الصَّحيفة: المبسوط من الشيء؛ كصحيفة الوجه. والصحيفة: التي يكتب فيها، وجمعها: صحائف، وصحف[1]. قال ابن فارس: «الصاد والحاء والفاء أصل صحيح يدل على انبساط في شيء وسعة. يقال: إن الصحيف: وجه الأرض. والصحيفة: بشرة وجه الرجل، ومن الباب: الصحيفة، وهي التي يكتب فيها، والجمع: صحائف، والصحف أيضًا كأنه جمع صحيف»[2].
[1] ينظر: مقاييس اللغة (563) [دار إحياء التراث العربي، 1429هـ]، ومفردات ألفاظ القرآن (476) [دار القلم، ط1، 1412هـ].
[2] مقاييس اللغة (563).
الصُّحف: هي التي يكتب فيها الكرام الكاتبون أعمال العباد، ثم يؤتى بها يوم القيامة، ويحصى ما فيها ويعد على العبد؛ ليعلم العبد أن الله تعالى ما فرط في الكتاب من شيء؛ فيُعطى المؤمن كتابه بيمينه، وأما الكافر فيعطى كتابه بشماله من وراء ظهره[1].
[1] ينظر: لوائح الأنوار السنية (2/206 ـ 208)، واللآلي البهية في شرح الواسطية (2/238) [دار العاصمة، ط1]
قال الله تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا *اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا *} [الإسراء] ، وقال جلّ جلاله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَأُوا كِتَابِيَهْ *إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ *فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ *فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ *قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ *كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ *وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ *وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ *يَالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ *مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ *هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ *} [الحاقة] .
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «يُدنى المؤمن يوم القيامة من ربه عزّ وجل حتى يضع عليه كنفه، فيقرره بذنوبه، فيقول: هل تعرف؟ فيقول: أي رب أعرف. قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وإني أغفرها لك اليوم. فيعطى صحيفة حسناته»[1].
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله سيخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعـين سجلًّا، كل سجل مثل مد البصر، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئًا؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب. فيقول: أفلك عذر؟ فيقول: لا يا رب. فيقول: بلى؛ إن لك عندنا حسنة؛ فإنه لا ظلم عليك اليوم. فتخرج بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. فيقول: احضر وزنك. فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فقال: إنك لا تظلم. قال: فتوضع السِّجّلات في كفة، والبطاقة في كفة، فطاشت السِّجلات، وثقلت البطاقة. فلا يثقل مع اسم الله شيء»[2].
وعن عبد الله بن بسر رضي الله عنه قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارًا كثيرًا»[3].
[1] أخرجه البخاري (كتاب التفسير، رقم 4685)، ومسلم (كتاب التوبة، رقم 2768).
[2] أخرجه الترمذي (أبواب الإيمان، رقم 2639) وحسَّنه، وابن ماجه (كتاب الزهد، رقم 4300)، وأحمد (11/570) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وابن حبان (كتاب الإيمان، رقم 225)، وصحَّحه الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 135).
[3] أخرجه ابن ماجه (كتاب الأدب، رقم 3818)، وصحح إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (4/135) [دار العربية، ط2]، والألباني في صحيح الترغيب والترهيب (رقم 1618) [مكتبة المعارف، ط5].
قال أبو الحسن الأشعري: «وأن الخلق يؤتون يوم القيامة بصحائف فيها أعمالهم، فمن أوتي كتابه بيمينه حوسب حسابًا يسيرًا، ومن أوتي كتابه بشماله فأولئك يصلون سعيرًا»[1].
وقال السفاريني: «والحاصل: أن نشر الصحف وأخذها باليمين والشمال مما يجب الإيمان به، وعقد القلب بأنه حق لثبوته بالكتاب والسُّنَّة والإجماع»[2].
[1] رسالة إلى أهل الثغر (298) [الجامعة الإسلامية بالمدينة، ط2، 1427هـ].
[2] لوامع الأنوار البهية (2/181) [المكتب الإسلامي، دار أسامة].
المسألة الأولى: وقت أخذ الصحف:
ظاهر النصوص تبيِّن أن وقت أخذ الصحف يكون عند الحساب، بعد الشفاعة العظمى؛ بعدما يشفع النبي صلّى الله عليه وسلّم عند الله جلّ جلاله حتى يقضي ويفصل بين العباد، ويحاسب سبحانه العباد على أعمالهم[1]. وقبل الميزان، قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ *فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا *} [الانشقاق] ، والله أعلم.
قال القرطبي: «فإذا وقف الناس على أعمالهم من الصحف التي يؤتونها بعد البعث حوسبوا بها. قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ *فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا *} [الانشقاق] ، فدلَّ على أن المحاسبة تكون عند إتيان الكتب؛ لأن الناس إذا بعثوا لا يكون ذاكرين لأعمالهم.
قال الله تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمْ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة: 6] »[2].
