حرف الطاء / أبو طالب

           

أبو طالب عم النبي صلّى الله عليه وسلّم وشقيق أبيه[1]، واسم أبي طالب «عبد مناف بن عبد المطلب ـ واسمه شيبة ـ ابن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان»[2].


[1] انظر: تاريخ الطبري (1/497) [دار الكتب العلمية]، وأنساب الأشراف للبلاذري (1/85) [معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية بالاشتراك مع دار المعارف، مصر]، وتاريخ ابن الوردي (1/96) [دار الكتب العلمية].
[2] البداية والنهاية لابن كثير (4/317) [دار هجر، ط1]، وانظر: جمهرة أنساب العرب لابن الكلبي (3)، وجمهرة أنساب العرب لابن حزم (14 ـ 15 و37) [دار المعارف، مصر، ط5].


ولد أبو طالب قبل المبعث ببضع وسبعين سنة، كما يفهم من عمره يوم وفاته، إذ «كان له يوم مات بضع وثمانون سنة»[1].
وتوفي أبو طالب في السنة العاشرة من البعثة؛ أي: قبل الهجرة بثلاث سنين، عام خروجهم من الشعب، وقبل ليلة الإسراء والمعراج التي فرضت فيها الصلوات الخمس[2]، حين بلغ النبي صلّى الله عليه وسلّم تسعًا وأربعين سنة وثمانية أشهر وأحد عشر يومًا[3].
قال الحافظ ابن حجر: «قال المرزباني: مات أبو طالب في السنة العاشرة من المبعث»[4].


[1] الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر (12/399) [دار هجر، ط1، 1429هـ].
[2] انظر: المحبر للبغدادي (11) [دار الآفاق الجديدة، بيروت]، والبداية والنهاية (4/317 ـ 318).
[3] انظر: شرح النووي على صحيح مسلم (1/215) [دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط2]، وتيسير العزيز الحميد (542) [دار الصميعي، ط1، 1428هـ].
[4] الإصابة في تمييز الصحابة (12/399).


معروف عن أهل السُّنَّة أنهم لا يعدلون عما جاءت به الرسل، فما ثبت بالدليل والحجة سلّموا له وقبلوه، وما خالف ذلك وعارضه ردوه ونبذوه نبذ النواة، ومن هذا المنطلق يقولون بعلم ويحكمون بعدل في أبي طالب وفي غيره، وعليه فهم يذكرون لأبي طالب حمايته لنبي الله صلّى الله عليه وسلّم من قريش، فيقولون: «كان ناصرًا له، وقائمًا في صفّه، ومدافعًا عنه بكل ما يقدر عليه؛ من نفس، ومال، وفعال، فلمَّا مات، اجترأ سفهاء قريش على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ونالوا منه ما لم يكونوا يصلون إليه، ولا يقدرون عليه»[1]. ومع ذلك يقولون: إنه مات على الكفر، مع حرص النبي صلّى الله عليه وسلّم على إسلامه، وعرضه كلمة التوحيد عليه حتى آخر لحظة من حياته، لكنه أبى أن يقول: لا إله إلا الله، وقال: هو على ملة عبد المطلب، وخرجت روحه وهو على ذلك. ويعتقدون أنه أخف أهل النار عذابًا، وأنه في ضحضاح من نار جهنم بشفاعة النبي صلّى الله عليه وسلّم له شفاعة خاصة، ويدل على ذلك ما ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في الصحيحين وغيرهما عن المسيب قال: «لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فوجد عنده أبا جهل، وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أشهد لك بها عند الله» فقال أبو جهل، وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعرضها عليه، ويعيد له تلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلَّمهم: هو على ملّة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أما والله لأستغفرن لك ما لم أُنهَ عنك» ، فأنزل الله عزّ وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ *} [التوبة] ، وأنزل الله تعالى في أبي طالب، فقال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ *} [القصص] »[2].
وعن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: يا رسول الله، هل نفعت أبا طالب بشيء، فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: «نعم، هو في ضحضاح من نار، لولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار» [3]. وعن عبد الله بن الحارث، قال: سمعت العباس رضي الله عنه يقول: قلت: يا رسول الله، إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك فهل نفعه ذلك؟ قال: «نعم، وجدته في غمرات من النار، فأخرجته إلى ضحضاح»[4].
وعـن ابن عباس رضي الله عنهما؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أهون أهل النار عذابًا أبو طالب، وهو منتعل بنعلين يغلي منهما دماغه» [5]. قال ابن تيمية بعد أن أورد بعض هذه الأحاديث: «وهذه الأحاديث الصحيحة توافق ما اتفق عليه أئمة المسلمين في أنه مات كافرًا»[6].


