قال ابن فارس: «الشين والهاء والدال أصل واحد يدل على حضور وعلم وإعلام، لا يخرج شيء من فروعه عن الذي ذكرناه؛ من ذلك: الشهادة؛ يجمع الأصول التي ذكرناها من الحضور، والعلم، والإعلام؛ يقال: شهد يشهد شهادة»[1].
والشهادة خبر قاطع، تقول منه: شهد الرجل على كذا، والشاهد: هو العالم الذي يبيِّن ما علمه، وشهد الشاهد عند الحاكم: أي: بيَّن ما يعلمه وأظهره، والمشاهدة: المعاينة، وشهده شهودًا؛ أي: حضره[2].
[1] مقاييس اللغة (3/221) [دار الجيل، ط1420هـ].
[2] انظر: لسان العرب (27/2348) [دار المعارف، القاهرة]، والقاموس المحيط (372) [مؤسسة الرسالة].
لا يجوز الشهادة لمعين بجنة أو نار، إلا من شهد له النص من القرآن والسُّنَّة بذلك؛ كشهادة القرآن أن أبا لهب وامرأته في النار، وكالوليد بن المغيرة، الذي سماه الله بالوحيد، وغيرهم من أهل النار، وكذلك من شهد له القرآن والسُّنَّة بالجنة؛ كالأنصار والمهاجرين، والعشرة المبشرين بالجنة، وأهل بدر، وبلال بن رباح، وعكاشة بن محصن، وغيرهم ممن نص على تعيينهم[1].
[1] انظر: الآداب الشرعية لابن مفلح (1/289) [مؤسسة الرسالة، ط3]، ومجموع الفتاوى (35/68) [مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، ط1416هـ]، وطريق الهجرتين (1/587) [دار ابن القيم، ط2، 1414هـ]، وتفسير ابن كثير (4/156) [دار الفكر، ط1401هـ]، وشرح الطحاوية (1/436، 537).
قال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً *} [الإسراء] .
وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ *} [الأعراف] .
وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: دعي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى جنازة صبي من الأنصار. فقلت: يا رسول الله طوبى لهذا؛ عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه. قال: «أوَغير ذلك يا عائشة؟ إن الله خلق للجنة أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم وخلق للنار أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم»[1].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم خيبر ففتح الله علينا فلم نغنم ذهبًا ولا ورقًا، غنمنا المتاع والطعام والثياب، ثم انطلقنا إلى الوادي ومع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عبد له وهبه له رجل من جذام يدعى رفاعة بن زيد من بني الضُّبيب، فلما نزلنا الوادي قام عبد رسول الله يحلُّ رحله فرمي بسهم فكان فيه حتفه، قلنا له: هنيئًا له الشهادة يا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال رسول الله: «كلاَّ والذي نفسه بيده؛ إن الشملة لتلتهب عليه نارًا، أخذها من الغنائم يوم خيبر لم تصبها المقاسم» . قال: ففزع الناس، فجاء رجل بشراك أو شراكين. فقال: يا رسول الله أصبت يوم خيبر. فقال رسول الله: «شراك من نار أو شراكان من نار»[2].
وعن أُمِّ العلاء رضي الله عنها أنها قالت: اقتسم المهاجرون قرعة، فطار لنا عثمان بن مظعون، فأنزلناه في أبياتنا، فوجع وجعه الذي توفي فيه، فلما توفي وغُسِّل وكُفِّن في أثوابه دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقلت: رحمةُ الله عليك أبا السائب فشهادتي عليك لقد أكرمك الله. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «وما يدريك أن الله أكرمه» . فقلت: بأبي أنت يا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فمن يكرمه الله؟ فقال: «أما هو فقد جاءه اليقين والله إني لأرجو له الخير، والله ما أدري وأنا رسول الله ما يُفعل بي» . قالت: فوالله لا أزكي أحدًا بعده أبدًا[3].
[1] أخرجه مسلم (كتاب القدر، رقم 2662).
[2] أخرجه البخاري (كتاب المغازي، رقم 4234)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 115).
[3] أخرجه البخاري (كتاب الجنائز، رقم 1243).
