حرف الصاد / صفَر

           

قال ابن فارس رحمه الله: «الصاد والفاء والراء ستة أوجه؛ فالأصل الأول: لون من الألوان. والثاني: الشيء الخالي. والثالث: جوهر من جواهر الأرض. والرابع: صوت. والخامس: زمان. والسادس: نبت»[1].
وصفَر: هو الشهر الذي بعد المحرَّم. وفُسِّر أيضًا بأنه حية في البطن يقال لها الصفر، كانت العرب تقول: أنها تصيب الإنسان إذا جاع وتؤذيه، وأنها تعدي[2].


[1] مقاييس اللغة (3/294) [دار الجيل، ط1420هـ].
[2] انظر: الصحاح (2/714) [دار العلم للملايين، ط3]، ولسان العرب (7/358) [دار إحياء التراث العربي، ط3]، وترتيب القاموس المحيط (2/830) [دار عالم الكتب، ط1، 1417هـ].


فسر أهل العلم صفر بأقوال ثلاثة[1]:
أحدها: أنه داءٌ في البطن يقال له: حية، يؤذي الناس والماشية، وكانوا يعتقدون أنه يعدي، فيكون عطفه على العدوى من باب عطف الخاص على العام، وذلك لاشتهاره عندهم بالعدوى.
الثاني: أنه نهي عن النسيء الذي كانت تعمله العرب في جاهليتها، من تأخير المحرم إلى صفر لاستباحة الأشهر الحرم[2].
الثالث: أنه شهر صفر؛ إذ كانت العرب تتشاءم به، ويقولون: إنه شهر مشؤوم. قال ابن رجب: ولعل هذا القول أشبه الأقوال[3].


[1] انظر: غريب الحديث لأبي عبيد (1/149 ـ 152) [الهيئة العامة لشؤون المطابع، القاهرة، ط104هـ]، ومعالم السنن للخطابي (4/233) [المطبعة العلمية، حلب، ط1، 1352هـ]، والتمهيد لابن عبد البر (24/198)، وشرح السُّنَّة للبغوي (12/171) [المكتب الإسلامي، ط2، 1403هـ]، والنهاية في غريب الحديث والأثر (3/35) [دار إحياء التراث العربي]، ولطائف المعارف (147 ـ 148) [دار ابن كثير، ط5، 1420هـ].
[2] غريب الحديث لأبي عبيد (1/25).
[3] لطائف المعارف (74).


قال بعضهم: إنما سمي صفرًا؛ لأنهم كانوا يمتارون الطعام فيه من المواضع. وقال بعضهم: سمي بذلك لإصفار مكة من أهلها إذا سافروا. وروي عن رؤبة أنه قال: سموا الشهر صفرًا؛ لأنهم كانوا يغزون فيه القبائل فيتركون من لقوا صفرًا من المتاع، وذلك أن صفرًا بعد المحرَّم فقالوا: صفر الناس منا صفرًا[1].


[1] انظر: لسان العرب (7/360)، وبلوغ المنى والظفر في بيان لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر (102) [مكتبة الرشد، ط1، 1422هـ].


التشاؤم بشهر بصفر هو نوع من الطيرة المحرمة، فجاء الإسلام فأبطل ما كان يعتقده أهل الجاهلية فيه من التشاؤم، ففي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر» [1]. والنفي في هذا الحديث لها ليس نفيًا لوجودها فهي موجودة، ولكنه نفي لكونها سببًا؛ إذ لم يجعلها الله سببًا في هذا، فمن تشاءم بصفر فرده تشاؤمه عن حاجته أو حمله على فعل أو ترك آخر، فقد جعل ما ليس بسبب سببًا وهذا من الشرك الأصغر.
يقول ابن رجب رحمه الله في سياق كلامه على حديث: «لا عدوى ولا هامة ولا صفر» : «وهذا مما يدل على أن المراد نفي تأثير هذه الأسباب بنفسها، من غير اعتقاد أنها بتقدير الله وقضائه، فمن أضاف شيئًا من النعم إلى غير الله، مع اعتقاد أنه ليس من الله، فهو مشرك حقيقة، ومع اعتقاد أنه من الله، فهو نوع شرك خفي»[2].


[1] أخرجه البخاري (كتاب الطب، رقم 5757)، ومسلم (كتاب الطب، رقم 2220).
[2] لطائف المعارف (142).


اختلف في حقيقته بناء على الاختلاف في تعريفه فقيل[1]: إنما هو مرض في البطن يسمَّى الصفر، كان العرب يعتقدونه معديًا، وعلى هذا فالمراد بنفيه ما كانوا يعتقدونه من العدوى، ويكون عطفه على العدوى من باب عطف الخاص على العام، وإلى هذا القول ذهب ابن وهب ومطرف والقاسم بن سلام وأحمد بن حنبل والبخاري وابن جرير وغيرهم.
وقال آخرون: إن قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا صفر» أي: شهر صفر المعروف، ثم اختلفوا في تفسيره على قولين:
أحدهما: أنّ المراد نفي ما كان أهل الجاهلية يفعلونه في النسيء، فكانوا يُحلون المحرَّم ويحرِّمون صفر مكانه، وهذا قول مالك ومعمر بن المثنى رحمهما الله تعالى.
والثاني: أنّ المراد أنّ أهل الجاهلية كانوا يتشاءمون بصفر، يقولون: إنّه شهر مشؤوم، فأبطل النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم ذلك. وهذا أشبه الأقوال كما يقوله ابن رجب رحمه الله: وكثيرٌ من الجهال يتشاءم بصفر، وربما ينهى عن السفر فيه! والتشاؤم بصفر هو من جنس الطيرة المنهي عنها.


