الضلال: من ضل؛ قال ابن فارس: «الضاد واللام أصل صحيح يدلّ على معنىً واحد، وهو ضياع الشيء وذهابُه في غير حقِّه. يقال: ضَلَّ يَضِلّ ويَضَلّ، لغتان. وكلُّ جائرٍ عن القصد ضالٌّ. والضَّلالُ والضَّلالةُ: ضدُّ الهُدى والرَّشاد، ضَلَلْتَ تَضِلُّ وضَلِلْتَ تَضَلُّ ضَلالاً وضَلالةً؛ بمعنىً. ورجلٌ ضِلِّيل ومُضلَّل؛ إذا كان صاحبَ ضَلاَلٍ وباطل»[1].
[1] مقاييس اللغة (3/356) [دار الفكر، 1399هـ]، وانظر: لسان العرب (11/390) [دار صادر، ط3)].
هو أنّ الله تعالى خصَّ المؤمنين بنعمة يهتدون بها لم يعطها للكافرين[1]، وأنّ الله سبحانه هو خالق أفعال العباد، فيضل من يشاء ويهدي من يشاء؛ وأنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأن من أضلَّه الله فبعدله لايظلم الله عزّ وجل أحدًا شيئًا، فالهدى والإضلال بيد الله لا بيد العبد، وأن العبد هو الضال أو المهتدي، والهداية والإضلال فعل الله سبحانه وقدره، والاهتداء والضلال فعل العبد وكسبه. ومع اعتقاد أن الهدى والضلال بيد الله عزّ وجل لا بدَّ للمسلم أن يعلم أن العبد هو الذي يفعل الضلال ويكتسبه بيده، وقد حذر الله من مسالك الضلال كلها ودل على طرق الخير كلها، وليس لأحد على الله حجة؛ بل الحجة لله على خلقه، فقد أعطى الله عزّ وجل كل واحد منا العقل الذي يفهم به الخطاب ويميز به الخير من الشر، والإرادة والقدرة التي يفعل بها أو لا يفعل، ثم أرسل الرسل وأنزل الكتب ودعا إلى الهدى وأبان الطريق ووضحه وحذر من مسالك الشيطان ومداخله، فإذا أحد ركب الغواية وأهلك نفسه بأودية الضلالة فلا يلومن إلا نفسه، ولا يحمل انحرافه وضلاله على ربه فليس له حجة كما قال تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] .
[1] انظر: منهاج السُّنَّة النبوية (3/103).
الضلال عن الهدى أعظم خسارة يُبتلى بها البشر، قال ابن القيِّم رحمه الله: «فإن أفضل ما يقدر الله لعبده وأجلّ ما يقسمه له الهدى وأعظم ما يبتليه به ويقدره عليه الضلال، وكل نعمة دون نعمة الهدى وكل مصيبة دون مصيبة الضلال»[1].
وكلما كانت الضلالة أكبر كانت الخسارة أعظم، لهذا كانت النجاة من الضلالة والفوز بالهدى أشرف المسائل وأعظمها، وقد ضمنها الله عزّ وجل أعظم سورة في القرآن الكريم، وهي سورة الفاتحة، حيث تضمنت سؤال الله عزّ وجل الهداية والاستعاذة من طرق أهل الغواية والضلالة، قال : {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ *صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ *} [الفاتحة] ، فمن تحققت له الهداية للصراط المستقيم فقد تحقق له النجاح والفوز في الدنيا والآخرة، ومن ضلَّ عنه إلى طريق المغضوب عليهم أو الضالِّين فقد خسر دنياه وأخراه وباء بالعذاب الأليم.
[1] شفاء العليل (1/65) [دار المعرفة، 1398هـ].
قال تعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ *} [القصص] .
وقوله تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا *} [الكهف] ، وقوله تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ *} [الأعراف] ، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ} [الإسراء] .
وعن جابر رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخطب الناس، يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله، ثم يقول: «من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وخير الحديث كتاب الله»[1].
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: علمنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خطبة الحاجة: إن الحمد لله نستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله...»[2].
[1] أخرجه مسلم (كتاب الجمعة، رقم 867).
