إبراهيم بن آزر ـ ويقال له: تارخ ـ بن ناحور بن ساروغ بن راغو بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام[1].
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : «لا يختلف جمهور أهل النسب ولا أهل الكتاب في ذلك، إلا في النطق ببعض هذه الأسماء»[2].
[1] انظر: تاريخ الرسل والملوك لابن جرير (1/233) [دار المعارف، مصر]، والمنتظم في تاريخ الملوك والأمم لابن الجوزي (1/258) [دار الكتب العلمية، ط1]، والبداية والنهاية لابن كثير (1/324) [دار هجر، ط1].
[2] فتح الباري لابن حجر (6/389) [دار المعرفة، 1379هـ].
ولد الخليل إبراهيم عليه السلام في زمن الملك نمرود بن كنعان، الذي كان ملكًا للشرق والغرب، وهذا الذي عليه عامة السلف من أهل العلم، واختلف أهل العلم في الموضع الذي كان منه، وفي الموضع الذي ولد فيه واستقر به على أقوال، ومما قيل في ذلك: إنه ولد بحرَّان أرض الكنعانيين، ثم نقله أبوه إلى بابل أرض الكلدانيين، وقيل: العكس، وأنه ولد ببابل وانتقل إلى بلاد المقدس، واستقر بأرض الكشدانيين بحرّان[1].
وقد نشأ إبراهيم عليه السلام نشأة صالحة حسنة، وأنبته الله نباتًا حسنًا، وقد آتاه الله رشده وعلَّمه الحكمة منذ كان صغيرًا[2]، قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ *} [الأنبياء] .
وقد أراه الله تعالى ملكوت السماوات والأرض، فكان أعظم الناس يقينًا وعلمًا، وقوة في دين الله، ورحمة بالعباد؛ قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ *} [الأنعام] .
[1] انظر: تاريخ الرسل والملوك لابن جرير (1/233)، والمنتظم في تاريخ الملوك والأمم (1/258)، والبداية والنهاية (1/324).
[2] انظر: البداية والنهاية (1/402)، وقصص الأنبياء للسعدي (44) [أضواء السلف، ط1].
دلَّ على نبوة إبراهيم عليه السلام القرآن والسُّنَّة:
فمن القرآن: قوله تعالى: {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ *} [آل عمران] ، وقوله عزّ وجل: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا * وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} [النساء] ، وقوله تعالى: {أَلَمْ يأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} [التوبة: 70] ، وغيرها من الآيات الكثيرة في هذا المقام.
ومن السُّنَّة: ما جاء في حديث الشفاعة الطويل: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنَّا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في دعوة فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه، فنهس منها نهسة وقال: «أنا سيد القوم يوم القيامة... فيأتون إبراهيم فيقولون: أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم إبراهيم: إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله، وذكر كذباته، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري...» الحديث[1].
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه في قصة الإسراء والمعراج: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجد في السماوات: إدريس وموسى وعيسى وإبراهيم صلوات الله عليهم أجمعين، ولم يُثبِت لي كيف منازلهم، غير أنه قد ذكر أنه وجد آدم عليه السلام في السماء الدنيا وإبراهيم في السادسة... قال: «... ثم مررت بإبراهيم عليه السلام فقال: مرحبًا بالنبي الصالح والابن الصالح. قال: قلت: من هذا؟ قال: هذا إبراهيم»[2].
وغيرها من الدلائل الواضحة البيِّنة على نبوة إبراهيم عليه السلام، وقد اتفقت الأديان الثلاثة: اليهودية والنصرانية والإسلام على إثبات نبوة إبراهيم عليه السلام، وعلى تقديسه وتعظيمه، حتى وصل الأمر بالديانتين الباطلتين: اليهودية والنصرانية إلى الدعوى بأن إبراهيم عليه السلام كان يهوديًّا أو نصرانيًّا، وقد أبطل الله هذه الدعوى الباطلة؛ فقال تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ *هَاأَنْتُمْ هَؤُلاَءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ *مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ *إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ *} [آل عمران] .
دلائل نبوته:
من دلائل نبوته عليه السلام:
1 ـ ما قصَّه الله تعالى من خبر النار التي أراد قومه إحراقه بها، وكيف أنها صارت بردًا وسلامًا على إبراهيم عليه السلام، فانتفت عنها صفة الإحراق التي هي من طبيعتها وخلقتها. قال تعالى: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ *قُلْنَا يانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ *وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ *} [الأنبياء] .
