حرف العين / عبد الله بن عباس رضي الله عنهما

           

هو: عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، القرشي الهاشمي، أبو العباس، ابن عم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أمه أم الفضل لبابة بنت الحارث الهلالية، أخت ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله عنهما[1].


[1] المعرفة والتاريخ للفسوي (1/241) [مؤسسة الرسالة، ط2، 1401هـ]، والاستيعاب في معرفة الأصحاب (3/933) [دار الجيل، ط1، 1412هـ]، وسير أعلام النبلاء (3/331) [مؤسسة الرسالة، ط3، 1405هـ]، والبداية والنهاية (12/78) [دار هجر، ط1، 1418هـ]، والإصابة في تمييز الصحابة (4/141) [دار الجيل، ط1، 141هـ].


اختلفت أقوال في تحديد تاريخ ولادته بحسب اختلاف الروايات في ذلك:
فالقول الأول: أنه ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، حين كان بنو هاشم بالشعب[1]، ورجحه بعض الحفاظ كابن عبد البر وابن حجر، قال ابن عبد البر بعد أن عزى هذا القول إلى بعض أهل السير: «وما قاله أهل السير والعلم بأيام الناس عندي أصح والله أعلم، وهو قولهم: إن ابن عباس كان ابن ثلاث عشرة سنة يوم توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم»[2].
وأما ابن حجر فقد ذكر أن هذا القول «أثبت، وهو يقارب ما في «الصحيحين» عنه: «أقبلت وأنا راكب على حمار أتان، وأنا يومئذ قد ناهزت سن الاحتلام، والنبي صلّى الله عليه وسلّم يصلي بمنى إلى غير جدار»[3] الحديث. وفي الصحيح عن ابن عباس: «قبض النبي صلّى الله عليه وسلّم وأنا ختين»[4]. وفي رواية: «وكانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك»[5]، وفي طريق أخرى: «قبض وأنا ابن عشر سنين»[6]، وهذا محمول على إلغاء الكسر»[7].
وقال أيضًا: «المحفوظ الصحيح أنه ولد بالشعب، وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين، فيكون له عند الوفاة النبوية ثلاث عشرة سنة، وبذلك قطع أهل السير، وصححه ابن عبد البر وأورد بسند صحيح عن ابن عباس أنه قال: ولدت وبنو هاشم في الشعب»[8].
القول الثاني: أنه ولد قبل الهجرة بخمس سنين. ورجح هذا القول كل من الإمام أحمد ـ كما نقله عنه ابن عبد البر بقوله: «قال عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال أبي: وهذا هو الصواب»[9] ـ وابنُ كثير، واحتج له بما رواه الطيالسي بإسناده عن ابن عباس قال: «قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا ابن خمس عشرة سنة مختون»[10]، حيث قال بعد إيراده هذا الأثر: «وهذا هو الأصح»[11]، ثم أيده بالحديث السابق الذي فيه أنه مر بين يدي بعض الصف وهو مناهز سن الاحتلام.
القول الثالث: أنه ولد عام الهجرة، وهذا منسوب إلى عمرو بن دينار[12]، ويدل عليه ظاهر حديث: «قبض وأنا ابن عشر سنين»[13]، ولكنه محمول على إلغاء الكسر، كما سبق نقله عن الحافظ ابن حجر.
مات بالطائف سنة ثمان وستين للهجرة، في أيام عبد الله بن الزبير[14]، واختلف في سنّه يوم مات؛ فقيل: كان ابن إحدى وسبعين، وقيل: اثنين وسبعين، وقيل أربع وسبعين[15]، وقوّى الحافظ ابن حجر الأول[16].


