قال ابن فارس: «الصاد والحاء والباء أصل واحد؛ يدل على مقارنة شيء ومقاربته من ذلك الصاحب، والجمع: الصحب، كما يقال: راكب وركب، ومن الباب: أصحب فلان؛ إذا انقاد، وأصحب الرجل؛ إذا بلغ ابنه، وكل شيء لاءم شيئًا فقد استصحبه»[1].
فمدلول كلمة صحب يبين أن لفظ الصحبة يدل على ملازمة شيء لشيء، وهذه الملازمة تحصل بأحد أ مرين:
الأول: ملازمة بالبدن، وهو المعاشرة، فإذا عاشر شخص آخر قيل: صاحبه، وهذا هو الأشهر والأكثر.
الثاني: بغير البدن، وهو المتابعة والانقياد، فإذا تابع شخص آخر قيل: صاحبه، كما يقال: أصحاب أبي حنيفة، وأصحاب الشافعي، وأصحاب أحمد، وأصحاب مالك؛ لملازمتهم مذهبهم، فالصحبة هنا تحققت بالمتابعة لا بالمعاشرة.
ودلالة لفظ الصحبة على هذا المعنى حقيقة، وليست مجازًا كما قال الفيومي: ويطلق مجازًا على من تمذهب بمذهب من مذاهب الأئمة فيقال: أصحاب الشافعي وأصحاب أبي حنيفة[2].
[1] مقاييس اللغة (3/335) [دار الجيل، ط1425هـ].
[2] المصباح المنير (127) [مكتبة لبنان، ط1987م].
لا خلاف بين أهل اللغة في أن لفظ: (صحابي) مشتق من الصحبة، وأنه ليس بمشتق من قدر منها مخصوص؛ بل هو جار على كل من صحب غيره قليلاً كان أو كثيرًا، كما أن القول مكلم، ومخاطب، وضارب، مشتق من المكالمة، والمخاطبة، والضرب، وجار على كل من وقع منه ذلك قليلاً كان أو كثيرًا، وكذلك جميع الأسماء المشتقة من الأفعال، وكذلك يقال: «صحبت فلانًا حولاً، ودهرًا، وسنة، وشهرًا، ويومًا، وساعة فيوقع اسم المصاحبة بقليل ما يقع منها وكثيره، وذلك يوجب في حكم اللغة إجراء هذا على من صحب النبي صلّى الله عليه وسلّم ولو ساعة من نهار، هذا هو الأصل في اشتقاق الاسم»[1].
فالصُّحبة تتحقق بالزمن اليسير؛ إذ هي اسم جنس تعم قليل الصحبة وكثيرها، وأدناها أن يصحبه زمنًا قليلاً، وليس لها حد في الشرع، ولا في اللغة، والعرف فيها مختلف، والنبي صلّى الله عليه وسلّم لم يقيد الصحبة بقيد، ولا قدرها بقدر؛ بل علق الحكم بمطلقها، ولا مطلق لها إلا الرؤية، وأيضًا فإنه يقال: صحبه ساعة وصحبه سنة وشهرًا، فتقع على القليل والكثير، فإذا أطلقت من غير قيد لم يجز تقييدها بغير دليل؛ بل تحمل على المعنى المشترك بين سائر موارد الاستعمال.
ولا ريب أن مجرد رؤية الإنسان لغيره لا توجب أن يقال قد صحبه، ولكن إذا رآه على وجه الاتباع له، والاقتداء به دون غيره، والاختصاص به، ولهذا لم يعتد برؤية من رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم من الكفار والمنافقين، فإنهم لم يروه رؤية من قصده أن يؤمن به، ويكون من أتباعه، وأعوانه، المصدقين له فيما أخبر، المطيعين له فيما أمر، الموالين له، المعادين لمن عاداه، الذي هو أحب إليهم من أنفسهم، وأموالهم وكل شيء[2].
[1] الكفاية في علم الرواية (51) [دار الكتب العلمية، 1405هـ].
[2] انظر: منهاج السُّنَّة (8/387 ـ 398)، بتصرف، وانظر: الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (2/112) [دار الصميعي، ط1، 1424هـ].
منزلة الصحابة ومكانتهم مما يقتضيها حالهم، واختيار الله عزّ وجل لهم لتبليغ رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم من بعده، وشواهدها متعددة، وفي وصف الله عزّ وجل لهم بأنهم خير أمة أخرجت للناس أبين دليل، وأوضح حجة على عظم منزلتهم، ورفعة مكانتهم.
قال شيخ الإِسلام: «وقول عبد الله بن مسعود: كانوا أبرّ هذه الأمة قلوبًا وأعمقها علمًا وأقلها تكلفًا[1] كلام جامع، بيَّن فيه حسن قصدهم ونياتهم ببر القلوب، وبين فيه كمال المعرفة، ودقتها بعمق العلم، وبين فيه تيسر ذلك عليهم، وامتناعهم من القول بلا علم بقلة التكلف، والذي قاله عبد الله حق، فإنهم خير هذه الأمة؛ كما تواترت بذلك الأحاديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، حيث قال: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته» [2]. وهم أفضل الأمة الوسط، الشهداء على الناس، الذين هداهم الله لما اختلف فيه من الحق بإذنه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، فليسوا من المغضوب عليهم، الذين يتبعون أهواءهم، ولا من الضالين الجاهلين؛ بل لهم كمال العلم وكمال القصد؛ إذ لو لم يكن كذلك للزم أن لا تكون هذه الأمة خير الأمم، وأن لا يكونوا خير الأمة وكلاهما خلاف الكتاب والسُّنَّة. وأيضًا فالاعتبار العقلي، يدل على ذلك، فإن من تأمل أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وتأمل أحوال اليهود، والنصارى، والصابئين، والمجوس، والمشركين؛ تبين له من فضيلة هذه الأمة على سائر الأمم في العلم النافع، والعمل الصالح ما يضيق هذا الموضع عن بسطه.
والصحابة أكمل الأمة في ذلك، بدلالة الكتاب والسُّنَّة والإجماع والاعتبار، ولهذا لا تجد أحدًا من أعيان الأمة إلا وهو معترف بفضل الصحابة عليه، وعلى أمثاله»[3].
[1] انظر: جامع بيان العلم (2/947) [دار ابن الجوزي، ط1، 1414هـ]، وذم الكلام للهروي (4/38) [دار الغرباء، ط1، 1419هـ].
[2] أخرجه البخاري (كتاب الشهادات، رقم 2652)، ومسلم (كتاب فضائل الصحابة، رقم 2533).
[3] منهاج السُّنَّة (2/79).
قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ *} [التوبة] ، وقال تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ *} [الحديد] ، وقال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا *} [الفتح] ، وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا *} [الفتح] .
ومن السُّنَّة: عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «خير أُمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ـ قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثًا ـ ثم إن بعدكم قومًا يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن»[1].
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه»[2].
وعن البراء رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم أو قال: قال صلّى الله عليه وسلّم: «الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله»[3].
