حرف الظاء / الظلم المنفي عن الله تعالى

           

الظلم من مادّة (ظ ـ ل ـ م)، والظّاءُ واللاّمُ والميمُ أصلانِ صحيحان؛ أحدهما: خلاف الضِّياء والنُّور، والآخَر: وضع الشَّيء غير موضعه تعدِّيًا. وهو من: ظلمَهُ يظلِمُهُ ظلمًا. وقولهم: من أشبهَ أباهُ فما ظلم؛ أي: ما وضعَ الشّبهَ غَيْرَ مَوضعهِ. وَأصلُ الظُّلم: الجَور ومُجاوزة الحدِّ[1].


[1] يُنظر: مقاييس اللغة (3/468) [دار الفكر، 1399هـ]، ولسان العرب (12/373) [دار صادر، ط3].


الظلم المنفي عن الله تعالى: هو أنه لا يُحمل المرء سيئات غيره، ولا يعذب بما لم تكسب يداه، ولم يكن سعى فيه، ولا ينقص من حسناته؛ فلا يجازي بها أو ببعضها إذا قارنها أو طرأ عليها ما يقتضي إبطالها أو اقتصاص المظلومين منها[1].


[1] انظر: مفتاح دار السعادة (2/107) [دار الكتب العلمية].


اتفق المسلمون بل أهل الملل كلها على أن الله تبارك وتعالى عدل لا يظلم الناس شيئًا، وإن كان المسلمون اختلفوا في معنى الظلم المنفي عن الله عزّ وجل، أما أهل السُّنَّة فيرون أن الله لا يظلم الناس شيئًا؛ بمعنى أنه لا يحمّلهم ذنوب غيرهم ولا يجازيهم إلا بأعمالهم ولا يضيّع عليهم حسناتهم؛ وذلك لكمال عدله[1].


[1] انظر: منهاج السُّنَّة (1/135)، وشرح حديث أبي ذر رضي الله عنه لابن تيمية (3/208) و(3/211) [ضمن مجموعة الرسائل المنيرية]، ورسالة في معنى كون الله عادلاً لابن تيمية (1/121) [ضمن جامع الرسائل].


قال الله تعالى: {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا *} [الكهف] . قال القرطبي: «أي: لا يأخذ أحدًا بجرم أحد، ولا يوآخذه بما لم يعمله، قاله الضحاك. وقيل: لا ينقص طائعًا من ثوابه ولا يزيد عاصيًا في عقابه»[1].
وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْمًا وَلاَ هَضْمًا *} [طه] ، قال ابن عباس رضي الله عنهما: «لا يخاف ابن آدم يوم القيامة أن يظلم فيزاد عليه في سيئاته، ولا يظلم فيهضم في حسناته»، وفي رواية عنه أنه قال: «يقول الله تعالى: أنا قاهر لكم اليوم، آخذكم بقوّتي وشدّتي، وأنا قادر على قهركم وهضمكم، فإنما بيني وبينكم العدل، وذلك يوم القيامة»[2].
وقال تعالى: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ *} [آل عمران] .
وقال تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ *} [الزخرف] .
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء: 40] .
وعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فِيما روى عنِ الله تبارك وتعالى أنه قال: «يا عبادي إني حرَّمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا...»[3].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «تحاجّت الجنة والنار؛ فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة: ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم. قال الله تبارك وتعالى للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منهما ملؤها، فأما النار: فلا تمتلئ حتى يضع رجله فتقول: قط قط، فهنالك تمتلئ ويزوي بعضها إلى بعض، ولا يظلم الله عزّ وجل من خلقه أحدًا، وأما الجنة: فإن الله عزّ وجل ينشئ لها خلقًا»[4].


[1] تفسير القرطبي (10/419) [دار الكتب المصرية، القاهرة، ط2، 1384هـ].
[2] أخرجهما عنه ابن جرير في تفسيره (18/379، 380) [مؤسسة الرسالة ط1، 1420هـ].
[3] أخرجه مسلم (كتاب البر والصلة والآداب، رقم 2577).
[4] أخرجه البخاري (كتاب التفسير، رقم 4850)، ومسلم (كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، رقم 2846).