[1] البداية والنهاية (4/333).
[2] أخرجه البخاري (كتاب التفسير، رقم 4772)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 24).
[3] أخرجه البخاري (كتاب الأدب، رقم 6208)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 209).
[4] أخرجه مسلم (كتاب الإيمان، رقم 209).
[5] أخرجه مسلم (كتاب الإيمان، رقم 212).
[6] جامع المسائل لابن تيمية (3/124) [دار دار عالم الفوائد، ط1].


المسألة الأولى: شفاعة النبي صلّى الله عليه وسلّم لأبي طالب:
لقد ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في أحاديث عديدة أنه يشفع لعمه أبي طالب يوم القيامة في تخفيف العذاب عنه، لا في إخراجه من النار، كما في حديث العباس المتقدم الذي سأل فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله: يا رسول الله، هل نفعت أبا طالب بشيء، فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: «نعم، هو في ضحضاح من نار، لولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار»[1].
وجاء من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أنه سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم وذكر عنده عمه، فقال: «لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه، يغلي منه دماغه»[2].
فهذان الحديثان وما في معناهما تدل على ثبوت شفاعة النبي صلّى الله عليه وسلّم لعمه أبي طالب في تخفيف العذاب عنه، وهذه الشفاعة مستثناة من عموم نفي شفاعة الشافعين في الكافرين والتصريح بعدم انتفاعهم بها، قال الله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ *} [المدثر] ، وقال سبحانه: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] ، وقال: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى *} [النجم] .
قال الحافظ ابن حجر: «ويؤيد الخصوصية أنه بعد أن امتنع من الإقرار بالتوحيد، وقال: «هو على ملَّة عبد المطلب» ومات على ذلك، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يترك الشفاعة له؛ بل شفع له حتى خفف عنه العذاب بالنسبة لغيره، وكان ذلك من الخصائص في حقه»[3].
ومما تقدم يعلم أن تخفيف العذاب عن أبي طالب هو بسبب شفاعة النبي صلّى الله عليه وسلّم له وهو خاص به.
المسألة الثانية: حكم الاستغفار للمشركين:
لا شك أن الاستغفار لمن مات على الكفر والشرك محرم على المؤمنين بصريح نصوص الشرع المطهر، فقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال بعد أن مات عمه أبو طالب على الكفر: «أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك» ، فأنزل الله عزّ وجل: «{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ *} [التوبة] »[4]. فهذا الحديث صريح في أن سبب نزول الآية كان هذه الحادثة، وأنه نهي عن الاستغفار له لكفره بالله.
قال النووي: «الصلاة على الكافر، والدعاء له بالمغفرة حرام بنص القرآن والإجماع»[5].
وقال ابن تيمية: «الشافع ليس له أن يدعو ويشفع إلا بإذن الله له فى ذلك، فلا يشفع شفاعة نهي عنها؛ كالشفاعة للمشركين والدعاء لهم بالمغفرة»[6].


[1] تقدم تخريجه.
[2] أخرجه البخاري (كتاب مناقب الأنصار، رقم 3885).
[3] فتح الباري لابن حجر (8/507) [دار المعرفة]، وانظر: تيسير العزيز الحميد (538).
[4] تقدم تخريجه. وانظر: تيسير العزيز الحميد (544).
[5] المجموع للنووي (5/120) [مكتبة الإرشاد، جدة].
[6] الواسطة بين الحق والخلق (31).


