حرف الشين / الشفاعة

           

قال ابن فارس: «الشين والفاء والعين أصلٌ صحيحٌ يدلُّ على مقارنة الشيئين، من ذلك الشَّفْع خلاف الوَتْر. تقول: كان فردًا فشفَعْتُه، وشَفَعَ فلانٌ لفلانٍ؛ إذا جاء ثانِيه ملتمسًا مطلبه ومُعِينًا له»[1].
وشَفع لي يشفع شفاعة وتَشفّع: طلب[2]. والشَّفع: الزيادة، والشفاعة: كلام الشفيع للملك في حاجة يسألها لغيره. والشافع: الطالب لغيره يستشفع به إلى المطلوب[3].


[1] مقاييس اللغة (3/201) [دار الفكر].
[2] انظر: لسان العرب (8/184) [دار صادر].
[3] انظر: تهذيب اللغة (1/436 ـ 437) [الدار المصرية للتأليف والترجمة].


قال ابن حجر: «الشفاعة وهي انضمام الأدنى إلى الأعلى ليستعين به على ما يرومه»[1]. وقيل: «الشفاعة هي التوسط بالقول في وصول شخص إلى منفعة من المنافع الدنيوية أو الأخروية أو خلاصه من مضرة ما»[2]. وقيل: «هي التوسط للغير بجلب منفعة، أو دفع مضرة»[3].


[1] 248فتح الباري (11 / 433) [دار الفكر]
[2] تفسير أبي السعود (2/210) [دار إحياء التراث العربي]، وانظر: روح المعاني (5/97) [دار إحياء التراث العربي].
[3] انظر: شرح الواسطية لابن عثيمين (2/168) [دار ابن الجوزي، ط2، 1415هـ].


مناسبة المعنى الشرعي للاشتقاق ظاهرة؛ لأنك إذا توسطت له؛ صرت معه شفعًا تشفعه[1].


[1] انظر: شرح الواسطية لابن عثيمين (2/168).


حكم الشفاعة يتضح بالنظر إلى شروطها وأقسامها، فالشفاعة الشرعية درجة عالية يقوم بها أفضل الخلق، وهم الأنبياء والملائكة والمؤمنون، ويختص نبينا صلّى الله عليه وسلّم لفضله ببعض أنواعها. أما ما فقد شروط الشفاعة الشرعية فمنه ما هو محرم ومنه ما هو كفر، كما سيأتي في مذهب المخالفين.



وحقيقة الشفاعة: أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع؛ ليكرمه[1].
الأدلة:
دلَّ الكتاب والسُّنَّة على إثبات الشفاعة عند الله يوم القيامة. فمن الكتاب قوله سبحانه وتعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقَرة: 255] . وقوله سبحانه وتعالى: {وَلاَ تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23] . وقوله سبحانه وتعالى: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] .
وأما من السُّنَّة ؛ فالأحاديث في إثبات الشفاعة كثيرة جدًّا، وقد صرح الأئمة المحققون بتواترها، ومنها قوله صلّى الله عليه وسلّم في حديث الشفاعة الطويل: «... ثم أخر له ساجدًا، فيقال: يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: يا رب ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله...» الحديث[2].


[1] انظر: تيسير العزيز الحميد (295).
[2] أخرجه البخاري (كتاب التوحيد، رقم 7510)، وبنحوه مسلم (كتاب الإيمان، رقم 193).


قال أبو بكر الإسماعيلي مبينًا عقيدة أهل السُّنَّة: «ويقولون: إن الله يخرج من النار قومًا من أهل التوحيد بشفاعة الشافعين برحمته، وإن الشفاعة حق»[1].
وقال الطحاوي: «والشفاعة التي ادخرها لهم حق، كما روي في الأخبار»[2].
وقال ابن تيمية: «وكذلك في أحاديث الشفاعة كلها إنما يشفع في أهل التوحيد، فبحسب توحيد العبد لله وإخلاصه دينه لله، يستحق كرامة الشفاعة وغيرها»[3].
وقال ابن القيِّم: «فأخبر أن الشفاعة لمن له ملك السماوات والأرض وهو الله وحده، فهو الذي يشفع بنفسه إلى نفسه ليرحم عبده، فيأذن هو لمن يشاء أن يشفع فيه، فصارت الشفاعة في الحقيقة إنما هي له، والذي يشفع عنده إنما يشفع بإذنه له، وأمره، بعد شفاعته سبحانه إلى نفسه، وهي إرادته من نفسه أن يرحم عبده، وهذا ضد الشفاعة الشركية»[4].


[1] اعتقاد أهل السُّنَّة (43).
[2] متن العقيدة الطحاوية (10).
[3] مجموع الفتاوى (27/441).
[4] إغاثة اللهفان (1/220).


لا تصح الشفاعة عند الله سبحانه وتعالى إلا بشرطين[1]:
الأول: إذن الله سبحانه وتعالى للشافع أن يشفع، بدليل قوله سبحانه وتعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقَرة: 255] ، وقوله سبحانه وتعالى: {وَلاَ تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23] .
الثاني: رضا الله عن المشفوع له، بدليل قوله سبحانه وتعالى: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] .


[1] انظر: تيسير العزيز الحميد (279) [الدار البيضاء للنشر، ط3، 1412هـ].