المسألة الثانية: كيفية أخذ الصحيفة:
دلَّت النصوص على أن المؤمن يأخذ صحيفته بيمينه من أمامه، قال تعالى: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَأُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً *} [الإسراء] ، وقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ *فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا *وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا *} [الانشقاق] . وأما الكافر فيأخذ صحيفته بشماله من وراء ظهره، قال : {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ *فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا *وَيَصْلَى سَعِيرًا *} [الانشقاق] . وقال سبحانه: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ *وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ *} [الحاقة] . قال الشنقيطي: «لا منافاة بين أخذه بشماله، وإيتائه وراء ظهره؛ لأن الكافر تُغَلُّ يمناه إلى عنقه، وتُجعل يسراه وراء ظهره، فيأخذ بها كتابه»[3].
وذكر السفاريني أن المؤمن الفاسق يأخذ كتابه بشماله من أمامه[4]، ولم يذكر دليلاً على قوله. وقال يوسف بن عمرو من المالكية: «اختلف في عصاة الموحدين، فقيل: يأخذون كتبهم بأيمانهم، وقيل بشمائلهم. وعلى القول بأنهم يأخذونها بأيمانهم قيل: يأخذونها قبل الدخول في النار فيكون ذلك علامة على عدم خلودهم فيها، وقيل: يأخذونها بعد الخروج منها»[5]. والله أعلم.
المسألة الثالثة: تطاير الصحف:
روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يُعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات: فأما عرضتان فجدال ومعاذير، وأما الثالثة فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي، فآخذ بيمينه وآخذ بشماله»[6]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يُعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات: فأما عرضتان فجدال ومعاذير، وأما العرضة الثالثة فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي، فآخذ بيمينه وآخذ بشماله» [7]. وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: «قلت: يا رسول الله، هل يذكر الحبيب حبيبه يوم القيامة؟ قال: يا عائشة، أما عند ثلاث فلا، أما عند الميزان حتى يثقل أو يخف فلا، وأما عند تطاير الكتب، فإما أن يعطى بيمينه أو يعطى بشماله فلا، وحين يخرج عنق من النار فينطوي عليهم، ويتغيظ عليهم، ويقول ذلك العنق: وكلت بثلاثة، وكلت بثلاثة، وكلت بثلاثة: وكلت بمن ادعى مع الله إلهًا آخر، ووكلت بمن لا يؤمن بيوم الحساب، ووكلت بكل جبار عنيد. قال: فينطوي عليهم ويرمي بهم في غمرات، ولجهنم جسر أدق من الشعر، وأحد من السيف، عليه كلاليب وحسك يأخذون من شاء الله، والناس عليه كالطرف، وكالبرق، وكالريح، وكأجاويد الخيل، والركاب، والملائكة يقولون: ربِّ سلم، ربِّ سلم، فناج مسلم، ومخدوش مسلم، ومكور في النار على وجهه»[8].
[1] وهذا ظاهر حديث الشفاعة الطويل الذي أخرجه البخاري (كتاب التفسير، رقم 4712)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 194).
[2] التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة (1/619) [دار المنهاج، ط1، 1425هـ].
[3] دفع إيهام الاضطراب (344) [عالم الفوائد، ط1، 1426هـ].
[4] ينظر: لوامع الأنوار البهية (2/183)، ولوائح الأنوار السنية (2/209).
[5] لوامع الأنوار البهية (2/183).
[6] أخرجه ابن ماجه (كتاب الزهد، رقم 4277)، وأحمد (32/486) [مؤسسة الرسالة، ط2، 1428هـ]، وضعفه الترمذي (عقب حديث رقم 2425)، والألباني في ضعيف الجامع (رقم 6432).
[7] أخرجه الترمذي (أبواب صفة القيامة والرقائق والورع، رقم 2425)، ثم قال: «ولا يصح هذا الحديث من قبل أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة»، وضعفه الألباني في الموضع نفسه.
[8] أخرجه أحمد (41/302) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/359) [مكتبة القدسي]: «فيه ابن لهيعة، وهو ضعيف».
من الحكمة في وجود صحف للعباد تعرض عليهم يوم القيامة: تعريف الله العباد ما لهم عنده من جزاء على الخير والشر، وإقامة الحجة عليهم يوم القيامة. وإظهار عدل الله جلّ جلاله وبيان فضله على عباده، قال الثعلبي: «إنما يؤتى بالصحف إلزامًا للعباد، ورفعًا للجدل والعناد»[1].
[1] نقله عنه السفاريني في لوائح الأنوار (2/206)، ولم نجده في تفسير الثعلبي «الكشف والبيان».
1 ـ «الإرشاد شرح لمعة الاعتقاد»، لابن جبرين.
2 ـ «البحور الزاخرة» (ج2)، للسفاريني.
3 ـ «التذكرة» (ج2)، للقرطبي.
4 ـ «الحياة الآخرة» (ج2)، لغالب عواجي.
5 ـ «شرح العقيدة السفارينية»، لابن عثيمين.
6 ـ «فتح الباري» (ج8، 11)، لابن حجر العسقلاني.
7 ـ «اللآلي البهية في شرح العقيدة الواسطية» (ج2)، لصالح بن عبد العزيز آل الشيخ.
8 ـ «لوائح الأنوار السنية ولواقح الأفكار السنية» (ج2)، للسفاريني.
9 ـ «لوامع الأنوار البهية» (ج2)، للسفاريني.
10 ـ «معارج القبول» (ج2)، لحافظ الحكمي.
11 ـ «اليوم الآخر: القيامة الكبرى»، لعمر الأشقر.