ذهب المخالفون من الروافض والصوفية ومن معهم في هذه المسألة إلى القول بإسلام أبي طالب وموته على الإيمان[1]، متشبثين بشبه عديدة كلها واهية، أكتفي منها بما يأتي:
الأول: ما ساقه محمد بن إسحاق بقوله: «فحدثني العباس بن عبد الله بن معبد عن بعض أهله، عن ابن عباس قال... فلما تقارب من أبي طالب الموت قال: نظر العباس إليه يحرك شفتيه، قال: فأصغى إليه بأذنه، قال: فقال يا ابن أخي، والله لقد قال أخي الكلمة التي أمرتَه أن يقولها، قال: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لم أسمع»»[2].
زاد الروافض في رواياتهم بعد قول العباس هذا: «فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الحمد لله الذي هداك يا عم» »[3] بل أخذوا في حشد الروايات المنسوبة إلى الأئمة[4]؛ للتدليل على إسلام أبي طالب، منها ما ساقه المجلسي بقوله: «إن عبد العظيم بن عبد الله العلوي كان مريضًا، فكتب إلى أبي الحسن الرضا: عرّفني يا ابن رسول الله عن الخبر المروي أن أبا طالب في ضحضاح من نار يغلي منه دماغه، فكتب إليه الرضا: «بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فإنك إن شككت في إيمان أبي طالب كان مصيرك إلى النار...عن أبي عبد الله أنه قال: يا يونس ما يقول الناس في أبي طالب؟ قلت: جعلت فداك يقولون هو في ضحضاح من نار، وفي رجليه نعلان من نار تغلي منهما أم رأسه، فقال: كذب أعداء الله، إن أبا طالب من رفقاء النبيِّين والصدِّيقين والشهداء الصالحين وحسن أولئك رفيقًا. أقول: روى الكراجكي تلك الأخبار في كتاب كنز الفوائد مع أشعار كثيرة دالة على إيمانه، وتركناها مخافة التطويل والتكرار»[5].
ـ ومنها: زعمهم أن الله أحيا أبا طالب حتى آمن[6].
ـ ومنها: احتجاجهم على إسلام أبي طالب بادّعاء دخوله تحت عموم قوله تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً *} [الفتح: 9] كما نقله عنهم الحافظ ابن حجر بقوله: «ثم استدل الرافضي بقول الله تعالى... وقد عزره أبو طالب بما اشتُهر وعُلم، ونابذ قريشًا وعاداهم بسببه مما لا يدفعه أحد من نقلة الأخبار فيكون من المفلحين»[7].


[1] انظر: الدر النظيم لابن حاتم العاملي (220) [مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم]، وأعيان الشيعة لمحسن الأمين (8/117) [دار التعارف للمطبوعات، بيروت]، والغدير للشيخ الأمين (7/370) [دار الكتاب العربي، بيروت، ط3]، وأبو طالب حامي الرسول وناصره لنجم الدين العسكري (59) [مطبعة الآداب، النجف الأشرف، 1380هـ]، والبداية والنهاية لابن كثير (4/307).
[2] كما في سيرة ابن هشام (1/416 ـ 417) [مطبعة مصطفى البابي الحلبي، ط2]، وفي سنده ضعف. وقد ضعفه ابن كثير، وبيَّن مخالفتَه للأحاديث الصحيحة. انظر: البداية والنهاية (4/307 ـ 312) [دار هجر، ط1].
[3] الغدير للشيخ الأمين (7/370)، وأبو طالب حامي الرسول وناصره لنجم الدين العسكري (59).
[4] انظر: الدر النظيم لابن حاتم العاملي (220).
[5] بحار الأنوار للمجلسي (35/111) [مؤسسة الوفاء، بيروت ط2، 1403هـ].
[6] انظر: التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة للقرطبي (140) [دار المنهاج، الرياض، ط1، 1425هـ].
[7] نقله عنهم الحافظ ابن حجر في الإصابة (12/399).


