الشَّهادة : مصدر الفِعل الثلاثي المجرَّد (شَهِد)؛ ومعناه: الحُضور والعِلْم والإعلام، والخبر القاطِع، والمشهَد: محضر الناس، والمُشاهَدَة: المعاينة. ومنه سُمِّي القتيل في سبيل الله: شهيدًا؛ لأنَّ ملائكة الرحمة تشهده ـ أي: تحضره ـ، أو لسقوطه على الشاهدة ـ وهي: الأرض ـ، وقيل غير ذلك[1].
والرَّسُول : هو مَن أُرْسِل في رسالة، والذي يُتابِع أخبار مَن بعثه؛ فهو مُرْسَل ورَسُول، وجمعه: رُسْل ورُسُل. ويُطلَق الرسول على الرِّسالة نفسها. والراء والسين واللام أصلٌ واحدٌ مطرد منقاس يدل على: الانبعاث والامتداد؛ ومنه الرَّسْل: السير السَّهْل، وشَعْر رَسْل: إذا كان مسترسلاً[2].
[1] انظر: الصحاح (2/494) [دار العلم للملايين، ط4، 1990م]، ومقاييس اللغة (3/221) [دار الفكر ببيروت، ط2، 1418هـ]، والقاموس المحيط (372) [مؤسسة الرسالة ببيروت، ط5، 1416هـ].
[2] انظر: الصحاح للجوهري (4/1709)، وتهذيب اللغة للأزهري (12/391) [الدار المصرية للتأليف والترجمة]، ومقاييس اللغة (2/392).
معنى شهادة أنَّ محمدًا رسول الله: «طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وأن لا يُعبد الله إلا بما شرع»[1].
[1] ثلاثة الأصول لابن عبد الوهاب (57) [مع حاشية ثلاثة الأصول لعبد الرحمن القاسم، ط5، 1407هـ]. وانظر: مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب (1/190) [جامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض]، وجامع الرسائل لابن تيمية (1/273) [مطبعة المدني، مصر]، ومجموع الفتاوى (3/105)، وتيسير العزيز الحميد (82) [المكتب الإسلامي ببيروت، ط3، 1397هـ]، وفتح المجيد (71) [دار المؤيد بالرياض، ط8، 1423هـ].
يدور المعنى اللغوي للشَّهادة حول: الحضور والعلم القاطع، وحقيقة الشهادة في اصطلاح الشَّرع: العلم القاطع بنبوَّة نبيِّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، وكأنَّ المسلم قد حضر هذا بنفسه، وما ذكر مما تقتضيه هذه الشهادة ـ من الطاعة والتصديق وغيرهما ـ هو من لوازم هذا الحضور والعلم القاطع وتوابعهما. فيظهر بهذا أنَّ بين المعنيين تناسبًا وتوافقًا واضحًا.
يجب على المسلم أن يعتقد اعتقادًا يقينيًّا جازمًا أن شهادة (أن محمدًا رسول الله) ركن من أركان الإسلام لا يتم الإسلام إلا به، وهي من لوازم شهادة (أن لا إله إلا الله)؛ فلا تصح إحداهما بدون الأخرى، فمن شهد أن لا إله إلا الله وكذَّب بمحمَّد صلّى الله عليه وسلّم لم يقبل الله منه صرفًا ولا عدلاً، حتى يأتي بهذين الرُّكنين وتلك الشَّهادتين، اللَّتين هما أوَّل ركن من أركان الإسلام الخمسة.
تحقيق شهادة (أنَّ محمَّدًا رسول الله) قائم على ركنين عظيمين؛ هما: التصديق والانقياد.
فالتصديق بهذه الشهادة قائم على إثبات نبوته وصدقه فيما بلغه عن الله تعالى، ويكون ذلك بالإيمان بعموم رسالته إلى كافة الثقلين إنسهم وجنهم، وأنه خاتم النبيين، ورسالته خاتمة الرسالات.
والإيمان بكون رسالته ناسخة لما قبلها من الشرائع، وبأنه صلّى الله عليه وسلّم قد بلغ الرسالة وأكملها، وأدى الأمانة، ونصح لأمته حتى تركهم على البيضاء ليلها كنهارها.
والإيمان بعصمته صلّى الله عليه وسلّم، وبما له من حقوق خلاف ما تقدم ذكره؛ كمحبته وتعظيمه صلّى الله عليه وسلّم.
وتصديقه فيما جاء به، وأن ما جاء به من عند الله حق يجب اتباعه. وهذا يجب عليه صلّى الله عليه وسلّم وعلى كل أحد.
فيجب تصديق النبي صلّى الله عليه وسلّم في جميع ما أخبر به عن الله عزّ وجل، من أنباء ما قد سبق، وأخبار ما سيأتي، وفيما أحل من حلال، وحرّم من حرام، والإيمان بأن ذلك كله من عند الله عزّ وجل.
