الصاد والدال والقاف: أصلٌ يدلُّ على قوّةٍ في الشيء، مِن قَولٍ وغَيرِه، والصِّدق: خلاف الكَذِب، سمِّيَ بذلك لقوّته في نفسه، ولأنَّ الكذِبَ لا قُوَّة له؛ بل هو باطلٌ. وأصل هذا من قولهم: شيءٌ صَدْقٌ؛ أي: صُلْب، ورُمْح صَدقٌ. ويقال: صَدَقُوهم القِتالَ، وفي خلاف ذلك كَذَبوهم.
والصِّدِّيق: الملازم للصِّدْق، ويكون الذي يُصَدِّقُ قولَه بالعمل. ورجل صِدْقٌ وامرأَة صِدْقٌ، وُصِفا بالمصدر يريدون المبالغة. ويقال: صَدَّقه قَبِل قولَه، والْمُصَدِّقُ: الذي يُصَدِّقُكَ في حديثك، وصدَقَه الحديث أَنبأَه بالصِّدْق. ويقال: صَدَقْتُ القومَ؛ أي: قلت لهم صِدْقًا[1].
والصدق: هو الخبر المطابق للواقع.
والتصديق: هو أن تنسب باختيارك الصدق إلى المخبر. وقيل: هو الحكم بمطابقة الخبر للواقع[2]. إلا أن التصديق لا يكون محصورًا في التصديق الخبري، وإنما يكون في التصديق العملي؛ أي: تصديق الخبر بالامتثال والدعوى بالعمل، فهو بمعنى التحقيق، ومنه قوله تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ ياإِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات] ؛ أي: قد حققت وامتثلت الأمر وحقيقته بإضجاعك ولدك وهمك بذبحه باستسلام وانقياد[3].
[1] انظر: مقاييس اللغة (3/339) [دار الفكر، ط1399هـ]، والصحاح (4/1506) [دار العلم، ط4، 1990م]، ولسان العرب (10/193) [دار صادر، ط3، 1414هـ]، والمصباح المنير (1/335) [المكتبة العلمية].
[2] انظر: التعريفات للجرجاني (59، 132) [دار الكتب العلمية، ط1، 1403هـ]، وفتح الباري لابن حجر (11/504) [دار المعرفة، ط1379هـ].
[3] انظر: الجامع لأحكام القرآن (15/102) [دار الكتب المصرية، ط2، 1384هـ]، وتفسير ابن كثير (7/30) [دار طيبة، ط2، 1420هـ].
الصِّدق: هو الموافقة بين الظاهر والباطن في الأعمال والأحوال، وهو من أجلِّ عبادات القلب، ومن أعظم شروط كلمة التوحيد[1].
قال ابن القيِّم رحمه الله: «الصدق: هو حصول الشيء وتمامه، وكمال قوته، واجتماع أجزائه، كما يقال: عزيمة صادقة. إذا كانت قوية تامة، وكذلك: محبة صادقة، وإرادة صادقة. وكذا قولهم: حلاوة صادقة: إذا كانت قوية تامة ثابتة الحقيقة. لم ينقص منها شيء»[2].
[1] انظر: مدارج السالكين (2/91، 258) [دار الكتاب العربي، ط3، 1416هـ].
[2] مدارج السالكين (2/267).
يجب على المسلم أن يواطئ قلبُه لسانَه وجوارحَه، وأن يكون صادقًا مع الله تعالى في إخلاصه له تعالى بأن يجعل باطنه أعمر من ظاهره، وأن يبتعد عن مداهنة النفس والإعجاب بها.
ويجب عليه أن يُسوي أعمال القلب والجوارح على الإخلاص كاستواء الرأس على الجسد، فبذلك يكون العبد من الذين جاؤوا بالصدق، وبحسب كمال هذه الأمور فيه، وقيامها به تكون صدِّيقِيَّتُه، ويكون وفاؤه لربه[1].
[1] انظر: المرجع السابق (2/258).
حقيقة الصدق: أن يكون في الأقوال والأعمال والأحوال؛ فالصدق في الأقوال: استواء اللسان على الأقوال؛ كاستواء السنبلة على ساقها. والصدق في الأعمال: استواء الأفعال على الأمر والمتابعة؛ كاستواء الرأس على الجسد.
والصدق في الأحوال: استواء أعمال القلب والجوارح على الإخلاص، واستفراغ الوسع، وبذل الطاقة، فبذلك يكون العبد من الذين جاؤوا بالصدق[1].