[2] أخرجه أبو داود (كتاب النكاح، رقم 2118)، والترمذي (أبواب النكاح، رقم 1105) وحسَّنه، والنسائي (كتاب الجمعة، رقم 1404)، وابن ماجه (كتاب النكاح، رقم 1892)، وأحمد (6/262) [مؤسسة الرسالة، ط1]، والدارمي (كتاب النكاح، رقم 2248)، وصحَّحه الألباني في صحيح سنن أبي داود (رقم 1844) [مؤسسة غراس، ط1].
قال الطبري رحمه الله: «الهداية والإضلال بيد الله، و(المهتدي) وهو السالك سبيل الحق، الراكبُ قصدَ المحجّة في دينه، مَن هداه الله لذلك، فوفَّقه لإصابته. والضالُّ من خذله الله فلم يوفقه لطاعته، ومن فعل الله ذلك به فهو (الخاسر)؛ يعني: الهالك»[1].
وقال ابن بطة رحمه الله بعد أن ذكر الآيات التي تنص على أن الهداية بيد الله عزّ وجل: «فَفِي كل هَذِه الآْيَات يعلم الله عزّ وجل عباده المؤمنين أَنه هُوَ الهادِي المضل وأَن الرُّسُل لا يَهْتَدِي بهَا إِلاَّ من هداه الله، ولاَ يأبى الهداية إلاَّ من أضلّهُ الله»[2].
وقال ابن القيِّم رحمه الله: «قد اتفقت رسل الله من أولهم إلى آخرهم وكتبه المنزلة عليهم على أنه سبحانه يضل من يشاء ويهدي من يشاء، وأنه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأن الهدى والإضلال بيده لا بيد العبد وأن العبد هو الضال أو المهتدي فالهداية والإضلال فعله سبحانه وقدره والاهتداء والضلال فعل العبد وكسبه»[3].
وقال ابن كثير رحمه الله: «وهو الذي يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وله الحكمة في ذلك، والحجة البالغة؛ ولهذا قال: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ *} [آل عمران] ؛ أي: هو عليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الضلالة، وهو الذي {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ *} [الأنبياء] وما ذاك إلا لحكمته ورحمته»[4].
[1] تفسير الطبري (13/276) [مؤسسة الرسالة ط1، 1420هـ].
[2] الإبانة لابن بَطَّة العكبري (1/265) [دار الراية، السعودية، ط2، 1418هـ].
[3] شفاء العليل لابن القيم (1/65).
[4] تفسير ابن كثير (2/26) [دار طيبة، ط2، 1420هـ].
الضلال في الدين على النوعين:
الأول: الضلال عن الحق والإيمان وذلك بالوقوع في الكفر المضاد للإيمان كاليهودية والنصرانية وسائر ملل الكفر ومن هذا النوع قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيْحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ *} [إبراهيم] ، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا *} [النساء] . وهو الأكثر ورودًا في القرآن الكريم.
الثاني: الضلال بارتكاب ما حرَّم الله والوقوع فيما يغضب الله بارتكاب الكبائر والمعاصي، فصاحبه فيه من الضلال بقدر ما انحرف عن دين الله عزّ وجل ومن هذا المعنى قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِيناً *} [الأحزاب] ، وأكثر أهل العلم يرى أنها نزلت في شأن زينب بنت جحش رضي الله عنها لما خطبها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لمولاه زيد بن حارثة رضي الله عنه، فأبت في أول الأمر، ثم بعد نزول الآية قبلت رضي الله عنها[1]. فيكون الضلال هنا هو عدم الاستجابة لأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم وطلبه فيما هو دون الإيمان.
[1] تفسير الطبري (20/271) مرجع سابق، تفسير ابن كثير (6/421) مرجع سابق.
