هي أمُّنا أمُّ المؤمنين عائشة، بنت الصديق رضي الله عنه، خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبي بكر عبد الله بن أبي قحافة ـ عثمان ـ بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرَّة بن كعب بن لؤي بن فهر بن مالك بن كنانة، أمُّ عبد الله، القرشية، التّيميّة، المكّيّة، ثم المدنيّة، زوجة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم[1].
أما كنيتها: فقد كناها بتلك الكنية النبي الكريم صلّى الله عليه وسلّم، وذلك عندما طلبت منه أن يكون لها كنية، فكناها بابن أختها أسماء؛ تطييبًا لخاطرها، فعن عروة رضي الله عنه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «يا رسول الله، كل صواحبي لهن كنى، قال: فاكتني بابنك عبد الله بن الزبير ـ يعني: ابن أختها ـ فكانت تدعى بأم عبد الله حتى ماتت»[2].
وقيل: كنِّيت بذلك؛ لأنَّها أسقطت من النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم سقطًا، فسمّاه النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم (عبد الله) فاكتنت به، وهذا لم يثبت، والأوَّل أصحُّ[3].
[1] ينظر: الطبقات الكبرى (8/58) [دار الكتب العلمية، ط1]، وأسد الغابة (7/205) [دار الكتب العلمية، ط1]، وسير أعلام النبلاء (2/135) [مؤسسة الرسالة، ط3، 1405هـ].
[2] أخرجه أبو داود (كتاب الأدب، رقم 4970)، وابن ماجه (كتاب الأدب، رقم 3739)، وأحمد (42/99) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وصحح سنده ابن حجر في التلخيص الحبير (4/365) [دار الكتب العلمية، ط1، 1419هـ]، والألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 132).
[3] ينظر: جلاء الأفهام (241) [دار العروبة، الكويت، ط2، 1407هـ]، وفتح الباري (7/107) [دار المعرفة]، والإصابة في تمييز الصحابة (2/232) [دار الكتب العلمية، ط1]، والمجموع شرح المهذب (8/438).
ولدت أُمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها بمكة، بعد البعثة بأربع سنين أو خمس[1] تقريبًا[2]، فخرجت إلى الدنيا فوجدت نفسها بين أبوين كريمين مؤمنين، في بيت يدين بدين الإسلام؛ بل وجدت نفسها ابنة خير الناس بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فوالدها أبو بكر الصديق رضي الله عنه أوَّل من أسلم من الرجال، وبإسلامه أسلمت زوجته أم رومان وابنتاه أسماء وعائشة رضي الله عنهن ، وبذلك تعد عائشة رضي الله عنها من أوائل المسلمات.
وكان أبواها ـ مع إسلامهما المتين ـ لهما علاقات متينة، وصلات وثيقة برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كما حكت ذلك بنفسها رضي الله عنها، فعن عروة بن الزبير أن عائشة زوج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالت: «لم أعقل أبويَّ إلا وهما يدينان الدِّين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طرفي النَّهار بكرة وعشيَّة»[3].
وقد أرضعتها زوجة أبي القعيس[4]، فعن عائشة رضي الله عنها، قالت: «استأذن عليَّ أفلح أخو أبي القعيس بعدما أُنزل الحجاب، فقلت: لا آذن له حتّى أستأذن فيه النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فإنَّ أخاه أبا القُعيس ليس هو أرضعني، ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس، فدخل عليَّ النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقلت له: يا رسول الله إنَّ أفلح أخا أبي القُعيس استأذن فأبيت أن آذن له حتَّى أستأذنك، فقال النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «وما منعك أن تأذني؛ عمُّكِ؟» ، قلت: يا رسول الله إن الرَّجل ليس هو أرضعني، ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس، فقال: «ائذني له؛ فإنَّه عمُّك، تربت يمينُك»»[5].
فنشأت رضي الله عنها في أحضان هذه الأسرة المباركة، وترعرعت في بيت الصدق والإيمان، وعاشت منذ نعومة أظفارها في ظل تعاليم الدين الإسلامي الحنيف، وشهدت في طفولتها أشد المراحل التي مرت بها دعوة الإسلام وما لاقاه المسلمون من الأذى والاضطهاد.
وأما وفاتها: فقد توفيت أُمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها بالمدينة النبويَّة، ليلة الثلاثاء السّابع عشر من رمضان من السَّنة السّابعة أو الثّامنة أو التّاسعة والخمسين للهجرة، في خلافة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه[6].
