حرف العين / عثمان بن عفّان أمير المؤمنين رضي الله عنه

           

عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب[1]، ويلتقي نسبه بنسب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في عبد مناف.
وأمه أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي[2]، وأمها أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب، وهي شقيقة عبد الله والد النبي صلّى الله عليه وسلّم، ويقال: إنهما ولدا توأمين (حكاه الزبير بن بكار)، فكان ابن بنت عمة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم ابن خال والدته.
وقد أسلمت أم عثمان وماتت في خلافة ابنها عثمان، وكان رضي الله عنه ممن حملها إلى قبرها[3]، وأما أبوه فهلك في الجاهلية.
وأما كنيته: فقد كان يكنى في الجاهلية أبا عمرو، فلما وُلد له من رقية بنتِ رسول الله غلامٌ سماه عبد الله، واكتنى به، فكناه المسلمون أبا عبد الله[4].
وأما لقبه: كان عثمان رضي الله عنه يلقب بذي النورين.
قال عبد الله بن عمر بن أبان الجعفي: قال لي خالي حسين الجعفي: يا بني، أتدري لِمَ سمّي عثمان ذا النورين؟ قلت: لا أدري، قال: لم يجمع بين ابنتي نبي منذ خلق الله آدم إلى أن تقوم الساعة غير عثمان، فلذلك سمي ذا النورين[5]. وقيل: سمي بذي النورين؛ لأنه كان يكثر من تلاوة القرآن في كل ليلة في صلاته، فالقرآن نور وقيام الليل نور[6].


[1] الطبقات لابن سعد (3/53) [دار صادر]، الإصابة لابن حجر (4/377) (رقم 5463) [دار الكتب العلمية].
[2] التمهيد والبيان في مقتل الشهيد عثمان، لمحمد يحيى الأندلسي (19) [دار الثقافة، الدوحة، ط1، 1405هـ].
[3] ينظر: الإصابة لابن حجر (8/5 ـ 6).
[4] التمهيد والبيان في مقتل الشهيد عثمان (19).
[5] سنن البيهقي (7/73) [دار المعارف، بيروت]، وهو خبر حسن.
[6] عثمان بن عفان ذو النورين (79).


مولده:
ولد في مكة بعد عام الفيل بست سنين على الصحيح[1]، وقيل: ولد في الطائف، فهو أصغر من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنحو خمس سنين[2].
وأما وفاته:
استشهد عثمان بن عفان رضي الله عنه صبيحة يوم الجمعة؛ ثاني عشر ذي الحجة من السنة الخامسة والثلاثين بعد الهجرة، وسيأتي في المسائل المتعلقة الإشارة إلى ما سبق قتله رضي الله عنه من الخارجين عليه من أهل الفجور.


[1] الإصابة (4/377) (رقم 5465).
[2] عثمان بن عفان، لصادق عرجون (45) [الدار السعودية، 1410هـ].


كان عثمان رضي الله عنه قد ناهز الرَّابعة والثَّلاثين من عمره حين دعاه أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى الإسلام، ولم يعرف عنه تلكؤ أو تلعثم؛ بل كان سبَّاقًا، أجاب على الفور دعوة الصديق، فكان بذلك من السَّابقين الأولين، حتى قال ابن إسحاق: كان أوَّل النَّاس إسلامًا بعد أبي بكر وعلي وزيد بن حارثة: عثمان[1].
فكان بذلك رابع من أسلم من الرجال، ولعل سبقه هذا إلى الإسلام كان نتيجة لما حدث له عند عودته من الشام، وقد قصه رضي الله عنه على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين دخل عليه هو وطلحة بن عبيد الله، فعرض عليهما الإسلام، وقرأ عليهما القرآن، وأنبأهما بحقوق الإسلام، ووعدهما الكرامة من الله، فآمنا وصدَّقا، فقال عثمان: يا رسول الله، قدمت حديثًا من الشام، فلما كنا بين معان والزرقاء فنحن كالنيام، فإذا منادٍ ينادينا: أيها النيام هبوا، فإن أحمد قد خرج بمكة، فقدمنا فسمعنا بك[2].


[1] السيرة النبوية لابن هشام (1/287 ـ 289) [دار إحياء التراث، 1417هـ].
[2] أخرجه ابن سعد في الطبقات (3/55) [دار صادر، ط1].


