، بيروت، ط1، 1417هـ].
ذكر الله نبوة شعيب عليه السلام في آيات عديدة، منها قول الله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتَّقُونَ *إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ *فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ *وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ *} [الشعراء] ، وقوله تعالى: {ياقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ} [الأعراف: 93] .
كان شعيب يدعو قومه إلى توحيد الله تعالى وإخلاص العبادة له، ونبذ عبادة غير الله كائنًا من كان، والنهي عن التطفيف في الكيل والوزن، والبعد عن الإفساد في الأرض والصد عن سبيل الله، قال الله تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ *وَلاَ تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ *} [الأعراف] ، وقال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَال ياقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ *وَيَاقَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ *} [هود] .
قوم شعيب كانوا قومًا عربًا يسكنون مدين، وهي قرية قريبة من أرض معان عرفت بهم، من أطراف الشام، مما يلي ناحية الحجاز، قريبًا من بحيرة قوم لوط، وكانوا بعدهم بمدة قريبة. وكانوا كفارًا يقطعون السبيل، ويخيفون المارة، وينقصون المكيال، ويعكفون على عبادة الشجرة المعروفة بالأيكة[1].
ولما جاءهم شعيب عليه السلام انقسموا اتجاه دعوته إلى قسمين: قسم آمن به وصدق بنبوته، وقسم جحد نبوته وأنكر رسالته، قال الله تعالى حكاية عن قول شعيب عليه السلام لقومه: {وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ *} [الأعراف] . وقالوا لشعيب عليه السلام على سبيل الاستهزاء والتنقص والتهكم[2] كما أخبر الله عنهم: {ياشُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأََنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ *} [هود] .
وحذّر كفار قومه منه ومن دعوته، كما قال الله تعالى: {وَقَالَ الْمَلأَُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ *} [الأعراف] .
واتهموه بالسحر ورموه بالكذب، كما قال تعالى: {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ *وَمَا أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ *فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ *} [الشعراء] .
بل وصل بهم الأمر إلى تهديده تارة بالطرد والإبعاد، كما أخبر الله تعالى بقوله: {قَالَ الْمَلأَُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ *} [الأعراف] ، وتارة بالرجم ودفنه حيًّا كما في قول الله تعالى: {قَالُوا ياشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ *} [هود] .
فذكّرهم شعيب بعظمة الله، وأنه أحق أن يخشى، وحذرهم من شديد بطشه وعظيم انتقامه، فقال لهم فيما حكاه الله عنه: {قَال ياقَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ *ويَاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ *} [هود] .
وسلك في نصحهم مسلك الترغيب والترهيب، وحثهم على أخذ العبر من الهالكين قبلهم، فقال لهم كما ذكر الله تعالى: {وَيَاقَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ *وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ *} [هود] .
ولما أصرّوا على الكفر والعناد والمكابرة، دعا الله عليهم: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ} [الأعراف: 89] .
فأهلكهم الله ودمَّرهم بالصيحة، وعذاب يوم الظلة، والرجفة، ونجّى عبده شعيبًا ومن معه من المؤمنين، كما قال الله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ *} [هود] ، وقال سبحانه: {...فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ * الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ *فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَال ياقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ *} [الأعراف] ، وقال تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ *} [الشعراء] .
وهم أصحاب الأيكة على الأصح[3]، المنتقم منهم كما قال الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ *فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ *} [الحجر] .
وذكر ابن كثير أنه «قد كان هلاكهم قبل زمن موسى عليه السلام في أحد قولي العلماء»[4].
[1] انظر: البداية والنهاية (1/427) [دار هجر، ط1]، وصحيح (قصص الأنبياء لابن كثير) لسليم الهلالي (175).
[2] انظر: صحيح (قصص الأنبياء لابن كثير) (177).
[3] انظر: أضواء البيان للشنقيطي (6/95)، وصحيح (قصص الأنبياء لابن كثير) للهلالي (183).
[4] قصص الأنبياء لابن كثير (2/16) [مطبعة دار التأليف، القاهرة، ط1، 1388هـ].
أشار ابن قتيبة إلى أن وفاة نبي الله شعيب عليه السلام كانت بعد هلاك قومه الكافرين، فقال: «لحق شعيب والذين آمنوا معه من أصحاب الأيكة إلى مكة، فلم يزالوا بها حتى ماتوا»[1]، وقيل إنه دفن في حطين[2].