وقد زارها بعض الصحابة في مرض موتها، فعن ابن أبي مليكة: «أن ابن عباس استأذن عليها وهي مغلوبة[7]، فقالت: أخشى أن يثني عليَّ، فقيل: ابن عم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومن وجوه المسلمين، قالت: ائذنوا له، فقال: كيف تجدينك؟ قالت: بخير إن اتقيت، قال: فأنت بخير إن شاء الله، زوجة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولم يتزوج بِكرًا غيرك، ونزل عذرك من السماء، فلما جاء ابن الزبير قالت: جاء ابن عباس، وأثنى علي، ووددت أني كنت نسيًا منسيًا»[8].
وعند وفاتها حزن عليها أهل المدينة حزنًا شديدًا، ولما سمعت أم سلمة رضي الله عنها الصرخة على عائشة أرسلت جاريتها: انظري ماذا صنعت؟ فجاءت فقالت: قد قضت[9]، فقالت: «يرحمها الله، والَّذي نفسي بيده لقد كانت أحبَّ النّاس كلِّهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا أبوها»[10].
ودفنت رضي الله عنها ليلاً بعد الوتر، وكان الليل مظلمًا، فلم يجد المشيعون بدًّا من أن يحملوا فيه خِرَقًا[11] غمسوها في زيت وأشعلوا فيها النار؛ لتضيء لهم الطريق إلى المقابر، وازدحم الناس وتجمعوا حول النعش، ولم تُر ليلة أكثر ناسًا منها، ونزل أهل العوالي إلى المدينة[12].
ونزل في قبرها خمسة من آل الصديق: عبد الله وعروة ابنا الزبير بن العوام من أختها أسماء بنت أبي بكر، والقاسم وعبد الله ابنا أخيها محمد بن أبي بكر، وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر، وكان عمرها يومئذ سبعًا وستين سنة، ودفنت بالبقيع[13]، رضي الله عنها وأرضاها.
[1] ينظر: الإصابة في تمييز الصحابة (8/16).
[2] رجَّح سليمان الندوي أن ولادتها في السنة التاسعة قبل الهجرة، فقال: «أصح تاريخ لولادتها هو شهر شوال قبل الهجرة، الموافق يوليو (تموز) عام (614م)، وهو نهاية السنة الخامسة من البعثة»، ينظر: سيرة السيدة عائِشَة أُمّ المؤمنين (40) [دار القلم، ط1، 1424هـ].
[3] أخرجه البخاري (كتاب الصلاة، رقم 476).
[4] ينظر: في قصة إرضاع عائِشَة: أسد الغابة (5/407).
[5] أخرجه البخاري (كتاب تفسير القرآن، رقم 4796)، ومسلم (كتاب الرضاع، رقم 1445).
[6] ينظر: الطبقات الكبرى (8/62)، والاستيعاب في معرفة الأصحاب (4/1885) [دار الجيل، بيروت، ط1]، والمنتظم في تاريخ الملوك والأمم (5/303) [دار الكتب العلمية، ط1]، وأسد الغابة (7/186)، والبداية والنهاية (8/101)، والوافي بالوفيات (16/343) [دار إحياء التراث، بيروت، 1420هـ]، والإصابة (8/344).
[7] أي: قد غلبها المرض فأضعفها عن التصرف. ينظر: كشف المشكل من حديث الصحيحين (2/387) [دار الوطن، الرياض]، وعمدة القاري (19/87) [دار إحياء التراث العربي، بيروت].
[8] أخرجه البخاري (كتاب تفسير القرآن، رقم 4753).
[9] أي: قضت أجلها، ومنه قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} [الأحزاب:23]؛ أي: قضى أجله، و(قضى) في اللغة على وجوه، مرجعها إلى انقطاع الشيء وتمامه والانفصال منه، ينظر: معاني القرآن وإعرابه للزجاج (4/222) [عالم الكتب، بيروت، ط1، 1408هـ]، وتفسير الراغب الأصفهاني (1/302) [كلية الآداب، جامعة طنطا، ط1].
[10] أخرجه الطيالسي في مسنده (3/185) [دار هجر، ط1]، والحاكم (كتاب معرفة الصحابة، رقم 6746)، وفي سنده زمعة بن صالح، روى له مسلم في المتابعات، وهو ضعيف. انظر: تقريب التهذيب (217) [دار الرشيد، سوريا، ط1، 1406هـ].
[11] الخِرَقُ: جمع خِرْقَة، وهي القطعَة من الثَّوب الممزق، ينظر: جمهرة اللغة (1/590) [دار العلم للملايين، بيروت، ط1، 1987م]، والصحاح (4/1468) [دار العلم للملايين، بيروت، ط4، 1407هـ].
[12] ينظر: الطبقات الكبرى (8/61)، وتاريخ الطبري (11/602)، والمستدرك (4/5).
[13] الطبقات الكبرى (8/62، 64، 76)، وتاريخ ابن أبي خيثمة (2/58) [دار الفاروق الحديثة، القاهرة، ط1]، والاستيعاب (4/1885)، وأسد الغابة (7/186)، والمنتظم في تاريخ الملوك والأمم (5/303)، وتاريخ الإسلام (4/249)، والبداية والنهاية (8/101) [دار الفكر، 1407هـ]، والإصابة (8/20).