لا شك أن القول بإسلام أبي طالب وموته على الإيمان قول باطل لعدة أمور:
الأمر الأول: أنه مصادم لما جاء في كتاب الله من نهي الله لنبيه صلّى الله عليه وسلّم عن الاستغفار لعمه أبي طالب، ولما ثبت في صريح السُّنَّة من رفض أبي طالب كلمة التوحيد، وموته على الكفر.
أما ما جاء في كتاب الله فهو قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ *} [التوبة] ، ففي هذه الآية نهي صريح لنبيِّه صلّى الله عليه وسلّم عن الاستغفار لعمه أبي طالب، حيث إنها نزلت بعد أن قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك» [1] ولو كان أبو طالب مسلمًا لما نهى الله نبيّه صلّى الله عليه وسلّم عن الاستغفار له.
وأما ما جاء في صريح السُّنَّة فكثير جدًّا، منه حديث المسيب في «الصحيحين» وغيرهما، وفيه: «فلم يزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعرضها عليه، ويعيد له تلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملَّة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله»[2].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أيضًا، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعمه: «قل: لا إله إلا الله، أشهد لك بها يوم القيامة، قال: لولا أن تعيرني قريش، يقولون: إنما حمله على ذلك الجزع؛ لأقررت بها عينك، فأنزل الله: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56] »[3].
الأمر الثاني: أن دعوى موت أبي طالب على الإيمان لو كانت صحيحة لقام النبي صلّى الله عليه وسلّم ومن معه بتجهيز جنازته ولصلَّوا عليه، ولورثه علي وجعفر، والواقع خلافه، لما ثبت عن علي رضي الله عنه قال: «قلت للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إن عمك الشيخ الضال قد مات. قال: «اذهب فوار أباك، ثم لا تُحدثنّ شيئًا حتى تأتيني» ، فذهبت فواريته وجئته فأمرني فاغتسلت ودعا لي»[4]. وقد اعترف شيخ الروافض الحلي بهذا، حيث قال: «ولما مات أبو طالب أمر رسول الله عليًّا بغسله فلما غسله ودفنه رجع إلى النبي فقال: اذهب واغتسل»[5].
وذكر ابن قتيبة أن أبا طالب لما مات لم يرثه علي ولا جعفر؛ لكونهما مسلمين وهو كافر. حيث قال: «وورث عقيل وطالب أبا طالب، ولم يرثه عليّ ولا جعفر؛ لأنهما كانا مسلمين»[6].
وروى الشيخان من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما أنه قال: يا رسول الله أين تنزل في دارك بمكة؟ فقال: «وهل ترك عقيل من رباع أو دور!» . وكان عقيل ورث أبا طالب هو وطالب، ولم يرثه جعفر ولا علي رضي الله عنهما شيئًا؛ لأنهما كانا مسلمين وكان عقيل وطالب كافرين، فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: «لا يرث المؤمن الكافر»[7].
قال الحافظ ابن حجر في شرحه الحديث السابق: «وهذا يدل على تقدم هذا الحكم في أوائل الإسلام؛ لأن أبا طالب مات قبل الهجرة. ويحتمل أن تكون الهجرة لما وقعت استولى عقيل وطالب على ما خلفه أبو طالب، وكان أبو طالب قد وضع يده على ما خلفه عبد الله والد النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنه كان شقيقه وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم عند أبي طالب بعد موت جدَّه عبد المطلب، فلما مات أبو طالب ثم وقعت الهجرة ولم يسلم طالب وتأخر إسلام عقيل استوليا على ما خلف أبو طالب، ومات طالب قبل بدر وتأخر عقيل، فلما تقرر حكم الإسلام بترك توريث المسلم من الكافر استمر ذلك بيد عقيل، فأشار النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى ذلك، وكان عقيل قد باع تلك الدور»[8].
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن ظاهر حديث أسامة أن «الدور انتقلت إلى عقيل بطريق الإرث، لا بطريق الاستيلاء، ثم باعها»[9].
