قال ابن فارس رحمه الله: «الشين والكاف والراء أصول أربعة متباينة بعيدة القياس؛ فالأول: الشكر: الثناء على الإنسان بمعروف يوليكه. ويقال: إن حقيقة الشكر الرضا باليسير. يقولون: فرس شكور، إذا كفاه لسمنه العلف القليل»[1].
والشكر: الثناء على المحسن بما أولاكه من المعروف، يقال: شكرته، وشكرت له، واللام أفصح، والشكران: خلاف الكفران، ويقال: شكرت الإبل تشكر: إذا أصابت مرعى فسمنت عليه[2].
[1] مقاييس اللغة (3/207) [دار الجيل، 1420هـ].
[2] انظر: الصحاح (2/702) [دار العلم للملايين، ط3، 1404هـ]، ولسان العرب (5/48) [دار إحياء التراث العربي، ط3، 1419هـ]، ومختار الصحاح (167) [المكتبة العصرية، ط5]، والعين (5/292) [مكتبة هلال].
حقيقة الشكر: هو الثناء على المنعم، ومحبته، والعمل بطاعته، فيكون بالقلب، واللسان، والجوارح.
قال ابن القيِّم رحمه الله: «فحقيقة الشكر: هو الثناء على المنعم، ومحبته، والعمل بطاعته»[1].
فمبنى الشكر على ثلاثة أركان: معرفة النعمة وقدرها، والثناء بها على مسديها، واستعمالها في ما يحب موليها ومعطيها. فمن كملت له هذه الثلاثة، فقد استكمل الشكر، وكلما نقص العبد منها شيئًا فهو نقص في إيمانه وشكره، وقد لا يبقى من الشكر ما يعتد به ويثاب عليه[2].
[1] طريق الهجرتين (2/753) [دار عالم الفوائد، ط1].
[2] الدرر السَّنية في الأجوبة النجدية (1/462) [دار القاسم، ط7، 1425هـ].
الشكر من المنازل العظيمة والتي تحتل مرتبة عالية في الشريعة، وهي فوق منزلة الرضا، والرّضا مندرج في الشّكر؛ إذ يستحيل وجود الشّكر بدونه[1].
والشكر قرين الإيمان في القرآن، قال تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء: 147] ، وعلّق الله سبحانه المزيد بالشّكر والمزيد منه لا نهاية له كما لا نهاية لشكره. قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأََزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ *} [إبراهيم] ، وقد أثنى الله سبحانه على أوّل رسول بعثه إلى أهل الأرض بالشّكر، فقال: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا *} [الإسراء] ، كما أثنى سبحانه على خليله إبراهيم بشكره نعمه فقال: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ *شَاكِرًا لأَِنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ *} [النحل] [2].
[1] انظر: مدارج السالكين (2/232) [دار الكتاب العربي، بيروت، ط5، 1419هـ].
[2] انظر: عدة الصابرين (117) [دار ابن كثير، دمشق، ط1، 1409هـ].
الأدلة الدالة على فضيلة الشكر ومكانته كثيرة، فمن ذلك: قوله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ *} [البقرة] ، وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ *} [البقرة] ، وقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ *} [النحل] ، وقوله تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ *} [سبأ] .
وأما من السُّنَّة: فقد وردت أحاديث عدة في هذا الباب، منها: حديث صهيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذاك إلا للمؤمن، إن أصابته سرَّاء شكر فكان خيرًا له وإن أصابته ضرَّاء صبر فكان خيرًا له»[1].
وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قام النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى تورمت قدماه فقيل له: غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قال: «أفلا أكون عبدًا شكورًا»[2].
وعن معاذ رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «يا معاذ! والله إني لأحبك. أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللَّهُمَّ أعنِّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك»[3].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ للطّاعم الشّاكر من الأجر مثل ما للصّائم الصّابر»[4].
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يشكر الله من لا يشكر النّاس»[5].
[1] أخرجه مسلم (كتاب الزهد والرقائق، رقم 2999).
[2] أخرجه البخاري (كتاب التفسير، رقم 4836)، ومسلم (كتاب صفة القيامة والجنة والنار، رقم 2819).
[3] أخرجه أبو داود (كتاب الصلاة، رقم 1522)، والنسائي (كتاب السهو، رقم 1303)، وأحمد (36/430) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وابن خزيمة (كتاب الصلاة، رقم 751)، وقوى سنده ابن حجر في البلوغ (رقم 325) [دار أطلس، ط3]، وصحَّحه الألباني في صحيح سنن أبي داود (رقم 1362) [مؤسسة غراس، ط1].