[1] انظر: الاستيعاب (3/933 ـ 934)، وسير أعلام النبلاء (3/332).
[2] الاستيعاب في معرفة الأصحاب (3/934).
[3] أخرجه البخاري (كتاب العلم، رقم 76)، ومسلم (كتاب الصلاة، رقم 504).
[4] أخرجه البخاري (كتاب الاستئذان، رقم 6300).
[5] أخرجه البخاري (كتاب الاستئذان، رقم 6299).
[6] أخرجه البخاري (كتاب فضائل القرآن، رقم 5035).
[7] الإصابة في تمييز الصحابة (4/141)، وانظر: البداية والنهاية (12/78 ـ 79).
[8] فتح الباري لابن حجر (11/90) [دار المعرفة].
[9] الاستيعاب في معرفة الأصحاب (3/934).
[10] أخرجه الطيالسي (4/365) [دار هجر، ط1]، والحاكم في المستدرك (كتاب معرفة الصحابة، رقم 6273) وصحَّحه.
[11] البداية والنهاية (12/80).
[12] البداية والنهاية (12/79).
[13] تقدم تخريجه.
[14] الاستيعاب في معرفة الأصحاب (3/934)، والإصابة في تمييز الصحابة (4/151).
[15] انظر: الإصابة في تمييز الصحابة (4/151).
[16] انظر: المرجع السابق (4/151).


أسلم ابن عباس رضي الله عنهما قبل الفتح، فقد ثبت عنه أنه قال: «كنت أنا وأمي من المستضعفين، أنا من الولدان وأمي من النساء»[1]. وبه احتج الذهبي على ذلك فقال: «انتقل ابن عباس مع أبويه إلى دار الهجرة سنة الفتح، وقد أسلم قبل ذلك، فإنه صح عنه أنه قال: «كنت أنا وأمي من المستضعفين؛ أنا من الولدان، وأمي من النساء»»[2]. يشير ابن عباس بهذا إلى قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا *إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً *فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا *} [النساء] .
وغزا أفريقية مع عبد الله بن أبي السرح، وشهد موقعة صفين مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنهما[3].


[1] أخرجه البخاري (كتاب الجنائز، رقم 1357).
[2] سير أعلام النبلاء (3/333).
[3] انظر: الإصابة في تمييز الصحابة (4/141، و150).


أ ـ دعا له النبي صلّى الله عليه وسلّم بالفقه في الدين والعلم بالتأويل، فقد جاء من حديث ابن عباس: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم دخل الخلاء، فوضعتُ له وَضوءًا، فقال: «من وضع هذا؟» ، فأُخبِر، فقال: «اللَّهُمَّ فقّهه في الدين» [1]. وزاد في رواية: «وعلِّمه التأويل» [2].
ب ـ أنه رأى جبريل عليه السلام، فقد روى الإمام أحمد بسنده عن ابن عباس، قال: «كنت مع أبي عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعنده رجل يناجيه، فكان كالمعرض عن أبي، فخرجنا من عنده، فقال لي أبي: أي بني، ألم تر إلى ابن عمك كالمعرض عني؟ فقلت: يا أبت، إنه كان عنده رجل يناجيه. قال: فرجعنا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال أبي: يا رسول الله، قلت لعبد الله: كذا وكذا، فأخبرني أنه كان عندك رجل يناجيك، فهل كان عندك أحد؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: وهل رأيته يا عبد الله؟ قال: قلت: نعم. قال: فإن ذاك جبريل، وهو الذي شغلني عنك»[3].


[1] أخرجه البخاري (كتاب الوضوء، رقم 143)، ومسلم (كتاب فضائل الصحابة، رقم 2477).
[2] أخرجه أحمد (4/225) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وابن حبان (كتاب إخباره صلّى الله عليه وسلّم عن مناقب الصحابة، رقم 7055)، والحاكم (كتاب معرفة الصحابة، رقم 6280) وصحَّحه، وصحَّحه الألباني في التعليقات الحسان (10/156) [دار باوزير، ط1].
[3] أخرجه أحمد (4/417) [مؤسسة الرسالة، ط1]، والطيالسي (4/426) [دار هجر، ط1]، وصحح سنده البوصيري في إتحاف الخيرة المهرة (7/285) [دار الوطن، ط1].


لابن عباس مكانة كبرى ومنزلة عظمى عند الصحابة رضي الله عنهم، فهو ابن عم النبي صلّى الله عليه وسلّم وحبر الأمة، وترجمان القرآن الكريم ومفسره، فقد جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «نعم ترجمان القرآن ابن عباس»[1].
وروى ابن سعد بسنده عن يحيى بن سعيد قال: «قال أبو هريرة رضي الله عنه حين مات زيد بن ثابت: اليوم مات حبر هذه الأمة! ولعل الله أن يجعل في ابن عباس منه خلفًا»[2].
وروى الإمام أحمد بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «مسح النبي صلّى الله عليه وسلّم رأسي ودعا لي بالحكمة»[3]. وذكر ابن سعد: «أن عمر وعثمان كانا يدعوان ابن عباس فيشير مع أهل بدر، وكان يفتي في عهد عمر وعثمان إلى يوم مات»[4].
وقال فيه ابن كثير: «وله مفردات ليست لغيره من الصحابة؛ لاتساع علمه وكثرة فهمه وكمال عقله وسعة فضله ونبل أصله رضي الله عنه وأرضاه»[5].