المسألة الأولى: أسباب الضلالة:
الضلالة عن الهدى وارتكاب ما حرَّم الله سواء في الوقوع في الكفر؛ وذلك بالردة عن الدين، أو بعدم الاستجابة لطلب الإيمان والبقاء على ملة من ملل الكفر، أو بالابتداع في الدين والأخذ بأقوال أصحاب الضلالة في ذلك، مثل الشيعة والخوارج والجهمية والمعتزلة والمرجئة وعُبَّاد القبور والطرقية وغيرهم، أو بالانحراف عن الدين بالوقوع في المعاصي التي تنافي كمال الإيمان وتقدح فيه من هذا الوجه؛ كالمعاصي التي يرتكبها عصاة المسلمين، كل ذلك له أسباب عامة كثيرة؛ منها:
1 ـ اتباع وسوسة الشيطان وتزيينه:
الشيطان عدو الإنسان الأول والأخطر، ووسوسته سبب خروج أبينا آدم من الجنة، وله دأب وحرص على إغواء بني آدم، وقد حذرنا الله عزّ وجل منه ومن وسوسته وأخبرنا عنه ما يخفى علينا من حاله ومقاصده وأعماله؛ حتى نكون على حذر منه، وأن لا يغرنا عن ديننا فنهلك معه في نار جهنم، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ *إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ *} [فاطر] ، وقال تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيدًا *لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأََتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا *وَلأَُضِلَّنَّهُمْ وَلأَُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً *يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا *} [النساء] ، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
2 ـ اتباع الهوى:
الهوى: هُوَ محبَّةُ الإِنْسانِ للشيءِ وغَلَبَتُه على قَلْبِه[1]؛ وقيل الهوى: ميلان النفس إلى ما تستلذه من الشهوات من غير داعية الشرع[2].
وسمي هوى؛ لأنه خال من كل خير، ويهوي بصاحبه فيما لا ينبغي[3].
فالهوى من أعظم أسباب الضلالة؛ لأنه متابعة لشهوات النفس ورغباتها في مقابل أوامر الله عزّ وجل وشرعه، قال تعالى:{يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ *} [ص] .
وبيَّن الله تبارك وتعالى أن سلامة الإنسان ونجاته في أمرين؛ أولهما: خوف الوقوف بين يدي الله تعالى والاستعداد لذلك. ثانيهما: مخالفة هوى نفسه ومنعها منه قال تعالى:{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى *فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى *وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى *} [النازعات] ، وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: «إنما أخشى عليكم اثنين: طول الأمل، واتباع الهوى؛ فإن طول الأمل ينسي الآخرة، وإن اتباع الهوى يصد عن الحق، وإن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، والآخرة مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل»[4].
3 ـ الجهل:
إن عدم معرفة الحق والجهل به سبب من أسباب الضلالة والانحراف عن الحق، ولذا أرسل الله عزّ وجل الرسل للتعريف به والدعوة إليه وتعليم الخلق ما ينفعهم في دينهم، ويحذرهم مما يضرهم في دينهم كما أنزل الكتب لتكون نصًا محفوظًا يرجع إليه كل من أراد الهداية وسعى إليها، وفي خطورة الجهل بالحق وكونه سببًا من أسباب الضلالة يقول تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ *} [الزمر] ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ *كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ *} [الروم] ، قال الطبري رحمه الله في الآية: «كذلك يختم الله على قلوب الذين لا يعلمون حقيقة ما تأتيهم به يا محمد من عند الله من هذه العِبر والعظات، والآيات البيِّنات، فلا يفقهون عن الله حُجَّة، ولا يفهمون عنه ما يتلو عليهم من آي كتابه، فهم لذلك في طغيانهم يتردّدون»[5].
فالجهل هو الداء الذي يعمي عن الهدي ويدفع المرء لأبواب الضلالة، ويعطله عن معرفة الرشاد والتزامه؛ بل يجعله يعادي الحق وأهله ويكذب أنبياء الله ورسله، ويرد دعوتهم ويكذب بكتب الله وبيناته، وبدل أن يعبد ربه ويطيع خالقه يعبد ما لا ينفعه بل يضره، وما لا حقيقة له ولا وجود سوى في خياله وتصوراته، وفي الاسم لا في الرسم والحقيقة.
4 ـ اتباع المتشابه:
المتشابه: هو ما لم يقطع بفحواه من غير تردد فيه[6].
فالمتشابه يكون في النصوص الشرعية ولم يتضح للمكلف معناه فيجزم من وقعت في قلبه الضلالة بالمعنى الذي ارتآه من غير رجوع للأصول الشرعية التي بالنظر فيها يتحدد المعنى ويتقيد ويتبين بها مراد الشارع، فيكون هو الهدى وما عداه باطل، وقد حذرنا الله تعالى من اتباع المتشابه وبالتالي الوقوع فيما حرَّم الله تعالى، قال : {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7] .