2 ـ بشارة الله تعالى له بغلام عليم، وهو شيخ كبير، وامرأته عجوز عقيم، فوهب له إسحاق عليه السلام. قال تعالى {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ *فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ *وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ *قَالَت ياوَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ *قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ *} [هود] ، وقال تعالى: {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ *قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ *} [الذاريات] .
قال السعدي رحمه الله : «إن إتيان الولد، والبشارة به من سارة، وهي عجوز عقيم، يُعدُّ معجزة لإبراهيم، وكرامة لسارة، ففيه معجزة نبي، وكرامة ولي»[3].
[1] أخرجه البخاري (كتاب أحاديث الأنبياء، رقم 3340)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 194)، واللفظ للبخاري.
[2] أخرجه البخاري (كتاب أحاديث الأنبياء، رقم 3342)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 415).
[3] انظر: قصص الأنبياء للسعدي (59).
أنزل الله تعالى على إبراهيم عليه السلام صحفًا، ذكر بعض أحكامها في القرآن الكريم، كما قال تعالى: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى *وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى *أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى *وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى *} [النجم] ، وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى *صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى *} [الأعلى] ، واختلف في عود اسم الإشارة؛ أهو عائد على السورة بأكملها، وأن كل ما ذكر فيها من أحكام وأخبار هو في صحف إبراهيم وموسى، أم أنه عائد إلى أقرب مذكور؟[1].
ولم يرد شيء في بيان حقيقة هذه الصحف، اللَّهُمَّ إلا بعض الأخبار التي لا تصح.
[1] انظر: فتح الباري لابن حجر (6/448).
دعا إبراهيم عليه السلام قومه إلى إفراد الله بالعبادة، وترك عبادة الأصنام والكواكب، وكانوا أهل شرك وكفر، وكان قد بدأ دعوته بأبيه؛ لأنه أقرب الناس إليه، وأحق الناس بإخلاص النصيحة له، فدعاه بألطف عبارة، وأحسن إشارة[1]، قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صَدِّيقًا نَبِيًّا *إِذْ قَالَ لأَِبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا *يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا *يَاأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَانِ عَصِيًّا *يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَانِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا *} [مريم] .
وكذلك دعا قومه إلى إفراد الله بالعبادة، وترك عبادة الأوثان والأصنام، وغيرها من المعبودات الباطلة، قال تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ *إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ *} [العنكبوت] .
وقد سلك في دعوته طرقًا وأساليب ناجحة، أقام عليهم الحجة، ودحض جميع شبههم وكسرها، مع قوة وصبر وثبات.
منها: مناظرته المشهورة التي قال الله جلّ جلاله فيها: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَِبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ *وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ *فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لاَ أُحِبُّ الآفِلِينَ *فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأََكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّآلِّينَ *فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ *} [الأنعام] .
ومنها: كسره للأصنام التي كانوا يعبدونها من دون الله تعالى، إلا صنمًا كبيرًا أبقاه لهم؛ ليقيم الحجة عليهم، قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ *إِذْ قَالَ لأَِبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ *قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ *قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ *قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاََّّعِبِينَ *قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ *وَتاللَّهِ لأََكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ *فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلاَّ كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ *قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ *قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ *قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ *قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا ياإِبْرَاهِيمُ *قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ *فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ *ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاَءِ يَنْطِقُونَ *قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلاَ يَضُرُّكُمْ *أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ *} [الأنبياء] .
ومنها: مناظرته للملك النمرود بن كنعان الذي ادّعى الربوبية، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ *} [البقرة] .
فأبطل الخليل إبراهيم عليه السلام دليله، وبيَّن كثرة جهله، وقلة عقله، وألجمه الحجة، وأوضح له المحجة، فبهت الذي كفر.
وهكذا ظل إبراهيم عليه السلام يدعو إلى توحيد الله تعالى، وإلى ترك عبادة الأصنام، ويناظر ويقيم الحجة على المعاند والمكابر، بالأدلة الشرعية، والبراهين العقلية، قولاً وفعلاً، فكان في دعوته أعظم العبر، حتى صار إمامًا يقتدى به، وصار كل من جاء بعده مأمورًا باتباع ملته الحنيفية؛ قال تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ *} [البقرة] ، وقال تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ *} [النحل] ، وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الممتحنة: 4] .