[1] أخرجه ابن سعد في الطبقات (2/279) [دار الكتب العلمية، ط1، 1410هـ]، والحاكم (كتاب معرفة الصحابة، رقم 6291) وصحَّحه، وحسّن إسناده الحافظ ابن حجر في الإصابة (4/127).
[2] الطبقات الكبرى (2/279)، وصحَّحه ابن حجر في الإصابة (4/127).
[3] مسند أحمد (3/340) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وقال محققو المسند: «إسناده صحيح على شرط البخاري».
[4] الطبقات الكبرى لابن سعد (2/279).
[5] البداية والنهاية (12/78).


المسألة الأولى: مناظرة ابن عباس للخوارج المارقين عن الدِّين:
ناظر الصحابي الجليل حبر الأُمَّة وبحرها وترجمان القرآن ابنُ عباس الخوارجَ حين خرجوا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وفارقوا جماعة المسلمين، وشقّوا عصا الطاعة، حيث جاءهم في معقلهم وناظرهم، فتهاوت شبههم واحدة بعد الأخرى، حتى أقروا بالهزيمة والإفلاس، ورجع كثير منهم، فقد روى الإمام عبد الرزاق الصنعاني بإسناده عن ابن عباس قال: «لما اعتزلت الحرورية فكانوا في دار على حدتهم، فقلت لعلي: يا أمير المؤمنين، أبرد عن الصلاة لعلي آتي هؤلاء القوم فأكلمهم، قال: إني أتخوفهم عليك، قلت: كلا إن شاء الله تعالى، قال: فلبست أحسن ما أقدر عليه من هذه اليمانية، قال: ثم دخلت عليهم وهم قائلون في نحر الظهيرة، قال: فدخلت على قوم لم أر قومًا قطُّ أشدَّ اجتهادًا منهم، أيديهم كأنها ثفن الإبل، ووجوههم معلمة من آثار السجود، قال: فدخلت، فقالوا: مرحبًا بك يا ابن عباس، ما جاء بك؟ قلت: جئت أحدثكم عن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليهم نزل الوحي، وهم أعلم بتأويله، فقال بعضهم: لا تحدثوه، وقال بعضهم: والله لنحدثنه، قال: قلت: أخبروني ما تنقمون على ابن عم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وختنه وأول من آمن به وأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معه؟ قالوا: ننقم عليه ثلاثًا، قال: قلت: وما هن؟ قالوا: أولهن أنه حكَّم الرجال في دين الله وقد قال الله: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} [الأنعام: 57] ، قال: قلت: وماذا؟ قالوا: وقاتل ولم يسبِ ولم يغنم؛ لئن كانوا كفارًا لقد حلت له أموالهم، ولئن كانوا مؤمنين لقد حرمت عليه دماؤهم؟ قال: قلت: وماذا؟ قالوا: محا نفسه من أمير المؤمنين، فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين. قال: قلت: أرأيتم إن قرأت عليكم من كتاب الله المحكم وحدثتكم من سُنَّة نبيّه صلّى الله عليه وسلّم ما لا تنكرون، أترجعون؟ قالوا: نعم، قال: قلت: أما قولكم: حكَّم الرجال في دين الله فإن الله تعالى يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] إلى قوله: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] وقال في المرأة وزوجها: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35] أنشدكم الله أحكم الرجال في حقن دمائهم وأنفسهم وإصلاح ذات بينهم أحق أم في أرنب ثمنها ربع درهم؟ قالوا: اللَّهُمَّ بل في حقن دمائهم وإصلاح ذات بينهم، قال: أخرجت من هذه؟ قالوا: اللَّهُمَّ نعم، قال: وأما قولكم: إنه قاتل ولم يسبِ ولم يغنم، أتسبون أمكم عائشة أم تستحلون منها ما تستحلون من غيرها، فقد كفرتم، وإن زعمتم أنها ليست أم المؤمنين فقد كفرتم وخرجتم من الإسلام، إن الله يقول: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] فأنتم مترددون بين ضلالتين فاختاروا أيتهما شئتم، أخرجت من هذه؟ قالوا: اللَّهُمَّ نعم، قال: وأما قولكم: محا نفسه من أمير المؤمنين، فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دعا قريشًا يوم الحديبية على أن يكتب بينه وبينهم كتابًا، فقال: «اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله» فقالوا: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله، فقال: «والله إني لرسول الله حقًّا وإن كذبتموني، اكتب يا علي: محمد بن عبد الله» ، فرسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان أفضل من علي رضي الله عنه، أخرجت من هذه؟ قالوا: اللَّهُمَّ نعم، فرجع منهم عشرون ألفًا وبقي منهم أربعة آلاف فقتلوا»[1].
المسألة الثانية: موقفه من التحكيم:
الظاهر أنه كان موافقًا على التحكيم، ولعل ما ذكره ابن سعد بإسناده عنه وتناقله الأئمة من بعده كابن عساكر[2] وابن كثير[3] وابن حجر[4] يثبت هذا، حيث قال: «إن عليًّا بعث في التحكيم أبا موسى ومعه أربعمِائة رجل، عليهم شريح بن هانئ، ومعهم عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يصلي بهم، ويلي أمرهم»[5].
