حرف العين / العبادة

           

العبادة في لغة العرب يدور معناها حول: الطاعة والذلة والخضوع[1].
قال ابن فارس رحمه الله: «عبد يعبد عبادة، وتعبد يتعبد تعبدًا، فالمتعبد: المتفرد بالعبادة.
ومن الباب: الطريق المعبد وهو المسلوك المذلل»[2].
وقال الجوهري: «وأصل العبودية: الخضوع والذل. والتعبيد التذليل»[3]
وقال الراغب: «العبودية: إظهار التذلل، والعبادة أبلغ منها؛ لأنها غاية التذلل، ولا يستحقها إلا من له غاية الإفضال وهو الله تعالى»[4].
وقال الفيروزآبادي: «والعبدية والعبودية والعبودة والعبادة: الطاعة»[5].


[1] انظر: الزاهر في معاني كلمات الناس (1/204) [دار الشؤون الثقافية العامة، ط2، 1987م]، وتهذيب اللغة (2/234) [الدار المصرية للتأليف والترجمة، ط1، 1384هـ].
[2] مقاييس اللغة (4/205 ـ 206) [دار الجيل، 1420هـ].
[3] الصحاح (2/503) [دار العلم للملايين، ط4].
[4] المفردات في غريب القرآن للراغب (1/319) [دار المعرفة].
[5] القاموس المحيط (296) [مؤسسة الرسالة، ط7، 1424هـ].


«اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة»[1].
وقيل: «اسم يجمع كمال الحب لله ونهايته وكمال الذل لله ونهايته»[2].


[1] مجموع الفتاوى (10/149).
[2] مجموع الفتاوى (10/19).


العلاقة ظاهرة، فإن العبادة شرعًا هي التذلل والطاعة والخضوع لله سبحانه وتعالى وحده، وهذا هو أصل معنى العبادة في لغة العرب.
«لكن العبادة المأمور بها تتضمن معنى الذل ومعنى الحب، فهي تتضمن غاية الذل لله بغاية المحبة له»[1].


[1] مجموع الفتاوى (10/152 ـ 153) [مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، 1415هـ].


سميت العبادة بذلك؛ لأن الخلق كلهم عباد لله، خاضعون له، متذللون بين يديه، وما خلقهم سبحانه إلا لأجل عبادته وتأليهه، ففعلهم لما أمرهم الله به هو عبادة منهم لله وخضوع له وتذلل بين يديه حبًّا له وخوفًا من عقابه ورجاء لرحمته وعفوه.



عبادة الله عزّ وجل فرض واجب؛ إذ العباد ما خلقوا إلا من أجل تحقيقها والقيام بها كما أمروا.
وهذه العبادة لا تكون إلا لمن يستحقها، ولا يستحقها إلا من كان لعابده خالقًا ورازقًا، ولأموره مدبرًا، وعليه مقتدًرا، وليس ذلك إلا لله وحده سبحانه، فمن لم يكن كذلك فليس بإله، وإن سُمِّي إلهًا وعبد ظلمًا؛ بل هو مخلوق متعبد لا يملك شيئًا من خصائص الألوهية والربوبية التي يكون بها مستحقًّا للعبادة[1].
فعبادة الله سبحانه وتعالى وحده لا شريك له هو توحيد الألوهية، وحقيقة توحيده بالألوهية: أن يفرد العبد ربه بالعبادة قولاً وعملاً واعتقادًا.
وعليه؛ فإن العبادة حق لله وحده لا يشركه فيها أحد؛ لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، فمن جعل منها شيئًا لغير الله فهو مشرك كافر، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ *} [المؤمنون] ، وقال سبحانه: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا *} [الكهف] [2]. وهذا هو مقتضى تعريف العبادة المتقدم: «صرف جميع أنواع العبادة لله تعالى».


[1] انظر: تهذيب اللغة (6/423 ـ 424).
[2] انظر: ثلاثة الأصول ضمن مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب (6/134، 136) [ط2، 1423هـ].