[1] انظر: تفسير الطبري (24/) [دار هجر، ط1]، وتفسير القرطبي (22/236) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وتفسير ابن كثير (14/237) [مؤسسة قرطبة، ط1]، وتفسير السعدي (1087) [دار السلام، الرياض، ط2].
المعروف أن قوم إبراهيم عليه السلام كانوا صابئة يعبدون الكواكب والنجوم، وكانوا من أهل حرَّان، وكانوا يعتقدون في الكواكب أنها أجسام للملائكة، ويتخذون لها صورًا في الأرض من التماثيل والأصنام، فدعاهم إبراهيم إلى توحيد الله تعالى، وإلى ترك عبادة الأصنام، فقابلوه بالعصيان، وخوَّفوه بآلهتهم، وما زاده تخويفهم إلا إيمانًا بالله سبحانه وتعالى ، بل وهددوه بالحرق والقتل، لكن الله عزّ وجل نجّاه منهم، قال الله تعالى: {وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَآجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ *وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ علَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ *} [الأنعام] .
وقال تعالى مبيِّنًا ما هموا به من قتله وحرقه بالنار، وكيف أنه تعالى نجاه من القوم الظالمين: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ *قُلْنَا يانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ *وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ *وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ *} [الأنبياء] .
وقال تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ *} [العنكبوت] .
ذكر في وفاة إبراهيم عليه السلام وطريقة مجيء ملك الموت لقبضه أخبار عن أهل الكتاب، الله أعلم بصحتها، لكن الذي عليه جمهور أهل العلم أنه دفن وقبر في المربعة التي بناها سليمان بن داود عليهما السلام ببلد حبرون، وهو البلد المعروف بالخليل اليوم، لكن تعيينه منها ليس فيه خبر صحيح عن معصوم، لكن ينبغي أن تجلّ أن يداس في أرجائها، خشية أن يكون قبر الخليل عليه السلام تحتها[1].
قال الشيخ محمد بن الجزري: «لا يصح تعيين قبر غير قبر نبيِّنا صلّى الله عليه وسلّم، نعم قبر إبراهيم عليه السلام الخليل في تلك القرية، لا بخصوص تلك البقعة»[2].
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن قبور الأنبياء عليهم السلام : هل هي هذه القبور التي تزورها الناس اليوم؟ مثل: قبر نوح، وقبر الخليل، وإسحاق، ويعقوب، ويوسف، ويونس، وإلياس، واليسع، وشعيب، وموسى، وزكريا وهو بمسجد دمشق...؟ فأجاب رحمه الله بقوله: «الحمد لله: القبر المتفق عليه هو قبر نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم، وقبر الخليل فيه نزاع، لكن الصحيح الذي عليه الجمهور أنه قبره، وأما يونس، وإلياس، وشعيب، وزكريا فلا يعرف»[3].
ولكن هاهنا قاعدة عامة، وهو أنه ليس في معرفة قبور الأنبياء عليهم السلام بأعيانهم فائدة شرعية، وليس حفظ ذلك من الدين، ولو كان من الدين لحفظه الله، كما حفظ سائر الدين، وذلك أن عامة من يسأل عن ذلك إنما قصده الصلاة عندها، والدعاء بها، ونحو ذلك من البدع المنهي عنها[4].
[1] انظر: البداية والنهاية (1/403، 405 ـ 406).
[2] تحفة الذاكرين (63)، وكشف الخفاء (2/498)، وتاريخ الكعبة المعظمة (165).
[3] مجموع الفتاوى (27/445) [مجمع الملك فهد لطباعة المصحف، ط2].
[4] انظر: مجموع الفتاوى (27/444).
المسألة الأولى: خصائص إبراهيم عليه السلام وفضائله:
1 ـ اتخذه الله تعالى خليلاً، والخلة أعلى وأرفع درجات المحبة، وهذه الدرجة خاصة بإبراهيم عليه السلام، وبنبيِّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، لم ينلها أحد سواهما، كما قال تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً *} [النساء] .