ولما ذكر ابن كثير أسماء من حضروا التحكيم من جيش علي رضي الله عنه ذكر ابن عباس رضي الله عنهما في أول الأسماء[6].
وأما ما رواه الطبري عن أبي مخنف عن أبي جناب الكلبي: من أن ابن عباس رضي الله عنهما نهى أبا موسى الأشعري عن التكلم قبل عمرو بن العاص خوفًا من خداعه، وأن أبا موسى لم يقبل منه هذا؛ بل تكلم بما اتفقا عليه من خلع علي ومعاوية رضي الله عنهما عن الخلافة، وأن الأمر شورى بين المسلمين، ولما تكلم عمرو نقض هذا الاتفاق وخلع عليًّا وأثبت معاوية في الخلافة، وحينها دعا عليه أبو موسى الأشعري، وأن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قبَّح الله رأي أبي موسى، حذرته وأمرته بالرأي فما عقل[7] فهذا كله لا يصحّ! سندًا ولا متنًا؛ أما من جهة الإسناد فإن أبا مخنف أخباري تالف لا يوثق به كما قال الذهبي[8]. وقال ابن أبي حاتم: «سمعت أبي يقول: أبو مخنف متروك الحديث»[9]، وقال ابن حجر: «أبو مخنف: لوط بن يحيى: هالك»[10].
وأبو جناب الكلبي قال فيه ابن معين: «ضعيف الحديث»[11]، وأورده البخاري في كتاب الضعفاء[12].
وأما من جهة المتن ففيه أباطيل عدة؛ منها:
ـ فيه الحديث عمن هو الأحق بالخلافة، ولم يكن الخلاف في تقديم أحد في الخلافة أو عزله عنها على الإطلاق، وإنما كان الخلاف في توقيت المطالبة بدم عثمان، فكيف يناقش الحكمان ما هو خارج موطن النزاع، ويعرضان عما جاءا من أجله.
ـ وفيه وصف عمرو بن العاص بالغدر والخيانة، ووصف أبي موسى الأشعري بالغباء والحماقة، وهذا يكذبه ما جاء في سيرتهما وفضائلهما. المسألة الثالثة: موقفه من خروج الحسين بن علي رضي الله عنهما إلى العراق:
اجتمعت كلمة المسلمين على معاوية رضي الله عنه بعد تنازل الحسن رضي الله عنه له عن الخلافة، واستمر الأمر على ذلك حتى رأى معاوية رضي الله عنه أن يجعل الخلافة من بعده لابنه يزيد، «ولما أخذت البيعة ليزيد في حياة معاوية، كان الحسين رضي الله عنه ممن امتنع من مبايعته هو وابن الزبير وعبد الرحمن بن أبي بكر وابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم، ثم مات ابن أبي بكر رضي الله عنه وهو مصمم على ذلك، فلما مات معاوية رضي الله عنه سنة ستين، وبويع ليزيد، بايع ابن عمر وابن عباس، وصمم على المخالفة الحسين وابن الزبير رضي الله عنهم، وخرجا من المدينة فارّين إلى مكة، فأقاما بها، فعكف الناس على الحسين يفدون إليه ويقدمون عليه»[13]، وبهذا يظهر مخالفة ابن عباس وابن عمر للحسين رضي الله عنهم.
ولما صمم الحسين رضي الله عنه على الخروج إلى العراق، وبلغ خبرُه ابنَ عباس رضي الله عنهما حاول ثنيه عن رأيه وحذره غاية التحذير، وقال له: «أين تريد يا ابن فاطمة؟ فقال: العراق وشيعتي. فقال: إني لكَرِهٌ لوجهك هذا؛ تخرج إلى قوم قتلوا أباك وطعنوا أخاك حتى تركهم سخطة وملالة لهم!؟ أذكرك الله أن تغرر بنفسك»[14].
وساق أحمد الدِّينوري رواية طويلة في مناصحة ابن عباس للحسين، قال فيها ابن عباس: «يا ابن عمّ قد بلغني أنك تريد المسير إلى العراق. قال الحسين: أنا على ذلك. قال عبد الله أعيذك بالله يا ابن عم من ذلك. قال الحسين: قد عزمت ولا بد من المسير. قال له عبد الله: أتسير إلى قوم طردوا أميرهم عنهم وضبطوا بلادهم، فإن كانوا فعلوا ذلك فسر إليهم، وإن كانوا إنما يدعونك إليهم وأميرهم عليهم وعمّاله يجبونهم فإنهم إنما يدعونك إلى الحرب، ولا آمنهم أن يخذلوك كما خذلوا أباك وأخاك. قال الحسين: يا ابن عم سأنظر فيما قلت...ولما كان في اليوم الثالث عاد عبد الله بن عباس إلى الحسين رضي الله عنهم فقال له: يا ابن عم، لا تقرب أهل الكوفة؛ فإنهم قوم غدرة، وأقم بهذه البلدة؛ فإنك سيد أهلها، فإن أبيت فسر إلى أرض اليمن؛ فإن بها حصونًا وشعابًا وهي أرض طويلة عريضة، ولأبيك فيها شيعة فتكون عن الناس في عزلة، وتبث دعاتك في الآفاق، فإني أرجو إن فعلت ذلك أتاك الذي تحب في عافية. قال الحسين: يا ابن عم والله إني لأعلم أنك ناصح مشفق، غير أني قد عزمت على الخروج. قال ابن عباس: فإن كنت لا محالة سائرًا، فلا تخرج النساء والصبيان؛ فإني لا آمن أن تقتل، كما قتل ابن عفان وصبيته ينظرون إليه. قال الحسين: ما أرى إلا الخروج بالأهل والولد»[15].
وهذه كلها محاولات ابن عباس لمنع الحسين رضي الله عنهما من الخروج إلى العراق، بقدر ما أمكن، وإذا كان ولا بد أن يخرج من مكة، فليكن إلى مكان آمن له كاليمن ونحوها من البلدان؛ حرصًا منه على سلامته وسلامة من معه، لا موافقة له على عدم مبايعة يزيد، وهذا كما يقال آخر الدواء الكي.


