الصاد واللام والحاء أصل واحد يدلّ على خلاف الفساد. يقال صلُحَ الشَّيءُ يصلُحُ صلاحًا[1]. والإِصلاح: نقيض الإِفساد. والاسْتِصْلاح: نقيض الاِسْتِفْسَاد. وأَصْلَح الشيء بعد فساده: أَقامه. وأَصْلَحَ الدَّابَّةَ: أَحسن إليها فَصَلَحَتْ[2]. والأصلح بمعنى الأفضل فيما يصلح العبد.
[1] مقاييس اللغة (3/303).
[2] لسان العرب (2/517) [دار صادر، ط3، 1414هـ]
إن مسألة الصلاح والأصلح أو ما يسمونه اللطف هي من دعاوى المعتزلة الفجة في كلامهم عن الله عزّ وجل، حيث أوجبوا عليه ذلك بمقتضى النظر العقلي، وهو قول خالفوا به أهل الإسلام قاطبة مبني على قولهم في العدل الذي اشتهر قولهم به.
قال عبد الجبار المعتزلي: «ونحن إذا وصفنا القديم تعالى بأنه عدل حكيم، فالمراد به أنه لا يفعل القبيح أو لا يختاره ولا يخل بما هو واجب عليه، وأن أفعاله كلها حسنة»[1]. بهذا القانون العقلي المبتدع ادَّعى المعتزلة أن الله عزّ وجل يجب عليه فعل الصلاح أو الأصلح لعباده جميعهم.
[1] شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار (301).
قال ابن حزم رحمه الله: «وضل جمهور المعتزلة في فصل من القدر ضلالاً بعيدًا فقالوا بأجمعهم ـ حاشا ضرار بن عمرو وحفصًا الفرد وبشر بن المعتمر ويسيرًا ممن اتبعهم ـ أنه ليس عند الله تعالى شيء أصلح مما أعطاه جميع الناس كافرهم ومؤمنهم، ولا عنده هدي أهدى مما قد هدى به الكافر والمؤمن هدىً مستويًا، وأنه ليس يقدر على شيء هو أصلح مما فعل بالكفار والمؤمنين»[1].
وقال ابن تيمية: «فالقدرية يقولون: يجب على الله رعاية الأصلح ـ أو الصلاح ـ في كل شخص معين، ويجعلون ذلك الواجب من جنس ما يجب على الإنسان. فغلطوا حيث شبهوا الله بالواحد من الناس، فيما يجب عليه ويحرم عليه، وكانوا هم مشبهة الأفعال»[2].
وقال ابن أبي العز الحنفي: «وهم مشبهة الأفعال؛ لأنهم أفعال الله تعالى على أفعال العباد، وجعلوا ما يحسن من العباد يحسن منه، وما يقبح من العباد يقبح منه، وقالوا: يجب عليه أن يفعل كذا، ولا يجوز أن يفعل كذا، بمقتضى ذلك القياس الفاسد»[3].
[1] الفصل في الملل لابن حزم (3/92) [مكتبة الخانج].
[2] منهاج السُّنَّة (6/396 ـ 397).
[3] شرح العقيدة الطحاوية (2/792) [مؤسسة الرسالة، ط 9، 141هـ].
المخالفون في الصلاح والأصلح على قولين:
الأول: المعتزلة، قالوا بأنه يجب على الله عزّ وجل فعل الصلاح لعباده، ويسميها كثير منهم بمسألة اللطف، ومن هنا يصرحون بأن الله واجب عليه أن يفعل بعباده كل ما يوصلهم إلى حسن العاقبة في الآخرة، لذا يقولون: إن الله عزّ وجل قد فعل بعباده كل ما يصلحهم وليس في قدرته أكثر من ذلك[1].
وقولهم هذا ينسجم مع موقفهم من القدر عمومًا وما يسمونه بالعدل الذي أقاموه على عدل هم يرونه ويقيسون فعل الله عزّ وجل بفعل خلقه، فالعدل من الخلق هو العدل من الله عزّ وجل وقد ذُكر كلامهم بشيء من التطويل حتى يدرك المسلم مدى ما ينحدرون إليه من الكلام عن الله عزّ وجل وأن تصوراتهم في القدر مبنية على نظر قاصر بل عدم التوقير لله عزّ وجل مع البعد عن المصدر الصحيح في كل ما يتعلق بالله عزّ وجل ودينه، وهو كتاب الله عزّ وجل وسُنَّة نبيِّه صلّى الله عليه وسلّم.