وحقيقة كون الصدق شرطًا من شروط كلمة التوحيد أن يقولَ العبدُ هذه الكلمة صادقًا من قلبه، والصّدق أن يواطئ القلبُ اللّسانَ، ولذا قال الله تعالى في ذمِّ المنافقين: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ *} [المنافقون] ، فوصفهم سبحانه بالكذب؛ لأنَّ ما قالوه بألسنتهم لم يكن موجودًا في قلوبهم.
كما في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} [المائدة: 41] [2].
[1] مدارج السالكين (2/258).
[2] انظر: المصدر السابق (2/265)، والصدق والصادقون لأحمد خليل جمعه (37) [دار الكلم الطيب، ط1994م].
الصدق عبادة قلبية عظيمة، تنشأ عنها جميع العبادات القلبية، فهو روح الأعمال، وهو مقام الإسلام وأساس الإيمان، وبه تميز أهل الإيمان من أهل النفاق وسكان الجنان من أهل النيران، وهو أساس بناء الدين.
ودرجة الصدق تالية لدرجة النبوة التي هي أرفع درجات العالمين، لذا أمر الله تعالى أهل الإيمان أن يكونوا مع الصادقين.
وقسَّم سبحانه الناس إلى صادق ومنافق، فقال: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [الأحزاب: 24] .
فأخبر أن الصدق أمره عظيم، وأنه محل الجزاء، وأنه من صفات المؤمنين، وعكسه الكذب من صفات المنافقين.
والإيمان أساسه الصدق، والنفاق أساسه الكذب، فلا يجتمع كذب وإيمان إلا وأحدهما محارب للآخر[1].
[1] انظر: مدارج السالكين (2/257 ـ 258).
تتضح أهمية الصدق في النقاط التالية:
ـ أن الصدق أساس الحسنات وجماعها.
ـ أن الصدق هو الصفة المميزة بين النبي والمتنبئ.
ـ أنه الصفة الفارقة بين المؤمن والمنافق.
ـ أن الصدق أصل البر كما أن الكذب أصل الفجور.
ـ أن الصادق تنزل عليه الملائكة، كما أن الكاذب تنزل عليه الشياطين.
ـ أنه مقرون بالإخلاص الذي هو أصل الدين.
ـ أنه ركن الأحاديث والأخبار التي بها يقوم الإسلام؛ وركن الفتيا التي هي إخبار المفتي بحكم الله، وركن المعاملات التي تتضمن أخبار كل واحد من المتعاملين للآخر بما في سلعته، وركن الشهادة الخاصة عند الحكام التي هي قوام الحكم والقضاء[1].
[1] انظر: مجموع الفتاوى (20/74 ـ 77) [مجمع الملك فهد لطباعة المصحف، ط1416هـ].
قال تعالى: {الم *أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ *وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ *} [العنكبوت] ، وقال تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ *} [الزمر] ، وقال تعالى: {فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ *} [محمد] ، وأخبر سبحانه: أنه في يوم القيامة لا ينفع العبد وينجيه من عذابه إلا صدقه، قال تعالى: {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ *} [المائدة] .
ومن السُّنَّة المطهرة: حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، صدقًا من قلبه، إلا حرمه الله على النار»[1].
وعن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه: أن أعرابيًّا سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن شرائع الإسلام، فأخبره، قال: هل علي غيرها؟ قال: «لا، إلا أن تطوع» . قال: فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أفلح إن صدق» [2]، فاشترط في فلاحه ودخول الجنة أن يكون صادقًا.
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قال: لا إله إلا الله صادقًا بها دخل الجنة»[3].
[1] أخرجه البخاري (كتاب العلم، رقم 128).
[2] أخرجه البخاري (كتاب الإيمان، رقم 46)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 11).
[3] أخرجه أحمد (32/465) [مؤسسة الرسالة، ط1، 1421هـ]، وقال الهيثمي في المجمع (1/16) [مكتبة القدسي]: «رجاله ثقات»، وصحَّحه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (رقم 1314) [مكتبة المعارف، ط1، 1415هـ].
قال عبد الواحد بن زيد رحمه الله: «الصّدق الوفاء لله بالعمل»[1].