قال أبو بكر الإسماعيلي رحمه الله: «ولا يقطعون على أحد من أهل الملة أنه من أهل الجنة أو من أهل النار؛ لأن علم ذلك يغيب عنهم لا يدرون على ماذا الموت أعلى الإسلام أم على الكفر، ولكن يقولون: إن من مات على الإسلام مجتنبًا للكبائر والأهواء والآثام فهو من أهل الجنة، لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}، ولم يذكر عنهم ذنبًا {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ *جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ *} [البيِّنة] ، ومن شهد له النبي صلّى الله عليه وسلّم بعينه، وصح له ذلك عنه؛ فإنهم يشهدون له بذلك اتباعًا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتصديقًا لقوله»[1].
وقال الصابوني رحمه الله: «ويعتقد ويشهد أصحاب الحديث أن عواقب العباد مبهمة، لا يدري أحد بما يختم له، ولا يحكمون لواحد بعينه أنه من أهل الجنة، ولا يحكمون على أحد بعينه أنه من أهل النار؛ لأن ذلك مغيَّب عنه، لا يعرفون على ما يموت عليه الإنسان، أعلى إسلام، أم على كفر»[2].
وقال ابن تيمية رحمه الله: «ولهذا لا يشهد لمعيَّن بالجنة إلا بدليل خاص، ولا يشهد على معيَّن بالنار إلا بدليل خاص، ولا يشهد لهم بمجرد الظن من اندراجهم في العموم؛ لأنه قد يندرج في العمومين، فيستحق الثواب والعقاب لقوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ *وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ *} [الزلزلة] »[3].
[1] اعتقاد أئمة الحديث (68 ـ 69) [دار العاصمة، ط1، 1412هـ].
[2] عقيدة السلف وأصحاب الحديث (91) [دار المنهاج، ط1، 1423هـ].
[3] مجموع الفتاوى (35/68) [مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، ط1416هـ].
المسألة الأولى: مراد السلف بقولهم الشهادة بدعة:
قال أبو طالب: سألت أبا عبد الله أحمد بن حنبل: البراءة بدعة، والولاية بدعة، والشهادة بدعة؟ قال: «البراءة أن تتبرأ من أحد من أصحاب رسول الله. والولاية: أن تتولى بعضًا وتترك بعضًا. والشهادة: أن تشهد على أحد في النار»[1].
وقال ابن أبي العز الحنفي رحمه الله: «وهذا معنى قول السلف: الشهادة بدعة، والبراءة بدعة، يروى ذلك عن جماعة من السلف، من الصحابة والتابعين؛ منهم: أبو سعيد الخدري، والحسن البصري، وإبراهيم النخعي، والضحاك، وغيرهم، ومعنى الشهادة: أن يشهد على معيَّن من المسلمين أنه من أهل النار، أو أنه كافر، بدون العلم بما ختم الله له به»[2].
المسألة الثانية: هل يشهد للجنة بمن استفاض صلاحه واستقامته عند الناس؟
اختلف أهل العلم قديمًا في هذه المسألة على ثلاثة أقوال[3]:
القول الأول: أنه لا يشهد لأحد إلا للأنبياء عليهم السلام، وهذا قول محمد ابن حنفية، والأوزاعي، وعلي بن المديني، وغيرهم، مع أن بعضهم كابن المديني يقول: إن العشرة المبشرين في الجنة، لكن يأبى قول القائل: أشهد أنهم في الجنة[4].
القول الثاني: وهو أنه يشهد بالجنة لكل مؤمن جاء النص به، وهذا قول كثير من أهل الحديث.
القول الثالث: وهو أنه يشهد للجنة لكل مؤمن جاء النص به، ولمن شهد له المؤمنون بذلك؛ كمن استفاض صلاحه وعلمه وورعه؛ كالإمام مالك، والشافعي، وأحمد، وعمر بن عبد العزيز وغيرهم من أئمة الدين والصلاح.
ولهم أدلة استدلّوا بها من السُّنَّة، منها: ما جاء في الصحيحين عن أنس بن مالك قال: مَرُّوا بجنازة فأثنوا عليها خيرًا. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «وجبت» . ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرًّا. فقال: «وجبت» . فقال عمر بن الخطاب: ما وجبت؟ قال: «هذا أثنيتم عليه خيرًا فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم شرًّا فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض»[5].
وكذلك استدلوا بحديث أبي زهير الثقفي أنه قال: خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالنباوة أو البناوة ـ قال: والنَّباوة من الطائف ـ: قال: «يوشك أن تعرفوا أهل الجنة من أهل النار» . قالوا: بم ذلك يا رسول الله؟ قال: «بالثناء الحسن والثناء السيّئ»[6].