ومن السُّنَّة: روى جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: «إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل؛ فإن الله قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذًا من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً»[1].
2 ـ أثنى الله تعالى عليه في غير ما موضع من كتابه، ووصفه بصفات الخير والجمال والكمال، فقال عزّ وجل: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ *إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ *} [البقرة] ، وقال: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ *شَاكِرًا لأَِنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ *وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ *ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ *} [النحل] ، وقال: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ *} [التوبة] ، وقال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ *} [الأنبياء] .
وقد جعله الله عزّ وجل إمامًا للناس يقتدى به، وجعل في ذريته النبوة والكتاب، قال جلّ جلاله : {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ *} [البقرة] ، وقال: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ *} [العنكبوت] .
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله : «فكل كتاب أنزل من السماء على نبيٍّ من الأنبياء بعد إبراهيم الخليل فمن ذريته وشيعته، وهذه خِلعَةٌ سنيَّة لا تضاهى، ومرتبة عليَّة لا تباهى»[2].
وغيرها من الخصال الحميدة، والصفات الرفيعة العليَّة، التي يطول المقام والمقال بذكرها، وكل واحدة من هذه الخصال يطول الشرح بذكرها وبيانها، فكيف بمجموعها.
3 ـ أول من يكسى يوم القيامة هو إبراهيم عليه السلام؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنكم محشورون حفاة عراة غرلاً» . ثم قرأ: «{كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ *} [الأنبياء] ، وأول من يُكسى يوم القيامة إبراهيم»[3].
المسألة الثانية: وجه الجمع بين قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة»، وبين قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ذلك إبراهيم عليه السلام » لمَّا قيل له: «يا خير البرية»:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أنا سيِّد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفَّع» [4]. فنص الحديث مع غيره من الأدلة الأخرى من القرآن والسُّنَّة أن محمدًا صلّى الله عليه وسلّم هو أفضل البشرية على الإطلاق، وهو أفضل من سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
لكن جاء في السُّنَّة ما يدل على أن إبراهيم هو خير البرية؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا خير البريّة. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ذاك إبراهيم عليه السلام»[5].
وقد أجيب عن ذلك بجوابين[6]:
أحدهما: أن ذلك من النبي صلّى الله عليه وسلّم على جهة التواضع والإجلال، لمقام إبراهيم عليه السلام وأُبُوّته وخلَّته.
قال ابن كثير رحمه الله : «وهذا من باب الهضم والتواضع مع والده الخليل عليه السلام»[7].
الثاني: يحتمل أنه قال ذلك قبل أن يعلم أنه سيد ولد آدم، ثم أُعلم أنه أفضل وأكرم البشر على الإطلاق.
المسألة الثالثة: معنى قوله تعالى: {قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 76] :
اختلف أهل العلم في بيان المراد بذلك؛ أهو مقام نظر أم مناظرة؟ على قولين مشهورين:
القول الأول: وهو أن المقام مقام مناظرة، وإقامة للحجة، لا مقام نظر واعتقاد، وبيان ذلك من وجهين:
أحدهما: أن إبراهيم عليه السلام قالها لما ناظر قومه في إبطال عبادة الكواكب والقمر والشمس، ولم يقلها معتقدًا لربوبيتها، وإنما قالها مقيمًا للحجة عليهم، ومبطلاً لألوهيتها وربوبيتها، والمناظر قد يقول الشيء الذي لا يعتقده ليبني عليه حجته، وليقيم الحجة على خصمه، كما قال في تكسيره الأصنام لما قالوا له: {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا ياإِبْرَاهِيمُ *} [الأنبياء] ، فأشار إلى الصنم الذي لم يكسره؛ فقال: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63] ، ومعلوم أن غرضه إلزامهم بالحجة، وقد حصلت، فالمعنى: هذا ربي بزعمكم الباطل.
الثاني: أنه قال ذلك على وجه الاستفهام الإنكاري والتوبيخي فمعنى الكلام: أهذا ربي؟ والمراد: ليس هذا ربي. والعرب قد تفعل مثل ذلك، فتحذف الألف التي تدل على معنى الاستفهام.
وقد رجح هذا القول جماعة من أهل العلم المتقدمين؛ كابن كثير، وابن حجر، ووافقهم عليه جمع من المتأخرين؛ كالسعدي، ومحمد الأمين الشنقيطي، ومحمد خليل هراس[8].