وقال ابن تيمية رحمه الله: «والصدق والإخلاص هما في الحقيقة تحقيق الإيمان والإسلام فإن المظهرين للإسلام ينقسمون إلى مؤمن ومنافق والفارق بين المؤمن والمنافق هو الصدق؛ فإن أساس النفاق الذي يبنى عليه هو الكذب؛ ولهذا إذا ذكر الله حقيقة الإيمان نعته بالصدق كما في قوله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} إلى قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ *} [الحجرات] . وقال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ *} [الحشر] . فأخبر أن الصادقين في دعوى الإيمان هم المؤمنون الذين لم يتعقب إيمانهم ريبة وجاهدوا في سبيله بأموالهم وأنفسهم»[2].
وقال ابن القيِّم رحمه الله: «منزلة الصدق هي منزلة القوم الأعظم الذي منه تنشأ جميع منازل السالكين، والطريق الأقوم الذي من لم يسر عليه فهو من المنقطعين الهالكين، وبه تميز أهل النفاق من أهل الإيمان، وسكان الجنان من أهل النيران، وهو سيف الله في أرضه الذي ما وضع على شيء إلا قطعه. ولا واجه باطلاً إلا أرداه وصرعه، من صال به لم ترد صولته، ومن نطق به علت على الخصوم كلمته، فهو روح الأعمال، ومحك الأحوال، والحامل على اقتحام الأهوال، والباب الذي دخل منه الواصلون إلى حضرة ذي الجلال، وهو أساس بناء الدين، وعمود فسطاط اليقين، ودرجته تالية لدرجة النبوة التي هي أرفع درجات العالمين، ومن مساكنهم في الجنات تجري العيون والأنهار إلى مساكن الصديقين، كما كان من قلوبهم إلى قلوبهم في هذه الدار مدد متصل ومعين»[3].
وقال ابن رجب رحمه الله ـ عند كلامه على حديث: «من شهد أن لا إله إلاَّ الله صادقًا من قلبه حرمه الله على النَّار» ـ: «فأما من دخل النَّار من أهل هذه الكلمة فلقلة صدقه في قولها؛ فإن هذه الكلمة إذا صدقت طهرت القلب من كل ما سوى الله، ومتى بقي في القلب أثر سوى الله فمن قلَّة الصدق في قولها... من صدق في قول: لا إله إلاَّ الله لم يحب سواه ولم يرج سواه ولم يخش أحدًا إلاَّ الله، ولم يتوكل إلاَّ على الله، ولم يبق له بقيَّة من آثار نفسه وهواه»[4].
[1] مدارج السالكين (2/262).
[2] مجموع الفتاوى (10/11 ـ 12).
[3] مدارج السالكين (2/257).
[4] كلمة الإخلاص (44 ـ 45).
1 ـ الصدق مع الله: ويكون في تحقيق عبوديته سبحانه وتعالى، وجعل العمل كله خالصًا لله لا رياء فيه ولا سمعة.
2 ـ الصدق مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ويكون ذلك بتصديقه فيما أخبر وامتثال أوامره واجتناب نواهيه.
3 ـ الصدق مع النفس: فلا يخدع نفسه، ويعترف بعيوبه وأخطائه ويصححها.
4 ـ الصدق مع الناس: بأن لا يكذب المسلم في حديثه وتعامله مع الآخرين.
للصدق ثلاث مراتب:
المرتبة الأولى: الصادق.
المرتبة الثانية: الصدوق.
المرتبة الثالثة: الصدِّيق.
فأعلى هذه المراتب: مرتبة الصديقية: وهي كمال الانقياد للرسول صلّى الله عليه وسلّم مع كمال الإخلاص لله عزّ وجل، ولذلك لما كان لأبي بكر الصديق رضي الله عنه ذروة سنام الصدِّيقية سمي: الصدّيق على الإطلاق. والصدّيق أبلغ من الصدوق، والصدوق أبلغ من الصادق[1].
فالصادقون: هم الذين استوت ظواهرهم مع بواطنهم. والصديق: الدائم التصديق، المبالغ في الصدق، وأحسن ما يفسر به الصدّيق قوله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ *} [الزمر] ، وعليه فيكون الصِّدِّيق: هو الذي علم ما أخبر به النبي صلّى الله عليه وسلّم جملة وتفصيلاً، وصدَّق ذلك تصديقًا كاملاً في العلم والقصد والقول والعمل[2].
[1] مدارج السالكين (2/258).
[2] منهاج السُّنَّة النبوية (4/267).