مما ورد في فضل عثمان بن عفان رضي الله عنه ما يلي:
عن أبي موسى رضي الله عنه قال: «كنت مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في حائط من حيطان المدينة، فجاء رجل فاستفتح، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: افتح له، وبشِّره بالجنة، ففتحت له فإذا هو أبو بكر، فبشَّرته بما قال رسول الله، فحمد الله، ثم جاء رجل فاستفتح فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: افتح له وبشِّره بالجنة، ففتحت له فإذا هو عمر، فأخبرته بما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم فحمد الله، ثم استفتح رجل فقال لي: افتح له وبشِّره بالجنة على بلوى تصيبه ، فإذا هو عثمان، فأخبرته بما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فحمد الله، ثم قال: الله المستعان»[1].
وعن أنس رضي الله عنه قال: صعد النبي صلّى الله عليه وسلّم أُحدًا ومعه أبو بكر وعمر وعثمان، فرجف، فقال: «اسكن أُحد ـ أظنه ضربه برجله ـ فليس عليك إلا نبي وصديق وشهيدان»[2].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان على حراء، وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير، فتحركت الصخرة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اهدأ، فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد»[3].
وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن عائشة قالت: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مضطجعًا في بيتي كاشفًا عن فخذيه أو ساقيه، فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على تلك الحال فتحدث، ثم استأذن عمر فأذن له وهو كذلك فتحدث، ثم استأذن عثمان فجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسوَّى ثيابه. قال محمد ـ أحد رواة الحديث، ولا أقول ذلك في يوم واحد ـ فدخل فتحدث، فلما خرج قالت عائشة: دخل أبو بكر فلم تهتشَّ له ولم تُبَالِه، ثم دخل عمر فلم تهتش له ولم تباله، ثم دخل عثمان فجلست وسويت ثيابك، فقال: ألا استحي من رجل تستحي منه الملائكة؟!»[4].


[1] أخرجه البخاري (كتاب فضائل أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، رقم 3693)، ومسلم (كتاب فضائل الصحابة، رقم 2403).
[2] أخرجه البخاري (كتاب فضائل أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، رقم 3699).
[3] أخرجه البخاري (كتاب فضائل أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، رقم 3686)، ومسلم (كتاب فضائل الصحابة، رقم 2417).
[4] أخرجه مسلم (كتاب فضائل الصحابة، رقم 2401).


كان لذي النورين رضي الله عنه مكانة عظيمة عند المسلمين، وعلى رأسهم أصحاب الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم، ومن أمثلة ذلك:
عن فاطمة بنت عبد الرحمن اليشكرية عن أمها، أنها سألت عائشة رضي الله عنها: وأرسلها عمها فقال: إن أحد بنيك يقرئك السلام ويسألك عن عثمان بن عفان، فإنَّ الناس قد أكثروا فيه، فقالت: «لعن الله من لعنه، فوالله لقد كان قاعدًا عند نبي الله، وإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مسند ظهره إليَّ، وإن جبريل عليه السلام ليوحي إليه القرآن وإنه ليقول: «اكتب عثمان» ، فما كان الله لينزل تلك المنزلة إلا كريمًا على الله ورسوله»[1].
كما أن عليًّا رضي الله عنه وآل البيت كانوا يجلّونه ويعترفون بحقه، ومن شواهد ذلك:
أ ـ كان عليّ بن أبي طالب أول من بايع عثمان بعد عبد الرحمن بن عوف[2].
ب ـ كان عليٌّ يستحيي منه، فعن قيس بن عُباد قال: سمعت عليًّا رضي الله عنه وذكر عثمان فقال: هو رجل قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألا أستحي ممن تستحي منه الملائكة؟»[3].
ج ـ وقد شهد له عليٌّ رضي الله عنه بالجنة، فعن النزال بن سبرة قال: سألت عليًّا عن عثمان فقال: «ذاك امرؤ يدعى في الملأ الأعلى ذا النورين، كان ختن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ابنتيه، ضمن له بيتًا في الجنة»[4].
د ـ وكان عليٌّ رضي الله عنه طائعًا له معترفًا بإمامته وخلافته، لا يعصي له أمرًا؛ فقد روى ابن أبي شيبة بإسناده عن ابن الحنفية عن علي رضي الله عنه قال: «لو سيَّرني عثمان إلى صرار لسمعت وأطعت»[5].
هـ ولما جمع عثمان رضي الله عنه الناس على قراءة واحدة بعد استشارة الصحابة رضي الله عنهم وإجماعهم على ذلك، قال علي رضي الله عنه: لو وليت الذي ولي، لصنعت مثل الذي صنع[6].
وروى عبد الله بن أحمد بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «لو اجتمع الناس على قتل عثمان لرُموا بالحجارة كما رُمي قوم لوط»[7].
وقد ثبت عن علي بن الحسين البراءة من قول الرافضة في أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فقد روى أبو نعيم بسنده عن محمد بن علي عن أبيه علي بن الحسين أنه قال: «جلس قوم من أهل العراق فذكروا أبا بكر وعمر، فنالوا منهما، ثم ابتدؤوا في عثمان فقال لهم: أخبروني: أأنتم من المهاجرين الأولين: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ *} [الحشر] ؟ قالوا: لا، قال: فأنتم من الذين: {تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} [الحشر: 9] ؟ قالوا: لا، فقال لهم: أما أنتم فقد أقررتم وشهدتهم على أنفسكم أنكم لستم من هؤلاء ولا من هؤلاء، وأنا أشهد أنكم لستم من الفرقة الثالثة الذين قال الله عزّ وجل فيهم: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر: 10] ، فقوموا عني، لا بارك الله فيكم، ولا قرب دوركم، أنتم مستهزئون بالإسلام، ولستم من أهله»[8].