انفردت[1] عائشة رضي الله عنها بجملة من المناقب والفضائل التي ذكرتها كتب السُّنَّة وهي كثيرة جدًّا، منها:
أولاً: أنَّها من أفضل النساء، كما في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «فضل عائشة على النِّساء كفضل الثَّريد على سائر الطَّعام» [2]، وحديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كمل من الرِّجال كثير، ولم يكمل من النّساء: إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وإنَّ فضَّل عائشة على النِّساء كفضل الثريد على سائر الطعام»[3].
ثانيًا: أنها كانت أحب الأزواج إلى النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ويدل على ذلك دلالة واضحة، حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه حينما سأل النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أي النّاس أحب إليك؟ قال: عائشة، قال: من الرِّجال؟ قال: أبُوها» [4]، والنصوص التي تدل على محبة النبي صلّى الله عليه وسلّم لعائشة رضي الله عنها كثيرة، ولله الحمد.
ثالثًا: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يتزوج بكرًا غيرها، فعنها رضي الله عنها قالت: «قلت: يا رسول الله، أرأيت لو نزلت واديًا وفيه شجرة قد أكل منها، ووجدت شجرة لم يؤكل منها، في أيِّها كنت تُرتع بعيرك؟ قال: «في الذي لم يُرتع منها» ؛ تعني أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يتزوج بكرًا غيرها»[5].
رابعًا: نزول براءتها من السماء بما نسبه إليها أهل الإفك في ست عشرة آية متوالية، وجعله قرآنًا يتلى إلى يوم القيامة، وشهد الله لها بأنها من الطيبات، ووعدها بالمغفرة والرزق الكريم، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِىءٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ *} [النور] إلى قوله تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ *} [النور] .
خامسًا: لم ينزل بها أمر إلا جعل الله لها منه مخرجًا وللمسلمين بركة، ومن ذلك: حادثة الإفك السابقة، فإنها قد عادت عليها وعلى المسلمين، بالخيرات والبركات، كما أثبت ذلك الله سبحانه وتعالى في كتابه، حيث قال: {لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور: 11] .
وأيضًا مما أُنزل بسببها وبركتها، آية التيمم التي كانت رحمة ورخصة للمؤمنين، فعنها رضي الله عنها: «أنَّها استعارت من أسماء قلادة فهلكت، فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ناسًا من أصحابه في طلبِها، فأدركتهم الصَّلاة، فصلَّوا بغير وُضوء، فلمّا أتوا النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم شكوا ذلك إليه، فنزلت آية التّيمّم، فقال أُسيد بن حضير: جزاك الله خيرًا، فوالله ما نزل بك أمر قطُّ، إلا جَعل الله لك منه مخرجًا، وجُعل للمسلمين فيه بركة»[6].
سادسًا: أن الملَك جاء بصورتها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سَرَقة من حرير، فعنها رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «رأيتك في المنام يجيء بك الملَك في سرَقَة من حرير، فقال لي: هذه امرأتك، فكشفت عن وجهك الثَّوب فإذا أنت هي، فقلت: إن يك هذا من عند الله يُمضه»[7].
وفي رواية: «أنَّ جبريل، جاء بصورتها في خرقة حرير خضراء إلى النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: هذه زوجتك في الدُّنيا والآخرة»[8].
سابعًا: اختياره صلّى الله عليه وسلّم أن يُمَرَّض في دارها، ووفاته في بيتها، بين سحرها ونحرها، واجتماع ريقه وريقها في آخر ساعة له من الدنيا، ودفنه في بيتها، فعنها رضي الله عنها: «أنَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يسألُ في مرضه الذي مات فيه، يقول: «أين أنا غدًا؟ أين أنا غدًا؟» يريد يوم عائشة، فأذن له أزواجه يكون حيث شاء، فكان في بيت عائشة حتَّى مات عندها، قالت عائشة: فمات في اليوم الَّذي كان يدور عليَّ فيه، في بيتي، فقبضه الله وإنَّ رأسه لبين نحري وسحري، وخالط ريقه ريقي، ثمَّ قالت: دخل عبد الرَّحمن بن أبي بكر ومعه سواك يستنُّ به، فنظر إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقلت له: أعطني هذا السِّواك يا عبد الرَّحمن، فأعطانيه، فقضِمته، ثمَّ مضغته، فأعطيته رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاستنَّ به، وهو مستند إلى صدري»[9].
ثامنًا: لم يكن ينزل الوحي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو في لحاف امرأة من نسائه غيرها، فقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «لا تؤذيني في عائشة، فإنَّه والله ما نزل علي الوحي وأنا في لحاف امرأة منكنَّ غيرها» [10]، وفي رواية: «فإنَّ الوحي لم يأتني وأنا في ثوب امرأة، إلا عائشة»[11].