ومما يدل على صواب هذا القول، وأنه أولى بالحق؛ وأنه كان جازمًا بربوبية الرب تعالى واستحقاقه الألوهية: دلالة ترتيب قوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لاَ أُحِبُّ الآفِلِينَ *} [الأنعام] إلى آخره بالفاء، على قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ *} [الأنعام] ، فدل على أنه قال ذلك موقنًا مناظرًا ومحاجًّا لهم، كما دل عليه قوله تعالى: {وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ} الآية [الأنعام: 80] ، وقوله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} [الأنعام: 89] ، والعلم عند الله تعالى[9].
القول الثاني: أن إبراهيم قالها في حال نظره، وكان ذلك في صغره وطفولته، وقبل قيام الحجة عليه، وتلك حال لا يكون فيها كفر ولا إيمان، ويرى بعض أهل العلم الإقرار بظاهر خبر الله تعالى بذلك، وممن قال بذلك: ابن جرير الطبري رحمه الله .
واستدلوا بقوله تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأََكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّآلِّينَ *} [الأنعام] ، قالوا: وهذا يدل على نوع تحيّر[10].
ومما يبطل هذا القول: أن الله نفى الشرك عن إبراهيم في الماضي؛ فقال تعالى: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ *} [الأنعام] ، ونفي الكون الماضي يستغرق جميع الزمن الماضي، فثبت أنه لم يتقدم عليه شرك يومًا ما[11].
وأما ما استدلوا به من القرآن فالجواب عنه: أنه ما زال الأنبياء عليهم السلام يسألون الهدى، ويتضرعون في دفع الضلال عنهم، كما في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ *} [إبراهيم] ، والله تعالى قد آتى إبراهيم رشده من قبل، وأراه ملكوت السماوات والأرض ليكون موقنًا، فكيف لا يعصمه عن مثل هذا التحيِّر؟[12].
المسألة الرابعة: كذبات إبراهيم عليه السلام:
عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن رسول الله قال صلّى الله عليه وسلّم: «لم يكذب إبراهيم النبي قطُّ إلا ثلاث كذَبَات؛ ثنتين في ذات الله؛ قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ *} . وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} . وواحدة في شأن سارة» الحديث[13].
وفي حديث الشفاعة الطويل عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنَّا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في دعوة فرُفع إليه الذِّراع وكانت تعجبه فنهس منها نهسة وقال: «أنا سيد القوم يوم القيامة... فيأتون إبراهيم فيقولون: أنت نبيُّ الله وخليله من أهل الأرض، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول إبراهيم: إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله...» وذكر كذَباته[14].
وفي هذه الأحاديث إطلاق وصف الكذب على إبراهيم عليه السلام، وهذا مشكل؛ لأن الكذب محرّم عقلاً وشرعًا، وتشتد حرمته على من اختاره الله عزّ وجل واصطفاه لرسالته من الأنبياء عليهم السلام .
والجواب: أن إطلاقه الكذب على تلك الأمور الثلاث سوَّغه أنه قال قولاً يعتقده السامع كذبًا، لكنه إذا حقق لم يكن كذبًا؛ لأنه من باب المعاريض المحتملة للأمرين، فليست بكذب محض، فقوله: {إِنِّي سَقِيمٌ *} [الصافات] : يحتمل أن يكون معناه: سأسقم، ويحتمل: أني سقيم بما قدر عليَّ من الموت، وهذا من باب التورية واستعمال المعاريض، أو سقيم النفس لكفركم وشرككم، أو سقيم الحجة على الخروج معكم. وأما قوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63] : فقاله تمهيدًا للاستدلال على أن الأصنام ليست بآلهة، وقطعًا لقومه في قولهم: إنها تضر وتنفع. وأما قوله لزوجته: «أخبريه أنك أختي»: فيعتذر عنه بأن مراده أنها أخته في الإسلام[15].
المسألة الخامسة: معنى قول نبيِّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم: «نحن أحق بالشك من إبراهيم»:
عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «نحن أحق بالشَّك من إبراهيم؛ إذ قال: ربِّ أرني كيف تحيي الموتى. قال: أو لم تؤمن؟ قال: بلى، ولكن ليطمئن قلبي، ويرحم الله لوطًا لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لبثت في السجن طول لبث يوسف لأجبت الداعي»[16].