قال ابن جرير رحمه الله في معناها: «هو الذي أنزل عليك يا محمد القرآن، منه آيات محكمات بالبيان، هنَّ أصل الكتاب الذي عليه عمادُك وعماد أمتك في الدّين، وإليه مفزعُك ومفزعهم فيما افترضت عليك وعليهم من شرائع الإسلام وآيات أُخر، هنّ متشابهاتٌ في التلاوة، مختلفات في المعاني... فأما الذين في قلوبهم ميل عن الحق وانحرافٌ عنه؛ فيتَّبعون ما تشابهت ألفاظه وتصرَّفت معانيه بوجوه التأويلات، ليحققوا ـ بادّعائهم الأباطيلَ من التأويلات في ذلك ـ ما هم عليه من الضلالة والزّيغ عن محجة الحقّ، تلبيسًا منهم بذلك على من ضعفت معرفته بوجوه تأويل ذلك وتصاريف معانيه»[7].
فالمتشابه سبب من أسباب ضلالة المنتسبين إلى الدين من الفرق الضالة، فهم يتَّبعون المتشابه من النصوص؛ لأنهم يجدون فيه ما يلبسون به على الناس في إيهامهم أن لهم مستمسكًا من الدين، لهذا حذر الرسول صلّى الله عليه وسلّم منهم فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} [آل عمران: 7] إِلَى: {أُولُو الأَلْبَابِ *} قالت: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا رأيتم الَّذين يتَّبعون ما تشابه منه، فأولئك الَّذين سمَّى الله فاحذروهم»[8].
وكل من اطلع على أدلة أصحاب الفرق الضالة من المعطِّلة والخوارج والرافضة وعبَّاد القبور وغيرهم يجد أنهم اعتمدوا على المتشابه من النصوص؛ للتلبيس والإغواء ولإظهار أنهم أصحاب استدلال واتباع، وهم أصحاب أهواء وابتداع، وقد عدَّ شيخ الاسلام ابن تيمية اتباع المتشابه أول أسباب الضلالة للنصارى والفرق الضالة، فقال: «ومما ينبغي أن يعلم أن سبب ضلال النصارى وأمثالهم من الغالية كغالية العبَّاد والشيعة وغيرهم ثلاثة أشياء:
أحدها: ألفاظ متشابهة مجملة مشكلة منقولة عن الأنبياء، وعدلوا عن الألفاظ الصريحة المحكمة وتمسكوا بها، وهم كلما سمعوا لفظًا لهم فيه شبهة تمسكوا به وحملوه على مذهبهم، وإن لم يكن دليلاً على ذلك، والألفاظ الصريحة المخالفة لذلك إما أن يفوضوها، وإما أن يتأوَّلوها كما يصنع أهل الضلال، يتبعون المتشابه من الأدلة العقلية والسمعية ويعدلون عن المحكم الصريح من القسمين»[9].
5 ـ اتباع ما لا يصح من الدليل:
الأدلة الشرعية الصحيحة يقابلها الأدلة الباطلة التي لا تصح كالأحاديث الضعيفة والموضوعة والاستدلال بالعقل في مقابل الشرع، وهذا من الأسباب المهمة في وقوع كثير من الناس في الضلالة وقد حذرنا الله من المضلين الذين يكذبون على الله عزّ وجل وعلى أنبيائه ليضلوا الناس، قال تعالى:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلاَئِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ *} [الأنعام] ، وقال عزّ وجل: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ *} [الأنعام] .
كما حذر النبي صلّى الله عليه وسلّم من الكذب عليه، فعن علي بن ربيعة، قال: أتيت المسجد والمغيرة أمير الكوفة، قال: فقال المغيرة: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنَّ كَذِبًا عليَّ ليس ككذب على أحد، فمن كذب عليَّ متعمِّدًا، فليتبوّأ مقعده من النّار»[10].
ومن راجع أو نظر في أدلة أصحاب الضلالة سيجد أنهم يعتمدون أدلة لا تصح؛ كالأحاديث الضعيفة والموضوعة، ويبنون عليها دينهم، كما هو حال الرافضة والصوفية.