وقد مال إلى هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية؛ فقال عقب ذكره للأقوال: «والتحقيق أن هذا قد يعلم بأسباب، وقد يغلب على الظن، ولا يجوز للرجل أن يقول بما لا يعلم»[7].
فمن الأسباب التي يراها شيخ الإسلام ابن تيمية: إخبار النبي صلّى الله عليه وسلّم، وتواطؤ شهادات المؤمنين، الذين هم شهداء الله في الأرض، وتواطؤ رؤيا المؤمنين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «والقول بكون الرجل المعيَّن من أهل الجنة قد يكون سببه: إخبار المعصوم، وقد يكون سببه تواطؤ شهادات المؤمنين، الذين هم شهداء الله في الأرض، وقد يكون سببه تواطؤ رؤيا المؤمنين؛ فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لم يبق بعدي من النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المؤمن الرجل الصالح أو ترى له»[8]»[9].
وهناك من أهل العلم من قال: إن هذا خاص بالصحابة الذين زكاهم النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكانوا ينطقون بالحكمة، وهذا بخلاف من بعدهم[10].
ولهذا ذهب بعض أهل العلم المعاصرين أنه لا يشهد لأحد بجنة أو نار إلا من شهدت له النصوص.
قال الفوزان: «نحن لا نشهد لأحد مهما بلغ من الصلاح والتقى، لا نشهد له بالجنة؛ لأننا لا نعلم الغيب، ولا نحكم لأحد من المسلمين بالنار، مهما عمل من المعاصي؛ لأننا لا ندري بما ختم عليه، ومات عليه، وهذا في المعيَّن، فنحن ما لنا إلا الظاهر فقط، وكذلك لا يحكم لأحد بالنار، إلا من شهد له بذلك الرسول، سواء بجنة أو نار»[11].
المسألة الثالثة: حكم أطفال المسلمين الذين يموتون قبل البلوغ:
اختلف أهل العلم في أطفال المسلمين على قولين مشهورين[12]:
القول الأول: وهو أنهم في الجنة، وحكي في ذلك الإجماع.
عن جعفر بن محمد حدثهم قال: سمعت أبا عبد الله يسأل عن أطفال المسلمين؟ فقال: «ليس فيه اختلاف أنهم في الجنة»[13].
وممن نقل الإجماع على ذلك ابن عبد البر رحمه الله فقال: «قد أجمع العلماء على أن أطفال المسلمين في الجنة، ولا أعلم عن جماعتهم في ذلك خلافًا»[14].
وحكاه النووي رحمه الله أيضًا؛ فقال: «أجمع من يعتد به من علماء المسلمين على أن من مات من أطفال المسلمين فهو من أهل الجنة؛ لأنه ليس مكلفًا»[15].
وممن حكى الإجماع أيضًا ابن كثير[16]، وحكاه ابن حزم عن جمهور أهل العلم، بما فيهم أطفال المشركين[17].
وقال ابن القيِّم رحمه الله: «وهذا القول في أطفال المسلمين هو المعروف من قواعد الشرع»[18].
واستدلّوا بأدلة منها: من القرآن: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور: 21] .
ومن السُّنَّة: حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من الناس مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم»[19].
وعن أبي حسان قال: قلت لأبي هريرة: إنه قد مات لي ابنان فما أنت محدثي عن رسول الله بحديث تُطيِّب به أنفسنا عن موتانا؟ قال: نعم: «صغارهم دعاميص الجنة، يتلقى أحدهم أباه ـ أو قال: أبويه ـ فيأخذ بثوبيه ـ أو قال: بيده ـ كما آخذُ أنا بصَنِفةِ ثوبك هذا فلا يتناهى ـ أو قال: فلا ينتهي ـ حتى يدخله الله وأباه الجنة» [20]، وغيرها.
القول الثاني: وهو مذهب التوقف، وقد يكون المراد به: إما أنهم في التيه، فيجوز أن يدخلوا جميعهم الجنة، ويجوز أن يدخلوا جميعهم النار، أو المراد به: أن الله أعلم بما كانوا عاملين[21].
واستدلوا بأدلة منها: حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: دعي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى جنازة صبي من الأنصار. فقلت: يا رسول الله طوبى لهذا عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه. قال: «أو غير ذلك يا عائشة؟ إن الله خلق للجنة أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم»[22].