[1] أخرجه أحمد (43/294) [مؤسسة الرسالة، ط1]، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (7/1427) [دار طيبة، ط8]، وفي سنده ضعف لجهالة بعض رواته. انظر: مجمع الزوائد (9/87) [مكتبة القدسي].
[2] كما أخرجه البخاري (كتاب فضائل أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، رقم 3700).
[3] أخرجه الحاكم (كتاب معرفة الصحابة، رقم 4527) وصحَّحه. والحديث المرفوع في هذه القصة: أخرجه مسلم (كتاب فضائل الصحابة، رقم 2401)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
[4] أخرجه الآجري في الشريعة (5/2333) [دار الوطن، ط2]، وابن عساكر في تاريخ دمشق (39/47). وانظر: العقيدة في أهل البيت بين الإفراط والتفريط (227) [مكتبة الإمام البخاري، ط1، 1420هـ].
[5] أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (كتاب الفتن، رقم 37699)، والخلال في السُّنَّة (2/325) [دار الراية، الرياض، ط1، 1410هـ].
[6] أخرجه الآجري في الشريعة (4/1784) [دار الوطن، ط2]، البيهقي في الكبرى (كتاب الصلاة، رقم 2375).
[7] أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائده على فضائل الصحابة (1/563، رقم 746) [دار ابن الجوزي، الدمام، ط2، 1420هـ].
[8] العقيدة في أهل البيت (236)، والبداية والنهاية لابن كثير (9/112)، وتفسير القرطبي (18/31، 32) [دار الكتب المصرية، ط2].


