قال ابن فارس: «الصاد والباء والراء أصولٌ ثلاثة؛ الأول: الحَبْس، والثاني: أعالي الشيء، والثالث: جنسٌ من الحجارة.
فالأول: الصَّبْر، وهو الحَبْس. يقال: صَبَرْتُ نفسي على ذلك الأمر؛ أي: حَبَسْتُها»[1].
وصَبَرَ فلان عند المصيبة، يَصْبِرُ فهو صابرٌ وصَبيرٌ وصَبُورٌ. وصبَرتُه أنا: حبسته، والصبر في الأصل يطلق على الحبس، ومنه قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} [الكهف: 28] . وكل من حبسته لقتل، أو يمين فهو قتلُ صبْرٍ، ويمينُ صبْرٍ[2].
فهذه معاني الصبر في اللغة، والذي يهمنا منها هو الحبس، سواء كان هذا الحبس معنويًّا؛ كحبس النفس عن الجزع، ومنعها عن الانتقام، أو حبسها على الطاعة، ومنعها عن المعصية، أو كان هذا الحبس حسيًّا؛ كحبس شيء ما عن الهروب والفرار ونحو ذلك.
[1] مقاييس اللغة (3/329) [دار الفكر، ط1399هـ].
[2] انظر: تهذيب اللغة (12/171) [دار الكتاب العربي، 1967م]، والصحاح (2/707) [دار العلم للملايين، ط3]، والقاموس المحيط (421) [مؤسسة الرسالة، ط8].
نقل النووي عن المازري قوله: «حقيقة الصبر: منع النفس من الانتقام أو غيره»[1].
ومعناه في صفات الله عزّ وجل أنه: لا يعاجل من يشاء من العصاة بالانتقام رغم استحقاقهم لذلك، رحمة بهم، وإحسانًا إليهم، وتفضلاً عليهم؛ بل يؤخرهم إلى أجل مسمى[2]. قال الله عزّ وجل: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} [يونس: 11] ، وقال: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَآبَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} [فاطر: 45] .
قال ابن القيِّم:
«وهو الصبور على أذى أعدائه
شتموه بل نسبوه للبهتان
قالوا له ولد وليس يعيدنا
شتمًا وتكذيبًا من الإنسان
هذا وذاك بسمعه وبعلمه
لو شاء عاجلهم بكل هوان
لكن يعافيهم ويرزقهم وهم
يؤذونه بالشرك والكفران»[3]
وقال حافظ الحكمي: «الصبور الذي لا أحد أصبر منه على أذى سمعه؛ ينسبون له الولد، ويجحدون أن يعيدهم ويحييهم، وكل ذلك بسمعه وبصره وعلمه، لا يخفى عليه منهم شيء، ثم هو يرزقهم يعافيهم»[4].
[1] شرح صحيح مسلم للنووي (17/146) [دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط2، 1392هـ].
[2] أسماء الله الحسنى آثارها وأثرها لمحمد بكر إسماعيل (401) [دار المنار، ط1، 1421هـ].
[3] قصيدة ابن القيم مع شرح ابن عيسى (2/228) [المكتبة الإسلامي، ط3، 1406هـ].
[4] معارج القبول (1/54) [دار ابن القيم، ط1].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «العبارات المجملة لا نُطلِقُها إذا لم يجئ بها الشرعُ إلا مفسَّرةً، فالشرع جاء بالحب والرضا والفرح والضحكْ والبشبشة ونحو ذلك، وجاء أنه يُؤذى ويصبر على الأذى، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب: 57] وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما أحد أصبر على أذى يسمعه من الله» فهذه الصفات حقٌّ نطق بها الكتاب والسُّنَّة، واتفق عليها سلف الأمة وعامة أهل العلم والإيمان من أهل المعرفة واليقين، ودل العقل القياسي والعقل الإيماني على صحتها، فلا خروج عن هذه الأدلة والسُّنَّة والجماعة وزمرة الأولياء والأنبياء»[1].
وقال ابن القيِّم: «أما الصبر فقد أطلقه عليه أعرف الخلق به وأعظمهم؛ تنزيهًا له بصيغة المبالغة، وصبره تعالى يفارق صبر المخلوق، ولا يماثله من وجوه متعددة؛ منها: أنه عن قدرة تامة، ومنها: أنه لا يخاف الفوت، والعبد إنما يستعجل لخوف الفوت، ومنها أنه لا يلحقه بصبره ألم ولا حزن ولا نقص بوجه ما»[2].