المسألة الأولى: التصديق:
يطلق تصديق القلب على شيئين:
الأول: التصديق الخبري العلمي الذهني، بمعنى أن يقع في القلب نسبة الصدق إلى المخبر والخبر ذاته مجردًا عما سوى ذلك من أعمال القلوب، وهذا هو قول القلب.
الثاني: التصديق العملي؛ أي: تصديق الخبر بالامتثال والانقياد، وهذا هو الذي قصده السلف عند إطلاق التصديق، فمن قال من السلف بأن الإيمان هو: التصديق، فإنه يقصد بذلك المعنيين؛ قول القلب وعمله، أو عمل القلب المتضمن لتصديقه[1].
وقد قدمنا أن التصديق لا يكون محصورًا في التصديق الخبري، وإنما يكون في التصديق العملي؛ أي: تصديق الخبر بالامتثال والدعوى بالعمل، فهو بمعنى التحقيق، ومنه قوله تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ ياإِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات] ؛ أي: قد حققت وامتثلت الأمر وحقيقته بإضجاعك ولدك وهمّك بذبحه باستسلام وانقياد[2].
وفي قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرُّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ *} [البقرة] ، قال ابن كثير رحمه الله: «قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا}؛ أي: هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات هم الذين صدقوا في إيمانهم؛ لأنهم حققوا الإيمان القلبي بالأقوال والأفعال»[3].
وبهذا يتضح معنى تصديق القلب عند السلف إذا أُفرد، وأنهم يريدون بذلك التصديق الخبري المستلزم لعمل القلب، أو عمل القلب المتضمن لقوله، أو هما جميعًا.
ومن الخطأ أن يظن أن مرادهم بالتصديق عند الإطلاق هو مجرد نسبة الصدق إلى الخبر، أو ما أشبهه كالمعرفة المجردة، أو العلم المجرد. بل مرادهم بتصديق القلب: إقراره ومعرفته مع عمله، مثل حب الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، وغير ذلك من أعمال القلوب، فالتصديق إذن إنما يتم بأمرين؛ أحدهما: اعتقاد الصدق، والثاني: محبة القلب وانقياده[4].
وأما أن يفرد ويراد به قول القلب فقط فهذا لم يرد عن السلف؛ بل هو من اصطلاحات أهل البدع[5].
المسألة الثانية: الصِدِّيق أو (الصدِّيقيّة):
الصدِّيقيّة: هي درجة أعلى وأكمل من درجة التصديق، فالصدِّيقية هي كمال التصديق، فمتى صدَّق الرجل علمه بعمله وحقق بفعله ما يقوله بلسانه، ومتى تجاوز صدقه لسانه إلى صدق أفعاله في موافقة حاله وصار سره لا يختلف عن جهره كان صدِّيقًا[6].
والصدِّيق أيضًا هو الذي كمل انقياده للرسول صلّى الله عليه وسلّم وكمل إخلاصه لربه عزّ وجل، لذلك كانت الصدِّيقيّة هي الدرجة التالية لدرجة النبوة التي هي أرفع درجات العالمين[7]. وفي هذا قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا *} [النساء] .
المسألة الثالثة: الصدق أحد شروط كلمة التوحيد:
يعدُّ الصدق أحد شروط كلمة التوحيد (لا إله إلا الله)، وإنما كان أحد شروط التوحيد؛ لأنه محل الابتلاء، وبه يتميز المؤمن من المنافق، قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ *وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ *} [العنكبوت] . وحقيقة هذا الشرط أن يقولَ العبدُ هذه الكلمة صادقًا من قلبه، بحيث يواطئ قلبُه لسانَه ويرسخ في اعتقاده الصدق بها ويعزم على العمل بموجبها، والمنافقون لم يكونوا صادقين في هذه الكلمة لذلك قال الله تعالى في ذمِّهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ *يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ *فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ *} [البقرة] فوصفهم سبحانه بالكذب؛ لأنَّ ما قالوه بألسنتهم لم يكن موجودًا في قلوبهم.
فالصِّدق في قول كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) منجاة من النار، كما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، صدقًا من قلبه، إلا حرمه الله على النار»[8]. فاشترط صلّى الله عليه وسلّم في إنجاء من قال هذه الكلمة من النار أن يقولها صدقًا من قلبه، فلا ينفعه مجرد التلفظ بها بدون مواطأة القلب[9]. فلا بد في الصدق بها أن يكون صادقًا في جميع أقواله، وأحواله، ومعاملته مع الله، واستواء ظاهره وباطنه، وهذا هو الصدق الذي ينفع صاحبه يوم القيامة، قال الله تعالى: {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ *} [المائدة] [10].