تاسعًا: أنَّ جبريل أرسل لها السّلام مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فعنها رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومًا: «يا عائش، هذا جبريل يقرئك السّلام» ، فقلت: وعليه السّلام ورحمة الله وبركاته، ترى ما لا أرى، تريد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم»[12].
عاشرًا: أنها أول من بدأها النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالتخيير عند نزول آية التخيير، وهي قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَِزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً *وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا *} [الأحزاب] . وقرن ذلك بموافقة أبويها، فاختارت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل أن تستشيرهما، فاستنَّ بها بقية أمهات المؤمنين رضي الله عنهن ، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «لمّا أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بتخيير أزواجه، بدأ بي، فقال: «إنِّي ذاكر لك أمرًا، فلا عليك أن لا تعجلي حتَّى تستأمري أبويك» ، قالت: قد علم أنّ أبويَّ لم يكونا ليأمراني بفراقه، قالت: ثمَّ قال: «إنَّ الله عزّ وجل قال: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَِزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً *وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا *}» ، قالت: فقلت: أفي هذا أستأمر أبويَّ؟ فإنِّي أريد الله ورسوله والدّار الآخرة، قالت: ثمَّ فعل أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مثل ما فعلت»[13][14].
الحادي عشر: كان لها يومان وليلتان في القسم دون غيرها من أمهات المؤمنين، وذلك لما وهبتها سودة يومها وليلتها، فعن عائشة رضي الله عنها: «أنَّ سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة، وكان النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقسم لعائشة بيومها ويوم سودة»[15].
الثاني عشر: أنَّها كانت من أعلم وأفقه نساء هذه الأمة، ولم تكن هنالك امرأة أكثر حديثًا منها فيما روته عن النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قال الزهري رحمه الله: «لو جمع علم عائشة إلى علم جميع النِّساء، لكان علم عائشة أفضل»[16]، وفي رواية: «لو جمع علم نساء هذه الأمَّة ـ فيهنَّ أزواج النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ـ كان علم عائشة أكثر من علمهنَّ»[17].
وعن محمود بن لبيد قال: «كان أزواج النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يحفظن من حديث النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كثيرًا، ولا مثلاً لعائشة وأمِّ سلمة، وكانت عائشة تفتي في عهد عمر وعثمان إلى أن ماتت، يرحمها الله، وكان الأكابر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عمر وعثمان بعده يرسلان إليها فيسألانها عن السُّنن»[18].
[1] هناك فضائل كثيرة اشتركت فيها أم المؤمنين عائشة مع غيرها من أمهات المؤمنين، ينظر شيء منها في: الأربعين في مناقب أمهات المؤمنين لابن عساكر، والسَّمط الثَّمين في مناقب أمهات المؤمنين لمحب الدين الطبري، والأحاديث الواردة في فضائل الصحابة للدكتور سعود الصاعدي.
[2] أخرجه البخاري (كتاب فضائل أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، رقم 3770)، ومسلم (كتاب فضائل الصحابة، رقم 2446).
[3] أخرجه البخاري (كتاب فضائل أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، رقم 3769)، ومسلم (كتاب فضائل الصحابة، رقم 2431).
[4] أخرجه البخاري (كتاب فضائل أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، رقم 3662)، ومسلم (كتاب فضائل الصحابة، رقم 2384).
[5] أخرجه البخاري (كتاب النكاح، رقم 5077).
[6] أخرجه البخاري (كتاب فضائل أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، رقم 3773)، ومسلم (كتاب الحيض، رقم 367).
[7] أخرجه البخاري (كتاب النكاح، رقم 5125)، ومسلم (كتاب فضائل الصحابة، رقم 2438).
[8] أخرجه الترمذي (أبواب المناقب، رقم 3880) وحسَّنه، والبزار في مسنده (18/220) [مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، ط1، 1988م]، وصحَّحه الألباني في تحقيقه لمشكاة المصابيح (3/1745، رقم 6191) [المكتب الإسلامي، بيروت، ط3، 1985م].
[9] أخرجه البخاري (كتاب المغازي، رقم 4450)، ومسلم (كتاب فضائل الصحابة، رقم 2443).
[10] أخرجه البخاري (كتاب فضائل أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، رقم 3775).
[11] أخرجه البخاري (كتاب الهبة، رقم 2581).
[12] أخرجه البخاري (كتاب فضائل أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، رقم 3768)، ومسلم (كتاب فضائل الصحابة، رقم 2447).
[13] أخرجه البخاري (كتاب تفسير القرآن، رقم 4785)، ومسلم (كتاب الطلاق، رقم 1475).