قال ابن جرير رحمه الله: «إن الله عدل لا يجور فيعاقب عبدًا له بغير استحقاق منه العقوبة، ولكنه يجازي كل نفس بما كسبت، ويوفّي كل عامل جزاء ما عمل... فلم يكن تعالى ذكره بما عاقبهم به[1] من إذاقتهم عذاب الحريق ظالمًا، ولا واضعًا عقوبته في غير أهلها. وكذلك هو جل ثناؤه، غيرُ ظلام أحدًا من خلقه، ولكنه العادل بينهم، والمتفضل على جميعهم بما أحبّ من فَوَاضله ونِعمه»[2].
وقال ابن القيِّم رحمه الله: «الصواب الذي دلَّت عليه النصوص أن الظلم الذي حرمه الله على نفسه وتنزه عنه فعلاً وأراده هو ما فسره به سلف الأمة وأئمتها؛ أنه لا يُحمل المرء سيئات غيره، ولا يعذب بما لم تكسب يداه ولم يكن سعى فيه، ولا ينقص من حسناته فلا يجازى بها أو ببعضها إذا قارنها أو طرأ عليها ما يقتضي إبطالها أو اقتصاص المظلومين منها، وهذا الظلم الذي نفى الله تعالى خوفه عن العبد بقوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْمًا وَلاَ هَضْمًا *} [طه] ، قال السلف والمفسرون: لا يخاف أن يحمل عليه من سيئات غيره ولا ينقص من حسناته ما يتحمل فهذا هو العقول من الظلم ومن عدم خوفه»[3].
وذكر ابن رجب رحمه الله أن الله سبحانه منع نفسه من الظلم لعباده وذكر الآيات في هذا المعنى ثم قال عن آية سورة طه آنفة الذكر: «والهضم: أن ينقص من جزاء حسناته، والظلم: أن يعاقب بذنوب غيره، ومثل هذا كثير في القرآن، وهو مما يدل على أن الله قادر على الظلم، ولكن لا يفعله فضلاً منه وجودًا وكرمًا وإحسانًا إلى عباده. وقد فسَّر كثير من العلماء الظلم بأنه وضع الأشياء في غير موضعها»[4].
قال الشيخ محمد منير بن عبده آغا الدمشقي: «وللعلماء في تفسير الظلم المنفي هنا أقوال، وتنازع، فبعضهم قد شذ، وبعضهم قد غلا، وتجاوز، والقول الوسط في ذلك ما أشرنا إليه قبل، وهو: أنَّ الظلم الذي حرمه الله على نفسه، ونفى إرادته كما تقدَّم هو مثل أن يترك حسنات المحسن، فلا يجزيه بها، ويعاقب البريء على ما لم يفعل من السيئات، ويعاقب هذا بذنب غيره، أو يحكم بين الناس بغير القسط، ونحو ذلك من الأفعال التي يُنزَه الرب عنها لقسطه وعدله، وهو قادر عليها، وإنما استحق الحمد، والثناء؛ لأنه ترك الظلم، وهو قادر عليه، وكما أن الله سبحانه وتعالى منزّه عن صفات النقص، والعيب، فهو أيضًا منزه عن أفعال النقص، والعيب»[5].


[1] يعني: اليهود الذين قتلوا الأنبياء وكفروا بالله.
[2] تفسير ابن جرير (7/447).
[3] مفتاح دار السعادة (2/107) [دار الكتب العلمية].
[4] جامع العلوم والحكم (2/35) [مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1422هـ].
[5] النفحات السلفية بشرح الأحاديث القدسية لمحمد منير أغا الدمشقي الأزهري (51) [دار ابن كثير، دمشق].