ومن الأدلة الباطلة: الأدلة العقلية المخالفة للنصوص الشرعية؛ كالأدلة التي يعتمد عليها المتكلمون في تقرير المسائل الشرعية في مسائل الصفات والقدر؛ كإنكارهم للصفات الفعلية بناءً على أن الله عندهم لا تحل به الحوادث، أو إنكارهم للقدر بناءً على التحسين والتقبيح العقلي ونحو ذلك، فصارت هذه الأدلة عندهم مصادمة للشرع ومعارضة له وسببًا بينًا من أسباب الضلالة.
6 ـ تقليد الأباء:
من أسباب الضلالة لدى كثير من الناس تقليد الأباء والشيوخ والكبراء، وقد بيَّن الله جلّ جلاله لنا ذلك وحذرنا منه، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ *أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ *} [الأعراف] ، وقال : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ *} [البقرة] .
وقد بيَّن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله أن التقليد للآباء بالباطل أعظم الأصول التي بُني عليها الكفر، فقال في مسائل الجاهلية: « الرابعة: أن دينهم مبني على أصول؛ أعظمها التقليد، فهو القاعدة الكبرى لجميع الكفار أولهم وآخرهم كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ *} [الزخرف] ...»[11].
فالتقليد بالباطل المصادم للحق وخاصة للآباء ضلَّ بسببه كثير من الخلق، وليس لهم برهان أن آباءهم كانوا على الحق أو على الهدى، وإنما هو التقليد المجرد من العقل أو الحجة الصحيحة.
7 ـ الإعراض:
الإعراض عن الحق والرشاد سبب من أسباب الضلالة؛ فإن كثيًرا من أهل الضلالة لا يريد الحق ولا يستجيب لدعوة الرسل؛ إعراضًا عنهم لمقصد من المقاصد، قد يكون حب الدنيا وطول أمله فيها، أو كبرًا عن الحق والخضوع له، أو غير ذلك من الصوارف عن الحق، قال تعالى: {مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ *} [الأحقاف] ، وقال تبارك وتعالى : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ *} [آل عمران] .
ومن عرف واقع كثير من أهل الضلالة عرف من حالهم عدم رغبتهم في الحق ولا قبولهم له؛ لأنهم يرون أنه يقطع عليهم شهواتهم أو يتعارض مع أسلوب حياتهم، ولا يكون لهم همٌّ سوى دنياهم وما هم فيه من حال، فلا يلتفتون لدعوة الرسل والآيات البينات.
المسألة الثانية: عقوبات أهل الضلال بسبب ضلالهم بما يحول بينهم وبين الإيمان:
بيَّن الله عزّ وجل في كتابه أنه يعاقب الضالين عن دينه والمنحرفين عن منهجه بعقوبات تتعلق بالدين، وذلك بالختم، والطبع، والأكنّة، والوقر، الرين، والغل، والسد، والغشاوة، والقفل، والحول بين المرء والإيمان، قال ابن القيِّم رحمه الله: «القرآن من أوله إلى آخره إنما يدل على أن الطبع والختم والغشاوة لم يفعلها الرب سبحانه بعبده من أول وهلة حين أمره بالإيمان أو بيَّنه له، وإنما فعله بعد تكرار الدعوة منه سبحانه والتأكيد في البيان والإرشاد وتكرار الإعراض منهم والمبالغة في الكفر والعناد، فحينئذ يطبع على قلوبهم ويختم عليها فلا تقبل الهدى بعد ذلك، والإعراض والكفر الأول لم يكن مع ختم وطبع بل كان اختيارًا، فلما تكرر منهم صار طبيعة وسجية. فتأمل هذا المعنى في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ *خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ *} [البقرة] . ومعلوم أن هذا ليس حكمًا يعم جميع الكفار؛ بل الذين آمنوا وصدقوا الرسل كان أكثرهم كفارًا قبل ذلك ولم يختم على قلوبهم وعلى أسماعهم، فهذه الآيات في حق أقوام مخصوصين من الكفار فعل الله بهم ذلك؛ عقوبة منه لهم في الدنيا بهذا النوع من العقوبة العاجلة، كما عاقب بعضهم بالمسخ قردة وخنازير، وبعضهم بالطمس على أعينهم، فهو سبحانه يعاقب بالطمس على القلوب كما يعاقب بالطمس على الأعين، وهو سبحانه قد يعاقب بالضلال عن الحق عقوبة دائمة مستمرة، وقد يعاقب به إلى وقت ثم يعافي عبده ويهديه كما يعاقب بالعذاب كذلك»[12].