وقال السعدي: «وصبره أكمل صبر؛ لأنه عن كمال قدرة، وكمال غنى عن الخلق، وكمال رحمة وإحسان، فتبارك الرب الرحيم الذي ليس كمثله شيء»[3].
[1] جامع المسائل لابن تيمية (6/64 ـ 65) [دار عالم الفوائد، ط1، 1422هـ].
[2] عدة الصابرين (235 ـ 236) [دار الكتب العلمية].
[3] الحق الواضح المبين للسعدي (58) [دار ابن القيم، ط2، 1407هـ].
ـ يتعلق بهذه الصفة اسم (الصبور):
وقد عدَّه بعض أهل العلم من الأسماء الحسنى؛ لوروده في حديث سرد الأسماء عند الترمذي، وقد اختلف العلماء في هذا السرد «هل هو مرفوع أو مدرج في الخبر من بعض الرواة؟ فمشى كثير منهم على الأول، واستدلوا به على جواز تسمية الله تعالى بما لم يرد في القرآن بصيغة الاسم؛ لأن كثيرًا من هذه الأسماء كذلك.
وذهب آخرون إلى أن التعيين مدرج؛ لخلو أكثر الروايات عنه»[1].
والخلاصة: أن سرد الأسماء في الحديث مدرج من بعض الرواة ولم يصح رفعه عند المحققين من أهل الحديث[2]. قال الإمام الترمذي: «هذا حديث غريب، وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولا نعلم في كبير شيءٍ من الروايات ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث،... وليس له إسناد صحيح»[3].
وقال ابن كثير: «والذي عوَّل عليه جماعة من الحفاظ، أن سرد الأسماء في هذا الحديث مدرج فيه»[4].
وبعض من عد هذا الاسم من الأسماء الحسنى استدل بالحديث المتقدم: «ما أحد أصبر على أذى يسمعه من الله» ، فصاغوا من أصبر: الصبور، وهذا فيه نظر كما لا يخفى.
وعليه؛ فإن اسم (الصبور) غير ثابت لله عزّ وجل، وعدُّه من الأسماء الحسنى أمر يحتاج إلى دليل يسنده؛ وبرهان يسعفه؛ لأن أسماء الله وصفاته توقيفية.
[1] تحفة الأحوذي (9/343) [دار الكتب العلمية].
[2] انظر: تحفة الأحوذي (9/343 ـ 344)، وضعيف سنن الترمذي (383) [دار المعارف، ط1، 1420هـ]
[3] جامع الترمذي (5/531) [مطبعة مصطفى البابي، ط2، 1397هـ].
[4] تفسير ابن كثير (3/515) [دار طيبة، ط2، 1420هـ].
الفرق بين الصبر والحلم:
والفرق بينهما من وجهين:
الأول: أن الصبر ثمرة للحلم.
والثاني: أن الصبر صفة فعلية توجد عند وجود مقتضاها بخلاف الحلم فإنها صفة ذاتية.
يقول الإمام ابن القيِّم في بيان الوجه الأول:
«والفرق بين الصبر والحلم: أن الصبر ثمرة الحلم وموجبه، فعلى قدر حلم العبد يكون صبره، فالحلم في صفات الرب تعالى أوسع من الصبر»[1].
ويقول في الوجه الثاني: «وكونه حليمًا من لوازم ذاته سبحانه، وهي صفة ذاتية له لا تزول.
وأما الصبر فإذا زال متعلقه، كان كسائر الأفعال التي توجد لوجود الحكمة، وتزول بزوالها فتأمله، فإنه فرق لطيف ما عثرت الحذاق بعشره، وقلَّ من تنبه له ونبه عليه، وأشكل على كثير منهم هذا الاسم، وقالوا: لم يأت في القرآن، فأعرضوا عن الاشتغال به صفحًا، ثم اشتغلوا بالكلام في صبر العبد وأقسامه، ولو أنهم أعطوا هذا الاسم حقه، لعلموا أن الرب تعالى أحق به من جميع الخلق، كما هو أحق باسم العليم والرحيم والقدير والسميع والبصير والحي وسائر أسمائه الحسنى من المخلوقين، وأن التفاوت الذي بين صبره سبحانه وصبرهم؛ كالتفاوت الذي بين حياته وحياتهم، وعلمه وعلمهم، وسمعه وأسماعهم، وكذا سائر صفاته.