لكنه رجح الاحتمال الثاني الذي ذكره الحافظ ابن حجر في هذه المسألة، وأضاف إليه سببًا آخر لمنع جعفر وعلي من أخذ نصيبيهما، وهو تأخير تقسيم الإرث بعد وفاة أبي طالب، حتى جاءت الهجرة، ويفهم من كلامه أنه لو قسمت قبل هذا لأخذوا حقوقهم من الميراث؛ لعدم المانع الشرعي في ذلك الوقت، حيث يقول: «وأما دور أبي طالب، فإن أبا طالب توفي قبل الهجرة بسنين، والمواريث لم تفرض، ولم يكن نزل بعد منع المسلم من ميراث الكافر؛ بل كل من مات بمكة من المشركين أُعطي أولاده المسلمون نصيبهم من الإرث كغيرهم؛ بل كان المشركون ينكحون المسلمات الذي هو أعظم من الإرث، وإنما قطع الله الموالاة بين المسلمين والكافرين بمنع النكاح والإرث وغير ذلك بالمدينة»[10]، وأخذ يدلل عليه.
وعلى كلٍّ؛ فإن حديث أسامة الذي رواه الشيخان على القول الأول حجة على كفر أبي طالب، والله أعلم.
الثالث: أن تشبثهم بما ساقه ابن إسحاق عن العباس في إسلام أبي طالب مردود لأمور:
أ ـ جهالة الواسطة في إسناده، حيث قال: «عن بعض أهله، عن ابن عباس»[11]، ومعلوم أن مثل هذا السند لا تقوم به حجة لو كان في الباب وحده، فكيف مع مخالفته لما هو ثابت في الصحيحين وفي غيرهما في قصة وفاة أبي طالب كما تقدم.
قال الإمام ابن كثير: «والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها، أن في السند مبهمًا لا يعرف حاله، وهو قوله: عن بعض أهله، وهذا إبهام في الاسم والحال، ومثله يتوقف فيه لو انفرد»[12]، ثم ذكر مخالفته لما جاء في سياق مشابه له، ولما هو ثابت أيضًا في الصحيح كما تقدم بيانه[13].
ب ـ أن العباس لم يحضر وفاة أبي طالب، وعليه فما نسب إليه ساقط.
ج ـ معارضته للثابت في الصحيحين من رفض أبي طالب كلمة التوحيد وموته على ذلك، كما في حديث المسيب وأبي هريرة وغيرهما كما سبق.
د ـ أن سؤال العباس للنبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «يا رسول الله، هل نفعت أبا طالب بشيء، فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟»[14] دليل على أنه كان يعلم موت أبي طالب على ضلاله[15].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد أن ذكر بعض الأحاديث الدالة على موت أبي طالب على الكفر: «وهذه الأحاديث الصحيحة توافق ما اتفق عليه أئمة المسلمين في أنه مات كافرًا، وتبين كذب من ادَّعى من الجهال الرافضة وغيرهم أنه مات مؤمنًا. ويحتج بما ذكر ابن إسحاق في «السيرة» من أنه جعل يهمهم عند الموت، وأن العباس قال للنبي: إنه قد قال الكلمة التي تطلبها أو نحو ذلك. فإن الذي في الصحيح بيَّن أن العباس لم يكن حاضرًا، وأن العباس علم أنه مات ضالًّا، وأنه سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم: هل نفعه نصره لك مع كفره؟ فأخبره النبي صلّى الله عليه وسلّم أن ذلك نفعه، بشفاعة النبي صلّى الله عليه وسلّم في تخفيف العذاب لا في رفعه، ولو كان قد مات على الإيمان لم يكن في العذاب، ولم ينه النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الاستغفار له، ولقرن ذكره بذكر حمزة والعباس، ولكان قد صلَّى عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم وابنه علي»[16].
الرابع: زعمهم بأن الله أحيا أبا طالب حتى آمن به ثم مات فهو من الأباطيل؛ لخلوه التام عن الحجة والبرهان. قال الشيخ علي القاري: «وأما ما حكاه ابن سيد الناس أن الله أحياه بعد بعثة النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى آمن به ثم مات، فهو مردود؛ لأنه لا دليل عليه من حديث ضعيف ولا غيره، وإنما حكوه عن بعض الشيعة، وخلافهم غير معتبر عند أهل السُّنَّة، وكذا قول القرطبي[17] على ما ذكره العماد ابن كثير عنه في تفسيره[18] أن الله أحيا أبا طالب حتى آمن، باطل موضوع بإجماع أهل الحديث ومخالف لمذهب الحق»[19].
وأما زعمهم دخول أبي طالب في عموم الآية السابقة فهو زعم مردود وقول فاسد؛ لمناقضته النصوص الصريحة في خروج أبي طالب من ذاك العموم، والمؤكدة على موته على الكفر ورفضه كلمة التوحيد، وقد تقدم ذكرها. قال الحافظ ابن حجر في رده على زعمهم هذا: «وهذا مبلغهم من العلم، وإنا نسلم أنه نصره وبالغ في ذلك، لكنه لم يتَّبع النور الذي أنزل معه وهو الكتاب العزيز الداعي إلى التوحيد، ولا يحصل الفلاح إلا بحصول ما رتب عليه من الصفات كلها»[20].