وتفصيل ذلك فيما يلي:
1 ـ الختم والطبع:
الختم والطبع: هو طبع الله على القلوب والجوارح وتغطيتها؛ فلا تعقل الهدى والفرقان ولا تهتدي إلى الحق ولا تعيه ولا توفق له[13].
2 ـ الأكنّة والوقر:
قال تعالى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا *} [الإسراء] .
والأكنَّة جمع كِنان، وهو الغِطاءُ، والوقر: ثقل السمع[14]، فكان هذا الغطاء الذي يغطي قلوبهم والصمم الذي يصيب آذانهم حاجبًا لهم عن الهدى والاستجابة لأمر الله عزّ وجل؛ لأن الله قد جعل على قلوبهم أكنّة؛ يعني: غطاءهم الذي يكنُّهم، وجعل في آذانهم ثقلاً وصممًا عن فهم ما يتلى عليهم، والإصغاء لما تدعوهم الآيات إليه[15].
3 ـ الرين والغل والسد والغشاوة:
قال تعالى: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ *} [المطففين] ، الران والرين هو كالصدأ يغشى على القلب، والمعنى أنه غطى عَلَى قُلُوبِهِمْ، يقال: ران على قلبه الذنب يَرينُ رَيْنًا؛ إذا غشي على قلبه[16].
والغل هو جعل القيد في العنق واليد[17]، والغِشاوة: مَا غشي الْقلب من الطَّبْع، والغشاء: الغطاء[18].
فالغل للأيدي بأن لا تنبسط بالخير، والغشاوة على القلوب والأبصار بتغطيتها فلا تهتدي للحق[19].
4 ـ القفل والحول بين المرء والإيمان:
القفل هو إغلاق القلوب فلا تعقل الهدى ولا تتبعه وقد جاء من فعل الله بالكفار، قال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا *} [محمد] [20].
أما الحول بين المرء والإيمان فقد قال فيه تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ *} [الأنفال] .
الحول بين الشيء والشيء، إنما هو الحجز بينهما، وإذا حجز جلَّ ثناؤه بين عبد وقلبه في شيء أن يدركه أو يفهمه لم يكن للعبد إلى إدراك ما قد منع الله قلبه إدراكه سبيل؛ لأن الله عزّ وجل إذا حال بين عبد وقلبه، لم يفهم العبد بقلبه الذي قد حيل بينه وبينه ما مُنِع إدراكه به على ما بيَّنتُ[21].
[1] تاج العروس (40/326) [دار الهداية].
[2] التعريفات للجرجاني (257) [دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1403هـ].
[3] مقاييس اللغة (6/16) [دار الفكر، 1399هـ].
[4] أخرجه أبو داود في الزهد (116) [دار المشكاة، ط1]، والبيهقي في الشعب (13/173) [مكتبة الرشد، ط1]، وعلق البخاري قطعة منه بصيغة الجزم في صحيحه (كتاب الرقاق، باب في الأمل وطوله).
[5] تفسير الطبري (20/120).
[6] تاج العروس (13/324).
[7] تفسير الطبري (6/174 ـ 185) مختصرًا.
[8] أخرجه البخاري (كتاب تفسير القرآن، رقم 4547)، ومسلم (كتاب العلم، رقم 2665).
[9] الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (2/315) [دار العاصمة، السعودية، ط2، 1419هـ].
[10] أخرجه البخاري (كتاب الجنائز، رقم 1291)، ومسلم (المقدمة، رقم 4).
[11] شرح مسائل الجاهلية للفوزان [دار العاصمة، الرياض، ط1، 1421هـ].
[12] شفاء العليل (91) [دار المعرفة، 1398هـ].
[13] انظر: تفسير الطبري (1/265 ـ 274) [دار هجر، ط1، 1422هـ]، والشريعة للآجري (1/417) [دار الفضيلة، ط3، 1428هـ]، والإبانة لابن بطة (1/253) [دار الراية، ط2، 1418هـ]، والمفردات في غريب القرآن (1/142) [دار المعرفة]، وتفسير البغوي (1/64 ـ 65) [دار طيبة، 1419هـ].