أما الرُّكن الثاني فهو طاعته واتباع شريعته: بأن يعزم على العمل بما جاء به صلّى الله عليه وسلّم، وهو يعني: الانقياد له صلّى الله عليه وسلّم، وذلك بفعل ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه وزجر، امتثالاً لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] . فيجب على الخلق اتباع شريعته، والالتزام بسُنَّته، مع الرضا بما قضاه والتسليم له، والاعتقاد الجازم أن طاعته هي طاعة لله، وأن معصيته معصية لله؛ لأنه هو الواسطة بين الله وبين الثقلين في التبليغ[1].
[1] انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (15/91).
شهادة (أن محمدًا رسول الله) هي الشطر الثاني من الركن الأول من أركان الإسلام الخمسة؛ إذ لا يتم الإيمان بالله بدون الإيمان به، فالشهادة لهذا النبي الكريم صلّى الله عليه وسلّم قرنت بالشهادة لله تعالى، فلا تحصل النجاة والسعادة بدونها؛ إذ هي الطريق إلى الله سبحانه، ولهذا كان ركنا الإسلام: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
ومما يدل على علو منزلة هذه الشهادة أيضًا: أنَّ العبد لا يدخل في دين الإسلام إلا بشهادتي التَّوحيد: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنَّ محمَّدًا رسول الله)، وأنَّ نواقض شهادة (أنَّ محمَّدًا رسول الله) هي نفسها نواقض شهادة (أن لا إله إلا الله)، فمن نقض أيًّا من الشَّهادتين فقد نقض الأخرى ولا بد، وإن كانت شهادة أنَّ محمَّدًا رسول الله قد تختص ببعض النواقض التي هي بها ألصق؛ ومنها: جحد نبوَّة النبي صلّى الله عليه وسلّم أو فضله، أو التنقُّص من قدره، أو سبّه أو شتمه ـ عياذًا بالله ـ، أو الاستهزاء به أو بشيء من سُنَّته، أو تكذيبه، أو اعتقاد جواز التعبُّد بغير شرعه، أو أنَّ أحدًا يسعه الخروج عن شرعه والتعبُّد بغير دينه، أو بغض ما جاء به صلّى الله عليه وسلّم أو بعضه، إلى غير ذلك من النواقض المعلومة المشهورة.
كل هذا يدلُّ على رفيع منزلة هذه الشهادة عند الله تعالى.
دلَّ على هذا المعتقد أدلَّة كثيرة من القرآن الكريم، والسُّنَّة الصَّحيحة، فمن القرآن قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] ، وقوله جلّ جلاله: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا *} [النسا] ، وقوله: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا *} [النساء] ، والآيات في هذا الباب كثيرةٌ معروفةٌ، تزيد على الثَّلاثين موضِعًا.
ومن السُّنَّة الصحيحة: حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأنَّ محمَّدًا رسول الله ـ وفي رواية مسلم: عبده ورسوله ـ، وإقام الصَّلاة، وإيتاء الزَّكاة، والحجّ، وصوم رمضان»[1].
وجاء في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ أنَّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله»[2].
وجاء عن أنس بن مالك رضي الله عنه؛ أنَّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من والده وولده والنَّاس أجمعين»[3].
[1] أخرجه البخاري (كتاب الإيمان، رقم 8)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 16).
[2] أخرجه البخاري (كتاب الجِهاد والسير، رقم 2957)، ومسلم (كتاب الإمارة، رقم 1835).
[3] أخرجه البخاري (كتاب الإيمان، رقم 15) واللفظ له، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 44).
قال ابن تيمية: «قاعدة نافعة في: وجوب الاعتصام بالرسالة، وبيان أن السعادة والهدى في متابعة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وأنّ الضّلال والشّقاء في مخالفته، وأنّ كلّ خير في الوجود ـ إما عام وإما خاص ـ فمنشؤه من جهة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وأنّ كل شر في العالم مختص بالعبد فسببه: مخالفة الرسول صلّى الله عليه وسلّم أو الجهل بما جاء به، وأنَّ سعادة العباد في معاشهم ومعادهم باتباع الرِّسالة»[1].
