قال ابن فارس: «العين والجيم والباء أصلان صحيحان، يدل أحدهما على كبر واستكبار للشيء، والآخر خِلْقَة من خِلَق الحيوان، فالأول: العُجْب وهو أن يتكبر الإنسان في نفسه، تقول: هو معجب بنفسه. وتقول من باب العَجَب: عَجِب يعجَب عجَبًا، وأمر عجيب، وذلك إذا استُكْبِر واستُعْظِم. والأصل الآخر العَجْبُ وهو من كل دابة ما ضمت عليه الوركان من أصل الذنب المغروز في مؤخر العجز»[1].
و«العجيب: الأمر يتعجب منه، وكذلك العجاب بالضم، والعجاب بالتشديد أكثر منه. وكذلك الأعجوبة»[2].
و«أصل العجب في اللُّغة أن الإنسان إذا رأى ما ينكرُه ويَقِلُّ مثله قال: قد عجبتُ من كذا. وعلى هذا معنى قراءة من قرأ: {بَلْ عَجِبْتَ}. وهو شيءٌ معجِبٌ؛ إذا كان حسنًا جدًّا»[3]. وتعجبت منه واستعجبت منه: كعجبت منه[4].
[1] مقاييس اللغة (4/243 ـ 244) [دار الجيل، ط2]، وانظر: القاموس المحيط (144) [مؤسسة الرسالة].
[2] الصحاح (672) [دار المعرفة، ط1، 1326هـ].
[3] تهذيب اللغة (1/247) [دار إحياء التراث العربي، ط1، 2001م].
[4] القاموس المحيط (144).
العجب هو استعظام للمتعجب منه، وهو قد يكون مقرونًا بجهل بسبب التعجب، وقد يكون بسبب خروج الشيء عن نظائره، والأول لا يليق بالله سبحانه؛ لأن الله علاَّم الغيوب، فهو سبحانه يتعجب بسبب خروج الشيء عن نظائره تعظيمًا له، والله تعالى يعظم ما هو عظيم، إما لعظمة سببه أو لعظمته، فإنه قد وصف بعض الخير بأنه عظيم كقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا *وَإِذًا لآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا *} [النساء] ، ووصف بعض الشر بأنه عظيم كقوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ *} [لقمان] [1].
[1] انظر: الرسالة الأكملية لابن تيمية (57) [مطبعة المدني، المؤسسة السعودية، القاهرة، مصر، ط 1403هـ].
دلت النصوص من الكتاب والسُّنَّة على اتصاف الله بصفة العجب، فمن ذلك القراءة المشهورة بضم التاء: {بَلْ عَجِبْتَ} في قول الله تعالى: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ *} [الصافات] [1].
وأما من السُّنَّة ؛ فقد جاءت أحاديث عديدة في إثبات صفة العجب لله تعالى؛ منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «عجب الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل»[2].
وفي حديث آخر عنه أيضًا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال فيّ: «قد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة»[3].
[1] تفسير الطبري (23/43) [دار الفكر، 1405هـ].
[2] أخرجه البخاري (كتاب الجهاد والسير، رقم 3010).
[3] أخرجه البخاري (كتاب تفسير القرآن، رقم 4889)، ومسلم (كتاب الأشربة، رقم 2054) واللفظ له.
جاء عن أهل العلم في توضيح اتصاف الله بصفة العجب كما يليق بجلاله وعظمته ما يكفي ويشفي، وفيما يلي أذكر طائفة من أقوالهم:
روى ابن جرير بسنده عن قتادة أنه قال في تفسير قول الله سبحانه: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [الرعد: 5] : «عجب الرحمن تبارك وتعالى من تكذيبهم بالبعث بعد الموت»[1].
وبوّب أبو بكر بن أبي عاصم في كتابه (السُّنَّة)، فقال: «باب في تعجّب ربنا من بعض ما يصنع عباده مما يتقرب به إليه»[2]، ثم أورد جملة من الأحاديث الدالة على ذلك.