ومن تأمل نصوص القرآن والسُّنَّة وجد أن كلام المعتزلة في واد وما يقرره الكتاب والسُّنَّة من الحق في واد آخر.
فقولهم إن الله لا يقدر على لطف يفعله بعباده أكثر مما فعل أو أن ما فعل هو الغاية في إصلاحهم ونحو هذه التخاريف يتعارض مع كتاب الله وسُنَّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، قال تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *} [المائدة] ، فلا شيء يخرج عن قدرة الله عزّ وجل وملكه وتدبيره وتصرفه، فمن أين أتى هؤلاء المعتزلة بتلك التحديدات لقدرة الله عزّ وجل والتعجيز له عزّ وجل وهو القائل عز من قائل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا *} [فاطر] .
أما في باب الهداية والدعوة للحق فقد بيَّن أنه لو شاء لآمن الناس كلهم ولهداهم في نصوص كثيرة، قال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَِمْلأََنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ *} [السجدة] ، وقال تعالى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ *إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ *} [الشعراء] ، وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآَمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ *} [يونس] ، قال ابن جرير في بيان معنى الآية: «يقول ـ تعالى ذكره ـ لنبيه: {وَلَوْ شَاءَ}، يا محمد {رَبُّكَ لآَمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} بك، فصدَّقوك أنك لي رسول، وأن ما جئتهم به وما تدعوهم إليه من توحيد الله وإخلاص العبودة له حقٌّ، ولكن لا يشاء ذلك؛ لأنه قد سبق من قضاء الله قبل أن يبعثك رسولاً أنه لا يؤمن بك ولا يتّبعك فيصدقك بما بعثك الله به من الهدى والنور، إلا من سبقت له السعادةُ في الكتاب الأوّل قبل أن تخلق السماوات والأرض وما فيهن»[2].
فهذه آيات صريحة بأن قدرة الله عزّ وجل لا يحدها شيء، وأن لديه من الألطاف والقدرة ما لو أراد به لكان الناس طيفًا واحدًا، وهو الإيمان والاستقامة على الطاعة، وأن المانع من ذلك وحده هو أنه لم يشأ ذلك فجميع تلك الآيات وغيره معلقة بالمشيئة.
ومن الأدلة على بطلان كلام المعتزلة وفساده أن الله عزّ وجل علق الهداية بمشيئته، وهي مشيئة منضبطة بالحكمة والعلم، قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ *} [البقرة] ، وقال: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *} [الأنعام] ، وقال: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ *} [يونس] ، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ *} [إبراهيم] ، وقال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ *} [النحل] ، وقال: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ *} [القصص] ، وقال: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ *} [فاطر] .
فهذه النصوص التي أجمع علماء الإسلام المعتبرين فيها على أن من شاء الله عزّ وجل هداه ومن شاء أضلَّه، وأن من اهتدى فإن الله هو الذي هداه فضلاً منه ونعمة، ومن ضلَّ فإن الله هو الذي حرمه الهداية ولم يوفقه لها عدلاً منه.
قال الطحاوي: «يهدي من يشاء، ويعصم ويعافي فضلاً، ويضل من يشاء ويخذل ويبتلي عدلاً»[3].
وقال ابن القيِّم: «وقد اتفقت كل رسل الله من أولهم إلى آخرهم وكتبه المنزلة عليهم على أنه يضل من يشاء، ويهدي من يشاء، وأنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأن الهدى والضلال بيده لا بيد العبد، وأن العبد هو الضال أو المهتدي، فالهداية والإضلال فعله سبحانه وقدره، والاهتداء والضلال فعل العبد وكسبه»[4].
وبهذا كله يتبين أن دعوى المعتزلة في وجوب الصلاح عليه لخلقه دعوى ليس لها ما يسندها من كلام الله عزّ وجل أو كلام رسوله صلّى الله عليه وسلّم.