المسألة الأولى: أحقية عثمان رضي الله عنه بالخلافة، وأن خلافته خلافة نبوَّة راشدة:
لا شك أن خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه خلافة شرعية، ويكفي في إثبات ذلك حصول الإجماع عليها؛ كما قال ابن تيمية رحمه الله: «عثمان لم يصر إمامًا باختيار بعضهم؛ بل بمبايعة النَّاس له، وجميع المسلمين بايعوا عثمان بن عفان، ولم يتخلف عن بيعته أحدٌ. قال الإمام أحمد في رواية حمدان بن علي[1]: «ما كان في القوم أوكد بيعة من عثمان كانت بإجماعهم»[2]، فلما بايعه ذوو الشَّوكة والقدرة صار إمامًا، وإلا فلو قدر أن عبد الرحمن بايعه، ولم يبايعه علي ولا غيره من الصحابة أهل الشوكة لم يصر إمامًا...»[3].
وقال أيضًا: «قد علم بالتَّواتر أنَّ المسلمين كلَّهم اتَّفقوا على مبايعة عثمان، لم يتخلَّف عن بيعته أحدٌ»[4].
وخلافته رضي الله عنه خلافة نبوة راشدة؛ كما صح بذلك الخبر في حديث سفينة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: «خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله الملك من يشاء، أو ملكه من يشاء» ، ثم قال سفينة: «أمسك خلافة أبي بكر سنتين، وخلافة عمر عشر، وخلافة عثمان اثنتي عشرة، وخلافة علي ست سنين»[5].
قال شيخ الإسلام معلِّقًا على الحديث: «وكان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه آخر الخلفاء الراشدين المهديين، وقد اتَّفق عامَّة أهل السُّنَّة من العلماء والعباد والأمراء والأجناد على أن يقولوا: أبو بكر، ثمَّ عمر؛ ثمَّ عثمان؛ ثم علي رضي الله عنهم»[6].
المسألة الثانية: فتنة حصار عثمان رضي الله عنه ومقتله[7]:
أُطلق (يوم الدار) على المدة التي حوصر فيها عثمان رضي الله عنه، بدءًا من رجوع المصريين إلى المدينة، وانتهاءً بقتله رضي الله عنه.
واختلف في مدة الحصار، فقيل إنه استمر أكثر من عشرين يومًا[8]، وقيل: أكثر من شهر، وقيل: كانت مدته أربعين يومًا[9]، وقيل: كانت نيفًا وأربعين ليلة[10]، وقيل: تسعة وأربعين يومًا[11]، وقيل: شهرين وعشرين يومًا[12].
ومكان الحصار هو: داره الكبرى التي كان يسكنها في المدينة النبوية[13]، ويسميها الرواة أحيانًا بالقصر[14].
ولم تفصِّل الروايات الصحيحة في كيفية بدء وقوع الحصار، ولعل الأحداث التي سبقته تلقي شيئًا من الضوء على كيفية بدئه.
فبينما كان عثمان رضي الله عنه يخطب الناس ذات يوم إذا برجل يقال له أعين[15] يقاطعه ويقول له: يا نعثل[16] إنك قد بدلت، فقال عثمان رضي الله عنه: من هذا؟ فقالوا: أعين، قال عثمان: بل أنت أيها العبد، فوثب الناس إلى أعين، وجعل رجل من بني ليث يزعهم عنه حتى أدخله الدار[17].
وبعد قدوم المصريين ـ الثاني ـ وقبل اشتداد الحصار كان عثمان رضي الله عنه يستطيع الخروج إلى الصلاة، ويُدخل عليه من يشاء، ثم منعوه من ذلك ومن الخروج من داره، فكان رضي الله عنه لا يستطيع الخروج لصلاة الفريضة[18]. فكان يصلي بالناس رجل من المحاصرين، من أئمة الفتنة، حتى إن عبيد الله بن عدي بن الخيار تحرج من الصلاة خلفه، فاستشار عثمان في ذلك؛ فأشار عليه بأن يصلي خلفه، وقال له: «الصلاة أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسن الناس فأحسن معهم، وإذا أساؤوا فاجتنب إساءتهم»[19].
وبعد أن تم الحصار، وأحاط الخارجون على عثمان رضي الله عنه بالدار طلبوا منه خلع نفسه، أو يقتلوه[20].
وهؤلاء الذين طالبوا الخليفة بخلع نفسه هم حثالة من الناس، وأوباشهم وأدناهم دينًا، وخلقًا، وعلمًا وليسوا من أهل الحل والعقد.
وبعرضهم هذا تحقق ما قاله النبي صلّى الله عليه وسلّم لعثمان رضي الله عنه، وحان وقت العمل بوصيته صلّى الله عليه وسلّم له؛ لذا رفض عثمان رضي الله عنه خلع نفسه، وقال: «لا أخلع سربالاً سربلنيه الله»[21]، يشير إلى ما أوصاه به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم[22].
وقد حاول أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم الدفاع عنه، وكان عثمان رضي الله عنه يمنعهم، ورغم هذه المحاولات منه رضي الله عنه لصدِّ المدافعين عنه عن قتال المحاصرين له، فإنَّ بعض الرِّوايات تشير إلى أنَّه قد حدث احتكاك واشتباك خفيف أدى إلى حمل الحسن بن علي رضي الله عنهما جريحًا من الدَّار يوم الدَّار[23].
وفي رواية أنه أخرج من الدار يوم قتل عثمان رضي الله عنه أربعة من شبان قريش ملطَّخين بالدَّم محمولين، كانوا يدرؤون عن عثمان رضي الله عنه، وهم: الحسن بن علي، وعبد الله بن الزبير، ومحمد بن حاطب، ومروان بن الحكم[24].
وفي آخر يوم من أيام الحصار ـ وهو اليوم الذي قتل فيه ـ نام رضي الله عنه فأصبح يحدث الناس يقول: «ليقتلنّني القوم»[25].
ثم قال: رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم في المنام ومعه أبو بكر وعمر، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يا عثمان أفطر عندنا» فأصبح صائمًا، وقتل من يومه[26].
ورؤيا النبي صلّى الله عليه وسلّم في المنام حق، فإن الشيطان لا يتمثل في صورته، كما ثبت في «الصحيح» عنه أنه قال: «من رآني في المنام فقد رآني؛ فإنَّ الشيطان لا يتمثّل بي»[27].
استمر الحصار إلى صبيحة يوم الجمعة؛ الموافق للثاني عشر من شهر ذي الحجة من السنة الخامسة والثلاثين بعد الهجرة.
ومعلوم أن هؤلاء الذين قتلوا عثمان رضي الله عنه هم الخوارج الذين وردت النصوص بذمهم، وقد قال الشيخ عبد الله أبا بطين رحمه الله: «وأما الخوارج: فهم الذين خرجوا على علي رضي الله عنه وقبل ذلك قتلوا عثمان؛ وكفَّروا عثمان وعليًّا وطلحة والزبير ومعاوية وطائفتي علي ومعاوية، واستحلوا دماءهم...»[28].
وقال ابن عثيمين رحمه الله: «وأول بدعة حدثت في هذه الأمة هي بدعة الخوارج؛ لأن زعيمهم خرج على النبي صلّى الله عليه وسلّم ـ وهو ذو الخويصرة من بني تميم ـ حين قسَّم النبي صلّى الله عليه وسلّم ذهبية جاءت فقسمها بين الناس، فقال له هذا الرجل: يا محمد اعدل![29]، فكان هذا أول خروج خُرِجَ به على الشريعة الإسلامية، ثم عظمت فتنتهم في أواخر خلافة عثمان وفي الفتنة بين عليّ ومعاوية، فكفروا المسلمين واستحلوا دماءهم»[30].