حقيقة العبادة: إخلاص الدين لله وإسلام الوجه له وطاعته وحبه وخوفه ورجاؤه والرغبة إليه وتفويض الأمور إليه والتوكل عليه، وطاعة رسله واتِّباعهم والانقياد لهم بفعل الأوامر واجتناب النواهي.
وهذا هو حقيقة دين الإسلام الذي بعث الله به الأولين والآخرين من الرسل، وهو الدين الذي لا يقبل الله من أحد دينًا إلا إياه، وهو حقيقة العبادة لرب العالمين؛ لأن معنى الإسلام هو الاستسلام لله المتضمن غاية الانقياد في غاية الذل والخضوع[1].
«والعبادة والطاعة والاستقامة ولزوم الصراط المستقيم ونحو ذلك من الأسماء مقصودها واحد ولها أصلان»[2] هما جماع الدين: «ألا نعبد إلا الله، ولا نعبده إلا بما شرع لا نعبده بالبدع. كما قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا *} [الكهف] ، وذلك تحقيق الشهادتين؛ شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدًا رسول الله. ففي الأولى: أن لا نعبد إلا إياه، وفي الثانية: أن محمدًا هو رسوله المبلغ عنه. فعلينا أن نصدق خبره ونطيع أمره، وقد بيَّن لنا ما نعبد الله به ونهانا عن محدثات الأمور وأخبر أنها ضلالة»[3].


[1] انظر: مجموع الفتاوى (10/236)، وتيسير العزيز الحميد (36).
[2] مجموع الفتاوى (10/173).
[3] مجموع الفتاوى (10/234).


«الدين كله داخل في العبادة»[1]، وقد تقدم أن العبادة لرب العالمين إنما هي حقيقة دين الإسلام الذي بعث الله به الأولين والآخرين؛ فإن جميع الرسل إنما دعوا إلى توحيد الله وإخلاص عبادته من أولهم إلى آخرهم، كما قال الله عنهم: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] ، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ *} [الأنبياء] .
وجعل النبي صلّى الله عليه وسلّم إحسان العبودية أعلى مراتب الدين فقال في حديث جبريل عليه السلام[2] وقد سأله عن الإحسان: «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك»[3].
فدين الحق هو تحقيق العبودية لله بكل وجه، وهو تحقيق محبة الله بكل درجة، وبقدر تكميل العبودية تكمل محبة العبد لربه وتكمل محبة الرب لعبده، وبقدر نقص هذا يكون نقص هذا[4].
ولا يمكن أن يسعد الإنسان في الدنيا ولا في الآخرة إلا بعبادة ربه وإخلاص الدين له، فكلما قوي إخلاص دينه لله كملت عبوديته واستغناؤه عن المخلوقات، وبكمال عبوديته لله يبرئه من الكبر والشرك[5].


[1] مجموع الفتاوى (10/152).
[2] أخرجه البخاري (كتاب الإيمان، رقم 50)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 9) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 8) من حديث عمر رضي الله عنه.
[3] انظر: مدارج السالكين (1/164 ـ 167) [مكتبة الرشد، ط1، 1426هـ].
[4] مجموع الفتاوى (10/213).
[5] انظر: مجموع الفتاوى (10/198).


الأدلة في العبادة ووجوب إفراد الله تعالى بها كثيرة جدًّا؛ منها: قول الله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ *} [الفاتحة] ، وقوله: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ *} [البقرة] ، وقوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ *} [البيِّنة] .
ومن السُّنَّة: حديث معاذ رضي الله عنه قال: كنت ردف النبي صلّى الله عليه وسلّم على حمار يقال له عفير، فقال: «يا معاذ هل تدري حق الله على عباده وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا. فقلت: يا رسول الله أفلا أبشر به الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا»[1].
وعن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «بني الإسلام على خمس: على أن يعبد الله ويكفر بما دونه، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان»[2].
وعن أبي مالك الأشجعي عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله»[3].


[1] أخرجه البخاري (كتاب الجهاد والسير، رقم 2856)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 30).
[2] أخرجه البخاري (كتاب الإيمان، رقم 8)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 16).
[3] أخرجه مسلم (كتاب الإيمان، رقم 23).