[14] شذى الياسمين في فضائل أمهات المؤمنين (31) [مبرة الآل والأصحاب، الكويت، ط2، 1427هـ]، وينظر: حبيبة الحبيب أُمّ المؤمنين عائِشَة (19) [ط1، 1429هـ].
[15] أخرجه البخاري (كتاب النكاح، رقم 5212)، ومسلم (كتاب الرضاع، رقم 1463).
[16] انظر: المستدرك (كتاب معرفة الصحابة، رقم 6734)، والاستيعاب (4/1883) [دار الجيل، ط1].
[17] روي بهذا اللفظ مرفوعًا عند الطبراني في الكبير (23/184) [مكتبة ابن تيمية، ط2]، ورجاله ثقات، لكن سنده ضعيف للإرسال، كما ذكر الهيثمي في المجمع (9/243) [مكتبة القدسي].
[18] أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (2/375) [دار صادر، ط1].
«تبوَّأت أمُّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها مكانة علمية رفيعة، جعلتها عالمة من علماء عصرها، والمرجع العلمي الأصيل الذي يرجعون إليه فيما يغمض عليهم أو يستشكل أمامهم من مسائل في القرآن والحديث والفقه، فيجدون الجواب الشافي لجميع تساؤلاتهم واستفساراتهم»[1].
فكان الأكابر من الصحابة إذا أشكل عليهم الأمر في الدين استفتوها، فيجدون علمه عندها، قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: «ما أشكل علينا ـ أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ـ حديث قطّ فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علمًا»[2].
وقال مسروق رحمه الله: «لقد رأيت الأكابر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسألونها عن الفرائض»[3].
وروى هشام بن عروة عن أبيه أنه قال: «ما رأيت أحدًا أعلم بكتاب الله ولا بسُنَّة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولا بشعر، ولا فريضة من عائشة رضي الله عنها»[4].
وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن: «ما رأيت أحدًا أعلم بسنن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولا أفقه في رأيٍ ـ إن احتيج إلى رأيه ـ ولا أعلم بآية فيما نزلت، ولا فريضة من عائشة»[5].
وعن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، قال: «كانت عائشة قد استقلَّت بالفتوى في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وهلمّ جرّا، إلى أن ماتت يرحمها الله، وكنت ملازمًا لها مع برِّها بي»[6].
[1] السيدة عائِشَة وتوثيقها للسُّنَّة (40).
[2] أخرجه الترمذي (أبواب المناقب، رقم 3883)، وقال: «حسن صحيح غريب»، وصحَّحه الألباني في تحقيقه لمشكاة المصابيح (3/1746) [المكتب الإسلامي، ط3].
[3] أخرجه ابن المبارك في الزهد (1/382) (برقم (107) [دار الكتب العلمية]، وسعيد بن منصور في سننه (1/118) (برقم 287) [الدار السلفية، الهند، ط1، 1403هـ]، وابن أبي شيبة في مصنفه (6/239) (برقم 31037) [مكتبة الرشد، الرياض، ط1]، وغيرهم، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/242): «إسناده حسن»، قال حسين سليم أسد في تعليقاته على الدارمي: «إسناده صحيح».
[4] أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (5/276) (برقم 26048).
[5] أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (2/286).
[6] أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (2/286).
المسألة الأولى: علاقة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بأهل البيت كعلي وفاطمة رضي الله عنهما:
أ ـ علاقتها بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه:
كانت علاقة عائشة رضي الله عنها بعليّ رضي الله عنه قبل وفاة النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم علاقة طيبة، ثمّ بعد وفاة النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم حدثت فتنة الجمل، واختلف كل من عائشة وعلي رضي الله عنهما في الاجتهاد، وحصل ما حصل، ولكن بالرغم من ذلك، لم تكن العلاقة بينهما علاقة عداء وجفاء؛ بل إن عائشة رضي الله عنها لما أرادت الخروج من البصرة ـ بعد انتهاء فتنة الجمل ـ، بعث إليها عليّ رضي الله عنه بكل ما ينبغي من مركب وزاد ومتاع وغير ذلك، وأذن لمن نجا ممن جاء في الجيش معها أن يرجع إلا أن يحب المقام، واختار لها أربعين امرأة من نساء أهل البصرة المعروفات، وسيَّر معها أخاها محمد بن أبي بكر، فلما كان اليوم الذي ارتحلت فيه جاء عليٌّ فوقف على الباب وحضر الناس وخرجت من الدار في الهودج فودعت الناس ودعت لهم، وقالت: «يا بنيَّ لا يعتب بعضنا على بعض، إنّه والله ما كان بيني وبين عليٍّ في القدم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها، وإنَّه على معتبتي لمن الأخيار»، فقال علي رضي الله عنه: «صدقت؛ والله ما كان بيني وبينها إلا ذاك، وإنَّها لزوجة نبيّكم صلّى الله عليه وسلّم في الدّنيا والآخرة»، ثم سار عليٌّ معها مودعًا ومشيعًا أميالاً[1].