[1] تقدم تخريجه.
[2] هو الحديث السابق نفسه، وقد تقدم تخريجه.
[3] أخرجه مسلم (كتاب الإيمان، رقم 25).
[4] أخرجه أبو داود (كتاب الجنائز، رقم 3214)، والنسائي (كتاب الجنائز، رقم 2006)، وأحمد (2/323) [مؤسسة الرسالة، ط1]، ومن طريقه الضياء في المختارة (2/276) [دار خضر، ط3]، وحسن إسناده ابن الملقن في تحفة المحتاج (2/21) [دار حراء، ط1]، وصحَّحه الألباني في الإرواء (رقم 717) [المكتب الإسلامي، ط2].
[5] تذكرة الفقهاء للحلي (59) [منشورات المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية].
[6] المعارف لابن قتيبة (203) [الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط2، 1992م].
[7] أخرجه البخاري (كتاب الحج، رقم 1588)، ومسلم (كتاب الحج، رقم 1351).
[8] فتح الباري لابن حجر (8/15).
[9] الصارم المسلول لابن تيمية (2/309) [دار ابن حزم، بيروت، ط1، 1417هـ].
[10] الصارم المسلول لابن تيمية (2/309).
[11] سيرة ابن هشام (1/416 ـ 417).
[12] البداية والنهاية (4/307).
[13] انظر: البداية والنهاية (4/307 ـ 310).
[14] تقدم تخريجه.
[15] انظر: جامع المسائل لابن تيمية (3/125).
[16] انظر: جامع المسائل لابن تيمية (3/124 ـ 125).
[17] التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة للقرطبي (140).
[18] تفسير ابن كثير (4/223).
[19] أدلة معتقد أبي حنيفة في أبوي الرسول صلّى الله عليه وسلّم (102).
[20] الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر (12/399).


1 ـ «السيرة» (ج1)، لابن هشام.
2 ـ «المعارف»، لابن قتيبة.
3 ـ «التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة»، للقرطبي.
4 ـ «جامع المسائل» (ج3)، لابن تيمية.
5 ـ «الصارم المسلول» (ج2)، لابن تيمية.
6 ـ «أدلة معتقد أبي حنيفة في أبوي الرسول عليه الصلاة والسلام»، لعلي القاري.
7 ـ «فتح الباري» (ج8)، لابن حجر.
8 ـ «البداية والنهاية» (ج4)، لابن كثير.
9 ـ «تيسير العزيز الحميد»، لسليمان بن عبد الله.