قال ابن الأثير: «الشهيد في الأصل: من قُتل مجاهدًا في سبيل الله، ويجمع على شهداء، ثم اتُّسع فيه فأُطلق على من سماه النبي صلّى الله عليه وسلّم من؛ المبطون، والغرق، والحرق، وصاحب الهدم، وذات الجنب، وغيرهم»[1].
وعلى هذا يكون للشهداء معنيان:
1 ـ معنى عام: وهم الذين أطلق عليهم تسمية شهداء وإن لم يموتوا في المعركة.
2 ـ معنى خاص: الذين قتلوا في سبيل الله في المعركة.
[1] النهاية في غريب الحديث (2/513) [المكتبة العلمية].
مما قيل في سبب تسمية الشهداء بذلك:
1 ـ أنّ ملائكة الرحمة تشهدهم.
2 ـ أنهم يشهدون في تلك الحالة ما أعد لهم من النعيم.
3 ـ أنهم تشهد أرواحهم عند الله.
4 ـ أن الله تعالى وملائكته شهود لهم بالجنة.
5 ـ أنّهم ممّن يستشهد يوم القيامة على الأمم الخالية.
6 ـ لسقوطهم على الشاهدة؛ أي: الأرض.
7 ـ لأنهم أحياء حضور عند ربهم.
8 ـ لأنهم يشهدون ملكوت الله وملكه.
للشهداء منزلة عظيمة عند الله عزّ وجل، شرَّفهم الله وخصَّهم بها، وما هذا إلا لما بذلوا من أنفسهم وأموالهم في سبيل الله عزّ وجل. فقد أخبر الله سبحانه وتعالى أنّ منزلتهم رفيعة، فقال: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ} [النساء: 69] .
كما أخبر سبحانه أنهم أحياء يرزقون، فقال تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ *} [آل عمران] .
وأنّ لهم أجرهم ونورهم، فقال تعالى: {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} [الحديد: 19] .
وأخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم أنّ: «للشهيد عند الله ست خصال، يغفر له في أول دفعة، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه»[1].
وأخبر صلّى الله عليه وسلّم كذلك أنّ «أرواح الشهداء في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل»[2].
ولما للشهداء من منزلة عند الله تعالى، يتمنّون الرجوع والشهادة مرة أخرى في سبيل الله، ففي الحديث قال صلّى الله عليه وسلّم: «ما من أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا، وأن له ما على الأرض من شيء، غير الشهيد فإنه يتمنى أن يرجع، فيقتل عشر مرات، لما يرى من الكرامة»[3].
[1] أخرجه الترمذي (أبواب فضائل الجهاد، رقم 1663) وصحَّحه، وابن ماجه (كتاب الجهاد، رقم 2799)، وأحمد (28/419) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وصحَّحه الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 3213).
[2] أخرجه مسلم (كتاب الإمارة، رقم 1887).
[3] أخرجه البخاري (كتاب الجهاد والسير، رقم 2817)، ومسلم (كتاب الإمارة، رقم 1877).
أما من القرآن:
فقوله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ *فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ *} [آل عمران] .
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ *} [الحديد] .
وقوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا *} [النساء] .
وأمّا من السُّنَّة:
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيء إلا الشهيد، يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات؛ لما يرى من الكرامة»[1].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن في الجنة مِائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، كل درجتين ما بينهما كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة»[2].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أيّ العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله ، قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور»[3].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال صلّى الله عليه وسلّم: «الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغرق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله»[4].
[1] تقدم تخريجه قريبًا.
[2] أخرجه البخاري (كتاب التوحيد، رقم 7423).
[3] أخرجه البخاري (كتاب الإيمان، رقم 26)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 83).
[4] أخرجه البخاري (كتاب الجهاد والسير، رقم 2829)، ومسلم (كتاب الإمارة، رقم 1914).