قالوا: هذا الحديث صريح صحيح في التوقف فيهم، فإن الصبي كان من أولاد المسلمين، وقد دعي النبي صلّى الله عليه وسلّم للصلاة عليه[23].
وكذلك حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه المشهور وفيه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد»[24].
قالوا: وجه الدلالة منه: أن جميع من يولد من بني آدم إذًا كتب السعداء والأشقياء منهم قبل أن يخلقوا، وجب علينا التوقف في جميعهم؛ لأنَّا لا نعلم هذا الذي توفي منهم هل كتب سعيدًا، أم شقيًّا؟[25].
والجواب: أنه إن كان المراد بالتوقف أنهم في التيه، وأنه يجوز أن يدخلوا الجنة، ويجوز أن يدخلوا النار، كما هو قول المجبرة، فهو قول باطل، مبني على أصل باطل، ومخالف لإجماع أهل العلم، ومخالف للأحاديث السابقة الصريحة في دخولهم الجنة.
وأما إن كان المراد بالتوقف أن الله أعلم بما كانوا عالمين، فهذا أيضًا مخالف للسُّنَّة الصحيحة الصريحة، وللإجماع، فالخلاف فيهم لا يعتد به، فلهذا أنكر الإمام أحمد وجود الاختلاف فيهم، وقال: «إنما اختلفوا في أطفال المشركين»[26].
وأما عن حديث عائشة أم المؤمنين، فجوابه من وجهين:
أحدهما: أن يكون المراد به أنه لا يشهد لكل معين من أطفال المسلمين أنه في الجنة، وإن أطلق في الجملة أنهم في الجنة، وهذا أقوى الوجهين.
قال ابن القيِّم رحمه الله: «فهذا الحديث يدل على أنه لا يشهد لكل طفل من أطفال المؤمنين بالجنة، وإن أطلق على أطفال المؤمنين في الجملة أنهم في الجنة، لكن الشهادة للمعين ممتنعة؛ كما يشهد للمؤمنين مطلقًا أنهم في الجنة، ولا يشهد لمعين بذلك إلا من شهد له النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ فهذا وجه الحديث الذي أشكل على كثير من الناس»[27].
الثاني: يحتمل أن يكون ذلك قبل نزول الخبر أنهم يدخلون الجنة[28].
وأما الجواب عن حديث عبد الله بن مسعود فإنه يدل على أن الله تعالى كتب شقاوة الأطفال وسعادتهم وهم في بطون أمهاتهم، ولا ننفي أن تكون الشقاوة والسعادة بأشياء علمها سبحانه وتعالى منهم، وهم عاملوها لا محالة، تفضي بهم إلى ما كتبه وقدره[29].
المسألة الرابعة: حكم أطفال الكفار الذين يموتون قبل البلوغ:
اختلف أهل العلم قديمًا وحديثًا في هذه المسألة على أقوال كثيرة[30]، أشهرها ثلاثة أقوال[31]:
القول الأول: وهو أنهم كلهم في نار جهنم؛ لأنهم ماتوا على غير الإسلام، وهذا قول طائفة من أهل السُّنَّة، وقول جماعة من المتكلمين، اختاره القاضي أبو يعلى، ونسبه إلى الإمام أحمد، وتعقبه ابن تيمية، وقال: هو غلط عليه[32]، ونسبه ابن حزم إلى الأزارقة من الخوارج[33].
وقد استدلّوا بأدلة لا تقوى، وهي ضعيفة[34]، وأجود ما احتجوا به حديث عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله ذراري المؤمنين؟ فقال: «من آبائهم» . فقلت: يا رسول الله بلا عمل؟! قال: «الله أعلم بما كانوا عاملين» . قلت: يا رسول الله فذراري المشركين؟. قال: «هم من آبائهم» . فقلت: يا رسول الله بلا عمل؟! قال: «الله أعلم بما كانوا عاملين»[35].
والجواب من وجهين؛ أحدهما: أن حديث عائشة رضي الله عنها قد ضعفه غير واحد من أهل العلم، وعلى تقدير ثبوته فإن النبي قال: «هم من آبائهم» ولم يقل هم معهم، وفرق بين الحرفين، وكونهم منهم لا يقتضي أن يكونوا معهم في أحكام الآخرة، بخلاف كونهم منهم فإنه يقتضي أن تثبت لهم أحكام الآباء في الدنيا، من التوارث، والحضانة، والنسب وغير ذلك[36].