قال البغوي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ *} [الفاتحة] : «قوله: {نَعْبُدُ}؛ أي: نوحدك ونطيعك خاضعين، والعبادة: الطاعة مع التذلل والخضوع، وسمي العبد عبدًا؛ لذلته وانقياده، يقال: طريق معبد؛ أي: مذلل»[1].
وقال ابن تيمية رحمه الله: «التوحيد الذي جاء به الرسول إنما تضمن إثبات الإلهية لله وحده بأن يُشهد أن لا إله إلا هو، ولا يُعبد إلا إياه، ولا يُتوكل إلا عليه، ولا يوالى إلا له، ولا يعادى إلا فيه، ولا يعمل إلا لأجله، وذلك يتضمن إثبات ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات»[2].
وقال الإمام ابن القيِّم رحمه الله: «والعبادة تجمع أصلين غاية الحب بغاية الذل والخضوع، والعرب تقول: طريق معبد؛ أي: مذلل، والتعبد التذلل والخضوع، فمن أحببته ولم تكن خاضعًا له لم تكن عابدًا له، ومن خضعت له بلا محبة لم تكن عابدًا له حتى تكون محبًّا خاضعًا»[3].


[1] معالم التنزيل (1/53) [دار طيبة، ط1، 1409هـ].
[2] درء التعارض (1/224) [جامعة الإمام، 1411هـ].
[3] مدارج السالكين (1/130).


أركان العبادة ثلاثة: الحب والخوف والرجاء، وهذه الأركان مذكورة في الثلاث الآيات الأولى من سورة الفاتحة.
يقول شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في المسائل المستنبطة من سورة الفاتحة: « الثالثة: أركان الدين: الحب والرجاء والخوف، فالحب في الأولى، والرجاء في الثانية، والخوف في الثالثة»[1].
«وقد جمع الله هذه المقامات الثلاث بقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء: 57] ، فابتغاء الوسيلة هو محبته الداعية إلى التقرب إليه، ثم ذكر بعدها الرجاء والخوف، فهذه طريقة عباده وأوليائه»[2].
و«ما حُفظت حدود الله ومحارمه، ووصل الواصلون إليه بمثل خوفه ورجائه ومحبته، فمتى خلا القلب من هذه الثلاث؛ فسد فسادًا لا يرجى صلاحه أبدًا، ومتى ضعف فيه شيء من هذه ضعف إيمانه بحسبه»[3].
وقال ابن القيِّم: «القلب في سيره إلى الله عزّ وجل بمنزلة الطائر؛ فالمحبة رأسه، والخوف والرجاء جناحاه، فمتى سلم الرأس والجناحان فالطير جيد الطيران، ومتى قطع الرأس مات الطائر، ومتى فقد الجناحان فهو عرضة لكل صائد وكاسر»[4].
فلا بد من اجتماع هذه الأركان الثلاثة في عبادة العبد لربه، فمن لم تجتمع هذه الأركان في عبادته ضلّ وما كان من المهتدين؛ ولذلك قال بعض السلف: «من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبد الله بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد»[5].


[1] مجموع مؤلفات ابن عبد الوهاب (2/36)، وانظر: مجموع الفتاوى (15/21)، وبدائع الفوائد (3/851).
[2] بدائع الفوائد (3/851).
[3] مجموع الفتاوى (15/21).
[4] مدارج السالكين (1/664).
[5] نسبه ابن تيمية إلى بعض السلف في مجموع الفتاوى (10/81، 207، 11/390)، وكذا ابن القيم في بدائع الفوائد (3/851).


لا تكون العبادة مقبولة عند الله سبحانه، نافعة لصاحبها، ومنجية له في الحياة الدنيا وفي الآخرة إلا بتوفر شروط صحتها، وهما شرطان[1]:
الأول: الإخلاص لله سبحانه، وهذا هو توحيد القصد، ويقال: توحيد المرسِل.
الثاني: المتابعة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهذا هو توحيد المتابعة، ويقال: توحيد المرسَل.
وهذان الشرطان هما قطب رحى هذا الدين، وأساس سعادة المرء في الدارين، وتحقيقهما تحقيق لمقتضى الشهادتين:
فشهادة أن لا إله إلا الله مقتضاها: أن لا يعبد إلا الله. وهذا هو شرط الإخلاص، وهو توحيد في القصد والطلب للمرسل سبحانه.
وشهادة أن محمدًا رسول الله مقتضاها: أن لا يعبد الله إلا بما شرع. وهذا هو شرط المتابعة، وهو توحيد في الاتباع للمرسَل صلّى الله عليه وسلّم.