قسَّم العلماء الشهداء إلى ثلاثة أقسام[1]:
1 ـ شهداء في أحكام الدنيا وثواب الآخرة:
وهم الذين قتلوا في حرب الكفار بسبب من أسباب القتال، وهذا القسم لا يغسَّلون ولا يصلّى عليهم، ويدفنون في ثيابهم.
2 ـ شهداء في ثواب الآخرة دون أحكام الدنيا:
كالمبطون والمطعون وصاحب الهدم ومن قتل دون ماله، وغيرهم ممن جاءت الأحاديث الصحيحة بتسميتهم شهداء، وهؤلاء يغسَّلون ويصلّى عليهم، ولهم في الآخرة ثواب الشهداء، ولا يلزم أن يكون ثوابهم مثل ثواب القسم الأول.
3 ـ شهداء في أحكام الدنيا:
وهم الذين قتلوا في حرب الكفار لكنهم قاتلوا لغرض دنيوي، أو غلّوا من الغنيمة، وشبه ذلك ممن وردت الآثار بنفي تسميته شهيدًا، فلا يغسّلون ولا يصلّى عليهم، لكن ليس لهم ثوابهم الكامل في الآخرة.
المراتب:
تتفاوت مراتب الشهداء ودرجاتهم، ولا يلزم من وصفهم بأنهم شهداء أن تتساوى منازلهم.
ففي الحديث: «إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة...»[2].
قال ابن حجر بعد ذكر بعض من وصف في النصوص بالشهادة: «قال ابن التين: هذه كلها ميتات فيها شدة تفضل الله على أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم، بأن جعلها تمحيصًا لذنوبهم وزيادة في أجورهم، يبلغهم بها مراتب الشهداء، قلت: والذي يظهر أن المذكورين ليسوا في المرتبة سواء»[3].
[1] انظر: المجموع للنووي (5/264) [دار الفكر].
[2] تقدم تخريجه.
[3] فتح الباري (6/44) [دار المعرفة].
المسألة الأولى: الشهيد من أسماء الله:
وقد ورد هذا الاسم في كثير من النصوص، كما في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا *} [النساء] ، وقوله تعالى: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا *} [النساء] . ومعناه: «الذي لا يغيب عنه شيء، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء؛ بل هو مطلع على كل شيء مشاهد له، عليم بتفاصيله»[1].
ومن معانيه أيضًا: شهادته لنفسه بالوحدانية، كما قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ *} [آل عمران] .
قال ابن أبي العز: «فشهادة الله سبحانه لنفسه بالوحدانية والقيام بالقسط تضمنت هذه المراتب الأربع، علمه بذلك سبحانه، وتكلمه به، وإعلامه وإخباره لخلقه به، وأمرهم وإلزامهم به»[2].
المسألة الثانية: حكم قول: فلان شهيد:
الذي عليه أهل السُّنَّة والجماعة عدم الشهادة والقطع للمعين بالجنة والنار، إلا من شهد له الله تعالى أو رسوله صلّى الله عليه وسلّم بذلك. فعن زهير بن عباد قال: «كل من أدركت من المشايخ؛ مالك بن أنس، وسفيان بن عيينة، وعيسى بن يونس، وفضيل بن عياض، وعبد الله بن المبارك، ووكيع بن الجراح، وغيرهم لا يكفّرون أحدًا بذنب، ولا يشهدون لأحد أنه في الجنة وإن لم يعص الله، ولا أنه في النار وإن عمل الكبائر، ومن خالف هذا فهو عندهم مبتدع»[3].
وقال أبو القاسم التيمي: «ومن مذهب أهل السُّنَّة: أنهم لا يشهدون على أحد من أهل القبلة بالنار، وإن مات على كبيرة من الكبائر، ولا يشهدون لأحد أنه في الجنة، إلا لمن شهد له النبي صلّى الله عليه وسلّم»[4].
وقد اختلف أهل العلم في إطلاق لفظ الشهيد على المعين على قولين[5]:
القول الأول: أنّه لا يجوز الحكم على شخص بعينه أنّه شهيد إلا من جاء الوحي بالشهادة له، وأمّا على سبيل الإجمال والإطلاق فلا بأس بذلك.