[1] أخرجه البخاري (كتاب فضائل أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، رقم 3650)، ومسلم (كتاب فضائل الصحابة، رقم 2535).
[2] أخرجه البخاري (كتاب فضائل أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، رقم 3673)، ومسلم (كتاب فضائل الصحابة، رقم 2540).
[3] أخرجه البخاري (كتاب مناقب الأنصار، رقم 3783)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 75).
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «من كان منكم متأسيًا فليتأسَّ بأصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم، فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، وأقومها هديًا، وأحسنها حالاً، قومًا اختارهم الله تعالى لصحبة نبيِّه صلّى الله عليه وسلّم، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، فإنهم كانوا على الهدي المستقيم»[1].
وقال ابن أبي زمنين الأندلسي رحمه الله: «ومن قول أهل السُّنَّة: أن يعتقد المرء المحبة لأصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأن ينشر محاسنهم وفضائلهم، ويمسك عن الخوض فيما دار بينهم. وقد أثنى الله عزّ وجل في غير موضع من كتابه ثناء أوجب التشريف إليهم بمحبتهم والدعاء لهم»[2].
وقال الخطيب البغدادي رحمه الله: «على أنه لو لم يرد من الله عزّ وجل ورسوله فيهم شيء مما ذكرناه، لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة والجهاد والنصرة، وبذل المهج والأموال، وقتل الآباء والأولاد، والمناصحة في الدين، وقوة الإيمان واليقين، القطع على عدالتهم، والاعتقاد لنزاهتهم، وأنهم أفضل من جميع المعدلين والمزكين الذين يجيئون من بعدهم، أبد الآبدين، هذا مذهب كافة العلماء ومن يعتد بقوله من الفقهاء»[3].
وقال الشوكاني رحمه الله: «فتقرر بهذا أن الصحابة رضي الله عنهم خير العالم بأسره من أوله إلى آخره، لا يفضلهم أحد إلا الأنبياء والملائكة، ولهذا لم يعدل مثلُ أُحُد ذهبًا مدَّ أحدهم، ولا نصيفه. فإن لم يكونوا رأس الأولياء، وصفوة الأتقياء؛ فليس لله أولياء، ولا أتقياء، ولا بررة، ولا أصفياء»[4].
[1] جامع بيان العلم لابن عبد البر (2/944)، وذم الكلام للهروي (4/38).
[2] أصول السُّنَّة (263) [مكتبة الغرباء الأثرية، ط1، 1415هـ].
[3] الكفاية (46 ـ 49).
[4] الفتح الرباني للشوكاني كما في ذب الإمام الشوكاني عن أصحاب النبي (31).
المسألة الأولى: المفاضلة بين الصحابة وغيرهم:
دلَّت النصوص الصحيحة على أن الصحابة رضي الله عنهم أفضل الأمة فلا يصل إلى فضلهم ودرجتهم أحد مهما بلغ من العمل.
«ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة وما منَّ الله به عليهم من الفضائل علم يقينًا أنهم خير الخلق بعد الأنبياء، لا كان ولا يكون مثلهم وأنهم هم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم وأكرمها على الله تعالى»[1].
وقد دلَّ الكتاب والسُّنَّة والإجماع، وما يصدق ذلك من المنقولات المتواترة من أدلة العقل على أن الصحابة أفضل الخلق بعد الأنبياء[2]:
ومن النصوص الدالة على أفضليتهم: قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ *} [الحديد] .
وهذا إلى يوم القيامة فلا يزال الذين أنفقوا من قبل الفتح أعظم درجة، فلا يسبقهم أحد.
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تسبّوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه»[3].
وهذا الخطاب شامل لجميع الأمة إلى قيام الساعة فلا يبلغ أحد ـ مهما عمل ـ مد أحدهم ولا نصيفه، فكيف يفضل عليه[4].
المسألة الثانية: ترتيب الصحابة في الفضل:
أفضلهم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي رضي الله عنهم، هكذا كان عليه أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
كما يدلُّ عليه النص الذي رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: «كنا في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم لا نعدل بأبي بكر أحدًا، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نترك أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم لا نفاضل بينهم»[5].
ويدل عليه إجماع الصحابة رضي الله عنهم في تقديمهم عثمان على علي رضي الله عنه في الخلافة؛ لفضل عثمان كما صح عن عبد الله بن مسعود قال: «أمَّرنا خير من بقي، ولم نَألُ»[6].
وقد رأى بعض أهل السُّنَّة من أهل الكوفة تقديم علي على عثمان، ثم استقر قول أهل السُّنَّة على ما كان عليه أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
قال عبد الله بن المبارك: «نأخذ باجتماع أصحاب صلّى الله عليه وسلّم، وندع ما سواه، وقد اجتمعوا على أن عثمان خيرهم، فعثمان خير هذه الأمة بعد أبي بكر وعمر، وبعدهم علي، ثم خير هذه الأمة بعد هؤلاء الأربعة أصحاب الشورى، ثم أهل بدر، ثم الأول فالأول من سائر أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم»[7].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في بيانه لأصول اعتقاد أهل السُّنَّة: «ويقرون بما تواتر به النقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وعن غيره من أن خير هذه الأمة بعد نبيّها أبو بكر، ثم عمر، ويثلثون بعثمان، ويربعون بعلي رضي الله عنهم كما دلَّت عليه الآثار، وكما أجمع الصحابة رضي الله عنهم على تقديم عثمان في البيعة. مع أن بعض أهل السُّنَّة كانوا قد اختلفوا في عثمان وعلي رضي الله عنهما، بعد اتفاقهم على تقديم أبي بكر وعمر؛ أيهما أفضل، فقدم قوم عثمان وسكتوا أو ربعوا بعلي، وقدم قوم عليًّا، وقوم توقفوا لكن استقر أهل السُّنَّة على تقديم عثمان»[8].
ثم يأتي في الفضل بعد الأربعة الخلفاء بقية الستة تتمة العشرة المبشرين بالجنة، وهم طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة عامر بن الجراح، فهؤلاء العشرة لا يتقدمهم أحد في الفضل والخير.
عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وسعد في الجنة، وسعيد في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة»[9].
ثم يأتي بعدهم في الفضل: أهل بدر، وهم الذين شهدوا غزوة بدر مع النبي صلّى الله عليه وسلّم من المهاجرين والأنصار، وإن كان أهل بدر من المهاجرين هم أفضل من أهل بدر من الأنصار، وكانوا بضعة عشر وثلاثمائة.
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه؛ أن عبدًا لحاطب جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يشكو حاطبًا، فقال: يا رسول الله، ليدخلن حاطب النار، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كذبت لا يدخلها؛ فإنه شهد بدرًا والحديبية»[10].
عن معاذ بن رفاعة بن رافع الزرقي عن أبيه ـ وكان أبوه من أهل بدر رضي الله عنه ـ قال: «جاء جبريل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال: من أفضل المسلمين، أو كلمة نحوها، قال: وكذلك من شهد بدرًا من الملائكة»[11].