الثاني: الأشاعرة ومن وافقهم، قال الأشاعرة بما يتفق مع مذهبهم في هذا الباب، فلما قالوا بنفي الحكمة عن الله عزّ وجل وقالوا بنفي التحسين والتقبيح العقلي جاء قولهم هنا متفقًا مع ذلك، حيث نفوا عن الله عزّ وجل رعاية الصلاح، فقالوا: ندعي أنه يجوز لله تعالى أن لا يكلف عباده، وأنه يجوز أن يكلفهم ما لا يطاق، وأنه يجوز منه إيلام العباد بغير عوض وجناية؛ وأنه لا يجب رعاية الأصلح لهم، وأنه لا يجب عليه ثواب الطاعة وعقاب المعصية...وأنه لا يجب على الله بعثة الرسل[5].
قال شيخ الاسلام: «والقدرية المجبرة الجهمية لا يثبتون له حكمة ولا رحمة؛ بل عندهم يفعل بمشيئة محضة، لا لها حكمة ولا رحمة. والجهم بن صفوان رأس هؤلاء، كان يخرج إلى المبتلين من الجذمى وغيرهم: فيقول: أرحم الراحمين يفعل هذا؟! يريد أنه ليس له رحمة»[6].
وهذا القول يعود إلى تلك أصولهم المتعلقة بالقدر من نفي الحكمة والقول بنفي التحسين والتقبيح العقلي، لذا قالوا لا يجب على الله عزّ وجل شيء يتفق مع الحكمة أو لا يتفق، والحق فيما يتعلق بالحكمة وكذلك التحسين والتقبيح أن أفعال الله عزّ وجل تدور مع الحكمة مع أنه لا غالب له، ولا حاكم عليه، ولا موجب ومحتم عليه سبحانه من خلقه، وأن الواجب هو ما أوجبه على نفسه تفضلاً وجودًا ورحمة وتكرمًا.
قال شيخ الإسلام: «قول الجمهور: إن الله عليم حكيم رحيم، قائم بالقسط، وإنه سبحانه كتب على نفسه الرحمة، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، كما نطقت بذلك نصوص الكتاب والسُّنَّة، وكما يشهد به الاعتبار حسًّا وعقلاً، وذلك واقع منه بحكمته ورحمته، وبحكم أنه كتب على نفسه الرحمة، وحرم على نفسه الظلم، لا بأن الخلق يوجبون عليه ويحرمون، ولا بأنه يشبه المخلوق فيما يجب ويحرم؛ بل كل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل، وليس لمخلوق عليه حق، إلا ما أحقه هو على نفسه المقدسة؛ كقوله: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54] ، وقوله: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ *} [الروم] ، وذلك بحكم وعده وصدقه في خبره، وهذا متفق عليه بين المسلمين، وبحكم كتابه على نفسه وحكمته ورحمته»[7].
[1] انظر: شرح الأصول الخمسه للقاضي عبد الجبار 519)، ومقالات الإسلاميين للأشعري (1/196) [المكتبة العصرية، ط1، 1426هـ]، وغاية المرام للآمدي (224) [المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة]، ومنهاج السُّنَّة (6/396).
[2] تفسير الطبري (15/211) [مؤسسة الرسالة، ط1، 1420هـ].
[3] شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي (106) [وزارة الشؤون الإسلامية، والأوقاف، ط1، 1418هـ].
[4] شفاء العليل (65) [دار المعرفة، بيروت، 1398هـ].
[5] الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي (89) [دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1424هـ].
[6] منهاج السُّنَّة النبوية (6/397) [جامعة الإمام، ط1)].
[7] المرجع السابق (6/397).
1 ـ «درء التعارض»، لابن تيمية.
2 ـ «شرح الأصول الخمسة»، لعبد الجبار المعتزلي.
3 ـ «المغني في مسائل العدل والتوحيد».
4 ـ «مسألة في قول النبي صلّى الله عليه وسلّم لمعاذ: «أتدري ما حق الله على العباد؟»»، لابن تيمية.
5 ـ «منهاج السُّنَّة»، لابن تيمية.
6 ـ «التمهيد»، للباقلاني.
7 ـ «جهود شيخ الإسلام ابن تيمية في توضيح الإيمان بالقدر»، لأحمد بن عبد الله بن محمد.
8 ـ «شفاء العليل»، لابن القيِّم.
9 ـ «شرح العقيدة الطحاوية»، لابن أبي العز الحنفي.
10 ـ «القضاء والقدر في ضوء الكتاب والسُّنَّة ومذاهب الناس فيه»، لعبد الرحمن المحمود.