[1] انظر: مدارج السالكين (1/140)، وتصحيح الدعاء (39).


تقسم العبادة بعدة اعتبارات؛ منها:
1 ـ تنقسم العبادة باعتبار الفعل والترك إلى ثلاثة أقسام: قولية، وفعلية، وتركية[1].
2 ـ تنقسم العبادة باعتبار الظهور والخفاء إلى قسمين: ظاهرة تتعلق بأعمال الجوارح، وباطنة تتعلق بأعمال القلوب.
3 ـ تنقسم العبادة باعتبار تعلق المال بها إلى قسمين: بدنية، ومالية.
4 ـ تنقسم العبادة باعتبار دخول العباد تحتها إلى قسمين: « عامة وخاصة؛ فالعبودية العامة عبودية أهل السماوات والأرض كلهم لله برهم وفاجرهم مؤمنهم وكافرهم، فهذه عبودية القهر والملك، قال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَانِ عَبْدًا *} [مريم] فهذا يدخل فيه مؤمنهم وكافرهم.
وأما النوع الثاني: فعبودية الطاعة والمحبة واتباع الأوامر قال تعالى: {يَاعِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلاَ أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ *} [الزُّخرُف] ، فالخلق كلهم عبيد ربوبيته، وأهل طاعته وولايته هم عبيد إلهيته»[2].


[1] انظر: تصحيح الدعاء (236).
[2] مدارج السالكين (1/168 ـ 169).


المسألة الأولى: المفاضلة بين العبادات:
شريعة الإسلام خير كلها، وحكمة كلها، وفضل كلها، وما فيها من العبادات تشترك في الخير والحكمة والفضل؛ إلا أنها درجات متفاوتة، يفضل بعضها على بعض، وذلك التفاضل راجع إلى عدة اعتبارات؛ لعل من أهمها[1]:
1 ـ تفاضل الأعمال نفسها.
2 ـ تفاضل أحوال العاملين الباطنة والظاهرة.
3 ـ تفاضل أحوال المنتفع بها.
وأصح الأقوال وأرجحها في قاعدة المفاضلة بين أنواع العبادات من: دعاء، وذكر، وصلاة، وجهاد، ونحو ذلك؛ أن أفضل العبادة: العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته، فالأفضل في كل وقت وحال: إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال، والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه[2].
المسألة الثانية: خطأ من يزعم أن العبادة لا تكون إلا مع اعتقاد الربوبية:
العبادة حق لله وحده لا يشركه فيها أحد لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، كما قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا *} [الجن] ، فمن جعل أي نوع منها لغير الله فقد أشرك.
ومن الغلط البيّن والضلال الواضح قصر العبادة في اعتقاد الربوبية، وزعم أنها لا تكون كذلك إلا إذا تضمنت اعتقاد الربوبية لمن جعلت وصرفت له، وإلا فليست عبادة.
فالالتجاء عندهم إلى غير الله، ودعاؤه، والاستغاثة به ليس بعبادة إلا إذا اقترن به اعتقاد الربوبية لذلك المعظم[3].
وهذا الاعتقاد الباطل مبني على خطئهم في فهم معنى التوحيد الذي دعت إليه الرسل، حيث ظنوا أنه إفراد الله بالربوبية فقط.
وقد بيَّن القرآن أنّ دعوة الأنبياء والمرسلين من أوّلهم إلى آخرهم كانت إلى إفراد الله بالعبادة، كما بين أنّ المشركين الذين خاصمهم النبي صلّى الله عليه وسلّم وقاتلهم على الشرك كانوا يقرّون لله تعالى بالخلق والرزق والتدبير.
فتفسير العبادة وقصرها على المعنى السابق تحكّم لا دليل عليه، وهو مخالف لمعناها في اللغة؛ بل إنّ هذا التعريف للعبادة لا يصدق حتى على عبادات المشركين، إذ إنهم لم يكونوا يعتقدون في معبوداتهم الاستقلال في التصرف أو أنها تملك أو تخلق أو ترزق، ولذلك كان من تلبيتهم «لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك»[4]، فكان هذا شركهم في العبادة وهو الذي كفرهم الله به وأباح به دماءهم وأموالهم ونساءهم، وإلا فهم يعلمون أن الله هو الخالق الرازق المدبر ليس له شريك في ملكه[5].