فهذا الموقف من أصدق المواقف التي تبين عمق العلاقة بين علي وعائشة رضي الله عنهما، ولو كانت عائشة رضي الله عنها تحمل شيئًا في نفسها، لما قالت تلك المقالة، وأيضًا لو كان علي رضي الله عنه يحمل على عائشة رضي الله عنها شيئًا لما أقرَّها على قولها، ولا قال هذه الكلمات التي تكتب بماء الذهب، ولا وقف معها هذا الموقف الرائع.
وأعجب من ذلك أن عليًّا رضي الله عنه كان يعاقب من يتكلم بكلام فيه نيل من أُمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها بالجلد والضرب، فقد ذكر ابن الأثير رحمه الله: «أن رجلين وقفا على باب الدار الذي نزلت فيه أُمّ المؤمنين بالبصرة، فقال أحدهما: جزيت عنا أمَّنا عقوقًا، وقال الآخر: يا أمَّنا توبي فقد أخطأت، فبلغ ذلك عليًّا، فبعث القعقاع بن عمرو إلى الباب، فأقبل بمن كان عليه، فأحالوا على رجلين من أزد الكوفة، وهما عجلان وسعد ابنا عبد الله، فضربهما مائة سوط وأخرجهما من ثيابهما»[2].
ومما يدل أيضًا على العلاقة الطيبة بين عائشة وعليِّ رضي الله عنهما؛ أن عائشة رضي الله عنها كانت أحيانًا تحيل السائل على عليِّ ليجيبه، فعن شريح بن هانئ قال: «سألت عائشة، عن المسح على الخفين، فقالت: ائت عليًّا؛ فإنَّه أعلم بذلك منِّي، فأتيت عليًّا فذكر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم بمثله»، وفي رواية: «عليك بابن أبي طالب، فسله؛ فإنَّه كان يسافر مع رسول صلّى الله عليه وسلّم»[3].
وقد سأل عائشة رضي الله عنها آخر، فقال: «في كم تصلِّي المرأة من الثّياب؟ فقالت له: سل عليًّا، ثمّ ارجع إليّ فأخبرني بالَّذي يقول لك، قال: فأتى عليًّا فسأله، فقال: في الخمار والدِّرع السّابغ، فرجع إلى عائشة فأخبرها، فقالت: صدق»[4].
ب ـ علاقتها بفاطمة رضي الله عنها:
هناك آثار كثيرة تبيّن العلاقة الحسنة بين عائشة وفاطمة رضي الله عنهما، ومن ذلك:
أنها حدثت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأعظم منقبة لفاطمة رضي الله عنها؛ وهي قوله عليه الصلاة والسلام: «يا فاطمة أما ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين، أو سيدة نساء هذه الأمة؟»[5].
وما رواه عمرو بن دينار قال: قالت عائشة رضي الله عنها: «ما رأيت أفضل من فاطمة غير أبيها»، وفي رواية: «ما رأيت أحدًا قطُّ أصدق من فاطمة غير أبيها»[6].
وأيضًا ما روت عائشة بنت طلحة، عن أُمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «ما رأيت أحدًا أشبه سمتًا ودَلًّا وهديًا برسول الله في قيامها وقعودها من فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم»[7].
وهنا وصفت أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها فاطمة بصفات حميدة تبين قدرها ومنزلتها، حيث إنها تشبه النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم هيئة وطريقة وسمتًا وخلقًا.
ووصفتها أيضًا بصدق اللهجة، فعن عبد الله بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت إذا ذكرت فاطمة بنت النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قالت: «ما رأيت أحدًا كان أصدق لهجة منها، إلا أن يَكُونَ الَّذِي ولدها»[8].
وكانت فاطمة رضي الله عنها إذا جاءت إلى النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في حاجة ولم تجده أوصت بذلك عائِشَة رضي الله عنها، فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «أنَّ فاطمة رضي الله عنها أتت النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم تشكو إليهِ ما تلقى في يدها من الرَّحى، وبلغها أنّه جاءه رقيق، فلم تصادفه، فذكرت ذلك لعائشة، فلمّا جاء أخبرته عائشة...» الحديث[9]. فهذا يدل على ثقة فاطمة رضي الله عنها بعائشة رضي الله عنها، ويدل أيضًا على اهتمام عائشة رضي الله عنها بتبليغ ما أوكلته إليها فاطمة رضي الله عنها.