قال البخاري: «باب: لا يقول فلان شهيد». قال ابن حجر: «أي: على سبيل القطع بذلك إلا إن كان بالوحي...»[6].
واستدلّوا بعدة أدلة، منها: قوله صلّى الله عليه وسلّم: «والله أعلم بمن يجاهد في سبيله، والله أعلم بمن يكلم في سبيله»[7].
القول الثاني: جواز الشهادة لمعيَّن بالشهادة.
واستدلَّ أصحاب هذا القول ببعض الآثار المروية عن الصحابة ومن بعدهم في إطلاق هذا اللفظ على بعض من مات في المعركة.
والراجح ـ والله أعلم ـ عدم جواز الشهادة لمعين بأنه شهيد، إلا من شهد له الوحي بذلك، أو أطلق عليه في النصوص على سبيل الإجمال والإطلاق أو الاستثناء؛ كأن يقال: أرجو له الشهادة، أو شهيد إن شاء الله.
[1] مدارج السالكين (3/433) [دار الكتاب العربي].
[2] شرح الطحاوية لابن أبي العز (1/44) [مؤسسة الرسالة، ط10].
[3] أصول السُّنَّة لابن أبي زمنين (222) [مكتبة الغرباء]
[4] الحجة في بيان المحجة (2/286) [دار الراية، ط2].
[5] انظر: أحكام الشهيد في الفقه الإسلامي لعبد الرحمن العمري (53 ـ 69) [رسالة ماجستير بجامعة أم القرى]، والشهادة لمعين بالشهادة لسليمان الدبيخي (19 ـ 36).
[6] فتح الباري (6/90).
[7] هذا اللفظ مركب من حديثين: أولهما: أخرجه البخاري (كتاب الجهاد والسير، رقم 2787)، بلفظ: «مثل المجاهد في سبيل الله، والله أعلم بمن يجاهد في سبيله...» الحديث. والثاني: أخرجه البخاري (كتاب الجهاد والسير، رقم 2803)، ومسلم (كتاب الإمارة، رقم 1876)، بلفظ: «لا يُكْلَمُ أحد في سبيل الله، والله أعلم بمن يكلم في سبيله...» الحديث.
ثمرات الشهادة في سبيل الله كثيرة، تضافرت النصوص في بيانها وقد مر طرف منها في منزلة الشهداء، ومن هذه الثمرات[1]:
ـ أن الشهداء لا يفتنون في قبورهم.
ـ أنّ الشهداء يغفر لهم كل شيء إلا الدَّين.
ـ أنّ الشهداء لا يجدون ألم القتل إلا كما يجد الواحد مس القرصة.
ـ أنّ الأرض لا تأكل أجساد الشهداء.
ـ أن الشهداء يأتون يوم القيامة؛ اللون لون الدم والريح ريح المسك.
ـ أنّ الشهداء يتمنون الرجوع إلى الدنيا؛ ليقتلوا مرة أخرى.
ـ أنّ الشهداء يشفعون لسبعين من أقاربهم.
[1] انظر: الشهادة وأجر الشهيد في ضوء الكتاب والسُّنَّة لصالحة فطاني (191 ـ 219) [رسالة ماجستير بجامعة أم القرى، نوقشت عام 1985م].
1 ـ «الحجة في بيان المحجة»، للتيمي.
2 ـ «النهاية في غريب الحديث»، لابن الأثير.
3 ـ «المجموع شرح المهذب»، للنووي.
4 ـ «مدارج السالكين»، لابن القيِّم.
5 ـ «شرح الطحاوية»، لابن أبي العز.
6 ـ «فتح الباري»، لابن حجر.
7 ـ «أحكام الشهيد في الفقه الإسلامي»، لعبد الرحمن العمري.
8 ـ «الشهادة لمعين بالشهادة»، لسليمان الدبيخي.
9 ـ «الشهادة وأجر الشهيد في ضوء الكتاب والسُّنَّة»، لصالحة فطاني.