[1] حمدان بن علي: هو أبو جعفر محمد بن علي بن عبد الله بن مهران بن أيوب الوراق، الجرجاني الأصل، البغدادي المنشأ، قال أبو بكر الخلال لما ذكره: رفيع القدر، كان عنده عن أبي عبد الله مسائل حسان، وقد توفي حمدان سنة (272هـ)، انظر ترجمته في: طبقات الحنابلة (1/308 ـ 310)، وتاريخ بغداد (3/61 ـ 62).
[2] أخرج هذه الرِّواية الخلاّل في السُّنَّة 2/320) (برقم 405)، وقال المحقق: «إسناده صحيحٌ».
[3] منهاج السُّنَّة (1/532 ـ 533).
[4] المصدر نفسه (8/314).
[5] أخرجه أبو داود (كتاب السُّنَّة، رقم 4646)، والترمذي (أبواب الفتن، رقم 2226) وحسَّنه، وأحمد (36/248) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وصحَّحه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3/129 ـ 130) [دار المعارف، ط1]، وفي السلسلة الصحيحة (1/820 ـ 827، رقم 459) [مكتبة المعارف، ط1415هـ].
[6] مجموع الفتاوى (3/406).
[7] ينظر كتاب: فتنة مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه للغبَّان (1/165) وما بعدها [عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية، ط 2، 1424هـ].
[8] قال به ابن قتيبة في المعارف (196).
[9] ذكره ابن كثير في البداية والنهاية (7/184) [دار الكتب العلمية، ط1، 1405هـ].
[10] قال به حماد بن زيد، رواه ابن أبي الدنيا في المحتضرين (خ ـ ق: 12ب) كما في حاشية تاريخ دمشق لابن عساكر، ترجمة عثمان (405 حاشية: 2)، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق، ترجمة عثمان (405)، وذكر ذلك المحب الطبري في الرياض النضرة (3/45) [دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1405هـ].
[11] ذكره ابن الأثير عن الواقدي في أسد الغابة (3/489) [دار الفكر، بيروت].
[12] ذكره ابن الأثير عن الزبير في أسد الغابة (3/489).
[13] وفاء الوفاء للسمهودي (2/731) [دار الكتب العلمية، ط1، 1419هـ].
[14] جاء ذلك في رواية رواها أحمد في المسند (1/340 ـ 341) [دار المعارف، مصر، ط4] بإسناد حسن.
[15] أعين بن ضبيعة بن ناجية بن غفال التميمي الحنظلي الدارمي، ابن أخي صعصعة بن ناجية جد الفرزدق. ذكره صاحب الاستيعاب ولم يذكر ما يدل على صحبته، وهو والد النوار زوج الفرزدق، وكان شهد الجمل مع علي، وهو الذي عقر الجمل الذي كانت عائشة رضي الله عنها عليه، ويقال: إنها دعت عليه بأن يُقتل غيلة فكان كذلك، وذلك سنة ثمان وثلاثين. انظر: الإصابة لابن حجر (1/55) [دار العلوم الحديثة، ط1، 1328هـ]، والاستيعاب لابن عبد البر (1/119) [دار العلوم الحديثة، ط1، 1328هـ].
[16] هو لقب أطلقه الخارجون على عثمان رضي الله عنه، نقل ابن عساكر عن ابن الكلبي أنه قال: «إنما قيل له نعثل؛ لأنه كان يشبّه برجل من أهل مصر اسمه نعثل، وكان طويل اللحية، فكان عثمان إذا نيل منه وعيب يشبّه بذلك الرجل لطول لحيته، لم يكونوا يجدون عيبًا غير هذا. وقال بعضهم: إن نعثلاً من أهل أصبهان، ويقال في نعثل: إنه الذكر من الضباع».
[17] أخرج القصة بهذا السياق: أبو يعلى في مسنده الكبير، كما في إتحاف الخيرة المهرة (8/12)، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق (39/254)، وأصلها عند أحمد في مسنده (1/532) [مؤسسة الرسالة، ط1]، بذكر خطبة عثمان رضي الله عنه دون قصة أعين، وأشار الهيثمي في المجمع (7/228) [مكتبة القدسي] إلى هذه الزيادة، وقال: «رجالهما رجال الصحيح، غير عباد بن زاهر، وهو ثقة».
[18] كما عند خليفة بن خياط في تاريخه (172) [دار طيبة، الرياض، ط2، 1405هـ]، والطبري في تاريخه (4/383) [دار التراث العربي، بيروت، ط2، 1387هـ]، وسنده صحيح.
[19] أخرجه البخاري (كتاب الأذان، رقم 695).
[20] كما عند ابن سعد في الطبقات (3/66) [دار صادر، ط1].
[21] أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (كتاب المغازي، رقم 37079)، وابن شبة في تاريخ المدينة (4/1286)، وخليفة في تاريخه (171) [دار القلم ومؤسسة الرسالة، ط2]، وينظر تفاصيل ذلك في: فتنة مقتل عثمان (1/139) وما بعدها.
[22] وهو قوله صلّى الله عليه وسلّم: «يا عثمان، إنه لعل الله يقمِّصك قميصًا، فإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه لهم». أخرجه الترمذي (أبواب المناقب، رقم 3705) وحسَّنه، وابن ماجه (المقدمة، رقم 112)، وأحمد (14/13) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وصحَّحه الألباني في صحيح الجامع (رقم 7947).
[23] كما عند ابن الجعد في مسنده (2/959) [مكتبة الفلاح، الكويت، ط1، 1405هـ]، وابن سعد في الطبقات الكبرى (8/128)، والبخاري في التاريخ الأوسط (7/237) [دار المعرفة، ط1، 1406هـ].
[24] كما عند ابن شبة في تاريخ المدينة (4/1298).
[25] أخرجه ابن سعد في الطبقات (3/75) [دار صادر، ط1]، وعبد الله بن أحمد في زوائده على المسند (1/550) [مؤسسة الرسالة، ط1]، قال الهيثمي: «فيه من لم أعرفهم». مجمع الزوائد (7/232).
[26] أخرجه ابن سعد في الطبقات (3/74) [دار صادر، ط1]، وابن أبي شيبة في المصنف (كتاب المغازي، رقم 37085)، والحاكم (كتاب معرفة الصحابة، رقم 4554) وصحَّحه.
[27] أخرجه البخاري (كتاب العلم، رقم 110)، ومسلم (كتاب الرؤيا، رقم 2266).
[28] رسائل وفتاوى الشيخ عبد الله أبا بطين (175)، والدرر السَّنية (1/360)، وانظر: (10/364) منه.
[29] أخرجه البخاري (كتاب فرض الخمس، رقم 3138)، ومسلم (كتاب الزكاة، رقم 1063).
[30] مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (8/21)، وينظر: شرح العقيدة الواسطية للشيخ رحمه الله (1/29).