[1] انظر: الشريعة للآجري (2/611) [دار الوطن، ط2، 1420هـ]، وشرح أصول الاعتقاد (4/931) [دار طيبة، ط8، 1423هـ].
[2] انظر: الجامع لأحكام القرآن (15/102)، وتفسير ابن كثير (7/30).
[3] تفسير ابن كثير (1/488).
[4] انظر: كتاب الإيمان لابن تيمية (176)، والصارم المسلول له (3/966)، وكتاب الصلاة لابن القيم (28)، ومعارج القبول (2/17).
[5] انظر: أعمال القلوب حقيقتها وأحكامها (1/141 ـ 143) [جامعة الإمام، ط1، 1426هـ].
[6] انظر: منهاج السُّنَّة النبوية (4/266)، ومدارج السالكين (3/8)، وتفسير القرطبي (6/449)، وتفسير الماوردي (3/43) [دار الكتب العلمية، بيروت].
[7] انظر: مدارج السالكين (2/257).
[8] تقدم تخريجه.
[9] انظر: معارج القبول (1/276).
[10] انظر: مدارج السالكين (2/270)، وتفسير السعدي (660) [مؤسسة الرسالة، ط1].
من ثمار الصدق:
ـ الصدق طريق الأبرار إلى الجنة.
ـ الصدق يرفع الأعمال ويعلي شأنها.
ـ الصدق دليل القوة والثقة بالنفس.
ـ الصادقون هم أحباب الله تعالى المقربون، ويحبهم الناس، ويثقون بهم، ويأتمنونهم في سائر معاملاتهم.
ـ الصدق من أعظم أسباب النجاة لمن تمسك به.
ـ رفقاء أهل الصدق هم النبيون والشهداء والصالحين وكفى بها رفقة[1].
[1] انظر: نضرة النعيم (6/2516).
للصدق آثار حميدة، منها:
ـ أنه يورث التقوى والمغفرة والأجر العظيم، وقد حث الله عزّ وجل المؤمنين على الالتزام بالصدق وأثنى عليهم.
ـ أنه أساس في تقوية القيم الروحية وتزكية النفوس البشرية وتطهير القلوب والرقي بالأمم إلى الفضيلة.
ـ ومن آثاره: ظهور علاماته في وجه الصادق، فالصادق تظهر علامة صدقه على وجهه وصوته، فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتحدث إلى من لا يعرفه، فيقول: والله ما هذا بوجه كذاب ولا صوت كذاب. ولا شك أن أهمية الصدق تؤثر على الصادق كما تؤثر على المخاطب مما يحمله على قبول قول المتكلم الصادق واحترامه.
ـ أنه منجاة لصاحبه، كما في قصة كعب بن مالك لما تخلف عن غزوة تبوك[1].
ـ أنه طمأنينة وراحة نفسية، يُخَلِّص صاحبه من الْمُكَدِّرات في تعامله مع الآخرين.
ـ بالصدق تحسن العاقبة لأهله في الدنيا والآخرة.
[1] أخرجها البخاري (كتاب المغازي، رقم 4418)، ومسلم (كتاب التوبة، رقم 2769).
1 ـ «الأخلاق الإسلامية وأُسُسُها»، لعبد الرحمن الميداني.
2 ـ «أعمال القلوب حقيقتها وأحكامها عند أهل السُّنَّة والجماعة ومخالفيهم»، لسهل العتيبي.
3 ـ «روضة العقلاء ونزهة الفضلاء»، لابن حبان البستي.
4 ـ «الصدق الفضيلة الجامعة»، لسليمان بن محمد الصغير.
5 ـ «الصدق والصادقون في القرآن العظيم والسُّنَّة النبوية»، لأحمد خليل جمعة.
6 ـ «الصدق في القرآن الكريم»، لمذكر محمد عارف.
7 ـ «كلمة الإخلاص»، لابن رجب.
8 ـ «مجموع الفتاوى» (ج7، 20)، لابن تيمية.
9 ـ «مدارج السالكين» (ج2)، لابن القيِّم.
10 ـ «نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم» (ج6)، لمجموعة من الباحثين.