قال ابن فارس: «الصاد والباء والراء أصول ثلاثة؛ الأول: الحبس، والثاني: أعالي الشيء، والثالث: جنس من الحجارة»[1].
الصبر هو: الحبس. يقال: صبَّرت نفسي على أمر؛ أي: حبستها، والصبر: حبس النفس عن الجزع، والجزع نقيض الصبر[2].
قال الراغب: «الصبر: الإمساك في ضيق، يقال: صبَّرت الدابة: حبستها بلا علف، وصبرت فلانًا: خلفته خلفة لا خروج له منها»[3].
وقال الفيروزآبادي: «الصَّبر في اللغة: الحَبْس والكفّ في ضيق، ومنه قيل: فلانٌ صُبِرَ: إِذا أُمسك وحُبِس للقتل»[4].
وقيل: أصل الكلمة من الشدة والقوة، وقيل: مأخوذ من الجمع والضم ومنه صُبْرة الطعام[5].
[1] مقاييس اللغة (3/329) [دار الجيل، 1420هـ].
[2] انظر: مقاييس اللغة (3/329)، وتهذيب اللغة (12/170) [الدار المصرية للتأليف والترجمة، ط1]، والصحاح (2/706) [دار العلم للملايين، ط4]، والقاموس المحيط (421 ـ 422) [مؤسسة الرسالة، ط7].
[3] المفردات في غريب القرآن للراغب (1/273) [دار المعرفة].
[4] بصائر ذوى التمييز (3/371) [المكتبة العلمية].
[5] انظر: عدة الصابرين (17) [دار عالم الفوائد، ط1، 1429هـ]، والصحاح (2/707).
تعددت تعاريف أهل العلم للصبر، وكلها تدور حول: حبس النفس عن محارم الله ومنعها عن الجزع والتسخط، ومجاهدتها وضمها بشدة على ملازمة أمره سبحانه[1].
قال ابن القيِّم في تعريفه: «حبس النفس عن الجزع والهلع والتشكي، فيحبس النفس عن التسخط، واللسان عن الشكوى، والجوارح عما لا ينبغي فعله، وهو ثبات القلب على الأحكام القدرية والشرعية»[2].
وقال الشيخ ابن عثيمين: «الصبر حبس النفس على طاعة الله، وحبسها عن معصية الله، وحبسها عن التسخط من أقدار الله»[3].
[1] انظر: المفردات في غريب القرآن للراغب (1/273)، وإحياء علوم الدين (4/54) [دار الكتب العلمية، ط1]، وعدة الصابرين (19 ـ 27)، ومدارج السالكين (2/195 ـ 199) [مكتبة الرشد، ط1، 1426هـ]، والتوقيف على مهمات التعاريف (282) [دار الكتب العلمية، ط1].
[2] الروح (241) [دار الكتب العلمية، 1395هـ].
[3] مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (6/12).
الصبر واجب باتفاق المسلمين، واجب على أداء الواجبات وترك المحظورات، ويدخل في ذلك الصبر على المصائب عن أن يجزع فيها.
وقد يكون الصبر مستحبًّا، وذلك إذا كان على أداء المستحبات وترك المكروهات وعلى مقابلة الجاني بمثل فعله.
ولعظم منزلة الصبر من الإيمان قرن بالصلاة في القرآن في أكثر من خمسين موضعًا[1].
[1] انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (10/39) [مجمع الملك فهد لطباعة المصحف، 1415هـ]، ورسالة واستعينوا بالصبر والصلاة لابن تيمية ضمن جامع الرسائل (1/79 ـ 84) [دار العطاء، ط1، 1422هـ]، ورسالة قاعدة في الصبر ضمن جامع المسائل (المجموعة الأولى 163 ـ 174) [دار عالم الفوائد، ط1، 1422هـ]، وإحياء علوم الدين (4/59)، وعدة الصابرين (35 ـ 58)، ومدارج السالكين (2/195).
حقيقة الصبر: خلق فاضل من أخلاق النفس، تمتنع به من فعل ما لا يحسن ولا يجمل، وهو قوة من قوى النفس التي بها صلاح شأنها وقوام أمرها.
فيتضمن الصبر: حبس النفس على طاعة الله ومجاهدتها على الثبات عليها، وحبس النفس عن معصية الله ومجاهدة النفس على البعد عنها، وحبس النفس على المصائب والآلام المقدَّرة[1].
فظهر من هذا: أن الصبر عبارة عن ثبات باعث الدين في مقاومة باعث الهوى[2].
[1] انظر: عدة الصابرين (19، 26).
[2] انظر: إحياء علوم الدين (4/65)
منزلة الصبر من الدين عظيمة، ومرتبته جليلة، وفضائله كبيرة، وثماره يانعة، وآثاره حميدة، كيف لا وهو نصف الإيمان! فإن الإيمان نصفان: نصف صبر ونصف شكر، كما قال غير واحد من السلف «الصبر نصف الايمان»[1]، ولهذا جمع الله سبحانه بين الصبر والشكر في قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ *} [إبراهيم: 5، الشورى: 33، سبأ: 19، لقمان: 31] [2].