[1] المعارف لابن قتيبة (42) [الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ط2، 1992م].
[2] انظر: النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية (سيرة صلاح الدين الأيوبي) (129) [مكتبة الخانجي، ط2]، وزبدة الحلب في تاريخ حلب (408) [دار الكتب العلمية، ط1، 1417هـ].
المسألة الأولى: هل النبي شعيب عليه السلام هو الرجل الصالح بمدين صاحب موسى؟
اختُلف في ذلك على أقوال؛ أشهرها أن المراد بصاحب مدين هو نبي الله شعيب هذا. وقيل: إنه ابن أخي شعيب، وقيل: هو رجل مؤمن من قوم شعيب، وقال بعضهم: كان شعيب قبل زمان موسى بمدة طويلة تزيد على الأربعمائة سنة، ويؤيد ذلك قول شعيب لقومه: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ *} [هود] ، وهلاك قوم لوط كان في زمن إبراهيم خليل الله عليه السلام بنص القرآن[1]، قال ابن كثير بعد أن ذكر نحو ما تقدم: «ثم من المقوي لكونه ليس بشعيب أنه لو كان إياه لأوشك أن ينص على اسمه في القرآن هاهنا، وما جاء في بعض الأحاديث من التصريح بذكره في قصة موسى لم يصح إسناده»[2].
وقال السعدي: «وهذا الرجل، أبو المرأتين، صاحب مدين، ليس بشعيب النبي المعروف، كما اشتهر عند كثير من الناس، فإن هذا قول لم يدل عليه دليل، وغاية ما يكون، أن شعيبًا عليه السلام، قد كانت بلده مدين، وهذه القضية جرت في مدين، فأين الملازمة بين الأمرين؟ وأيضًا، فإنه غير معلوم أن موسى أدرك زمان شعيب، فكيف بشخصه؟ ولو كان ذلك الرجل شعيبًا، لذكره الله تعالى، ولسمَّته المرأتان، وأيضًا فإن شعيبًا صلّى الله عليه وسلّم قد أهلك الله قومه بتكذيبهم إياه، ولم يبق إلا من آمن به، وقد أعاذ الله المؤمنين أن يرضوا لبنتي نبيهم بمنعهما عن الماء، وصد ماشيتهما، حتى يأتيهما رجل غريب، فيحسن إليهما، ويسقي ماشيتهما»[3].
المسألة الثانية: حقيقة كفر قوم شعيب، خاصة أن ذمهم كان في التطفيف والكيل:
لا يختلف كفر قوم شعيب عن كفر الكفار الآخرين، كما قال تعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ *وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ *وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ *} [الحج] ، فأصحاب مدين هم قوم شعيب كذبوا نبي الله شعيبًا في نبوته واتهموه بالسحر، كما قال تعالى: {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ *وَمَا أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ *فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ *} [الشعراء] .
وردّوا دعوته إلى التوحيد ونبذ الشرك ولم يقبلوها منه، فقالوا: {ياشُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأََنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ *} [هود] .
ومع هذا؛ فإنهم كانوا فاسدين في بعض الجوانب الأخلاقية، حيث كانوا يقعدون في الطرقات للإفساد في الأرض، والصد عن سبيل الله، وينقصون الكيل والميزان، قال عزّ وجل: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ *وَلاَ تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ *} [الأعراف] ، ولانحرافهم الكبير في هذا الجانب جاء ذمهم فيه كثيرًا في القرآن الكريم، وهذا لا يعني أن حقيقة كفرهم كان هذا الجوانب فقط. قال السعدي: «فقال لهم: {ياقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}؛ أي: أخلصوا له العبادة، فإنهم كانوا يشركون به، وكانوا ـ مع شركهم ـ يبخسون المكيال والميزان، ولهذا نهاهم عن ذلك، فقال: {وَلاَ تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ} [هود] بل أوفوا الكيل والميزان بالقسط»[4]. وقال الشنقيطي في قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ *} [الحجر] ، «فبيَّن في هذه الآية أن ظلمهم هو تكذيب رسولهم وتطفيفهم في الكيل، وبخسهم الناس أشياءهم»[5].
المسألة الثالثة: سبب عدول القرآن في آية الشعراء عن وصف شعيب بأنه أخٌ للقوم الذين أرسل إليهم:
تلمّس العلماء السبب في ذلك، واجتهدوا في تعليل ذلك، فذهب فريق منهم إلى أنه لا فرق بين أهل مدين وأصحاب الأيكة فهم قوم واحد، وأن عدم وصف أصحاب الأيكة بالإخوة لشعيب في سورة الشعراء كان لعبادتهم الأيكة، عند ابن كثير، وعند غيره كابن الجوزي حذف ذكر الأُخوّة تخفيفًا.