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لمن رمى حاطب بن بلتعة بالنفاق: «أليس من أهل بدر، فقال: لعل الله اطلع إلى أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد وجبت لكم الجنة، أو فقد غفرت لكم»[12].
قال الإمام أحمد رحمه الله: «وخير هذه الأمة بعد نبيّها: أبو بكر الصديق، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان، نقدم هؤلاء الثلاثة كما قدمهم أصحاب رسول الله، لم يختلفوا في ذلك، ثم بعد هؤلاء الثلاثة أصحاب الشورى الخمس: علي بن أبي طالب، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد كلهم يصلح للخلافة، وكلهم إمام، ثم من بعد أصحاب الشورى: أهل بدر من المهاجرين، ثم أهل بدر من الأنصار من أصحاب رسول الله على قدر الهجرة والسابقة أولاً فأولاً»[13].
وقال ابن تيمية في بيان عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة: «ويقدمون المهاجرين على الأنصار»[14].
ثم يليهم في الفضل أهل بيعة الرضوان الذين بايعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تحت الشجرة، وكانوا ألفًا وأربعمائة، وقد أثنى الله عليهم في كتابه كما قال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا *} [الفتح] .
كما أثنى عليهم رسوله الكريم صلّى الله عليه وسلّم؛ حيث ورد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: قال لنا رسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم يوم الحديبيَّة: «أنتم خير أهل الأرض» ، وكنَّا ألفًا وأربعمائة، ولو كنت أبصر اليوم لأريتكم مكان الشجرة[15].
كما ثبت في «الصحيح» عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها»[16].
المسألة الثالثة: السابقون الأولون:
هم كل من أسلم وأنفق من قبل الفتح والمراد بالفتح: صلح الحديبية، وقد أثنى الله تعالى عليهم في كتابه فقال عزّ وجل: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ *} [التوبة] ، وقال عزّ وجل: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ *} [الحديد] .
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن السابقين الأولين هم من صلى إلى القبلتين[17]، وهو ضعيف.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «ذهب جمهور العلماء إلى أن السابقين في قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ *} [التوبة] ، هم هؤلاء الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، وأهل بيعة الرضوان كلهم منهم، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة.
وقد ذهب بعضهم إلى أن السابقين الأولين هم من صلى إلى القبلتين، وهذا ضعيف؛ فإن الصلاة إلى القبلة المنسوخة ليس بمجرده فضيلة، ولأن النسخ ليس من فعلهم الذي يفضلون به، ولأن التفضيل بالصلاة إلى القبلتين لم يدل عليه دليل شرعي، كما دلَّ على التفضيل بالسبق إلى الإنفاق، والجهاد، والمبايعة تحت الشجرة، ولكن فيه سبق الذين أدركوا ذلك على من لم يدركه، كما أن الذين أسلموا قبل أن تفرض الصلوات الخمس هم سابقون على من تأخر إسلامه عنهم، والذين أسلموا قبل أن تجعل صلاة الحضر أربع ركعات هم سابقون على من تأخر إسلامه عنهم، والذين أسلموا قبل أن يؤذن في الجهاد، أو قبل أن يفرض هم سابقون على من أسلم بعدهم، والذين أسلموا قبل أن يفرض صيام شهر رمضان هم سابقون على من أسلم بعدهم، والذين أسلموا قبل أن يفرض الحج هم سابقون على من تأخر عنهم، والذين أسلموا قبل تحريم الخمر هم سابقون على من أسلم بعدهم، والذين أسلموا قبل تحريم الربا كذلك، فشرائع الإسلام من الإيجاب والتحريم كانت تنزل شيئًا فشيئًا، وكل من أسلم قبل أن تشرع شريعة فهو سابق على من تأخر عنه، وله بذلك فضيلة، ففضيلة من أسلم قبل نسخ القبلة على من أسلم بعده هي من هذا الباب»[18].
المسألة الرابعة: عدالة الصحابة:
أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد أن عدلهم الله عزّ وجل، ورضي عنهم، ووصفهم بالصدق وبالفلاح، ووعدهم الحسنى، وأثنى عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ونهى عن سبهم، لا يحتاجون إلى تعديل أحد بعد تعديل الله، وتعديل رسوله صلّى الله عليه وسلّم.
ومن المعلوم أنه لا تعديل أبلغ من تعديل الله عزّ وجل؛ لأنه يخبرنا عن صحة ظواهرهم وبواطنهم[19].
فلا يسوغ لأحد أن يستدرك عليهم في العدل والفضل شيئًا؛ لأن رضا الله عزّ وجل، ورضا رسوله صلّى الله عليه وسلّم، رتبة لا يبلغها إلا من بلغ الغاية في الكمال، فإذا زكاهم الله عزّ وجل، وأثنى عليهم رسوله صلّى الله عليه وسلّم، ونهى عن سبهم فهل يجوز لأحد يؤمن بالله ورسوله، ويرى هذه التزكية، وهذا الثناء أن يتردد في موافقة الله وموافقة رسوله صلّى الله عليه وسلّم في الثناء عليهم.
والله عزّ وجل يقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِيناً *} [الأحزاب] .
قال الحافظ العلائي: «فلا أعدل ممن ارتضاه الله تعالى لصحبة نبيه صلّى الله عليه وسلّم، ونصرته، والسبق إليه، ولا تزكية أفضل من ذلك، ولا تعديل أكمل منه»[20].
وعملاً بهذه التزكية، والتعديل من الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم أجمع أهل السُّنَّة والجماعة على الالتزام بها، فلا يبحث في تعديل أحد ثبتت صحبته للنبي صلّى الله عليه وسلّم، سواء دخل في الفتنة التي حصلت بين الصحابة رضي الله عنهم أو لم يدخل، فكل صحابي فهو عدل، إذ ثبوت الصحبة قطع بالعدالة والتزكية، وليس المراد بعدالة كل واحد من الصحابة رضي الله عنهم أن العصمة له ثابتة والمعصية عليه مستحيلة، ولكن المعنى بهذا أن روايته مقبولة، وقوله مصدق، ولا يحتاج إلى تزكية كما يحتاج غيره إليها[21].
ومسوِّغات عدالة الصحابة واستغنائهم عن تعديل أحد كثيرة؛ منها:
1 ـ ثناء الله عزّ وجل عليهم، ومدحه إياهم، ووصفه لهم بكل جميل، وصفهم بالإيمان والصدق والفلاح وغير ذلك، وأخبر سبحانه وتعالى أنه رضي عنهم، ورضوا عنه، فمن ادعى بعد ذلك في أحد منهم أنه قد سخط عليه لزمه بيان ذلك بدليل قاطع عن الله ولا سبيل إلى ذلك.
2 ـ ثناء النبي صلّى الله عليه وسلّم عليهم، وإخباره بما منحهم الله تعالى من كونهم خير القرون من أمته وأفضلها، وإن أحدًا ممن يأتي بعدهم لا يبلغ أدنى جزء من شأنهم.