بل إنه لا بقاء للإيمان بلا صبر كما قال علي رضي الله عنه[3]؛ وإن كان فإيمان قليل في غاية الضعف، وصاحبه ممن {يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ} [الحج: 11] .
فالصبر آخية المؤمن التي يجول ثم يرجع إليها، وساق إيمانه الذي لا اعتماد له إلا عليها.
ولما كان الايمان نصفين؛ نصف صبر ونصف شكر كان حقيقًا على من نصح نفسه وأحب نجاتها وآثر سعادتها أن لا يهمل هذين الأصلين العظيمين، ولا يعدل عن هذين الطريقين القاصدين، وأن يجعل سيره إلى الله بين هذين الطريقين ليجعله الله يوم لقائه مع خير الفريقين، فخير عيش أدركه السعداء بصبرهم، وترقّوا إلى أعلى المنازل بشكرهم، فساروا بين جناحي الصبر والشكر إلى جنات النعيم وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم[4].
[1] انظر آثار السلف في ذلك في: تفسير ابن جرير الطبري (18/578) [دار هجر، ط1، 1422هـ].
[2] انظر: عدة الصابرين لابن القيم (205)، ومدارج السالكين له (2/190).
[3] اخرجه معمر في جامعه ـ كما في مصنف عبد الرزاق (11/469، رقم 21031) ـ، وابن أبي الدنيا في الصبر (24) [دار ابن حزم، ط1]، وأبو نعيم في الحلية (1/75) [دار الفكر]، من طرق عن علي رضي الله عنه قال: «لا إيمان لمن لا صبر له».
[4] انظر: عدة الصابرين (9 ـ 10).
وقد تنوعت أدلة القرآن العظيم في الصبر، ومن ذلك قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِيْنُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ *} [البقرة] .
وقوله عزّ وجل: {...وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ *أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ *} [البقرة] .
وقوله : {وَالْعَصْرِ *إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ *إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ *} [العصر] .
وأما الأحاديث النبوية فكثيرة جدًّا في هذا الباب، ومنها: حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن ناسًا من الأنصار سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، حتى نفد ما عنده، فقال: «ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر»[1].
وعن صهيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سرّاء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرّاء صبر فكان خيرًا له»[2].
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: مرَّ النبي صلّى الله عليه وسلّم بامرأة تبكي عند قبر فقال: «اتقي الله واصبري» قالت: إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي، ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأتت باب النبي صلّى الله عليه وسلّم فلم تجد عنده بوابين فقالت: لم أعرفك. فقال: «إنما الصبر عند الصدمة الأولى»[3].
[1] أخرجه البخاري (كتاب الزكاة، رقم 1469)، ومسلم (كتاب الزكاة، رقم 1053).
[2] أخرجه مسلم (كتاب الزهد والرقائق، رقم 2999).
[3] أخرجه البخاري (كتاب الجنائز، رقم 1283)، ومسلم (كتاب الجنائز، رقم 926).
قال عمر رضي الله عنه: «وجدنا خير عيشنا بالصبر»[1].
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «الصبر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله»[2].
وقال الحسن البصري رحمه الله: «الصبر كنز من كنوز الخير لا يعطيه الله إلا لعبد كريم عليه»[3].
[1] أخرجه البخاري (كتاب الرقاق، باب الصبر عن محارم الله) تعليقًا مجزومًا به، وذكر ابن حجر من وصله في الفتح (11/367) [دار السلام، ط1، 1421هـ]، ويكفي في صحته جزمُ البخاري به.
[2] أخرجه عبد الله بن أحمد في السُّنَّة (1/374) [دار ابن القيم، ط1]، والحاكم (كتاب التفسير، رقم 3666) وصحَّحه، والبيهقي في شعب الإيمان (1/151) [مكتبة الرشد، ط1، 1423هـ]، وصحح سنده ابن حجر في تغليق التعليق (2/22) [المكتب الإسلامي ودار عمار، ط1].
[3] رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الصبر والثواب عليه (27).
يقسم الصبر إلى أقسام متعددة باعتبارات متنوعة، منها تقسيمه باعتبار متعلقه، وهو بهذا الاعتبار ثلاثة أقسام:
1 ـ صبر على الأوامر والطاعات حتى يؤديها.
2 ـ صبر عن المناهي والمخالفات حتى لا يقع فيها.
3 ـ صبر على الأقدار والأقضية حتى لا يتسخطها.
فالأولان: صبر على ما يتعلق بالكسب. والثالث: صبر على ما لا كسب للعبد فيه[1].
[1] انظر: المفردات للراغب (1/273 ـ 274)، وإحياء علوم الدين (4/59)، وعدة الصابرين (35 ـ 58)، ومدارج السالكين (2/195).
ـ المفاضلة بين الصبر والشكر.
حكي في المفاضلة بين الصبر والشكر ثلاثة أقوال:
أحدها: أن الصبر أفضل.
والثاني: أن الشكر أفضل.
والثالث: أنهما سواء.
واستدل كل فريق بأدلة تؤيد ما ذهب إليه.