وقال ابن القيِّم: «رأس الأدب مع الرّسول صلّى الله عليه وسلّم: كمال التّسليم له، والانقياد لأمره، وتلقي خبره بالقبول والتصديق، دون أن يحمِّله معارضة خيال باطل يسمِّيه معقولاً، أو يحمِّله شبهة أو شكًّا، أو يقدِّم عليه آراء الرِّجال وزبالات أذهانهم! فيوحده بالتحكيم والتسليم والانقياد والإذعان، كما وحد المرسل سبحانه وتعالى بالعبادة والخضوع والذلّ والإنابة والتوكُّل؛ فهما توحيدان لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما: توحيد المرسل، وتوحيد متابعة الرّسول؛ فلا يحاكم إلى غيره، ولا يرضى بحكم غيره، ولا يقف تنفيذ أمره وتصديق خبره على عرضه على قول شيخه وإمامه وذوي مذهبه وطائفته ومن يعظِّمه، فإن أذنوا له نفَّذه وقبل خبره، وإلا فإن طلب السَّلامة أعرض عن أمره وخبره وفوَّضه إليهم، وإلا حرَّفه عن مواضعه، وسمَّى تحريفه تأويلاً وحملاً؛ فقال: نؤوِّله ونحمله! فلأن يلقى العبد ربَّه بكلِّ ذنب على الإطلاق ـ ما خلا الشِّرك بالله ـ خير له من أن يلقاه بهذه الحال!»[2].
[1] مجموع الفتاوى (19/93).
[2] مدارج السالكين (2/387) [دار الكتاب العربي، بيروت، ط2، 1393هـ].
«شروط شهادة أنَّ محمدًا رسول الله، هي:
1 ـ الاعتراف برسالته، واعتقادها باطنًا في القلب.
2 ـ النطق بذلك، والاعتراف به ظاهرًا باللسان.
3 ـ المتابعة له؛ بأن يعمل بما جاء به من الحق، ويترك ما نهى عنه من الباطل.
4 ـ تصديقه فيما أخبر به من الغيوب الماضية والمستقبلة.
5 ـ محبته أشد من محبة النفس والمال والولد والوالد والناس أجمعين.
6 ـ تقديم قوله على قول كل أحد، والعمل بسُنَّته»[1].
[1] عقيدة التوحيد للفوزان (39).
ـ عدم اشتراط لفظ أشهد:
لا يشترط في التلفظ ـ عند الدخول في الإسلام ـ بكلمة الشهادة أن يقول: (أشهد)، فلو قال: (لا إله إلا الله محمد رسول الله) حُكم بإسلامه، وأن المراد بالشهادتين: ذلك، لا أن يقول: لفظ: (أشهد)، وقد نقل الحليمي الاتفاق على ذلك[1].
والأدلة الصحيحة على ذلك كثيرة، منها:
قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة، من قال: لا إله إلا الله، خالصًا من قلبه، أو نفسه»[2] ، ولم يأت فيها ذكر (أشهد).
وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم لعمه أبي طالب: «يا عم قل: لا إله إلا الله» [3]. ولم يقل لفظ: (أشهد).
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله»[4].
وغيرها من الأحاديث.
[1] انظر: تحفة المحتاج في شرح المنهاج (1/471)، وتبصرة الحكام (1/262)، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير (4/165)، والطرق الحكمية لابن القيم (202)، والمحلى لابن حزم (10/640)، والاختيارات الفقهية لابن تيمية (361)، ووسائل الإثبات لمحمد الزحيلي (1/90).
[2] أخرجه البخاري (كتاب العلم، رقم 99).
[3] أخرجه البخاري (كتاب الجنائز، رقم 1360)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 24).
[4] أخرجه البخاري (كتاب الزكاة، رقم 1399)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 20).
من الآثار المترتبة على تحقيق شهادة أن محمدًا رسول الله:
ـ حصول السّعادة والهدى في متابعة الرّسول صلّى الله عليه وسلّم.
ـ حصول الضّلال والشّقاء في مخالفته صلّى الله عليه وسلّم.
ـ أنّ كلّ خير في الوجود ـ إمّا عامّ وإمَّا خاصّ ـ فمنشؤه من جهة الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم، وأنَّ كلَّ شرٍّ في العالم مختصٌّ بالعبد فسببه: مخالفة الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم أو الجهل بما جاء به.
ـ أنَّ سعادة العباد في معاشهم ومعادهم بتحقيق هذه الشهادة[1].
[1] انظر: مجموع الفتاوى (19/93).
1 ـ «أعلام السُّنَّة المنشورة»، لحافظ الحكمي.
2 ـ «تيسير العزيز الحميد»، لسليمان بن عبد الله.
3 ـ «جامع الرسائل» (ج1)، لابن تيمية.
4 ـ «حقوق النبي صلّى الله عليه وسلّم على أمَّته في ضوء الكتاب والسُّنَّة»، لمحمد بن خليفة التميمي.
5 ـ «زاد المعاد» (ج3)، لابن القيِّم.
6 ـ «شرح الأصول الثلاثة»، لابن عثيمين
7 ـ «فتح المجيد»، لعبد الرحمن بن حسن آل الشيخ.
8 ـ «القول المفيد على كتاب التوحيد»، لابن عثيمين.
9 ـ «مجموع الفتاوى» (ج3، 19)، لابن تيمية.
10 ـ «مدارج السالكين» (ج2)، لابن القيِّم.