الثاني: أنه يدلُّ على أن الذين يلحقون بآبائهم هم الذين علم الله أنهم لو عاشوا لاختاروا الكفر، وعملوا به، فهؤلاء مع آبائهم، وقول عائشة رضي الله عنها بلا عمل؛ أي: أنهم يلحقون بهم بلا عمل عملوه في الدنيا، ولا ينفي هذا أن يلحقوا بهم بأسباب أخرى، يمتحنهم بها في عرصات القيامة[37]، كما سيأتي تحقيقه.
القول الثاني: أنهم كلهم في الجنة، وهو قول طائفة من المفسرين، والمتكلمين، واختاره ابن الجوزي، ورجحه النووي[38]، وذكر ابن حجر أن تراجم البخاري في صحيحه تشير إلى أنه من الذاهبين إلى هذا القول بعدما كان يرى التوقف فيهم[39] ونسبه ابن حزم إلى الجمهور، ونصره[40].
ومن هؤلاء من يقول: إنهم خدم أهل الجنة، ومنهم من يقول: هم من أهل الأعراف[41]، وأهل الأعراف مآلهم إلى الجنة على الصحيح؛ لأن الأعراف ليست دار قرار[42].
واستدل أصحاب هذا القول بأدلة؛ من أظهرها: ما رواه سمرة بن جندب رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وفيه: «فانطلقنا فأتينا على روضة معْتَمَّة فيها من كل لون الربيع، وإذا بين ظهري الروضة رجل طويل لا أكاد أرى رأسه طولاً في السماء وإذا حول الرجل من أكثر من ولدان رأيتهم قط. قال: قلت لهما: ما هذا، ما هؤلاء؟. قال: قالا لي: انطلق انطلق. ـ إلى أن قال ـ: وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإنه إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم، وأما الولدان الذين حوله فكل مولود مات على الفطرة. قال: فقال بعض المسلمين: يا رسول الله وأولاد المشركين؟. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: وأولاد المشركين»[43].
قالوا: هذا الحديث صحيح صريح في أنهم في الجنة، ورؤيا الأنبياء حق.
واستدلّوا أيضًا بحديث أبي هريرة أنه قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: « كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه كمثل البهيمة تنتج البهيمة هل ترى فيها جدعاء»[44].
قالوا: فقد أخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أن كل مولود يولد على الفطرة، وإنما يهوّده وينصّره أبواه، فإن مات قبل التهويد والتنصير مات على الفطرة».
واحتجّوا أيضًا بالآيات التي فيها نفي العذاب عمن لم تبلغه الدعوة؛ كقوله : {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً *} [الإسراء] ، وقوله: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] ، وغيرها.
القول الرابع: التوقف، والمراد بالتوقف هو قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الله أعلم بما كانوا عاملين» [45]، فمن علم الله منه إذا بلغ أطاع أدخله الجنة، ومن علم منه أنه يعصي أدخله النار، ثم هم صنفان[46]:
الأول: منهم من يقول: إنه يجزيهم بمجرد علمه فيهم، كما يحكى هذا القول عن أبي العلاء القشيري المالكي.
الثاني: وهم الأكثرون يقولون: لا يجزي على علمه بما سيكون حتى يكون، فيمتحنهم يوم القيامة، ويمتحن سائر من لم تبلغه الدعوة في الدنيا، فمن أطاع حينئذ دخل الجنة، ومن عصى دخل النار، فهناك يظهر فيهم ما علمه الله سبحانه، ويجزيهم على ما ظهر من العلم، وهو إيمانهم وكفرهم، لا على مجرد العلم، وهذا القول منقول عن غير واحد من السلف؛ من الصحابة والتابعين[47]، وهو المذهب الثامن الذي حكاه ابن القيِّم في طريق الهجرتين[48]، وحكاه الأشعري عن أهل السُّنَّة والجماعة في مقالاته[49].
وهذا القول الأخير هو الذي رجحه ابن تيمية، وابن القيِّم، وابن كثير، وغيرهم من أهل العلم سلفًا وخلفًا[50]، وهو الذي تدل عليه الأصول المعلومة من الكتاب والسُّنَّة.
فمن الكتاب: قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً *} [الإسراء] ، وقوله: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] ، وقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ *} [القصص] .
ومن السُّنَّة: حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أولاد المشركين فقال: «الله إذ خلقهم أعلم بما كانوا عاملين»[51].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سُئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ذراري المشركين فقال: «الله أعلم بما كانوا عاملين»[52].