[1] انظر: الفروق للقرافي (2/371 ـ 402) [مؤسسة الرسالة، ط1، 1424هـ]، ومنهاج السُّنَّة (3/647 ـ 651) [دار الفضيلة، 1424هـ]، والمنار المنيف (15) [دار عالم الفوائد، ط1، 1428هـ].
[2] انظر: مدارج السالكين (1/85 ـ 89)، والوابل الصيب (232 ـ 235) [دار عالم الفوائد، ط2، 1427هـ].
[3] انظر: البراهين الساطعة للقضاعي (381) [مطبعة السادة، مصر].
[4] كما أخرجه مسلم (كتاب الحج، رقم 1185).
[5] انظر: تيسير العزيز الحميد (27)، وتجريد التوحيد للمقريزي (42) [دار عالم الفوائد، ط2، 1425هـ].


بعبادة الله عزّ وجل يتحقق للعبد الخير والأمن والسعادة في الدنيا والآخرة، كيف لا وقد قام بما خلق من أجله، ونال بذلك رضا ربه وعفوه وغفرانه، وبذلك سيدخل جنته ودار كرامته ومستقر رحمته.
وهذا إجمالاً يشمل كل الثمرات والخيرات والآثار المباركة التي يجنيها العابد لله المحب له.
وأما على وجه التفصيل فيمكن الاقتصار على شيء من ذلك فيما يلي:
1 ـ ذوق حلاوة الإيمان ولذة العبودية لله سبحانه ومحبته[1].
2 ـ تقديم محاب الله على محاب النفس والهوى والشيطان.
3 ـ التحرر من العبودية والذلة والخضوع لغير الله؛ لأن وصف العبودية هو الحقيقة للإنسان[2]؛ فهو إما أن يكون عبدًا لله فيسعد في الدنيا والأخرى؛ إذ إن «أسعد الخلق أعظمهم عبودية لله»[3]، وإما أن يعرض عن عبادة ربه فيكون ـ ولا بد ـ عبدًا لهواه، معلَّقًا قلبه بغير الله.
4 ـ انجذاب القلب إلى الله وزيادة حبه له، فيصير القلب منيبًا إلى الله خائفًا منه راغبًا راهبًا محبًّا[4].
5 ـ اجتباء الرب سبحانه وتعالى لعابده وحفظه له، وصرف السوء والفحشاء عنه[5].
6 ـ الترقي إلى مدارج الكمال، واللحوق بركب السابقين المقربين؛ فإن «كمال المخلوق في تحقيق عبوديته لله وكلما ازداد العبد تحقيقًا للعبودية ازداد كماله وعلت درجته»[6].
7 ـ حسن الخاتمة، ونيل السعادة الأبدية في الآخرة بنيل رضا الرحمن ودخول الجنان؛ لأن «طاعة الله ورسوله قطب السعادة التي عليه تدور، ومستقر النجاة الذي عنه لا تحور»[7].


[1] انظر: مجموع الفتاوى (10/215).
[2] انظر: مجموع الفتاوى (10/176).
[3] المصدر نفسه (1/39).
[4] انظر: المصدر نفسه (10/193).
[5] انظر: المصدر نفسه (10/216 ـ 217).
[6] المصدر نفسه (10/176)
[7] المصدر نفسه (1/4)، وانظر: (27/473).