الشفاعة تنقسم إلى قسمين:
1 ـ باطلة منفية، وهي ما فقدت أحد شروط الشفاعة السابقة.
2 ـ صحيحة مثبتة، وهي ما تحققت فيها شروط الشفاعة[1]، وقد ثبت لنبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم منها ثمانية أنواع يوم القيامة، منها ما هو خاص به، ومنها ما يشاركه فيها غيره من الأنبياء والملائكة والمؤمنين، وهي[2]:
1 ـ الشفاعة العظمى، وهي شفاعته صلّى الله عليه وسلّم في أهل الموقف أن يقضي الله بينهم، وهذه الشفاعة مما اختص بها نبيِّنا صلّى الله عليه وسلّم على غيره من الرسل صلوات الله عليهم.
2 ـ شفاعته صلّى الله عليه وسلّم في قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم فيشفع فيهم أن يدخلوا الجنة.
3 ـ شفاعته صلّى الله عليه وسلّم في أقوام قد أُمر بهم إلى النار أن لا يدخلوها.
4 ـ شفاعته صلّى الله عليه وسلّم في رفع درجات من يدخل الجنة فيها فوق ما كان يقتضيه ثواب أعمالهم.
5 ـ شفاعته صلّى الله عليه وسلّم في أقوام أن يدخلوا الجنة بغير حساب.
6 ـ شفاعته صلّى الله عليه وسلّم في تخفيف العذاب عمن كان يستحقه كشفاعته في عمه أبي طالب.
7 ـ شفاعته صلّى الله عليه وسلّم في أهل الجنة أن يؤذن لهم بدخول الجنة.
8 ـ شفاعته صلّى الله عليه وسلّم في أهل الكبائر من أمته ممن دخل النار أن يخرج منها.


[1] انظر: مجموع الفتاوى (1/332) [مكتبة النهضة الحديثة، 1404هـ]، شرح العقيدة الواسطية لابن عثيمين (2/168).
[2] انظر: شرح العقيدة الطحاوية (1/283 ـ 290) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وفتح الباري (11/428).


الفرق بين الشفاعة والتوسل:
أن الشفاعة فيها طلب، وإذن، ورضا، ويقوم الشفيع بطلب الشفاعة من الرب.
أما التوسل فهو التقرب بالعمل الصالح، فالذي يقوم بها هو المتوسل نفسه، وهو صاحب الحاجة.
وقد انتقد شيخ الإسلام ابن تيمية العامة الذين يستعملون لفظ الشفاعة في معنى التوسل، وبيَّن أن هذا خطأ لغة وشرعًا. فيقول أحدهم: اللَّهُمَّ إنا نستشفع إليك بفلان وفلان؛ أي: نتوسل به، ويقولون لمن توسل في دعائه بنبيٍّ أو غيره، قد تشفع به من غير أن يكون المستشفع به شفع له ولا دعا له بل وقد يكون غائبًا لم يسمع كلامه ولا شفع له، وهذا ليس هو لغة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه وعلماء الأمة؛ بل ولا هو لغة العرب، فإن الاستشفاع طلب الشفاعة، والشافع هو الذي يشفع للسائل فيطلب له ما يطلب من المسؤول المدعو المشفوع إليه[1].


[1] انظر: قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (32).


المخالفون في الشفاعة على أقوال:
الأول: قول المعتزلة والخوارج بإنكار شفاعة نبيِّنا صلّى الله عليه وسلّم وغيره في أهل الكبائر.
الثاني: المشركون والنصارى والمبتدعون من الغلاة في المشايخ وغيرهم يجعلون شفاعة من يعظمونه عند الله كالشفاعة المعروفة في الدنيا، فيسألونهم بغير إذنهم، وتجيب الملوك سؤالهم لحاجتهم إليهم، وهذا كفر.
الثالث: قول ابن سينا وأمثاله أن الشفاعة تنفع لتعلق الشفيع بالمشفوع وإن لم يكن هناك دعاء من الشفيع، وشُبِّه ذلك بشعاع الشمس الذي يظهر في المرآة، والمرآة تطرح شعاعها على الماء، والشعاع الذي على الماء يظهر فيه الحائط، وأن العبد إذا تعلق بالملائكة والأنبياء كان ما ينزل عليهم من الرحمة ينزل عليه من ذلك بتوسطهم، كما ينتفع أتباع المتبوع بما يحصل له من الجاه والمنزلة، وهذا الذي قاله هو شر من قول المشركين وهذه هي الشفاعة التي أبطلها الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم[1].


[1] انظر: الرد على البكري (1/156) [مكتبة الغرباء الأثرية، ط1، 1417هـ].


1 ـ «إثبات الشفاعة»، للذهبي.
2 ـ «الشفاعة عند أهل السُّنَّة والرد على المخالفين فيها»، لناصر الجديع.
3 ـ «الشفاعة عند المثبتين والنافين»، لعفاف الونيس.
4 ـ «الشفاعة»، لمقبل الوادعي.
5 ـ «تلخيص كتاب الاستغاثة»، لابن كثير.
6 ـ «تيسير العزيز الحميد»، لسليمان بن عبد الله.
7 ـ «قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة»، لابن تيمية.
8 ـ «مجموع الفتاوى» (ج1)، لابن تيمية.
9 ـ «معتقد أهل السُّنَّة والجماعة في الشفاعة»، لعبد الله الغفيلي [بحث منشور في مجلة البحوث الإسلامية].