وقال ابن تيمية: «وأما قوله: «التعجب استعظام للمتعجب منه» فيقال: نعم. وقد يكون مقرونًا بجهل بسبب التعجب، وقد يكون لما خرج عن نظائره، والله تعالى بكل شيء عليم، فلا يجوز عليه أن لا يعلم سبب ما تعجب منه؛ بل يتعجب لخروجه عن نظائره تعظيمًا له. والله تعالى يعظم ما هو عظيم؛ إما لعظمة سببه أو لعظمته، فإنه وصف بعض الخير بأنه عظيم، ووصف بعض الشر بأنه عظيم، فقال تعالى: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ *} [النمل] وقال: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ *} [الحجر] ، وقال: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا *وَإِذًا لآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا *} [النساء] وقال: {وَلَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ *} [النور] ، وقال: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ *} [لقمان] ، ولهذا قال تعالى: {بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ} [الصافات] على قراءة الضم، فهنا هو عجب من كفرهم مع وضوح الأدلة»[3].
[1] تفسير الطبري (13/104)
[2] السُّنَّة لابن أبي عاصم (1/249) [المكتب الإسلامي، ط1، 1400هـ].
[3] مجموع الفتاوى (6/123) [مكتبة ابن تيمية، ط2].
ذهب المتكلمون بصفة عامة إلى نفي صفة العجب عن الله، وتأويلها بالرضا ومضاعفة الثواب والقبول عند الله، أو بتخيل العجب وفرضه.
قال الحافظ البيهقي: «قال أبو سليمان: قوله: «عجِب الله» إطلاق العجب لا يجوز على الله سبحانه، ولا يليق بصفاته، وإنما معناه الرضا، وحقيقته أن ذلك الصنيع منهما حل من الرضا عند الله، والقبول له، ومضاعفة الثواب عليه، محل العجب عندكم في الشيء التافه إذا رفع فوق قدره، وأعطي به الأضعاف من قيمته»[1].
[1] الأسماء والصفات للبيهقي (2/403) [مكتبة السوادي، ط1]، وانظر: الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية لابن بطة (3/131)، والكشاف للزمخشري (5/203 ـ 204) [مكتبة العبيكان، ط1، 1418هـ]، ومفاتيح الغيب للرازي (26/111) [دار الكتب العلمية، ط1].
هذه التأويلات مصادمة للنصوص المتقدمة في إثبات صفة العجب لله تعالى، ومخالفة أيضًا لما اتفق عليه سلف الأمة من قبول هذه النصوص، وحملها على ظاهرها اللائق بالله، والإيمان بها وإثباتها لله من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل[1]، على وفق قول الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ *} [الشورى] .
ولذا قد رد غير واحد من العلماء على هذه التأويلات الباطلة[2].
[1] انظر: العقيدة الأصفهانية (1/24 ـ 25) [مكتبة الرشد، ط1، 1415هـ].
[2] انظر: نقض الدارني على المريسي (556) [أضواء السلف، ط1، 1419هـ]، وإبطال التأويلات لأخبار الصفات (1/245) [دار إيلاف]، والحجة في بيان المحجة لقوام السُّنَّة (1/398) [دار الراية، ط2، 1419هـ]، وشرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز (474) [طبعة وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف، 1418هـ].
1 ـ «الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية» (ج3)، لابن بطة.
2 ـ «إبطال التأويلات لأخبار الصفات» (ج1)، للقاضي أبي يعلى.
3 ـ «الاقتصاد في الاعتقاد»، لعبد الغني المقدسي.
4 ـ «تذكرة المؤتسي شرح عقيدة الحافظ عبد الغني المقدسي»، لعبد الرزاق البدر.
5 ـ «جهود الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في تقرير عقيدة السلف»، لعبد العزيز الطويان.
6 ـ «السُّنَّة» (ج1)، لابن أبي عاصم.
7 ـ كتاب «التوحيد» (ج3)، لابن منده.
8 ـ «موقف ابن تيمية من الأشاعرة» (ج2)، لعبد الرحمن بن صالح المحمود.
9 ـ «نقض عثمان بن سعيد على المريسي الجهمي العنيد فيما افترى على الله في التوحيد»، للدارمي.