[1] انظر: غريب الحديث لأبي عبيد (1/149 ـ 152)، ومعالم السنن للخطابي (4/233)، والتمهيد لابن عبد البر (24/198)، وشرح السُّنَّة للبغوي (12/171)، والنهاية في غريب الحديث والأثر (3/35)، ولطائف المعارف لابن رجب (147 ـ 148).


عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا عدوى ولا صفر ولا هامة» فقال أعرابي: يا رسول الله، فما بال إبلي، تكون في الرمل كأنها الظباء، فيأتي البعير الأجرب فيدخل بينها فيجربها؟ فقال: «فمن أعدى الأول؟»[1].
وعنه رضي الله عنه أيضًا قال: قال صلّى الله عليه وسلّم: «لا عدوى ولا طيرة، ولا هامة ولا صفر، وفر من المجذوم كما تفر من الأسد»[2].
وعن عطاء رحمه الله قال: «يقول ناس: الصفر وجع يأخذ في البطن»[3].


[1] أخرجه البخاري (كتاب الطب، رقم 5717)، ومسلم (كتاب الطب، رقم 2220).
[2] تقدم تخريجه قريبًا.
[3] أخرجه أبو داود (كتاب الطب، رقم 3918).


قال النووي رحمه الله: «ويجوز أن يكون المراد هذا ـ أي: أنه داء يعدي ـ والأول ـ أي: النسيء ـ جميعًا، وأن الصفرين جميعًا باطلان لا أصل لهما ولا تصريح على واحد منهما»[1].
وقال البغوي رحمه الله: «وقوله: «لا صفر» : معناه: أن العرب كانت تقول: الصفر حيَّة في البطن، تصيب الإنسان والماشية، تؤذيه إذا جاع، وهي أعدى من الجرب عند العرب، فأبطل الشرع أنها تؤذي. وقيل في الصفر: إنه تأخيرهم تحريم المحرم إلى صفر. وقيل: إن أهل الجاهلية كان يستشئمون بصفر، فأبطل النبي صلّى الله عليه وسلّم»[2].
وقال ابن القيِّم رحمه الله تحت قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا عدوى» : «هذا يحتمل أن يكون نفيًا أو يكون نهيًا؛ أي: لا تطيروا، ولكن قوله في الحديث: «لا عدوى ولا صفر ولا هامة» يدل على أنّ المراد النفي، وإبطال هذه الأمور التي كانت الجاهلية تعانيها، والنفي في هذا أبلغ من النهي؛ لأنّ النفي يدل على بطلان ذلك وعدم تأثيره، والنهي إنما يدلّ على المنع منه»[3].


[1] صحيح مسلم بشرح النووي (14/214 ـ 215) [المطبعة المصرية بالأزهر، ط1، 1349هـ].
[2] شرح السُّنَّة (12/171) [المكتب الإسلامي، ط2، 1403هـ].
[3] مفتاح دار السعادة (3/280) [دار ابن عفان، ط1، 1416هـ].


المسألة الأولى: صفر الخير:
شاع بين بعض المسلمين تسمية شهر صفر بقولهم: «صفر الخير» تفاؤلاً يردُّ ما يقع في نفسه من اعتقاد التشاؤم فيه كما كان في الجاهلية الأولى.
قال بكر أبو زيد رحمه الله: «وبعضهم يقول: صفر الخير: تفاؤلاً؛ يردّ ما يقع في نفسه من اعتقاد التشاؤم فيه، وهذه لوثة جاهلية من نفس لم يصقلها التوحيد بنوره»[1].
المسألة الثانية: الأربعاء الأخير من شهر صفر:
اعتقاد بعض الناس أن يوم الأربعاء الأخير من شهر صفر هو أنحس أيام العام، ويستندون في ذلك إلى حديث موضوع يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «آخر أربعاء في الشهر يوم نحس مستمرّ»[2].
وزعموا أنّ بعض العارفين ذكر أنه ينزل في كل سنة ثلاثمائة وعشرون ألفًا من البليات، وكل ذلك في يوم الأربعاء الأخير من صفر، فيكون ذلك اليوم أصعب أيام السُّنَّة، وابتدعوا لذلك صلوات وأذكارًا ودعوات تحفظ من هذه البليات! وهذا من البدع المنكرة والضلالات المردية والاعتقادات الفاسدة.
وقد قال مالك رحمه الله: الأيام كلها أيام الله، وإنما يفضل بعضها بعضًا بما جعل الله من الفضل فيما أخبر بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وجماع القول: أن التشاؤم بشهر صفر بأي صورة من صور التشاؤم وهو مما حرَّمه الإسلام، ونهى عنه؛ لما في ذلك من شوائب الشرك والبدع المحدثة التي تقدح في التوحيد وتنافي كماله[3].


[1] معجم المناهي اللفظية (340) [دار العاصمة].
[2] أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (16/584) [دار الغرب، ط1]، وهو حديث موضوع. انظر: الموضوعات لابن الجوزي (2/345) [أضواء السلف، ط1، 1418هـ]، والسلسلة الضعيفة (4/83).
[3] انظر: معجم المناهي اللفظية (345).


1 ـ «بلوغ المنى والظفر في بيان لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر»، لجار محمد بن عبد العزيز.
2 ـ «شرح صحيح مسلم»، للنووي.
3 ـ «غريب الحديث»، لأبي عبيد القاسم بن سلام.
4 ـ «القول المفيد على كتاب التوحيد»، لابن عثيمين.
5 ـ «معالم السنن»، للخطابي.
6 ـ «مفتاح دار السعادة»، لابن القيِّم.
7 ـ «معارج القبول»، لحافظ الحكمي.
8 ـ «معجم المناهي اللفظية»، لبكر أبي زيد.
9 ـ «لطائف المعارف»، لابن رجب.
10 ـ «النهاية في غريب الحديث»، لابن الأثير.