فثناء الله عزّ وجل وثناء رسوله صلّى الله عليه وسلّم على الصحابة متحقق لا شك فيه، وكل من أثنى الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم عليه فهو عدل؛ فالصحابة عدول[22].
3 ـ وصفهم بالخير كما في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}: [آل عمران: 110] ، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «خير الناس قرني» الحديث. والخير هنا اسم جنس مضاف، أو صيغة أفعل مضافة، فتعم جميع أنواع الخير، «فمتى جعل أحد من الصحابة في التعديل كمن بعده؛ حتى ينظر في عدالته، ويبحث عنها لم يكن خيرًا ممن بعده مطلقًا»[23].
4 ـ إجماع أهل السُّنَّة على عدالتهم؛ وممن نصَّ على هذا:
أ ـ الحافظ ابن عبد البر، حيث قال: «الصحابة رضي الله عنهم قد كفينا البحث عن أحوالهم؛ لإجماع أهل الحق من المسلمين، وهم أهل السُّنَّة والجماعة؛ على أنهم كلهم عدول»[24].
ب ـ الحافظ النووي حيث قال: «للصحابة رضي الله عنه بأسرهم خصيصة، وهي أنه لا يسأل عن عدالة أحد منهم؛ لكونهم عدولاً على الإطلاق بنصوص الكتاب والسُّنَّة، وإجماع من يعتد به في الإجماع على تعديل جميعهم، ومن لابس الفتن فكذلك، بإجماع من يعتد به»[25].
المسألة الخامسة: كمال علمهم:
علم الصحابة مما يقتضيه حالهم، واختيار الله عزّ وجل لهم لتبليغ رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم من بعده، وشواهده متعددة، وفي وصف الله عزّ وجل لهم بأنهم خير أمة أخرجت للناس أبين دليل، وأوضح حجة على كمال علمهم؛ إذ الخيرية لا بد أن تشتمل على العلم الصحيح الذي لا سبيل إلى حصول مرضاة الله إلا به.
ومن أقوال أهل العلم في كمال علم الصحابة رضي الله عنهم:
قال الشافعي: «وهم فوقنا في كل علم، واجتهاد، وورع وعقل، وأمر استدرك به علم واستنبط به، وآراؤهم لنا أحمد، وأولى بنا من آرائنا عندنا لأنفسنا والله أعلم ومن أدركنا ممن أرضى، أو حكي لنا عنه ببلدنا، صاروا فيما لم يعلموا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيه سُنَّة إلى قولهم إن اجتمعوا، وقول بعضهم إن تفرقوا فهكذا نقول: إذا اجتمعوا أخذنا باجتماعهم، وإن قال واحدهم ولم يخالفه غيره أخذنا بقوله، فإن اختلفوا أخذنا بقول بعضهم، ولم نخرج من أقاويلهم كلهم»[26].
وقال ابن تيمية: «ولهذا كان معرفة أقوالهم في العلم والدين وأعمالهم خيرًا وأنفع من معرفة أقوال المتأخرين وأعمالهم في جميع علوم الدين وأعماله؛ كالتفسير وأصول الدين وفروعه والزهد والعبادة والأخلاق والجهاد وغير ذلك؛ فإنهم أفضل ممن بعدهم كما دلَّ عليه الكتاب والسُّنَّة، فالاقتداء بهم خير من الاقتداء بمن بعدهم ومعرفة إجماعهم ونزاعهم في العلم خير وأنفع من معرفة ما يذكر من إجماع غيرهم ونزاعهم؛ وذلك أن إجماعهم لا يكون إلا معصومًا وإذا تنازعوا فالحق لا يخرج عنهم»[27].
المسألة السادسة: الاقتداء بالصحابة:
الاقتداء بالصحابة والالتزام بفهمهم للنصوص شأن تقتضيه النصوص ويدل عليه الاعتبار والإجماع؛ لكمالهم في العلم والعمل وسلامة منهجهم قطعًا المتحقق بثناء الله عزّ وجل عليهم ورضاه عنهم، وتحقق كمالهم في العلم والعمل.
ومن المسوغ للأخذ بفهمهم:
1 ـ «أن الصحابة سمعوا من النبي صلّى الله عليه وسلّم من الأحاديث الكثيرة ورأوا منه من الأحوال وعلموا بقلوبهم من الأمور ما يوجب لهم من فهم ما أراد بكلامه ما يتعذر على من بعدهم، فليس من سمع ورأى وعلم حال المتكلم كمن كان غائبًا ولم ير ولم يسمع منه، ولكن علم بعض أحواله وسمع بواسطة، وإذا كان الصحابة سمعوا لفظه وفهموا معناه كان الرجوع إليهم في ذلك واجبًا متعينًا ولم يحتج مع ذلك إلى غيرهم، ولهذا قال الإمام أحمد: أصول السُّنَّة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولهذا كان اعتقاد الفرقة الناجية هو ما كان عليه وأصحابه كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم في صفة الفرقة الناجية: هو ما كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي ، أو قال: ما أنا عليه اليوم وأصحابي»[28].
2 ـ اتفاقهم على الهدى والرشد وحسن فهم وبعدهم عن التفرق والاختلاف.
قال شيخ الإسلام: «ومن استقرأ أخبار العالم في جميع الفرق؛ تبين له أنه لم يكن قط طائفة أعظم اتفاقًا على الهدى والرشد، وأبعد عن الفتنة والتفرق والاختلاف من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذين هم خير الخلق بشهادة الله لهم بذلك»[29].
المسألة السابعة: محبتهم ونشر محاسنهم، والاستغفار لهم:
محبة الصحابة رضي الله عنهم ومودتهم والاستغفار لهم، ونشر محاسنهم، تفرضها أشياء كثيرة، فمن نظر في سيرة القوم وأحوالهم مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما قاموا به من نصرة الإسلام وبذلهم أنفسهم وأموالهم طاعة لله ورسوله وكمالهم في الصدق والإخلاص ومكارم الأخلاق وزهدهم في الدنيا من اطلع على هذه الحقائق لم يملك إلا أن يحبهم ويترضى عنهم[30].
والنصوص الشرعية تدل على أن محبة الصحابة رضي الله عنهم وموالاتهم واجبة؛ لأنه قد ثبت أن الله يحبهم، ومن كان الله يحبه وجب علينا أن نحبه؛ فإن الحب في الله والبغض في الله واجب، وهو أوثق عرى الإيمان، وكذلك هم من أكابر أولياء الله المتقين، وقد أوجب الله موالاتهم؛ بل قد ثبت أن الله رضي عنهم ورضوا عنه بنص القرآن، وكل من رضي عنه الله فإنه يحبه والله يحب المتقين والمحسنين والمقسطين والصابرين، وهؤلاء أفضل من دخل في هذه النصوص من هذه الأمة بعد نبيّها صلّى الله عليه وسلّم[31].