خالف في بيان معنى الظلم المنفي عن الله عزّ وجل طائفتان؛ وذلك يرجع إلى قولهم في القدر:
الطائفة الأولى: المعتزلة القدرية، يقررون أن الظلم المنفي عن الله عزّ وجل هو ما كان قبيحًا بعقولهم، ويرونه ظلمًا، ولذا قالوا: إنه كل ضرر لا نفع فيه، فاعتبروا ـ بناء على هذا ـ أن الله عزّ وجل يجب عليه فعل الأصلح لعباده واللطف فيهم على ما يرونه، وإلا كان ظالمًا لهم؛ لأنه لا يدخل عليه ضرر من ذلك فيجب عليه فعله لعباده، ودخل في ذلك أن الله لا يخلق أفعال العباد ولا تنفذ فيهم مشيئته، ولا يهدي أحدًا ولا يضل أحدًا[1].
وهذا مبني على أصلهم في القدر، وهو باطل؛ قال شيخ الإسلام في رده على دعوى القدرية في الظلم المنفي عن الله عزّ وجل: «فذهب المكذبون بالقدر القائلون بأن الله لم يخلق أفعال العباد، ولم يرد أن يكون إلا ما أمر بأن يكون، وغلاتهم المكذبون بتقدم علم الله وكتابه بما سيكون من أفعال العباد من المعتزلة وغيرهم، إلا أن الظلم منه هو نظير الظلم من الآدميين بعضهم لبعض، وشبهوه ومثلوه في الأفعال بأفعال العباد، حتى كانوا هم ممثلة الأفعال، وضربوا لله الأمثال، ولم يجعلوا له المثل الأعلى؛ بل أوجبوا عليه وحرموا ما رأوا أنه يجب على العباد ويحرم بقياسه على العباد، وإثبات الحكم في الأصل بالرأي، وقالوا عن هذا: إذا أمر العبد، ولم يعنه بجميع ما يقدر عليه من وجوه الإعانة كان ظالمًا له، والتزموا أنه لا يقدر أن يهدي ضالاً، كما قالوا: إنه لا يقدر أن يضل مهتديًا، وقالوا عن هذا: إذا أمر اثنين بأمر واحد، وخص أحدهما بإعانته على فعل المأمور كان ظالمًا، إلى أمثال ذلك من الأمور التي هي من باب الفضل والإحسان، جعلوا تركه لها ظلمًا. وكذلك ظنوا أن التعذيب لمن كان فعله مقدرًا ظلم له، ولم يفرقوا بين التعذيب لمن قام به سبب استحقاق ذلك، ومن لم يقم، وإن كان ذلك الاستحقاق خلقه لحكمة أخرى عامة أو خاصة»[2].
الطائفة الثانية: الأشعرية، حيث قالوا: إن الظلم منفي عن الله عزّ وجل؛ لأنه يستحيل وقوعه منه؛ لأن الظالم هو من تصرف في ملك غيره أو أخذ ما ليس من حقه، وكل شيء هو ملك الله عزّ وجل، وليس هناك من هو فوقه سبحانه فيكون له حق عليه. قال الغزالي: الظلم منفي عنه بطريق السلب المحض كما تسلب الغفلة عن الجدار والعبث عن الريح، فإن الظلم إنما يتصور ممن يمكن أن يصادف فعله ملك غيره، ولا يتصور ذلك في حق الله تعالى أو يمكن أن يكون عليه أمر فيخالف فعله أمر غيره، ولا يتصور من الإنسان أن يكون ظالمًا لما في ملك نفسه بكل ما يفعله، إلا إذا خالف أمر الشرع فيكون ظالمًا بهذا المعنى، فمن لا يتصور منه أن يتصرف في ملك غيره ولا يتصور منه أن يكون تحت أمر غيره كان الظلم مسلوبًا عنه لفقد شرطه المصحح له لا لفقده في نفسه، فلتفهم هذه الدقيقة فإنها مزلة القدم[3].
ولكن تفسيرهم مخالف لمعنى النصوص، وما سبق ذكره عن السلف فإن لازم هذا التفسير هو استحالة وامتناع وقوع الظلم من الله عزّ وجل، مع أن الله عزّ وجل مدح نفسه بذلك وبين أن ذلك من عظيم فضله وكريم جوده على العباد؛ إذ أمنهم من أن يظلموا، فلو كان كما ذكر في كلام الأشاعرة وغيرهم من ناحية امتناع وقوعه لم يكن فيه مجال للتمدح والثناء بل يستحيل وقوعه، فمن هنا كان القول الحق في معنى الظلم المنفي عن الله عزّ وجل هو ما سبق ذكره عن السلف.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد أن ذكر قول القدرية: «فعارض هؤلاء آخرون من أهل الكلام المثبتين للقدر، فقالوا: ليس للظلم منه حقيقة يمكن وجودها؛ بل هو من الأمور الممتنعة لذاتها، فلا يجوز أن يكون مقدورًا، ولا يقال إنه هو تارك له باختياره ومشيئته، وإنما هو من باب الجمع بين الضدين، وجعل الجسم الواحد في مكانين، وقلب القديم محدثًا، والمحدث قديمًا، وإلا فمهما قدر في الذهن وكان وجوده ممكنًا والله قادر عليه فليس بظلم منه، سواء فعله أو لم يفعله، وتلقى هذا القول عن هؤلاء طوائف من أهل الإثبات من الفقهاء، وأهل الحديث من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، ومن شراح الحديث ونحوهم، وفسروا هذا الحديث بما ينبني على هذا القول...وبالجملة فقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْمًا وَلاَ هَضْمًا *} [طه] قال أهل التفسير من السلف: «لا يخاف أن يظلم فيحمل عليه سيئات غيره، ولا يهضم فينقص من حسناته». ولا يجوز أن يكون هذا الظلم هو شيء ممتنع غير مقدور عليه، فيكون التقدير لا يخاف ما هو ممتنع لذاته، خارج عن الممكنات والمقدورات، فإن مثل هذا إذا لم يكن وجوده ممكنًا حتى يقولوا إنه غير مقدور، ولو أراده؛ كخلق المثل له، فكيف يعقل وجوده، فضلاً أن يتصور خوف حتى ينفي خوفه، ثم أي فائدة في نفي خوف هذا، قد علم من سياق الكلام أن المقصود بيان أن هذا للعامل المحسن لا يجزى على إحسانه بالظلم والهضم، فعلم أن الظلم والهضم المنفي يتعلق بالجزاء، كما ذكره أهل التفسير، وأن الله لا يجزيه إلا بعمله»[4].