[1] أخرجه أحمد (5/263) [مؤسسة الرسالة، ط1] مختصرًا، وعبد الرزاق في مصنفه (كتاب اللقطة، رقم 18678)، والنسائي في الكبرى (كتاب الخصائص، رقم 8522)، والحاكم في المستدرك (كتاب قتال أهل البغي، رقم 2656) وصحَّحه.
[2] انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر (23/67).
[3] انظر: البداية والنهاية (10/570).
[4] انظر: الإصابة في تمييز الصحابة (3/382).
[5] الطبقات الكبرى لابن سعد (4/193) [دار الكتب العلمية، ط1، 1410هـ].
[6] انظر: البداية والنهاية (10/557).
[7] تاريخ الطبري (3/113) [دار الكتب العلمية، ط1].
[8] ميزان الاعتدال (3/419) [دار المعرفة].
[9] الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (7/182) [دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط1، 1271هـ]
[10] لسان الميزان (9/159) [دار البشائر الإسلامية].
[11] الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (9/138).
[12] كتاب الضعفاء للبخاري (139) [مكتبة ابن عباس، ط1، 1426هـ].
[13] البداية والنهاية (11/477).
[14] المصدر نفسه (11/503)
[15] الأخبار الطوال للدينوري (256 ـ 257).