وأيضًا لما أرسل أمهات المؤمنين فاطمة رضي الله عنها إلى النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم تقول: إن نساءك ينشدنك الله العدل في بنت أبي بكر، فكلمته فقال: «يا بنيّة ألا تحبِّين ما أحبّ؟» ، قالت: بلى، فرجعت إليهن، فأخبرتهن، فقلن: ارجعي إليه، فأبت أن ترجع[10]. وفي هذا تصريح واضح من فاطمة بمحبتها لعائِشَة رضي الله عنهما.
المسألة الثانية: كفر من رماها بما برَّأها الله منه:
أجمع علماء الإسلام قاطبة من أهل السُّنَّة والجماعة على أنّ من سبّ أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها ورماها بما برّأها الله منه أنه كافر.
قال الإمام مالك رحمه الله: «من سب أبا بكر وعمر جلد، ومن سب عائشة قتل، قيل له: لم يقتل في عائشة؟ قال مالك: فمن رماها فقد خالف القرآن، ومن خالف القرآن قتل»[11].
وقال ابن القاسم في روايته عن مالك: «لأن الله تعالى يقول: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ *} [النور] ، فمن عاد لمثله فقد كفر»[12]، قال ابن حزم رحمه الله: «قول مالك هاهنا صحيح، وهي ردّة تامَّة، وتكذيب لله تعالى في قطعه ببراءتها»[13].
وقال أبو بكر ابن زياد النيسابوريّ رحمه الله: «سمعت القاسم بن محمَّد يقول لإسماعيل بن إسحاق: أتي المأمون في (الرَّقة) برجلين شتم أحدهما فاطمة، والآخر عائشة، فأمر بقتل الذي شتم فاطمة وترك الآخر، فقال إسماعيل: ما حكمهما إلا أن يقتلا؛ لأنَّ الذي شتم عائشة ردَّ القرآن»[14].
قال ابن تيمية رحمه الله تعقيبًا عليه: «وعلى هذا مضت سيرة أهل الفقه والعلم من أهل البيت وغيرهم»[15].
وقال النووي رحمه الله: «براءة عائشة رضي الله عنها من الإفك، وهي براءة قطعية بنصِّ القرآن العزيز، فلو تشكّك فيها إنسان ـ والعياذ بالله ـ صار كافرًا مرتدًّا بإجماع المسلمين»[16].
وقال ابن كثير رحمه الله عند قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ *} الآيات [النور] : «قد أجمع العلماء رحمهم الله قاطبة على أن من سبَّها بعد هذا ورماها بما رماها به بعد هذا الذي ذكر في هذه الآية، فإنه كافر؛ لأنه معاند للقرآن، وفي بقية أمهات المؤمنين قولان؛ أصحهما أنهن كهي، والله أعلم»[17].
وقال ابن القيِّم رحمه الله: «واتَّفقت الأمَّة على كفر قاذفها»[18].
وقال القاضي أبو يعلى رحمه الله: «من قذف عائشة بما برّأها الله منه كفر بلا خلاف وقد حكى الإجماع على هذا غير واحد وصرَّح غير واحد من الأئمة بهذا الحكم»[19].
[1] ساق القصةَ ابنُ الجوزي في المنتظم في تاريخ الملوك والأمم (5/94)، وابن الأثير في الكامل (2/614)، وابن كثير في البداية والنهاية (7/274).
[2] الكامل في التاريخ (2/614).
[3] أخرجه مسلم (كتاب الطهارة، رقم 276).
[4] أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (كتاب الصلاة، رقم 5029)، وابن أبي شيبة (كتاب صلاة التطوع والإمامة، رقم 6169).
[5] أخرجه البخاري (كتاب الاستئذان، رقم 6285)، ومسلم (كتاب فضائل الصحابة، رقم 2450).
[6] أخرجه أبو يعلى في مسنده (8/153) [دار المأمون، ط1]، والطبراني في الأوسط (3/137) [دار الحرمين]، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/201) [مكتبة القدسي]: «رواه الطبراني في الأوسط وأبو يعلى، إلا أنها قالت: ما رأيت أحدًا قطُّ أصدق من فاطمة. ورجالهما رجال الصحيح».
[7] أخرجه أبو داود (كتاب الأدب، رقم 5217)، والترمذي (أبواب المناقب، رقم 3872) وقال: «هذا حديث حسن صحيح»، والحاكم (كتاب الأدب، رقم 7715) وصحَّحه، وصحَّحه الألباني في صحيح الأدب المفرد (355).
[8] أخرجه الحاكم في المستدرك (كتاب معرفة الصحابة، رقم 4756).
[9] أخرجه البخاري (كتاب النفقات، رقم 5361)، ومسلم (كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، رقم 2727).
[10] أخرجه البخاري (كتاب الهبة، رقم 2581).
[11] مسند الموطأ للجوهري (112) [دار الغرب الإسلامي، ط1]، والشفا بتعريف حقوق المصطفى (2/309) [دار الفيحاء، عمان، ط2، 1407هـ]، والصارم المسلول 566) [الحرس الوطني السعودي، المملكة العربية السعودية].