وعن الأسود بن سريع أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أربعة يحتجون يوم القيامة: أصم، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في الفترة، فأما الأصم فيقول: يا رب، لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئاً، وأما الأحمق فيقول: يا رب جاء الإسلام والصبيان يقذفوني بالبعر، وأما الهرم فيقول: لقد جاء الإسلام وما أعقل، وأما الذي مات في الفترة فيقول: رب ما أتاني رسولك، فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه فيرسل إليهم رسولاً أن ادخلوا النار. قال: فوالذي نفسي بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردًا وسلامًا»[53].
[1] السُّنَّة للخلال رقم (763) (2/479) [دار الراية، ط1، 1410هـ].
[2] شرح العقيدة الطحاوية (2/697).
[3] انظر: منهاج السُّنَّة النبوية (5/295) و(6/203)، والنبوات (1/154) [أضواء السلف، ط1، 1420هـ]، وشرح العقيدة الطحاوية (2/538).
[4] جرت في ذلك مناظرة بين علي بن المديني وأحمد بن حنبل؛ حيث ألزمه الإمام أحمد أنه ما دام يقول عن العشرة أنهم في الجنة لزمه الشهادة لهم بذلك، فلا يشترط في الشهادة لفظ أشهد. انظر: منهاج السُّنَّة (6/203) [جامعة الإمام، ط1، 1406هـ]، وزاد المعاد (3/639) [مؤسسة الرسالة، ط14، 1407هـ].
[5] أخرجه البخاري (كتاب الجنائز، رقم 1367)، ومسلم (كتاب الجنائز، رقم 949).
[6] أخرجه ابن ماجه (كتاب الزهد، رقم 4221)، وأحمد (39/504) [مؤسسة الرسالة، ط1]، والحاكم (كتاب العلم، رقم 413) وصحَّحه، وصحح إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (4/241) [دار العربية، ط2]، وحسَّنه الألباني في تعليقه على سنن ابن ماجه.
[7] النبوات (1/156).
[8] أخرجه البخاري (كتاب التعبير، رقم 6990)، ومسلم (كتاب الصلاة، رقم 479)، بنحو اللفظ الذي ذكره شيخ الإسلام.
[9] منهاج السُّنَّة (3/497 ـ 499).
[10] انظر: فتح الباري لابن حجر (4/152) [دار طيبة، ط1، 1426هـ].
[11] التعليقات المختصرة على متن الطحاوي (163) [دار العاصمة، ط1421هـ].
[12] انظر: التمهيد لابن عبد البر (6/348 ـ 349) (18/111)، والفصل لابن حزم (4/127) [دار الجيل، ط2]، وأحكام أهل الذمة لابن القيم (2/1071) [دار العاصمة، ط1421هـ]، وطريق الهجرتين (2/841) [دار عالم الفوائد، ط1، 1429هـ].
[13] أحكام أهل الملل من الجامع لمسائل الإمام أحمد لأبي بكر الخلال (11 رقم 12) [دار الكتب العلمية، ط1].
[14] التمهيد (6/348 ـ 349).
[15] المنهاج شرح صحيح مسلم (16/207) [المطبعة المصرية بالأزهر، ط1، 1349هـ].
[16] انظر: تفسير ابن كثير (8/460).
[17] انظر: الفصل (4/127).
[18] أحكام أهل الذمة (2/1083).
[19] أخرجه البخاري (كتاب الجنائز، رقم 1381).
[20] أخرجه مسلم (كتاب البر والصلة والآداب، رقم 2635).
[21] انظر: التمهيد (6/348 ـ 349) (18/111 ـ 112)، ودرء التعارض (8/436).
[22] أخرجه مسلم (كتاب القدر، رقم 2662).
[23] أحكام أهل الذمة (2/1072).
[24] أخرجه البخاري (كتاب بدء الخلق، رقم 3208)، ومسلم (كتاب القدر، رقم 2643).
[25] أحكام أهل الذمة (2/1072).
[26] أحكام أهل الملل لأبي بكر الخلال (12 رقم 14).
[27] طريق الهجرتين (2/864).
[28] انظر: الاعتقاد للبيهقي (181) [ط1، 1418هـ].
[29] أحكام أهل الذمة (2/1072 ـ 1073)، وانظر: الاعتقاد للبيهقي (183).