قال اللالكائي: «سياق ما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في الحث على حب الصحابة، وذكر محاسنهم، والترحم عليهم، والاستغفار لهم، والكف عن مساوئهم»[32].
قال القرطبي في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر: 10] : «هذه الآية دليل على وجوب محبة الصحابة؛ لأنه جعل لمن بعدهم حظًّا في الفيء»، ما أقاموا على محبتهم، وموالاتهم، والاستغفار لهم، وأن من سبهم، أو واحدًا منهم، أو اعتقد فيه شرًّا إنه لا حق له في الفيء، روى ذلك مالك، وغيره. قال مالك: من كان يبغض أحدًا من أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم، أو كان في قلبه عليهم غل، فليس له حق في فيء المسلمين، ثم قرأ: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ *} [الحشر] [33].
المسألة الثامنة: الشهادة بالجنة لمن شهد له النبي صلّى الله عليه وسلّم:
من حق الصحابة رضي الله عنهم الشهادة لمن شهد له النبي صلّى الله عليه وسلّم منهم بالجنة، وعلى هذا معتقد أهل السُّنَّة والجماعة، فهم يشهدون لمن شهد له النبي صلّى الله عليه وسلّم بالجنة.
قال الصابوني: «فأما الذين شهد لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أصحابه بأعيانهم؛ بأنهم من أهل الجنة، فإن أصحاب الحديث يشهدون لهم بذلك، تصديقًا منهم للرسول صلّى الله عليه وسلّم فيما ذكره ووعده لهم، فإنه صلّى الله عليه وسلّم لم يشهد لهم بها إلا بعد أن عرف ذلك»[34].
وقال ابن تيمية: «ويشهدون بالجنة لمن شهد له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالجنة؛ كالعشرة، وثابت بن قيس بن شماس، وغيرهم من الصحابة»[35].
المسألة التاسعة: سلامة القلب من الغل والكراهية لهم: سلامة قلب المؤمن من الغل والكراهية لأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمر يحبه الله عزّ وجل ويثني على المتصف به[36]:
ولذا قال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ *} [الحشر] فصدق الصحابة رضي الله عنهم في إيمانهم بالله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم وثناء الله ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليهم وما اتصفوا به من جميل الأوصاف الجميلة تستلزم سلامة القلب من الغل لهم والكراهية لهم؛ بل تقتضي المحبة لهم والتعظيم، «ومن عرف السيرة وأيام رسول الله عليه الصلاة والسلام وما قاموا به من الأمر ثم كان مؤمنًا يحب الله ورسوله لم يملك أن لا يحبهم»[37].
وقد كثرت أقوال الأئمة في التأكيد على سلامة القلوب لأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وطهارتها من الكراهية لهم أو الغض من شأنهم.
قال الشوكاني: «أمرهم الله أن يستغفروا لأنفسهم، ولمن تقدمهم من المهاجرين والأنصار {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ *} [الحشر] ؛ أي: غشًّا وبغضًا وحسدًا. أمرهم الله سبحانه بعد الاستغفار للمهاجرين والأنصار أن يطلبوا من الله سبحانه أن ينزع من قلوبهم الغل للذين آمنوا على الاطلاق، فيدخل في ذلك الصحابة دخولاً أوليًّا؛ لكونهم أشرف المؤمنين ولكون السياق فيهم، فمن لم يستغفر للصحابة على العموم، ويطلب رضوان الله لهم فقد خالف ما أمر الله به في هذه الآية، فإن وجد في قلبه غلًّا لهم فقد أصابه نزغ من الشيطان، وحلَّ به نصيب وافر من عصيان الله بعداوة أوليائه وخير أمة نبيّه صلّى الله عليه وسلّم وانفتح له باب من الخذلان يفد به على نار جهنم، إن لم يتدارك نفسه باللجأ إلى الله سبحانه والاستغاثة به، بأن ينزع عن قلبه ما طرقه من الغل لخير القرون وأشرف هذه الأمة»[38].
المسألة العاشرة: الإمساك عما شجر بينهم:
المراد بما شجر بينهم: الاختلاف الواقع بينهم بعد استشهاد الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه، وهو ما يعرف بموقعة الجمل وصفين.
معنى الإمساك عما شجر بينهم: ترك ذكر الأخبار الواردة في الفتنة بينهم في الجمل وصفين وأن لا يحدث بها كتابة وقراءة وإقراء وسماعًا وتسميعًا[39].
قال حنبل: «أردت أن أكتب كتاب صفين والجمل عن خلف بن سالم، فأتيت أبا عبد الله أكلمه في ذاك وأسأله فقال: وما تصنع بذاك وليس فيه حلال ولا حرام؟ قال حنبل: فأتيت خلف فكتبتها، فبلغ أبا عبد الله فقال لأبي: خذ الكتاب فاحبسه عنه ولا تدعه ينظر فيه»[40].
قال الخطيب البغدادي: «وليجتنب المحدث رواية ما شجر بين الصحابة، ويمسك عن ذكر الحوادث التي كانت منهم، ويعم جميعهم بالصلاة عليهم، والاستغفار لهم»[41].
تحقيقًا لمراد الله ومراد رسوله صلّى الله عليه وسلّم في الثناء على الصحابة وسلامة القلوب لهم وأنهم لا يذكرون إلا بخير وإغلاقًا للسبل التي قد تؤدي إلى النيل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أجمع أهل السُّنَّة على الإمساك عما شجر بين أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذ لا يخلو حالهم من أمرين:
الأول: اجتهاد، فهم بين أجر وأجرين، أجر للمخطئ وأجران للمصيب.
الثاني: إذا قُدِّر ذنب فلهم من السوابق والخير العظيم، وقد سبق لهم من الله عزّ وجل الثناء والرضا والوعد بالجنة، وهذه السيئات مغمورة بالحسنات العظيمة، ومكفرة بأسباب عديدة بحيث يتحقق لهم وعد الله بالحسنى. قال أبو القاسم الأصبهاني: «وما جرى بين علي ومعاوية رضي الله عنهما فقال السلف: من السُّنَّة السكوت عما شجر بين أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا ذكر أصحابي فأمسكوا» [42]. ومعلوم أنه لا يأمرنا بالإمساك في ذكر محاسنهم، وإنما أمرنا بالإمساك عن ذمهم. وقال عمر بن عبد العزيز وسئل عن أمر الحرب التي جرت بينهم فقال: دماء كفى الله يدي فيها فلا أحب أن أغمس لساني فيها وأرجو أن يكونوا ممن قال الله عزّ وجل فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ *} [الحجر] »[43].
والمسوِّغ لقول أهل السُّنَّة في الإمساك عما جرى بين الصحابة أمور عدة، منها:
1 ـ أن العلم بتفاصيل كل واحد منهم باطنًا وظاهرًا وحسناته وسيئاته واجتهاداته أمر يتعذر علينا معرفته، فكان كلامنا في ذلك كلامًا فيما لا نعلمه، والكلام بلا علم حرام[44].