[12] الشفا (2/654).
[13] المحلى بالآثار (12/440) [دار الفكر، بيروت].
[14] ينظر: شرح أصول اعتقاد أهل السُّنَّة (7/1344) [دار طيبة، ط 8، 1423هـ]، والصارم المسلول (566).
[15] الصارم المسلول (566).
[16] شرح النووي على مسلم (17/117).
[17] تفسير ابن كثير (6/32) [دار طيبة، ط2، 1420هـ].
[18] زاد المعاد في هدي خير العباد (1/103) [مؤسسة الرسالة، ومكتبة المنار الإسلامية، الكويت، ط27].
[19] الصارم المسلول (566).
من أبرز المخالفين لأهل السُّنَّة والجماعة في مسائل الصحابة عمومًا، وفي أُمِّنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها على وجه الخصوص الرافضةُ الإمامية الاثنا عشرية، ومن أقوالهم ومواقفهم المخزية في بنت الصديق رضي الله عنها:
أن علماء الرافضة يعتقدون كفر عائشة رضي الله عنها[1]، ويعتقدون أن عائشة وحفصة وأبويهما رضي الله عنهم هم الذين قتلوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقد روى شيخهم العياشي ـ كذبًا ـ عن أبي عبد الله جعفر الصادق قوله: «تدرون مات النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ أو قُتل؟ إن الله يقول: {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 144] فسُمَّ قبل الموت، إنهما سقتاه قبل الموت، فقلنا: إنهما وأبويهما شرُّ من خلق الله»[2].
ويعتقد علماء الشيعة أنَّ عائشة وحفصة رضي الله عنهما قد وقعتا في الفاحشة!! ـ والعياذ بالله تعالى ـ وأقسم على ذلك القمي فقال: «والله ما عنى بقوله: {فَخَانَتَاهُمَا} [التحريم: 10] إلا الفاحشة»[3].
كما يعتقد علماء الرافضة أنَّ أحد أبواب النار السبعة لعائشة رضي الله عنها! ـ عياذًا بالله تعالى ـ، فقد رووا في تفسير قوله تعالى: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} [الحِجر: 44] «يُؤتى بجهنم لها سبعة أبواب... والباب السادس لعسكر..»[4].
ويعتقد الرافضة قبَّحهم الله وقاتلهم بأنَّ عائشة رضي الله عنها (زانية!!)، {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ *} [النور] وأنَّ مهديهم المنتظر سيقيم عليها حدًّا آخر؛ قال شيخهم رجب البرسي: «إنَّ عائشة جمعت أربعين دينارًا من خيانة، وفرَّقتها على مُبغضي عليٍّ عليه السلام»[5]، نعوذ بالله العظيم، وقال المجلسي: «إذا ظهر المهديُّ، فإنه سيُحيي عائشة، ويقيم عليها الحد»[6].
وما سبق من بيان مكانها وفضلها في نصوص الكتاب والسُّنَّة، وأقوال سلف الأمة وعلمائها، يكفي في تفنيد هذه الترهات والمجازفات، وقد سبق بيان حال منتقصها، ومن يقع في عرضها رضي الله عنها وأرضاها، والله الهادي.
[1] الصراط المستقيم للبياضي (3/168)، وفصل الخطاب للنوري (313)، وبحار الأنوار (22/246).
[2] تفسير العياشي (1/200).
[3] تفسير القمي (2/377).
[4] تفسير العياشي (2/243)، والمراد بعسكر: عائشة رضي الله عنها، ينظر: بحار الأنوار (4/378) (8/220).
[5] مشارف أنوار اليقين للبرسي (86).
[6] حق اليقين للمجلسي (347).
1 ـ «الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة»، للزركشي.
2 ـ «الآحاد والمثاني»، لابن أبي عاصم.
3 ـ «أسد الغابة»، لابن الأثير.
4 ـ «الإصابة في تمييز الصحابة»، لابن حجر.
5 ـ «البداية والنهاية»، لابن كثير.
6 ـ «جلاء الأفهام»، لابن القيِّم.
7 ـ «حبيبة الحبيب أُمّ المؤمنين عائِشَة»، لصالح بن محمد عطا.
8 ـ «حلية الأولياء»، لأبي نعيم الأصبهاني.
9 ـ «زاد المعاد في هدي خير العباد»، لابن القيِّم.
10 ـ «شذى الياسمين في فضائل أمهات المؤمنين»، مبرة الآل والأصحاب.
11 ـ «الشفا بتعريف حقوق المصطفى»، للقاضي عياض.
12 ـ «الصارم المسلول»، لابن تيمية.
13 ـ «معرفة الصحابة»، لأبي نعيم.