ولما علم ذلك أعرف خلقه به، قال: «لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله» ، فعلم أرباب البصائر بصبره سبحانه؛ كعلمهم برحمته وعفوه وستره، مع أنه صبر مع كمال علم وقدرة وعظمة وعزة، وهو صبر من أعظم مصبور عليه»[2].
[1] عدة الصابرين (236) [دار الكتب العلمية].
[2] عدة الصابرين (236 ـ 237).
الإيمان بصفة الصبر يترك في النفس آثارًا طيبة، حيث إنه إذا عرف أن ربه متصف بالصبر على أكمل وجه، وأنه لا يعاجل من يشاء من الظالمين بالعقوبة؛ بل يمهلهم مع أذاهم له وكفرهم به، ويدرُّ عليهم بالنعم وأنه تعالى يحب الصابرين، دفعه ذلك إلى التخلق بالصبر، فيصبر على طاعة الله وإخلاص العبادة له، ويصبر عما حرمه الله عليه من المعاصي والفجور، وسائر المحرمات، ويصبر على أقدار الله المؤلمة، فلا يجزع ولا يسخط بل يسلم الأمر لله.
ينكر المعطلة صفات الله عزّ وجل بصفة عامة، وأما بخصوص صفة الصبر فقد نقل الحافظ النووي عن المازري قوله: «حقيقة الصبر: منع النفس من الانتقام أو غيره، فالصبر نتيجة الامتناع، فأطلق اسم الصبر على الامتناع في حق الله»[1].
وقال القرطبي: «ووصفه تعالى بالصبر لم يرد في التنزيل، وإنما ورد في حديث أبي موسى، وتأوله أهل السُّنَّة على تأويل الحلم. قال ابن فورك وغيره: وجاء في أسمائه (الصبور) للمبالغة في الحلم عمن عصاه»[2].
ولا شك أن هذا تأويل للصفة عما يجب فيها، والواجب إثباتها لله على ما يليق به عزّ وجل كما وردت من غير تأويل ولا تمثيل ولا تحريف ولا تعطيل.
يقول الغنيمان متعقبًا لكلام المازري: «فيه نظر؛ وذلك أن رسوله صلّى الله عليه وسلّم أطلق على ربه الصبر، وأنه ما أحد أصبر منه، وهو صلّى الله عليه وسلّم أعلم الخلق بالله تعالى وأخشاهم له، وأقدرهم على البيان عن الحق، وأنصحهم للخلق، فلا استدراك عليه، فيجب أن يبقى ما أطلقه صلّى الله عليه وسلّم على الله تعالى بدون تأويل، إلا إذا كان يريد بذلك تفسير معنى الصبر، ولكن الأولى أن يبقى كما قال؛ لأنه واضح ليس بحاجة إلى تفسير»[3].
وأما تأويل صفة الصبر بالحلم، فهو تعطيل لصفة الصبر؛ لأن الله وصف نفسه بالصبر على لسان رسوله صلّى الله عليه وسلّم كما في الحديث المتقدم، ووصفها أيضًا بالحلم في كتابه الكريم فقال سبحانه: {وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ *} [البقرة] ، فيجب إثبات الصفتين معًا لله تعالى.
[1] شرح صحيح مسلم للنووي (17/146) [دار إحياء التراث العربي، ط2، 1392هـ].
[2] الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (1/373) [دار عالم الكتب، الرياض، 1423هـ].
[3] شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري للغنيمان (1/93 ـ 94) [مكتبة الدار بالمدينة، ط1].
1 ـ «جامع الأصول» (ج4)، لابن الأثير.
2 ـ «الحق الواضح»، للسعدي.
3 ـ «شأن الدعاء»، للخطابي.
4 ـ «شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري»، للغنيمان.
5 ـ «صفات الله عزّ وجل الواردة في الكتاب والسُّنَّة»، لعلوي بن عبد القادر السقاف.
6 ـ «عدة الصابرين»، لابن القيِّم.
7 ـ «معتقد أهل السُّنَّة والجماعة في أسماء الله الحسنى»، للتميمي.
8 ـ «النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى»، لمحمد الحمود النجدي.