الصالحون: جمع الصالح، اسم فاعل من الصلاح.
والصلاح ضد الفساد.
قال ابن فارس: «الصاد واللام والحاء أصل واحد يدل على خلاف الفساد، يقال: صلح الشيء يصلح صلاحًا»[1].
ويقال: رجل صالح في نفسه من قوم صلحاء، مصلح في أعماله وأموره[2].
[1] مقاييس اللغة (3/303) [دار الفكر، 1399هـ].
[2] انظر: تهذيب اللغة (4/142) [دار إحياء التراث العربي، ط1]، ولسان العرب (2/516) [دار صادر، ط4].
حقيقة الصالحين تتجلى في كونهم صلح باطنهم وظاهرهم، وهذا الصلاح إنما هو راجع في الحقيقة إلى صلاح قلوبهم، ولذلك قال صلّى الله عليه وسلّم: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»[1]
والله سبحانه هو الذي يجعل من يشاء صالحًا، فمن استعان بالله وبذل الأسباب حريٌّ بهذا الصلاح، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ *} [العنكبوت] .
[1] أخرجه البخاري (كتاب الإيمان، رقم 52)، ومسلم (كتاب المساقاة، رقم 1599).
منزلة الصالحين عظيمة، ومكانتهم جليلة عند الله عزّ وجل وعند خلقه كذلك، فإنّ الله تعالى أبان عن هذه المنزلة فقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَانُ وُدًّا *} [مريم] ، قال مجاهد: «يحبهم ويحبّبهم إلى المؤمنين»[1].
ولعظيم هذه المنزلة قرنها الله تعالى بمنزلة النبيين والصديقين؛ تكريمًا لهم وبيانًا لمنزلتهم، فقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا *} [النساء] .
بل وصف الله تعالى بها أنبياءه الذين هم خيرته من خلقه، فقد وصف الله تعالى إبراهيم بأنه من الصالحين، فقال: {وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ *} [النحل] .
ووصف نوحًا ولوطًا بذلك، فقال: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامَرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا} الآية [التحريم: 10] .
ووصف عيسى بذلك، فقال: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ *} [آل عمران] .
ووصف زكرياء ويحيى وإلياس بذلك، فقال: {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ *} [الأنعام] .
ووصف إسحاق ويعقوب بذلك، فقال: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ *} [الأنبياء] .
وكذلك وصف إسماعيل وإدريس وذا الكفل، فقال: {وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ *} [الأنبياء] .
[1] تفسير الطبري (15/643).
من القرآن: قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ *} [العنكبوت] .
وقوله جلّ جلاله: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ *} [الأنبياء] .
وقوله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ *} [العنكبوت] .
وقوله : {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا *} [النساء] .
وأمّا الأحاديث النبوية فكثيرة، منها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «قال الله عزّ وجل : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر». قال أبو هريرة رضي الله عنه: اقرؤوا إن شئتم: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *} [السجدة] »[1].
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله هو السلام، فإذا صلى أحدكم، فليقل: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ـ فإنكم إذا قلتموها أصابت كل عبد لله صالح في السماء والأرض ـ أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله»[2].
[1] أخرجه البخاري (كتاب بدء الخلق، رقم 3244)، ومسلم (كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، رقم 2824).
[2] أخرجه البخاري (كتاب الأذان، رقم 831)، ومسلم (كتاب الصلاة، رقم 402).
1 ـ قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «إذا ذكرت الصالحين فحيِّ أهلاً بعمر، كنّا نعدّ أنّ السكينة تنطق على لسان عمر»[1].
2 ـ عن معاوية بن قرة قال: «قال لقمان لابنه: يا بني، جالس الصالحين من عباد الله؛ فإنك تصيب من محاسنهم خيرًا، ولعله أن يكون آخر ذلك أن تنزل عليهم الرحمة، فتصيبك معهم...»[2].
3 ـ قال سفيان بن عيينة: «عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة»[3].
4 ـ كان مالك بن دينار يقول: «اللَّهُمَّ أنت أصلحت الصالحين، فأصلحنا حتى نكون صالحين»[4].
[1] الإمامة والرد على الرافضة لأبي نعيم (1/281) [مكتبة العلوم والحكم، ط3، 1415هـ].
[2] الزهد لأحمد (1/87) [دار الكتب العلمية، ط1].
[3] حلية الأولياء لأبي نعيم (7/285) [دار الكتب العلمية، ط1].
[4] التوبة لابن أبي الدنيا (75) [مكتبة القرآن].
المسألة الأولى: حقيقة الصالحين:
مما ينبغي أن يعلم أن الصلاح ليس شعارًا يُرفع ولا حقيقة له، ولا ادعاء يُدّعى دون برهان عليه؛ بل هو أمر له أساس متين يقوم بنيانه عليه.
وهذا الأساس الذي يقوم عليه هذا البنيان وبه تعرف حقيقة الصالحين هو ما بيّنه النبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»[1].