والتحقيق في هذا أن يقال: إن كلًّا من الصبر والشكر داخل في حقيقة الآخر لا يمكن وجوده إلا به، وإنما يعبر عن أحدهما باسمه الخاص به باعتبار الأغلب عليه والأظهر منه، وإلا فحقيقة الشكر إنما يلتئم من الصبر والإرادة والفعل، فإن الشكر هو العمل بطاعة الله وترك معصيته، والصبر أصل ذلك.
فالصبر على الطاعة وعن المعصية هو عين الشكر واذا كان الصبر مأمورًا به فأداؤه هو الشكر.
فكلًّا من الصبر والشكر بينهما تلازم؛ بحيث يفتقر كل واحد منهما في وجود ماهيته إلى الآخر، ومتى تجرد الشكر عن الصبر بطل كونه شكرًا، وإذا تجرد الصبر عن الشكر بطل كونه صبرًا، أما الأول فظاهر، وأما الثاني فإنه إذا تجرد عن الشكر كان كفورًا، ومنافاة الكفور للصبر أعظم من منافاة السخط للصبر.
ومن هذه المسألة نشأت مسألة أخرى؛ وهي: أيهما أفضل: الغني الشاكر أم الفقير الصابر؟
والتحقيق أن يقال: أفضلهما أتقاهما لله تعالى، فإن فرض استواؤهما في التقوى استويا في الفضل، فإن الله سبحانه لم يفضل بالفقر والغنى كما لم يفضل بالعافية والبلاء، وإنما فضل بالتقوى.
والتقوى مبنية على أصلين: الصبر والشكر، وكل من الغني والفقير لا بد له منهما، فمن كان صبره وشكره أتم كان أفضل[1].
[1] انظر هذه المسألة في: عدة الصابرين (294 ـ 298).
الفرق بين مقامي الصبر والرضا:
«أن الصبر: كف النفس وحبسها عن التسخط مع وجود الألم، وتمنِّي زوال ذلك، وكف الجوارح عن العمل بمقتضى الجزع، والرضا: انشراح الصدر وسعته بالقضاء، وترك تمني زوال ذلك المؤلم، وإن وجد الإحساس بالألم، لكن الرضا يُخفِّفه لما يباشر القلب من روح اليقين والمعرفة، وإذا قوي الرِّضا فقد يزيل الإحساس بالألم بالكلية»[1].
الفرق بين الصبر والقسوة:
«أن الصبر خلق كسبي يتخلق به العبد؛ وأما القسوة: فيبس في القلب يمنعه من الانفعال، وغلظة تمنعه من التأثير بالنوازل، فلا يتأثر لغلظته وقساوته لا لصبره واحتماله»[2].
[1] جامع العلوم والحكم (236) [ط1، 1424هـ].
[2] الروح (244 ـ 245).
الناظر في نصوص القرآن والسُّنَّة يجد أن للصبر ثمارًا يانعة، وعواقب حسنة، ونتائج مباركة، وهي كثيرة جدًّا؛ ومنها:
ـ محبة الله عزّ وجل للصابرين، وصلاته عليهم، ورحمته بهم، ومعيَّته لهم، والتي تقتضي الحفظ والكلاءة والنصرة والتوفيق والتسديد.
ـ الجزاء الكبير للصابرين بأحسن ما كانوا يعملون، يوفونه بغير حساب.
ـ النجاة من سخط الله وعذابه، والفلاح والفوز برضوانه وجنته.
ـ المنزلة العالية والدرجة الرفيعة في الدنيا والآخرة.
ـ الإمامة في الدين وهداية الآخرين بأمر الله ربِّ العالمين.
ـ الاهتداء والتفكر والاعتبار.
ـ الانتصار والغلبة والتمكين.
ـ اليسر بعد العسر والفرج بعد الشدة.
ـ الاستعانة به على فعل العبادات، وترك المحرمات، ومواجهة المصائب والآلام.
ـ تحقيق الإيمان بالقدر خيره وشره حلوه ومره.
ـ قوة الإيمان بالله والرضا بحكمه، وذوق حلاوة هذا الإيمان والتلذذ به.
ـ الاستضاءة والحكمة في كل الأحوال.
ـ اكتساب الأخلاق الكريمة والصفات الحميدة.
ـ مشابهة الأنبياء والصالحين في الصبر في منازل العبودية، ومن تشبه بقوم فهو منهم، والمرء مع من أحب.
1 ـ «بصائر ذوي التمييز» (ج3)، للفيروزآبادي.
2 ـ «جامع العلوم والحكم»، لابن رجب.
3 ـ «الروح»، لابن القيِّم.
4 ـ «شعب الإيمان» (ج1)، للبيهقي.
5 ـ «الصبر»، لابن أبي الدنيا.
6 ـ «عدة الصابرين»، لابن القيِّم.
7 ـ «قاعدة في الصبر ضمن جامع المسائل»، لابن تيمية.
8 ـ «مجموع الفتاوى» (ج10)، لابن تيمية.
9 ـ «مدارج السالكين» (ج2)، لابن القيِّم.