سبق بيان موقف الخوارج منه؛ حيث حاصروه، وقتلوه شهيدًا رضي الله عنه، وهنا أبين موقف الرافضة منه؛ فقد أعلن الرافضة ـ وهم من أشهر الطاعنين في عثمان رضي الله عنه ـ التكفير والتفسيق واللعن، وغير ذلك للخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه، ومما يعتقدونه فيه رضي الله عنه:
أنه لم يكن لعثمان اسم على أفواه الناس إلا الكافر[1]. وقالوا: إنَّ عثمان حذف من القرآن ثلاثة أشياء: مناقب أمير المؤمنين علي عليه السلام، وأهل البيت عليهم السلام، وذم قريش والخلفاء الثلاثة، مثل آية: (يا ليتني لم أتخذ أبا بكر خليلاً)[2].
وقالوا: «كان في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم ممَّن أظهر الإسلام وأبطن الكفر»[3].
وافتروا: بأنه لم يحسن صحبة زوجه رقية بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأنه كسَّر أضلاعها[4]، وضربها حتى ماتت رضي الله عنهما[5].
كما يعتقد الرافضة: أنَّ في قعر جهنم جُبًّا تتأذى النار من حرّه، إذا فُتح استعرت جهنم، هو منزل الخلفاء الثلاثة[6].
وأنَّ من لم يَبرأ من أبي بكر وعمر وعثمان فهو عدوٌ وإن أحبَّ عليًّا[7]، وأجمعوا على وجوب لعنهم دبر كلِّ صلاة[8]... وأنَّ من تبرَّأ منهم في ليلة فمات في ليلته دخل الجنة[9].
ونحو ذلك من الافتراءات والطعونات المنكرة، ويكفي في إبطالها من أصلها ما قد تقدم تقريره من فضيلة عثمان بن عفان رضي الله عنه وعلو منزلته ومكانته العظيمة.