[14] معاني القرآن وإعرابه للزجاج (2/236) [عالم الكتب، بيروت، ط1، 1408هـ].
[15] تفسير الطبري (11/306) مختصرًا.
[16] معاني القرآن وإعرابه للزجاج (5/299).
[17] لسان العرب (11/504) [دار صادر، ط3)].
[18] تهذيب اللغة (8/145).
[19] تفسير الطبري (20/495).
[20] المرجع السابق (22/179).
[21] المرجع السابق (13/472).
خالف في هذه المسألة طائفتان:
الأولى: المعتزلة:
ومن أخذ بقولهم، فقد أنكروا أن يكون الله عزّ وجل يضل أحدًا، وزعموا أن ذلك يتعارض مع العدل وذلك قبيح يتنزه الله عنه وفسَّروا الإضلال من الله الوارد في القرآن الكريم بقولهم: «يحتمل أن يكون التسمية لهم والحكم بأنهم ضالُّون، ويحتمل أن يكون لمَّا ضلُّوا عن أمر الله سبحانه! أخبر أنه أضلَّهم؛ أي: أنهم ضلُّوا عن دينه، ويحتمل أن يكون الإضلال هو ترك إحداث اللطف والتسديد والتأييد الذي يفعله الله بالمؤمنين، فيكون ترك ذلك إضلالاً ويكون الإضلال فعلاً حادثًا. وقال بعضهم: إضلال الله الكافرين هو إهلاكه إياهم، وهو عقوبة منه لهم واعتلَّ بقول الله عزّ وجل: {فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ *} [القمر] [1].
هذه الأقوال منهم أقوال باطلة وتأويلات غير سائغة، المراد منها إبطال أن الله يضل أحدًا، والأدلة السابقة ترد على قولهم وتبين أن الهداية والضلال بيد الله عزّ وجل فمن هداه اهتدى ومن أضله ضل.
أما تفسيرهم لمعنى الإضلال من الله بأنه تسمية الضال ضالًّا والحكم عليه بذلك أو الإخبار عنه به، فهو قول باطل وتأويل مردود، فكيف يقولون في مثل قوله تعالى عن المنافقين: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاَءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلاَءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً *} [النساء] وقوله تعالى: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ *} [الأعراف] .
هل يمكن لغة أن يقال في معناها من يسمِّ الله ضالًّا أو من يحكم عليه بناءً على ضلاله بأنه ضال أو يخبر عنه أنه ضال؛ فلن تجد له مسميًا غيره ولا حاكمًا عليه بالضلالة ولا مخبرًا عنه غيره، فذلك لا يستقيم به المعنى ولا يصح، قال القرطبي في رده عليهم بدعواهم أن معناه تسمية الضال ضالًّا: «وهو خلاف أقاويل المفسرين، وهو غير محتمل في اللغة؛ لأنه يقال: ضلَّله إذا سمَّاه ضالًّا، ولا يقال: أضله إذا سماه ضالًّا»[2]، وظاهر من الإطلاق أن المقصود الوصف وليس التسمية ولا الحكم ولا الخبر عنه؛ لأنه قال في الآية الأولى: {فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً *} [النساء] ، وقال في الآية الثانية: {فَلاَ هَادِيَ لَهُ} [الأعراف: 186] ، فكيف يسوغ أن يقال: من سماه الله ضالًّا فلا سبيل له إلى الخير ولا هادي له، لا شك أن تلك دعوى لا تستقيم مع النص، وإنما هي ليّ لأعناق النصوص لتوافق أهواءهم.
أما قولهم: إضلال الله الكافرين هو إهلاكه إياهم وهو عقوبة منه لهم، فكذلك هذا القول لا يستقيم مع النصوص السابقة، كما أن الضلال ليس من معانيه الهلاك، وقد سبق بيان معناه. أما آية سورة القمر التي استدلوا بها لزعمهم فليس فيها ما يشهد لقولهم، فقوله تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ *} [القمر] معناه كما قال القرطبي: «أي: في حيدة عن الحق واحتراق»[3]، وقال ابن كثير: «يخبرنا تعالى عن المجرمين أنهم في ضلال عن الحق، وسعر مما هم فيه من الشكوك والاضطراب في الآراء، وهذا يشمل كل من اتصف بذلك من كافر ومبتدع من سائر الفرق»[4]. وبه يتبين بطلان قول المعتزلة وبطلان تأويلاتهم في هذا الباب.