اختلف السلف في المراد بالشك هاهنا على أقوال، أظهرها قولان لأهل العلم[17]:
القول الأول: وهو أن إبراهيم عليه السلام لم يشك في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى، فإن الشك تردد بين أمرين، لا مزية لأحدهما على الآخر، ومحال أن يقع فيه صفوة الخلق من أنبياء الله، وعلى رأسهم إمام الحنفاء عليه السلام، فالشك يبعد عمن ثبتت قدمه في الإيمان، فكيف بمرتبة النبوة والخلة، وذكروا في تفسير ذلك أوجهًا؛ أشهرها وأظهرها: أنه أراد أن يتحصل بالمشاهدة والمعاينة غير ما يتحصل بالعلم والخبر، فأراد الترقي من علم اليقين إلى عين اليقين.
قال ابن كثير رحمه الله : «وقد كان إبراهيم عليه السلام يعلم قدرة الله تعالى على إحياء الموتى علمًا يقينيًّا، لا يحتمل النقيض، ولكن أحب أن يشاهد ذلك عيانًا، ويترقى من علم اليقين إلى عين اليقين، فأجابه الله إلى سؤاله، وأعطاه غاية مأموله»[18].
وعلى هذا يكون معنى قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «نحن أحق بالشك من إبراهيم» : أنه لو كان إبراهيم شاكًّا، لكنَّا نحن أحق بالشك منه، ونحن لا نشك؛ فإبراهيم عليه السلام أحرى أن لا يشك، وإنما قال ذلك نبيُّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم تواضعًا منه، أو أنه قبل أن يعلم أنه أفضل من إبراهيم وسائر الأنبياء عليهم السلام .
فالحديث مبني على نفي الشك عن إبراهيم عليه السلام، وهذا القول هو الذي يظهر صوابه، وأنه أقرب للشرع والعقل، وقد رجحه كثير من أهل العلم؛ كابن عطية، وابن كثير، والقرطبي، والسعدي، وغيرهم[19].
ويؤيد هذا القول قوله: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] ، ومعنى الآية: ليزداد يقيني، أو ليزداد إيماني، روى ذلك ابن جرير الطبري رحمه الله عن جماعة من أئمة السلف؛ منهم: سعيد بن جبير، وقتادة بن دعامة، والضحاك بن مخلد، والربيع بن أنس، وإبراهيم النخعي، وغيرهم[20].
قال ابن بطة رحمه الله : «يريد: لأزداد إيمانًا إلى إيماني، بذلك جاء التفسير»[21].
وقد احتج بها أبو عبد الله البخاري في «صحيحه» على زيادة الإيمان ونقصانه[22].
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله : «وأما قوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} الآية.. [البقرة: 260] ، فمن أعظم الأدلة على تفاوت الإيمان ومراتبه حتى الأنبياء، فهذا طلب الطمأنينة مع كونه مؤمنًا، فإذا كان محتاجًا إلى الأدلة التي توجب له الطمأنينة فكيف بغيره»[23].
وقال السعدي رحمه الله : «وهذا فيه أيضًا أعظم دلالة حسية على قدرة الله، وإحيائه الموتى للبعث والجزاء، فأخبر تعالى عن خليله إبراهيم أنه سأل أن يريه ببصره كيف يحيي الموتى؛ لأنه قد تيقن ذلك بخبر الله تعالى، ولكن أحب أن يشاهده عيانًا، ليحصل له مرتبة عين اليقين، فلهذا قال الله له: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] ، وذلك أنه بتوارد الأدلة اليقينية مما يزداد به الإيمان، ويكمل به الإيقان، ويسعى في نيله أولو العرفان»[24].
القول الثاني: وهو أنه على ظاهره، وأن إبراهيم عليه السلام شك في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى، وذكروا في توجيه ذلك أمرين:
أحدهما: أن ذلك كان قبل النبوة؛ حيث لا تكليف بالإيمان.
الثاني: وهو أنه دخل على إبراهيم عليه السلام ما يدخل على قلوب الناس من الوساوس والخطرات، ولكنها لم تستقر، ولا زلزلت الإيمان الثابت، وأن إبراهيم عليه السلام سأل ربه أن يريه إحياء الموتى؛ للعارض الشيطاني، فلا يقدر الشيطان بعد ذلك أن يلقي في قلبه الشك، ورجح هذا القول الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله [25].