2 ـ «أن الخوض فيما شجر يوقع في نفوس كثير من الناس بغضًا وذمًّا، ويكون هو في ذلك مخطئًا بل عاصيًا فيضر نفسه، ومن خاض معه في ذلك كما جرى ـ لأكثر من تكلم في ذلك ـ فإنهم تكلموا بكلام لا يحبه الله ولا رسوله صلّى الله عليه وسلّم، إما من ذم من لا يستحق الذم وإما من مدح أمور لا تستحق المدح»[45].
3 ـ أننا لسنا قضاة عليهم حتى نحكم بينهم، ولا نسأل عما حصل بينهم[46] والله هو الذي يحكم بينهم، فأمرهم إليه وهو أرحم الراحمين.
4 ـ أن هذه فتنة انقضت وولت ولا تعلق للناس بها، وليس فيها شيء من مسائل الحلال والحرام حتى نتعبد بعلمها[47].
المسألة الحادية عشرة: حكم سب الصحابة:
السب هو: «الكلام الذي يقصد به الانتقاص والاستخفاف، وهو ما يفهم منه السب في عقول الناس، على اختلاف اعتقاداتهم؛ كاللعن، والتقبيح ونحوه»[48].
سبّ الصحابة رضي الله عنهم كبيرة من كبائر الذنوب بالإجماع كما حكاه السفاريني بقوله: وكون سب أصحابه كبيرة، هذا بلا خلاف، وإنما اختلفوا هل يكفر من سبهم أم لا؟[49].
وقلما يخلو مصنف في الكبائر من ذكره فيها، وكتب أهل العلم المشهورة في الكبائر وغيرها شاهدة بهذا.
وممن عدَّه من الكبائر: الحافظ الذهبي، وابن القيِّم، وابن النحاس، وابن حجر الهيتمي، وابن المبرد الحنبلي، والسفاريني وغيرهم[50]. وتحريم السب دلَّ عليه الكتاب والسُّنَّة[51].
فمن أدلة الكتاب والسُّنَّة:
1 ـ النصوص الكثيرة الصريحة في النهي عن سبهم مثل حديث: «لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه»[52].
2 ـ النصوص الدالة على فضلهم، وأنهم خير أمة أخرجت للناس، وما جاء فيهم من الأوصاف الحميدة مثل هم الصادقون والمفلحون.
3 ـ النصوص الدالة على محبة الله ورضاه عنهم ومحبة رسوله صلّى الله عليه وسلّم لهم وثنائه عليهم.
ويرى كثير من أهل العلم: أن سبّ الصحابة كفر بالله عزّ وجل، كفر مخرج من الملة[53]، وممن نقل عنه تكفير ساب الصحابة: سفيان الثوري، وأبو عبيد القاسم بن سلام، والبخاري، والطحاوي كما في عقيدته المشهورة، لما ذكر الصحابة قال: «وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان»[54].
وهو قول معظم الحنفية[55]، ومن أدلتهم: أن سب الصحابة رضي الله عنهم مصادم للمتواتر من الكتاب والسُّنَّة الدال على فضلهم، وعلو مقامهم، ومحبة الله عزّ وجل لهم، ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، ومقتضٍ لتكذيب الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم في الثناء عليهم، والرضا عنهم، ووعدهم الجنة، ووصفهم بالصدق والإيمان، وغير ذلك[56].
ورأى آخرون: أنه ليس بكفر؛ لكن فاعله يؤدب ويحبس حتى يرجع عن قوله. وممن نقل عنه هذا القول عمر بن عبد العزيز، وأحمد بن حنبل في رواية، وإسحاق بن راهويه وكثير من الحنابلة، وهو المشهور من مذهب مالك[57].
والمتمعِّن في المنقول عن العلماء في حكم من سب الصحابة يمكنه أن يجمع بين القولين، وذلك بحمل قول من يرى تكفير الساب على المقالات الغليظة، وخصوصًا الطعن في دينهم.
ومن لا يرى التكفير يحمل قوله على المقالات الخفيفة؛ كأن يقول عن أحدهم: إنه بخيل، أو جبان، ونحو ذلك. فبهذا يكون القولان قولاً واحدًا.
والذي يظهر أن السب متفاوت؛ ليس في درجة واحدة فلا يعطى حكمًا واحدًا؛ بل ينظر في حقيقة السب، وفيمن وقع عليه السب، فلا بد من التفصيل في الحكم، فمن السب ما هو كفر، ومنه ما ليس بكفر.
فمن قال: إن الصحابة ارتدوا، أو فسقوا، ونحو ذلك فهو كافر.
ومن قال في أحدهم: إنه بخيل أو جبان ونحو ذلك. فلا يكفر.
كما أن من وقع عليه السب من الصحابة لا يعطى سابه حكمًا واحدًا؛ لأن الصحابة ليسوا في درجة واحدة، بعضهم أفضل من بعض، فسب الفاضل منهم، ومن بانت منزلته، وعظمت مكانته؛ كأبي بكر وعمر ليس كسب غيرهما من متأخري الصحابة، الذين لم يشتهروا، أو لم تثبت لهم فضيلة بخصوصهم.
ولذا رأى كثير من أهل العلم تكفير ساب أبي بكر وعمر؛ لأن الأمة أجمعت على إمامتهما[58].
وممن يرى التفصيل: شيخ الإسلام ابن تيمية كما في قوله: «فمن أصناف السابَّة من لا ريب في كفره، ومنهم من لا يحكم بكفره، ومنهم من تردد فيه»[59].
وذكر بعض الحالات التي يكفر فيها والتي لا يكفر فقال: «وأما من سبَّهم سبًّا لا يقدح في عدالتهم، ولا في دينهم، مثل وصف بعضهم بالبخل، أو الجبن، أو قلة العلم، أو عدم الزهد، ونحو ذلك، فهذا هو الذي يستحق التأديب والتعزير، ولا نحكم بكفره بمجرد ذلك، وعلى هذا يحمل كلام من لم يكفرهم من أهل العلم، وأما من لعن وقبح مطلقًا فهذا محل الخلاف فيهم؛ لتردد الأمر بين لعن الغيظ ولعن الاعتقاد، وأما من جاوز ذلك إلى أن زعم أنهم ارتدوا بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا نفرًا قليلاً، لا يبلغون بضعة عشر نفسًا، أو أنهم فسقوا عامتهم، فهذا لا ريب في كفره؛ لأنه مكذب لما نصه القرآن في غير موضع من الرضا عنهم، والثناء عليهم؛ بل من يشك في كفر مثل هذا فإن كفره متعين، فإن مضمون هذه المقالة أن نقلة الكتاب والسُّنَّة كفار أو فساق، وأن هذه الآية التي هي: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ *} [آل عمران] ؛ وخيرها هو القرن الأول كان عامتهم كفارًا أو فساقًا. ومضمونها أن هذه الأمة شر الأمم، وأن سابقي هذه الأمة هم شرارها، وكفر هذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام، ولهذا تجد عامة من ظهر عليه شيء من هذه الأقوال فإنه يتبين أنه زنديق، وعامة الزنادقة إنما يستترون بمذهبهم»[60].