الثانية: الجبرية:
وهم المنكرون أن العبد له فعل أو إرادة، وينسبون فعل العبد وإرادته لله عزّ وجل، وطرد قولهم في هذا الباب هو أن الضلال ينسب الى العبد مجازًا وهو فعل الله على الحقيقة، وهو قول في غاية البطلان والبعد عن الدين والعقل والفطرة واللغة؛ فإن نسبة الأفعال في الهدى والضلال إلى من قامت بهم الأفعال وارتكبوها مما يتفق عليه العقلاء ويؤكده الشرع ويوضحه، قال تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ *} [الفاتحة] ، وقال: {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّآلِّينَ *} [الواقعة] ، وقال: {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء: 15] .
فهذه النصوص الكثيرة فيها دلالة واضحة على أن الضلالة هي فعل العبد واكتسبها وقامت به، سواء كانت عقدية أم عملية، فهي تنسب إليه ويعاقب عليها، وهذا لا يخالف فيه سوى الجبرية، وإنما المنسوب الى الله من ذلك تقديره وخلقه للفعل في العبد فهو الذي يعين المهتدي فيجعله مهتديًا ويجنبه أسباب الضلالة، وهو سبحانه الذي يضل من شاء بأن يقدر عليه الضلالة ويخلق الكفر والضلالة في قلبه فتكون منه وبإرادته الضلالة وفعله، مع أن الحجة لله بإرساله الرسل وإنزال الكتب وخلقه في العبد القدرة والإرادة، فيقدم على ما قدر الله بإرادته ويفعلها بجوارحه، فيستحق بذلك العقوبة والحجة لله عليه، قال تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] ، وقال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ *وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً *} [الكهف] ، وقال: {أَلَمْ نَجْعَلَ لَهُ عَيْنَيْنِ *وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ *وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ *أَلَمْ نَجْعَلَ لَهُ عَيْنَيْنِ *} [البلد] ، وقال: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا *إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا *} [الإنسان] ، وعن أبي ذرّ رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال: «يا عبادي إني حرَّمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضالّ إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع، إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار، إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم، يا عبادي إنكم تخطؤون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعًا، فاستغفروني أغفر لكم... يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا، فليحمد الله ومن وجد غير ذلك، فلا يلومنَّ إلا نفسه»[5].
فهذا كله فعل الله عزّ وجل للعبد وتهيئته للتكليف، فمن اهتدى فلنفسه والله هداه وله المنة والفضل، ومن ضلَّ فقد راغ عن الصراط وزاغ، والله أضلَّه بعد قيام الحجة والإعذار والإنذار، وذلك عدل الله وقضاؤه وهو العليم الحكيم.
[1] مقالات الإسلاميين للأشعري (1/208) [المكتبة العصرية ط1، 1426هـ]. وانظر: الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار للعمراني اليمني (1/276).
[2] تفسيرالقرطبي (1/244).
[3] المرجع السابق (17/147).
[4] تفسير ابن كثير (7/482) [دار طيبة، ط2،1420هـ].
[5] أخرجه مسلم (كتاب البر والصلة والآداب، رقم 2577).
1 ـ «الإبانة»، لابن بطة.
2 ـ «شفاء العليل»، لابن القيِّم.
3 ـ «القدر»، لعبد الله بن وهب.
4 ـ «القدر»، للفريابي.
5 ـ «القضاء والقدر»، للبيهقي.
6 ـ «الانتصار في الرد على القدرية المعتزلة الأشرار»، للعمراني اليماني الشافعي.
7 ـ «القضاء والقدر في الإسلام»، لفاروق أحمد الدسوقي.
8 ـ «القضاء والقدر»، لعبد الرحمن المحمود.
9 ـ «القضاء والقدر»، لعمر سليمان الأشقر.
10 ـ «القضاء والقدر»، لابن تيمية.