فصلاح حركات العبد بجوارحه، بحسب صلاح حركة قلبه، ولهذا يقال: القلب ملك الأعضاء، وبقية الأعضاء جنوده، وهم مع هذا جنود طائعون له، منبعثون في طاعته، وتنفيذ أوامره، لا يخالفونه في شيء من ذلك، فإن كان الملك صالحًا كانت هذه الجنود صالحة[2].
وبهذا يعلم أنّ صلاح القلب هو الذي يبين حقيقة الصالحين ويزيد في منزلتهم ومكانتهم.
المسألة الثانية: الغلوّ في الصالحين سبب كفر بني آدم:
حذر النبي صلّى الله عليه وسلّم من الغلو، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «إياكم والغلوَّ في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلوُّ في الدين»[3].
ومن شر أنواع الغلو التي تدخل في هذا التحذير الغلوُّ في الصالحين؛ إذ هو من أعظم أسباب وقوع الشرك، وهو الباب المفضي إلى الشرك قديمًا وحديثًا.
وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا *} [نوح] أنه قال: «أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا وسموها بأسمائهم، ففعلوا ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت»[4].
[1] سبق تخريجه.
[2] انظر: جامع العلوم والحكم (1/210) [مؤسسة الرسالة، ط7، 1422هـ]..
[3] أخرجه النسائي (كتاب مناسك الحج، رقم 3057)، وابن ماجه (كتاب المناسك، رقم 3029)، وأحمد (3/350) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وابن خزيمة (كتاب المناسك، رقم 2867)، وصحَّحه شيخ الإسلام في الاقتضاء (1/328) [دار عالم الكتب، ط7]، والألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 1283).
[4] أخرجه البخاري (كتاب التفسير، رقم 4920). وانظر: تيسير العزيز الحميد (254) [المكتب الاسلامي، ط1، 1423هـ].
من الثمرات الجليلة التي خص الله بها عباده الصالحين:
1 ـ أنّه يتولاهم في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ *} [الأعراف] . قال ابن رجب: «وذلك يتضمن أنه يتولى مصالحهم في الدنيا والآخرة، ولا يكلهم إلى غيره»[1].
2 ـ أن الله يدخلهم في رحمته، كما قال تعالى: {وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ *} [الأنبياء] .
3 ـ أنّ الله أعدّ لهم الدرجات العلا، كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى *} [طه] .
4 ـ أنّ الله وعدهم بالمغفرة، فقال تعالى: {إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا *} [الإسراء] .
5 ـ أنّه يحفظ ذريتهم من بعدهم ولذلك، قال الله عن الغلامين اليتيمين: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا *} الآية [الكهف] . قال ابن عباس رضي الله عنهما: «حُفِظا بصلاح أبيهما، وما ذكر منهما صلاح»[2].
وقال ابن كثير: «فيه دليل على أن الرجل الصالح يحفظ في ذريته، وتشمل بركة عبادته لهم في الدنيا والآخرة، بشفاعته فيهم ورفع درجتهم إلى أعلى درجة في الجنة لتقر عينه بهم»[3].
6 ـ أنّ الله أعد لهم في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قال الله عزّ وجل : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر»، قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *} [السجدة] »[4].
[1] نور الاقتباس في مشكاة وصية النبي صلّى الله عليه وسلّم لابن عباس (63) [دار البشائر الإسلامية ط1، 1414هـ].
[2] تفسير الطبري (15/366) [دار هجر،ط1].
[3] تفسير ابن كثير (5/186) [دار طيبة، ط2].
[4] سبق تخريجه.
الناس في معاملة الصالحين ثلاثة أقسام:
1 ـ أهل الجفاء الذين يهضمونهم حقوقهم، ولا يقومون بحقهم من الحب والموالاة لهم والتوقير والتبجيل.
2 ـ وأهل الغلو الذين يرفعونهم فوق منزلتهم التي أنزلهم الله بها.
3 ـ وأهل الحق الذين يحبونهم ويوالونهم، ويقومون بحقوقهم الحقيقية ولكنهم يبرؤون من الغلو فيهم وادعاء عصمتهم؛ لأن الصالحين أنفسهم يتبرؤون من أن يدّعوا لأنفسهم حقًّا من حقوق ربهم الخاصة، كما قال الله عن عيسى صلّى الله عليه وسلّم: {قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} [المائدة: 116] [1].
[1] انظر: القول السديد للسعدي (79) [دار المغني، ط1].
1 ـ «الزهد للإمام»، أحمد.
2 ـ «تفسير الطبري».
3 ـ «جامع العلوم والحكم»، لابن رجب.
4 ـ «حلية الأولياء»، لأبي نعيم الأصبهاني.
5 ـ «الإمامة والرد على الرافضة»، لأبي نعيم الأصبهاني.
6 ـ «تفسير ابن كثير».
7 ـ «مجموع الفتاوى»، لابن تيمية.
8 ـ «تيسير العزيز الحميد»، لسليمان بن عبد الله.
9 ـ «نور الاقتباس في مشكاة وصية النبي صلّى الله عليه وسلّم لابن عباس»، لابن رجب الحنبلي.
10 ـ «القول السديد»، للسعدي.