المسألة الثانية عشرة: عقوبة من أساء إليهم:
عقوبة من أساء إلى الصحابة رضي الله عنهم مأثورة عن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما صح عن علي أنه قال في من فضَّله على أبي بكر وعمر رضي الله عنهم: عليه ما على المفتري.
فعن علقمة قال: سمعت عليًّا على المنبر فضرب بيده على منبر الكوفة يقول: «بلغني أن قومًا يفضلوني على أبي بكر وعمر، ولو كنت تقدمت في ذلك لعاقبت فيه، ولكني أكره العقوبة قبل التقدمة، من قال شيئًا من هذا فهو مفترٍ، عليه ما على المفتري؛ إن خيرة الناس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبو بكر، ثم عمر، وقد أحدثنا أحداثًا يقضي الله فيها ما أحب»[61]. ورواه عن علي رضي الله عنه أيضًا سويد بن غفلة[62]، والحكم بن جحل[63].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «من لعن أحدًا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورضي عنهم؛ كمعاوية وعمرو بن العاص، أو من هو أفضل من هؤلاء كأبي موسى الأشعري وأبي هريرة، أو من هو أفضل من هؤلاء كطلحة والزبير وعثمان أو علي أو أبي بكر أو عمر أو عائشة أو نحو هؤلاء من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم ورضي الله عنهم فإنه يستحق العقوبة البليغة باتفاق المسلمين وتنازعوا؛ هل يعاقب بالقتل أو ما دون القتل»[64].
وإذا كان الخليفتان الراشدان عمر وعلي رضي الله عنهما يجلدان حد المفتري من يفضِّل عليًّا على أبي بكر وعمر أو من يفضل عمر على أبي بكر مع أن مجرد التفضيل ليس فيه سبّ ولا عيب علم أن عقوبة السب عندهما فوق هذا بكثير[65].
والعقوبة قد تصل إلى القتل، فعن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى قال: قلت لأبي: ما تقول في رجل سبّ أبا بكر؟ قال: يقتل، قلت: سبّ عمر؟ قال: يقتل[66].
قال الشوكاني بعد ما تحدث عن حال الرافضة: «ولقد كان القضاة من أهل المذاهب في البلاد الشامية، والمصرية، والرومية، والمغربية يحكمون بإراقة دم من ظهر منه دون ما يظهر من هؤلاء، حسبما تحكيه كتب التواريخ، وقد أصابوا أصاب الله بهم»[67].
[1] مجموع الفتاوى (3/156).
[2] انظر: منهاج السُّنَّة (6/305).
[3] تقدم تخريجه.
[4] انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (4/527)، ومنهاج السُّنَّة (6/226)، والجامع في السنن والآداب والمغازي والتاريخ لابن أبي زيد (115) [مؤسسة الرسالة، ط2، 1403هـ]، والأجوبة العراقية (180) [دار ابن القيم، ط1، 1428هـ]، وانظر أيضًا: (173).
[5] أخرجه البخاري (كتاب فضائل أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، رقم 3697).
[6] أخرجه ابن سعد في الطبقات (3/63) [دار صادر، ط1]، وأحمد في فضائل الصحابة (1/461) [جامعة أم القرى، ط1، 1417هـ]، والآجري في الشريعة (4/1753) [دار الوطن، ط2]، والطبراني في المعجم الكبير (9/169 ـ 170) [دار إحياء التراث العربي، ط2، 1406هـ]، وقال الهيثمي في المجمع (9/88) [مكتبة القدسي]: «رواه الطبراني بأسانيد، ورجال أحدها رجال الصحيح».
[7] أصول السُّنَّة لابن أبي زمنين (274).
[8] مجموع الفتاوى (3/153).
[9] أخرجه الترمذي (أبواب المناقب، رقم 3747)، وأحمد (3/209) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وابن حبان (كتاب إخباره صلّى الله عليه وسلّم عن مناقب الصحابة، رقم 7002)، وصحَّحه الألباني في صحيح الجامع (رقم 50) [المكتب الإسلامي].
[10] أخرجه مسلم (كتاب فضائل الصحابة، رقم 2495).
[11] أخرجه البخاري (كتاب المغازي، رقم 3992).
[12] أخرجه البخاري (كتاب المغازي، رقم 3983)، ومسلم (كتاب فضائل الصحابة، رقم 2494).
[13] اعتقاد الإمام أحمد ضمن شرح أصول اعتقاد أهل السُّنَّة والجماعة (1/179) [مؤسسة الحرمين الخيرية، ط8، 1424هـ].
[14] العقيدة الواسطية ضمن مجموع الفتاوى (3/152).
[15] أخرجه البخاري (كتاب المغازي، رقم 4154)، ومسلم (كتاب الإمارة، رقم 1856).
[16] أخرجه مسلم (كتاب فضائل الصحابة، رقم 2496).
[17] انظر: تهذيب الأسماء واللغات (1/51) [دار الكتب العلمية].
[18] منهاج السُّنَّة النبوية (2/26 ـ 27) [ط1، 1406هـ].
[19] انظر: إحكام الفصول للباجي (374) [دار الغرب الإسلامي، ط1، 1407هـ].
[20] تحقيق منيف الرتبة للعلائي (66) [دار العصمة، ط1، 1410هـ].
[21] انظر: تحقيق منيف الرتبة (86)، والبحر المحيط للزركشي (4/300) [دار الصفوة، ط1، 1409هـ].
[22] انظر: شرح مختصر الروضة (2/181) [مؤسسة الرسالة، ط3، 1419هـ]، وانظر: إحكام الفصول (374).
[23] تحقيق منيف الرتبة (72).
[24] الاستيعاب (1/129)، وانظر: التمهيد (22/47) [وزارة الأوقاف المغربية، ط1].
[25] إرشاد طلاب الحقائق للنووي (195) [دار البشائر الإسلامية، ط1، 1412هـ].
[26] المدخل إلى السنن الكبرى للبيهقي (110 ـ 111) [دار الخلفاء للكتاب الإسلامي، ط1].
[27] الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (13/24).
[28] جواب الاعتراضات المصرية على الفتيا الحموية (15) [دار عالم الفوائد، ط1، 1429هـ].
[29] منهاج السُّنَّة (6/364 ـ 367).
[30] الصارم المسلول (581) [عالم الكتب، ط1402هـ].
[31] انظر: منهاج السُّنَّة (7/104) بتصرف.
[32] شرح أصول أهل اعتقاد أهل السُّنَّة (7/1241) [مكتبة طيبة، ط1].
[33] الجامع لأحكام القرآن (18/22) [دار الكتب العلمية، ط1، 1408هـ].
[34] عقيدة السلف أصحاب الحديث (98) [مكتبة الغرباء، ط2، 1415هـ].
[35] مجموع الفتاوى (3/153).