قال أبو الفرج ابن الجوزي: «إن قيل: لِمَ لَمْ يقل: (أخوهم) كما قال في الأعراف؟ فالجواب: أن شعيبًا لم يكن من نسل أصحاب الأيكة، فلذلك لم يقل أخوهم، وإنما أرسل إليهم بعد أن أرسل إلى مدين، وهو من نسل مدين، فلذلك قال هناك: أخوهم، هذا قول مقاتل بن سليمان، وقد ذكرنا في سورة هود عن محمد بن كعب القرظي أن أهل مدين عذبوا بعذاب الظلة، فإن كانوا غير أصحاب الأيكة ـ كما زعم مقاتل ـ فقد تساووا في العذاب، وإن كان أصحاب مدين هم أصحاب الأيكة ـ وهو مذهب ابن جرير الطبري ـ كان حذف ذكر (الأخ) تخفيفًا، والله أعلم»[6].
وقال ابن كثير: «هؤلاء ـ أعني أصحاب الأيكة ـ هم أهل مدين على الصحيح، وكان نبي الله شعيب من أنفسهم، وإنما لم يقل هنا: (أخوهم شعيب)؛ لأنهم نسبوا إلى عبادة الأيكة، وهي شجرة. وقيل: شجر ملتف كالغيضة، كانوا يعبدونها؛ فلهذا لما قال: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ *} [الشعراء] لم يقل: (إذ قال لهم أخوهم شعيب)، وإنما قال: {إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ} [الشعراء: 177] ، فقطع نسبة الأخوة بينهم؛ للمعنى الذي نسبوا إليه، وإن كان أخاهم نسبًا. ومن الناس من لم يتفطن لهذه النكتة، فظن أن أصحاب الأيكة غير أهل مدين، فزعم أن شعيبًا عليه السلام بعثه الله إلى أمّتين، ومنهم من قال: ثلاث أمم... والصحيح أنهم أمة واحدة، وصفوا في كل مقام بشيء؛ ولهذا وعظ هؤلاء وأمرهم بوفاء المكيال والميزان، كما في قصة مدين سواء بسواء، فدل ذلك على أنهم أمة واحدة»[7].
وقال الفريق الآخر: إن شعيبًا بعث إلى أمّتين: أهل مدين وهم قومه؛ ولذا وصف بأنه أخوهم، وأما أصحاب الأيكة فهم ليسوا من قومه؛ لذا لم يوصفوا بأنهم إخوته، وذهب إلى هذا البغويُّ والقرطبيُّ وغيرهما.
قال البغوي: «{إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ} [الشعراء: 177] ولم يقل: (أخوهم)؛ لأنه لم يكن من أصحاب الأيكة في النسب، فلما ذكر مدين قال: (أخاهم شعيبًا)؛ لأنه كان منهم، وكان الله تعالى بعثه إلى قومه أهل مدين، وإلى أصحاب الأيكة»[8].
[1] انظر: تفسير ابن كثير (6/228).
[2] تفسير ابن كثير (6/229).
[3] تفسير السعدي (615) [مؤسسة الرسالة، ط1].
[4] تفسير السعدي (387).
[5] أضواء البيان للشنقيطي (2/288).
[6] زاد المسير (6/141) [المكتب الإسلامي، ط3].
[7] تفسير ابن كثير (6/158 ـ 159).
[8] تفسير البغوي (6/127) [دار طيبة، ط4]، وانظر: تفسير القرطبي (13/134) [دار عالم الكتب، الرياض، المملكة العربية السعودية، 1423هـ].
1 ـ «تاريخ دمشق» (ج23)، لابن عساكر.
2 ـ «المنتظم في تاريخ الملوك والأمم» (ج1)، لابن الجوزي.
3 ـ «الكامل في التاريخ» (ج1)، لابن الأثير.
4 ـ «النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية» (سيرة صلاح الدين الأيوبي)، لأبي المحاسن الأسدي.
5 ـ «البداية والنهاية» (ج1)، لابن كثير.
6 ـ «صحيح (قصص الأنبياء لابن كثير)» لسليم الهلالي.
7 ـ «قصص الأنبياء» (ج2)، لابن كثير.
8 ـ «تفسير السعدي».