ذهب قوم من غلاة المتصوفة إلى أن العبادة تسقط عن المكلف إذا وصل عندهم إلى مرتبة عليا يسمونها الحقيقة، ويتأوَّلون قوله الله سبحانه وتعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ *} [الحِجر] ، وهذا من جنس قول القرامطة الباطنية من المتفلسفة وغيرهم الذين يرون أن العبادات رياضة للنفس حتى تصل إلى المعرفة التي يدَّعونها، فإذا وصل إلى المعرفة التي يدَّعونها سقطت عنه[1].
وهذه عقيدة باطلة مناقضة لدين الإسلام القائم على الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والعبادة حتى مفارقة هذه الدنيا بالموت كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ *} [الحِجر] ، وقوله: {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ *حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ *} [المدَّثر] .
واليقين ههنا هو ما يوقن به من الموت وما بعده باتفاق السلف وإجماع أهل التفسير[2]، ومنه قول النبي صلّى الله عليه وسلّم عن عثمان بن مظعون رضي الله عنه لما مات: «أما عثمان فقد جاءه والله اليقين» [3]؛ أي: الموت وما فيه.
ولهذا قال الحسن البصري رحمه الله: «لم يجعل الله لعبده المؤمن أجلاً دون الموت»[4].
وقال الجنيد رحمه الله: «تكلم قوم بإسقاط الأعمال وهذه عظيمة، والذي يزني ويسرق أهون من هذا»[5].
والعبد لا ينفك أبدًا من العبودية ما دام في دار التكليف، ومن زعم أنه يصل إلى مقام يسقط عنه فيه التعبد فهو زنديق كافر بالله وبرسوله، وإنما وصل إلى مقام الكفر بالله والانسلاخ من دينه؛ بل صار بهذا من أشر أهل الكفر والإلحاد.
والحق أنه كلما تمكن العبد في منازل العبودية كانت عبوديته أعظم، والواجب عليه منها أكبر وأكثر من الواجب على من دونه[6].
ثم إن هناك طوائف من المتصوفة أخطأت في هذا الباب لكنها لم تبلغ غلو الطائفة السابقة، فمنهم من يترك ما أمروا به من الأسباب التي هي عبادة؛ ظنًا منهم أن العارف إذا شهد القدر أعرض عن ذلك، فيتركون التوكل والدعاء ونحو ذلك، ويجعلونها من مقامات العامة دون الخاصة؛ بناء على أن من شهد القدر علم أن ما قدر سيكون، فلا حاجة إلى ذلك، وهذا غلط منهم فإن الله قدر الأشياء بأسبابها كما قدر السعادة والشقاوة بأسبابها كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله خلق للجنة أهلاً، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم»[7].
ومنهم: طائفة يتركون المستحبات من الأعمال دون الواجبات.
ومنهم: طائفة يغترون بما يحصل لهم من خوارق العادات فيشتغل أحدهم عما أمر به من العبادة والشكر ونحو ذلك.
فهذه أمور تعرض لأهل السلوك والتوجه؛ وإنما ينجو العبد منها بملازمة أمر الله الذي بعث به رسوله في كل وقت[8].


[1] انظر من كتبهم: الطبقات للشعراني (2/144، 149، 150)، وانظر في بيان مذهبهم والرد عليهم: الرد على الشاذلي لابن تيمية (50 ـ 52) [دار عالم الفوائد، ط1، 1429هـ]، ومجموع الفتاوى (2/95 ـ 96، 10/166، 503، 11/417، 539 ـ 541).
[2] انظر: تفسير الطبري (14/154 ـ 157)، والرد على الشاذلي (51).
[3] أخرجه البخاري (كتاب الشهادات، رقم 2687).
[4] أخرجه ابن المبارك في الزهد (7) [دار الكتب العلمية].
[5] ذكره أبو نعيم في حلية الأولياء (4/386).
[6] انظر: مدارج السالكين (1/167 ـ 168).
[7] أخرجه مسلم (كتاب القدر، رقم 2662).
[8] انظر: مجموع الفتاوى (10/171 ـ 172).


1 ـ «تصحيح الدعاء»، لبكر أبي زيد.
2 ـ «تيسير العزيز الحميد»، لسليمان بن عبد الله.
3 ـ «تفسير الطبري» (ج14).
4 ـ «ثلاثة الأصول»، لمحمد بن عبد الوهاب.
5 ـ «الرد على الشاذلي»، لابن تيمية.
6 ـ «الزهد»، لابن المبارك.
7 ـ «العبادة»، للمعلمي.
8 ـ «مجموع الفتاوى» (ج2، 10، 11)، لابن تيمية.
9 ـ «مدارج السالكين» (ج1)، لابن القيِّم.
10 ـ «الوابل الصيب»، لابن القيِّم.