[36] الصارم المسلول (574).
[37] الصارم المسلول (581).
[38] فتح القدير (5/268) [دار الوفاء].
[39] انظر: لوامع الأنوار البهية (2/387) [مؤسسة الخافقين، ط1402هـ].
[40] السُّنَّة للخلال (2/464) رقم (723).
[41] الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/119) [مكتبة المعارف الرياض، ط1، 1403هـ].
[42] أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (2/96) [مكتبة ابن تيمية، ط2]، من حديث ثوبان رضي الله عنه، وقال الهيثمي: «فيه يزيد بن ربيعة، وهو ضعيف». مجمع الزوائد (7/202) [مكتبة القدسي]. وأخرجه أيضًا الطبراني في الكبير (10/243) [مكتبة ابن تيمية، ط2]، وأبو نعيم في الحلية (4/108) [دار الفكر]، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وقال الهيثمي: «فيه مسهر بن عبد الملك، وثقه ابن حبان وغيره، وفيه خلاف، وبقية رجاله رجال الصحيح». مجمع الزوائد (7/202). وروي من طرق أخرى، وقد قواه بمجموعها الألباني في السلسلة الصحيحة (1/75، رقم 34).
[43] الحجة في بيان المحجة (2/526) [دار الراية، ط1].
[44] انظر: منهاج السُّنَّة (4/311) بتصرف.
[45] المرجع السابق (4/449).
[46] انظر: المرجع السابق (6/254).
[47] انظر: المرجع السابق (5/146).
[48] الصارم المسلول (561).
[49] الذخائر لشرح منظومة الكبائر للسفاريني (325) [دار البشائر الإسلامية، ط1، 1422هـ].
[50] انظر: الكبائر وتبيين المحارم للذهبي (149 ـ 151) [دار ابن كثير، ط3، 1407هـ]، وأعلام الموقعين وتنبيه الغافلين لابن النحاس (198) [مكتبة الحرمين، ط2]، وإرشاد الحائر إلى علم الكبائر لابن عبد الهادي (36) [دار البشائر الإسلامية، ط1، 1425هـ]، والزواجر عن اقتراف الكبائر لابن حجر الهيتمي (2/379) [دار الكتب العلمية، ط1، 1407هـ]، والذخائر لشرح منظومة الكبائر (324)، وتذكرة أولي البصائر في معرفة الكبائر (303) [دار ابن كثير، ط1، 1424هـ]، وشم العوارض في ذم الروافض للقاري (88) [دار الراية الأثرية، ط1].
[51] وقد توسع شيخ الإسلام ابن تيمية في جمع الأدلة من الكتاب والسُّنَّة على تحريم سب الصحابة في كتابه الصارم المسلول (571)، وانظر: شم العوارض(98).
[52] تقدم تخريجه.
[53] ذب الإمام الشوكاني (52).
[54] شرح العقيدة الطحاوية (2/704) (72).
[55] الأجوبة العراقية (146).
[56] محض الصواب في فضائل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لابن عبد الهادي (3/1120) [الجامعة الإسلامية، ط2، 1427هـ]، والأجوبة العراقية (144).
[57] الصارم المسلول (568).
[58] انظر: إلقام الحجر لمن زكَّى سابّ أبي بكر وعمر للسيوطي (71 ـ 72) [دار اللواء، القاهرة، ط1، 1411هـ].
[59] الصارم المسلول (587).
[60] الصارم المسلول (586).
[61] أخرجه ابن أبي عاصم في السُّنَّة (2/480) [المكتب الإسلامي، ط1، 1400هـ]، وعبد الله بن أحمد في السُّنَّة (2/588) [دار ابن القيم، ط1]، وحسَّنه الألباني في ظلال الجنة.
[62] أخرجه من طريقه: ابن الأعرابي في معجمه (1/303) [دار ابن الجوزي، ط1]، والآجري في الشريعة (4/1725) [دار الوطن، ط2].
[63] أخرجه من طريقه: عبد الله بن أحمد في زوائده على فضائل الصحابة (1/83) [مؤسسة الرسالة، ط1].
[64] مختصر الفتاوى المصري لابن تيمية (609)، ومجموع الفتاوى له (35/58).
[65] الصارم المسلول (586).
[66] أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده (3/729) [مكتبة الإيمان، ط1]، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (7/1339) [دار طيبة، ط8]. وانظر: الصارم المسلول (584).
[67] ذب الإمام الشوكاني (78).
1 ـ أن إيمان المرء لا يكمل إلا بمحبتهم؛ إذ محبتهم جزء من الإيمان.
2 ـ إبراز تميزهم في أدائهم الأعمال الشرعية، وتوضيح الطريقة التي كانوا عليها بحيث يقتدى بهم، ويسار على منهجهم، ويعرف قدرهم في العلم والفهم، وأن ما هم عليه هو المنهج السليم، المرضي لله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم.
3 ـ والتنبيه عما لهم من الحقوق التي فرط فيها كثير من الناس، واستساغوا النيل منهم، والتهوين من شأنهم، والعدول عن منهجهم وطريقهم.
يرى الرافضة أن الصحابة كلهم كفروا إلا سبعة عشر صحابيًّا وسموهم[1]، ويرى الخوارج بكفر علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «الخوارج الذين يكفرون عليًّا، أو النواصب الذين يفسقونه؛ إنه كان ظالمًا طالبًا للدنيا، وإنه طلب الخلافة لنفسه، وقاتل عليها بالسيف، وقتل على ذلك ألوفًا من المسلمين، حتى عجز عن انفراده بالأمر، وتفرق عليه أصحابه، وظهروا عليه فقاتلوه»[2].
ويكفي في الرد على كلتا الطائفتين ما سبق تقريره تحت المسائل، من فضل الصحابة، وعقوبة من سبهم، أو لعنهم، أو كفرهم.
[1] انظر: روضة الكافي للكليني (115) [دار الأضواء، بيروت]، وبحار الأنوار للمجلسي (6/749) [طبعة دار الطباعة المخصوصة، الهند، 1297هـ].
[2] منهاج السُّنَّة النبوية (2/59).
1 ـ «عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة في الصحابة الكرام»، لناصر الشيخ.
2 ـ «فضائل الصحابة»، للإمام أحمد بن حنبل.
3 ـ «الاستيعاب في معرفة الأصحاب»، لابن عبد البر.
4 ـ «الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث»، لأحمد شاكر.
5 ـ «منهاج السُّنَّة النبوية»، لابن تيمية.
6 ـ «الشريعة»، للآجري.
7 ـ «مجموع الفتاوى» (ج3)، لابن تيمية.
8 ـ «الإمامة والرد على الرافضة»، للأصبهاني.
9 ـ «الإصابة في تمييز الصحابة»، لابن حجر.
10 ـ «عدالة الصحابة بين المسلمين»، لمحمد الفهداوي.
11 ـ «النهي عن سب الأصحاب وما فيه من الإثم والعقاب»، لمحمد بن عبد الواحد المقدسي.