[1] الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم للبياضي (3/30).
[2] تذكرة الأئمة لمحمد باقر المجلسي (9).
[3] الأنوار النعمانية (1/81).
[4] يـنـظـر: سيرة الأئمة الاثني عشر لهـاشـم الـحـسيـني (1/67).
[5] كما في الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم للبياضي (3/34).
[6] الفصول المهمة للعاملي (91 ـ 92).
[7] وسائل الشيعة (5/389).
[8] ينظر: فروع الكافي (1/95)، وتهذيب الأحكام (1/227)، ووسائل الشيعة (4/137)، ومستدرك الوسائل (1/342).
[9] الأصول من الكافي (2/389).


1 ـ «الاستيعاب»، لابن عبد البر.
2 ـ «أسد الغابة»، لابن الأثير.
3 ـ «الإصابة»، لابن حجر.
4 ـ «تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة»، لمحمد أمحزون.
5 ـ «التمهيد والبيان في مقتل الشهيد عثمان»، لمحمد يحيى الأندلسي.
6 ـ «الدرر السَّنية في الأجوبة النجدية».
7 ـ «رسائل وفتاوى العلامة عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين».
8 ـ «الرياض النضرة»، للمحب الطبري.
9 ـ «السُّنَّة»، للخلال.
10 ـ «عثمان بن عفان»، لصادق عرجون.
11 ـ «العقيدة في أهل البيت بين الإفراط والتفريط»، لسليمان السحيمي.
12 ـ «فتنة مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه»، للغبَّان.
13 ـ «فضائل الصحابة»، لأحمد بن حنبل.
14 ـ «كشف الأستار»، للبزار.
15 ـ «وفاء الوفاء»، للسمهودي.