[4] أخرجه الترمذي (أبواب صفة القيامة والرقائق والورع، رقم 2486) وحسَّنه، وابن ماجه (كتاب الصيام، رقم 1764)، وأحمد في مسنده (13/296) [مؤسسة الرسالة، ط1] واللفظ له، والحاكم (كتاب الأطعمة، رقم 7195)، وصحَّحه الألباني في صحيح الجامع (رقم 2179).
[5] أخرجه أبو داود (كتاب الأدب، رقم 4811)، والترمذي (أبواب البر والصلة، رقم 1954) وصحَّحه، وأحمد (12/472) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وصحَّحه الألباني في السلسلة الصحيحة (1/776) [مكتبة المعارف، ط1425هـ].
قال أحمد بن عبد الرحمن بن قدامة رحمه الله: «الشّكر يكون بالقلب واللّسان والجوارح. أمّا بالقلب فهو أن يقصد الخير ويضمره للخلق كافة، وأما باللسان فهو إضمار الشكر لله بالتحميد، وأما بالجوارح فهو استعمال نعم الله تعالى في طاعته، والتوقي من الاستعانة بها على معصيته»[1].
وقال ابن تيمية رحمه الله: «قد صرَّح من شاء الله من العلماء المعروفين بالسُّنَّة أن الشكر يكون بالاعتقاد، والقول، والعمل، وقد دلَّ على ذلك الكتاب والسُّنَّة. قلت: وباب سجود الشكر في الفقه أشهر من أن يذكر، وتفسير الشكر بأنه يكون بالقول والعمل في الكتب التي يتكلم فيها على لفظ الحمد والشكر، مثل كتب التفسير، واللغة، وشروح الحديث، يعرفه آحاد الناس، والكتاب والسُّنَّة قد دلا على ذلك»[2].
وقال ابن القيِّم رحمه الله: «أصل الشكر: هو الاعتراف بإنعام المنعم على وجه الخضوع له، والذل، والمحبة، فمن لم يعرف النعمة بل كان جاهلاً بها لم يشكرها، ومن عرفها ولم يعرف المنعم بها لم يشكرها أيضًا، ومن عرف النعمة والمنعم لكن جحدها كما يجحد المنكر لنعمة المنعم عليه فقد كفرها، ومن عرف النعمة والمنعم وأقر بها ولم يجحدها، ولكن لم يخضع له، ويحبه، ويرض به وعنه، لم يشكرها أيضًا، ومن عرفها وعرف المنعم بها وأقر بها، وخضع للمنعم بها، وأحبه، ورضي به وعنه، واستعملها في محابِّه وطاعته فهذا هو الشاكر»[3].
[1] مختصر منهاج القاصدين لأحمد بن عبد الرحمن بن قدامة المقدسي (353) [دار عمار، الأردن، ط2، 1415هـ]. وانظر: عدة الصابرين (149) [دار ابن كثير، ط1].
[2] مجموع الفتاوى (11/139 ـ 140).
[3] طريق الهجرتين (1/203) [دار عالم الفوائد، ط1].
المسألة الأولى: المفاضلة بين الفقير الصابر والغني الشاكر:
اختلف أهل العلم في أيهما أفضل؛ الفقير الصابر أم الغني الشاكر: فرجح هذا طائفة من العلماء والعباد الفقير الصابر، ورجح طائفة الغني الشاكر، وهما روايتان عن الإمام أحمد. وأما الصحابة والتابعون فلم ينقل عنهم تفضيل أحد الصنفين على الآخر، والراجح أن أفضلهما أتقاهما، فإن استويا في التقوى فهما سواء[1].
قال الحافظ ابن حجر: «والتّحقيق عند أهل الحذق أن لا يجاب في ذلك بجواب كلّيّ؛ بل يختلف الحال باختلاف الأشخاص والأحوال، نعم عند الاستواء من كل جهة وفرض رفع العوارض بأسرها فالفقير أسلم عاقبة في الدار الآخرة ولا ينبغي أن يعدل بالسلامة شيء والله أعلم»[2].
المسألة الثانية: شكر المخلوق:
شكر المخلوق إذا كان من باب شكره على حسن أفعاله، ولا يتضمن تعظيمًا ولا حبًّا لا يليق إلا بالله فلا بأس به، ففي الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يشكر الله من لا يشكر الناس»[3].
قال أبو سليمان الخطابي رحمه الله: «هذا الكلام يتأول على وجهين؛ أحدهما: أن من كان طبعه وعادته كفران نعمة الناس، وترك الشكر لمعروفهم كان من عادته كفران نعمة الله وترك الشكر له سبحانه.
والوجه الآخر: أن الله سبحانه لا يقبل شكر العبد على إحسانه إليه إذا كان العبد لا يشكر إحسان الناس، ويكفر معروفهم لاتصال أحد الأمرين بالآخر»[4].
[1] انظر: مجموع الفتاوى (11/119 ـ 120)، وعقد لهذه المسألة ابن القيم بابًا في كتابه عدة الصابرين (175) [دار ابن كثير، دمشق، ط1، 1409هـ].