[1] انظر: شرح الأصول الخمسة لعبد الجبار المعتزلي (309، 310، 351) [مكتبة وهبة].
[2] الفتاوى الكبرى لابن تيمية (1/77) [دار الكتب العلمية، ط1، 1408هـ].
[3] الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي (99) [دار الكتب العلمية، ط1، 1424هـ]، والتبصير في الدين لأبي المظفر الإسفراييني (169) [عالم الكتب، لبنان، ط1، 1403هـ].
[4] الفتاوى الكبرى لابن تيمية (1/79) [دار الكتب العلمية، ط1، 1408هـ].


1 ـ «جامع البيان»، لابن جرير الطبري.
2 ـ «الحق الواضح المبين»، للسعدي.
3 ـ «شفاء العليل»، لابن قيم الجوزية.
4 ـ «الفتاوى الكبرى»، لابن تيمية.
5 ـ «الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية»، لابن القيِّم.
6 ـ «مجموع الفتاوى»، لابن تيمية.
7 ـ «مفتاح دار السعادة»، لابن القيِّم.
8 ـ «منهاج السُّنَّة النبوية»، لابن تيمية.
9 ـ «النفي في باب صفات الله عزّ وجل بين أهل السُّنَّة والجماعة والمعطلة»، لأرزقي محمد سعيداني.