[30] أقل الأقوال ثلاثة، حكاها النووي في شرح صحيح مسلم (16/207، 12/50)، وأكثرها عشرة حكاها ابن القيم في أحكام أهل الذمة (2/1086)، وحكى فيها ثمانية أقوال في طريق الهجرتين (2/842)، وحكى فيها ابن تيمية خمسة أقوال في درء التعارض (8/435 ـ 436)، وغيرهم.
[31] انظر: التمهيد لابن عبد البر (18/111) [ط1369هـ]، والفصل لابن حزم (4/127) [دار الجيل، ط2]، ومجموع الفتاوى لابن تيمية (24/372)، ودرء التعارض (8/435) [جامعة الإمام، 1411هـ]، وأحكام أهل الذمة لابن القيم (2/1071) [دار العاصمة، ط1421هـ]، وطريق الهجرتين (2/841) [دار عالم الفوائد، ط1، 1429هـ]، وتفسير ابن كثير (8/454) [مؤسسة قرطبة، ط1، 1421هـ]، وفتح الباري لابن حجر (4/178) [مؤسسة قرطبة، ط1، 1421هـ].
[32] مجموع الفتاوى (24/372)، وانظر منه: (4/303).
[33] الفصل (4/127).
[34] انظر: طريق الهجرتين (2/847)، وفتح الباري لابن حجر (4/178).
[35] أخرجه أبو داود (كتاب السُّنَّة، رقم 4712)، وأحمد (41/95) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وصحح إسناده الألباني في أحكامه على سنن أبي داود (851) [مكتبة المعارف، ط1424هـ].
[36] انظر: طريق الهجرتين لابن القيم (2/862)، وأحكام أهل الذمة له (2/1108).
[37] انظر: طريق الهجرتين (2/845).
[38] المنهاج شرح صحيح مسلم (12/50).
[39] فتح الباري (4/177 ـ 178).
[40] الفصل (4/127).
[41] انظر: درء التعارض (8/435).
[42] انظر: تفسير ابن كثير (8/460).
[43] أخرجه البخاري (كتاب التعبير، رقم 7047).
[44] أخرجه البخاري (كتاب الجنائز، رقم 1385)، ومسلم (كتاب القدر، رقم 2658).
[45] أخرجه البخاري (كتاب القدر، رقم 6597)، ومسلم (كتاب القدر، رقم 2660)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[46] انظر: درء التعارض (8/436).
[47] انظر: درء التعارض (8/436)، ومجموع الفتاوى لابن تيمية (4/246، 281، 303) (24/372).
[48] طريق الهجرتين (2/864).
[49] مقالات الإسلاميين (1/349).
[50] انظر: أحكام أهل الملل (14 رقم 22)، والتمهيد لابن عبد البر (18/111 ـ 112)، ومجموع الفتاوى لابن تيمية (24/372)، وطريق الهجرتين (2/864)، وتفسير ابن كثير (8/455).
[51] تقدم تخريجه.
[52] أخرجه البخاري (كتاب الجنائز، رقم 1384)، ومسلم (كتاب القدر، رقم 2658).
[53] أخرجه أحمد (26/228) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وابن حبان (ذكر الأخبار عن وصف قوم يحتجون على الله يوم القيامة، رقم 7357) [مؤسسة الرسالة، ط2]، واللفظ له، والطبراني في الكبير (1/287) [مكتبة ابن تيمية، ط 2]، وصحَّحه عبد الحق الإشبيلي وابن القيم. انظر: طريق الهجرتين (397 ـ 398) [دار السلفية، ط2]، وصحَّحه الألباني أيضًا في السلسلة الصحيحة (3/419).
1 ـ «عقيدة السلف أصحاب الحديث»، للصابوني.
2 ـ «الآداب الشرعية»، لابن مفلح.
3 ـ «طريق الهجرتين»، لابن القيِّم.
4 ـ «أحكام أهل الملل»، لأبي بكر الخلال.
5 ـ «شرح العقيدة الطحاوية»، لابن أبي العز الحنفي.
6 ـ «أحكام أهل الذمة»، لابن قيم الجوزية.
7 ـ «زاد المعاد»، لابن القيِّم.
8 ـ «بدائع الفوائد»، لابن القيِّم.
9 ـ «النبوات»، لابن تيمية.
10 ـ «منهاج السُّنَّة النبوية»، لابن تيمية.
11 ـ «أهل الفترة ومن في حكمهم»، لموفق شكري.