[2] فتح الباري لابن حجر (9/583) [دار المعرفة بيروت، 1379هـ].
[3] تقدم تخريجه.
[4] معالم السنن (4/113) [المطبعة العلمية بحلب، ط1، 1352هـ].
الفرق بين الشكر والصبر:
الشكر رتبة أعلى من الصبر، فالشاكر صبر، وزاد شكرًا، وقيل: إنهما متلازمان[1].
وقيل: الصبر: عدم الجزع، والشكر: أن تطيع الله بنعمته التي أعطاك[2].
الفرق بين الشكر والحمد:
الحمد يتضمن المدح والثناء على المحمود بذكر محاسنه، سواء كان إحسانًا إلى الحامد أو لم يكن، والشكر لا يكون إلا على إحسان المشكور، فمن هذا الوجه الحمد أعم من الشكر؛ لأنه يكون على المحاسن والإحسان، وأما الشكر فإنه لا يكون إلا على الإنعام، فهو أخص من الحمد من هذا الوجه، لكنه يكون بالقلب واليد واللسان، ولهذا قال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} [سبأ: 13] ، والحمد إنما يكون بالقلب واللسان؛ فمن هذا الوجه الشكر أعم من جهة أنواعه، والحمد أعم من جهة أسبابه[3].
قال ابن القيِّم رحمه الله: «والفرق بينهما: أن الشكر أعم من جهة أنواعه وأسبابه، وأخص من جهة متعلقاته. والحمد أعم من جهة المتعلقات، وأخص من جهة الأسباب؛ ومعنى هذا: أن الشكر يكون بالقلب خضوعًا واستكانة، وباللسان ثناء واعترافًا، وبالجوارح طاعة وانقيادًا. ومتعلقه: النعم، دون الأوصاف الذاتية، فلا يقال: شكرنا الله على حياته وسمعه وبصره وعلمه. وهو المحمود عليها. كما هو محمود على إحسانه وعدله، والشكر يكون على الإحسان والنعم.
فكل ما يتعلق به الشكر يتعلق به الحمد من غير عكس، وكل ما يقع به الحمد يقع به الشكر من غير عكس. فإن الشكر يقع بالجوارح، والحمد يقع بالقلب واللسان»[4].
[1] انظر: فتح الباري لابن حجر (11/305).
[2] الدرر السَّنية في الأجوبة النجدية (2/154).
[3] انظر: مجموع الفتاوى (11/133 ـ 134)، والدرر السَّنية في الأجوبة النجدية (4/289).
[4] مدارج السالكين (2/237).
من ثمرات الشكر: أن الشاكرين الله تعالى هم في مأمن من عذاب الله تعالى وعقابه؛ لأن ضده وهو كفران النعمة مما قد توعد الله صاحبه، كما قال تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء: 147] .
وهو سبب عظيم من أسباب زيادة الرزق وبركته؛ كما قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأََزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ *} [إبراهيم] .
سبب لرضا الله تعالى؛ قال تعالى: {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7] .
الخوارج ومن وافقهم قالوا: الشكر يكون بالاعتقاد والقول والعمل، لكن متى انتفى الشكر انتفى الإيمان بالكلية، وهذا مبني على أصله مذهبهم في التكفير بالذنوب والمعاصي.
وهذا المذهب ظاهر البطلان من أصله، وأما عن مسألة التكفير بترك الشكر: فالذي هو متقرر بالنصوص الشرعية: أن الكفر نوعان؛ أحدهما: كفر النعمة، والثاني: الكفر بالله، والكفر الذي هو ضد الشكر: إنما هو كفر النعمة، لا الكفر بالله، فإذا زال الشكر خلفه كفر النعمة، لا الكفر بالله، والكفر إنما يثبت إذا ثبت عدم الشكر بالكلية، فمن ترك الأعمال شاكرًا بقلبه ولسانه فقد أتى ببعض الشكر وأصله[1].
[1] مجموع الفتاوى (11/135 ـ 138).
1 ـ «استنشاق نسيم الأنس»، لابن رجب الحنبلي.
2 ـ «التسبيح»، لمحمد بن إسحاق كندو.
3 ـ «الحمد على ضوء الكتاب والسُّنَّة وأقوال السلف الصالح»، لوليد بن عيسى السعدون.
4 ـ «الشكر»، لابن أبي الدنيا.
5 ـ «عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين»، لابن القيِّم.
6 ـ «طريق الهجرتين وباب السعادتين»، لابن القيِّم
7 ـ «معالم السنن» (ج4)، للخطابي.
8 ـ «مجموع الفتاوى»، لابن تيمية.
9 ـ «مدارج السالكين»، لابن القيِّم.
10 ـ «نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم»، لمجموعة من الباحثين.