تناقض الروافض في عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فمرة يمدحونه ويسوقون روايات في ذكر محاسنه فيذكرون أنه كان محبًّا لعلي وتلميذًا له[1]. ومرة يقدحون فيه وفي أبيه ويزعمون أن قوله تعالى: {لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ *} [الحج] نزل في ذمه والطعن في أبيه[2].
وقد اعترف بعض الروافض بوجود روايات قادحة في ابن عباس في رجال الكشي، ومن ثم حاولوا صرف بعضها إلى أخيه عبيد الله بن عباس[3].


[1] خلاصة الأقوال للحلي (190) [مؤسسة نشر الفقاهة، ط1، 1417هـ]، وانظر: نقد الرجال للتفرشي (3/118) [مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، ط1، 1418هـ]، ووسائل الشيعة للحر العاملي (20/239) [دار إحياء التراث العربي، بيروت].
[2] رجال الكشي (37 ـ 38) [المطبعة المصطفوية، بمبئي دهوني].
[3] وسائل الشيعة للحر العاملي (20/239)، وتعليقات الشعراني على شرح أصول الكافي للمازندراني (6/4) [دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط1، 1421هـ].


لا يشك عاقل فضلاً عمن له علم ودين في دجل وبطلان ما نسب إلى الحسن بن علي بن أبي طالب، من الطعن في عم النبي صلّى الله عليه وسلّم وفي ابن عمه عبد الله بن عباس، لا سيما وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يتأذى مما يتأذى منه عمه العباس، ويقول صلّى الله عليه وسلّم: «من آذى العباس فقد آذاني، إنما عم الرجل صنو أبيه» [1]، فكيف يقدم الحسن على ما يؤذي جده النبي صلّى الله عليه وسلّم!؟
وأما دعوى نزول الآية المذكورة فيه فهذا القول لم يسبقوا إليه، فهو من افتراءاتهم الكثيرة، وإنما المراد بالمولى والعشير المذموم هنا هو المعبود من دون الله. قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ *} [الحج] : «وقوله تعالى: {لَبِئْسَ الْمَوْلَى}: هو كل ما انعقد بينك وبينه سبب، يواليك وتواليه به. و{الْعَشِيرُ *}: هو المعاشر، وهو الصاحب والخليل.
والتحقيق: أن المراد بالمولى والعشير المذموم في هذه الآية الكريمة، هو المعبود الذي كانوا يدعونه من دون الله، كما هو الظاهر المتبادر من السياق»[2].


[1] أخرجه الترمذي (أبواب المناقب، رقم 3758) وقال: حسن صحيح، وأحمد (29/75) [مؤسسة الرسالة، ط1] واللفظ له، وابن أبي شيبة في المصنف (كتاب الفضائل، رقم 32211)، وضعف سنده الألباني في السلسلة الصحيحة (2/447). لكن له شاهد عند ابن سعد في الطبقات (4/27) [دار صادر، ط1]، وقد حسنه الألباني في صحيح الجامع (رقم 5922).
[2] أضواء البيان للشنقيطي (4/286) [دار الفكر، 1415هـ].


1 ـ «الاستيعاب في معرفة الأصحاب» (ج3)، لابن عبد البر.
2 ـ «الإصابة في تمييز الصحابة» (ج4)، لابن حجر.
3 ـ «البداية والنهاية» (ج12)، لابن كثير.
4 ـ «التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان» (ج10)، للألباني.
5 ـ «خلاصة الأقوال»، للحلي.
6 ـ «سير أعلام النبلاء» (ج3)، للذهبي.
7 ـ «الطبقات الكبرى» (ج2)، لابن سعد.
8 ـ «فتح الباري» (ج11)، لابن حجر.
9 ـ «المعرفة والتاريخ» (ج1)، ليعقوب الفسوي.
10 ـ «وسائل الشيعة» (ج20)، للحر العاملي.