وهذا القول باطل مردود بما تقدم تقريره في القول الأول، والله أعلى وأعلم.
[1] أخرجه مسلم (كتاب المساجد ومواضع الصلاة، رقم 532).
[2] البداية والنهاية (1/385).
[3] أخرجه البخاري (كتاب أحاديث الأنبياء، رقم 3349)، ومسلم (كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، رقم 2860).
[4] أخرجه مسلم (كتاب الفضائل، رقم 2278).
[5] أخرجه مسلم (كتاب الفضائل، رقم 2369).
[6] انظر: المعلم بفوائد مسلم (3/226) [المؤسسة الوطنية للترجمة والتحقيق والدراسات، ط1]، والمفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (6/180) [دار ابن كثير، ط1]، وشرح مسلم للنووي (15/121) [المطبعة المصرية بالأزهر، ط1].
[7] البداية والنهاية (1/395).
[8] انظر: تفسير ابن كثير (6/97 ـ 100)، وفتح الباري لابن حجر (6/451)، وتفسير السعدي (292)، وقصص الأنبياء له (44 ـ 45)، وأضواء البيان (2/237) [دار عالم الفوائد، ط1]، ودعوة التوحيد لمحمد خليل هراس (129 ـ 131) [دار الكتب العلمية، ط1].
[9] انظر: أضواء البيان (2/237).
[10] انظر: جامع البيان لابن جرير (9/361)، وزاد المسير لابن الجوزي (3/74) [المكتب الإسلامي، ط3].
[11] انظر: أضواء البيان (2/237).
[12] انظر: زاد المسير لابن الجوزي (3/74).
[13] أخرجه البخاري (كتاب أحاديث الأنبياء، رقم 3358)، ومسلم (كتاب الفضائل، رقم 2371).
[14] أخرجه البخاري (كتاب أحاديث الأنبياء، رقم 3340)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 194)، واللفظ للبخاري.
[15] انظر: المعلم بفوائد مسلم (3/229)، وشرح مسلم للنووي (15/124)، وتفسير القرطبي (14/221 ـ 222) (18/52)، وفتح الباري لابن حجر (6/450 ـ 451).
[16] أخرجه البخاري (كتاب أحاديث الأنبياء، رقم 3372)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 151).
[17] انظر: تفسير ابن عطية (1/352 ـ 353) [دار الكتب العلمية]، وتفسير الطبري (4/624 ـ 630)، وتفسير القرطبي (4/309 ـ 312)، وتفسير ابن كثير (2/455)، وفتح الباري لابن حجر (6/474 ـ 475).
[18] البداية والنهاية (1/387).
[19] انظر: تفسير ابن عطية (1/352)، وتفسير القرطبي (4/309 ـ 312)، وتفسير ابن كثير (2/455)، وفتح الباري لابن حجر (6/474 ـ 475)، وتفسير السعدي (114)، وغيرها.
[20] انظر: تفسير الطبري (4/630).
[21] الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية (2/833) [دار الراية للنشر والتوزيع، ط1].
[22] صحيح البخاري (60).
[23] مجموع مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب (73) [نشر جامعة الإمام محمد بن سعود].
[24] تفسير السعدي (114).
[25] انظر: تفسير الطبري (4/630)
1 ـ «إكمال المعلم بفوائد مسلم» (ج1)، للقاضي عياض.
2 ـ «البداية والنهاية» (ج1)، لابن كثير.
3 ـ «تحفة النبلاء من قصص الأنبياء»، لابن كثير، انتخب كتابه الحافظ ابن حجر العسقلاني.
4 ـ «دعوة التوحيد: أصولها ـ الأدوار التي مرت بها ـ مشاهير دعاتها»، لمحمد خليل هراس.
5 ـ «قصص الأنبياء (المعروف بالعرائس)»، لأبي إسحاق الثعلبي.
6 ـ «قصص الأنبياء»، للسعدي.
7 ـ «قصص الأنبياء القصص الحق»، لعبد القادر شيبة الحمد.
8 ـ «شرح العقيدة الطحاوية» (ج2)، لابن أبي العز الحنفي.
9 ـ «المعارف»، لابن قتيبة.